تفسير المراغي - ج ١٦

أحمد مصطفى المراغي

فى هاوية الخذلان والعصيان ، وهذا الخطاب من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد بمثل هذا الخطاب جميع المكلفين كما تقدم غير مرة.

وخلاصة ذلك ـ لا تتّبعوا سبل من كذّب بالساعة ، وأقبل على لذاته فى دنياه ، وعصى أمر ربه واتبع هواه ، فإن من سلك سبيلهم خاب وخسر كما قال : «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى».

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١))

تفسير المفردات

أتوكأ عليها : أعتمد عليها فى المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك ، وأهش بها : أي أخبط بها ورق الشجر ، مآرب : أي منافع واحدها مأربة (مثلثة الراء) والحية : تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى من هذا النوع ، والثعبان : العظيم من الحيات ، والجانّ : الصغير منها ، سيرتها الأولى : أي حالها الأولى وهى كونها عصا ، يقال لكل من كان على أمر فتركه وتحول عنه ثم راجعه : عاد فلان سيرته الأولى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه مناجاته لموسى حين رأى النار التي فى الشجرة واختياره نبيا وإيحاءه إليه أن لا إله إلا هو ، وأمره بإقامة الصلاة لما فيها من ذكره ، وتخصيصه

١٠١

بالعبادة دون سواه ، ثم إخباره بأن الساعة آتية لا محالة ليجزى المحسن بإحسانه ، والمسيء بما دسّى به نفسه جزاء وفاقا.

قفّى على ذلك بذكر البرهانات التي آتاها موسى ، دلالة على نبوته ، وتصديقا له على رسالته ، فبدأ بذكر العصا التي انقلبت حية تسعى حين ألقاها من يده ، وكان قد سأله عنها استجماعا لقلبه ، وتهدئة لروعه فى هذا المقام الرهيب ، وإعلاما بما سيكون لها بعد من عظيم الشأن وجليل المنافع والمزايا التي لم تكن تدور بخلده عليه السلام.

الإيضاح

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) سأله سبحانه عما فى يده وهو العليم به ، ليبين له أنه سيجعل لتلك الخشبة التي ليس لها خطر كبير ، ولا منفعة عظيمة ـ جليل المزايا والفوائد التي لم تكن تخطر له على بال ، كانقلابها حية تسعى ، وضرب البحر بها حتى ينفلق ، وضرب الحجر حتى يتفجر منه الماء ، ولينبهه بهذا الطريق إلى كمال قدرته ، وبالغ عظمته ، إذ أظهر لأحقر الأشياء هذه المنافع العظيمة ـ على سنن الناس فى تخاطبهم ، إذا أراد أحدهم أن يظهر من الشيء الحقير شيئا شريفا ، أن يأخذه ويعرضه على النظّارة ويقول لهم : ما هذا؟ فيقولون هو كذا ، فيفيض فى شرح ما له من فائق المزايا ، وجليل المنافع ، التي لم تكن تدور بخلدهم ، ولم تخطر ببالهم.

فأجابه موسى معدّدا ما لها من فوائد ومزايا بحسب ما وصلت إليه معرفة البشر.

(قالَ هِيَ عَصايَ) وبهذا تم الجواب ، ولكن موسى ذكر ما لها من فوائد ، إذ أحب مكالمة ربه ، فجعل ذلك كالوسيلة لهذا الغرض ، فبين لها فائدتين على سبيل التفصيل ، وواحدة على سبيل الإجمال فقال :

(١) (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أعتمد عليها إذا مشيت أو تعبت أو وقفت على رأس القطيع من الغنم.

(٢) (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي أخبط ورق الشجر بها ، ليسقط على غنمى فتأكله.

١٠٢

(٣) (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي ولى فيها مصالح ومنافع أخرى غير ذلك كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم ، وإذا شئت ألقيتها على عاتقى ، فعلّقت بها قوسى وكنانتى ومخلاتى وثوبى ، وإذا وردت ماء قصر عنه رشائى وصلته بها.

وقد أجمل عليه السلام فى المآرب رجاء أن يسأله ربه عنها ، فيسمع كلامه مرة أخرى ويطول الحديث بهذا.

وبعد أن ذكر هذه الجوابات أمره بإلقائها ، لتتبين لها فوائد لم يعرفها من قبل.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أي قال له ربه : ألقها يا موسى لترى من شأنها ما ترى ، فألقاها فإذا هى ثعبان عظيم ينتقل من مكان إلى آخر مسرعا ، وجاء تشبيهها بالجان وهو الصغير من الحيات فى قوله (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة ، لا لصغرها.

ثم أمره بأخذها وهى على تلك الحال دون خوف ولا ذعر.

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) أي قال له ربه : خذها بيمينك ولا تخف منها.

وهذا الخوف مما تقتضيه الطبيعة البشرية حين مشاهدة الأمر الجلل الذي لا يعرف له نظير ، ولا يدرك له سبب ، ولا ينقص ذلك من جلالة قدره عليه السلام.

ثم علل النهى عن الخوف بقوله :

(سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي سنرجعها إلى الحال التي كانت عليها من قبل وهى العصوية فأقدم على ذلك برباطة جأش دون تردد ولا ذعر.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

١٠٣

تفسير المفردات

الضم : الجمع ، وأصل الجناح للطائر ثم أطلق على اليد والعضد والجنب وهو المراد هنا ، والسوء : القبح فى كل شىء ، ويراد به هنا البرص والطباع تنفر منه ، وآية أخرى : أي معجزة ثانية غير العصا ، طغى : أي تجاوز الحد فى عتوّه وتجبره ، اشرح لى صدرى : أي وسّعه لتحمّل أعباء الرسالة ، ويسر لى أمرى : أي سهّل لى ما أمرتنى به من تبليغ الرسالة. واحلل عقدة من لسانى : أي أزل ذلك التعقد والحبسة التي فى لسانى ، لئلا يستخف بي الناس وينفروا منى ولا يستمعوا لكلامى ، يفقهوا قولى : أي يفهموه ، وزيرا : أي معينا ، والأزر : القوة ، يقال آزره أي قوّاه وأعانه ، وأشركه فى أمرى : أي اجعله شريكا لى فى النبوة والرسالة ، إنك كنت بنا بصيرا : أي عالما بأحوالنا ، لا نريد بالطاعة إلا رضاك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر المعجزة الأولى الدالة على نبوة موسى عليه السلام ، وعلى صدق رسالته وهى العصا وما صدر منها من الأفاعيل حين ألقاها من يده ، ثم عودتها سيرتها الأولى حين أخذها من الأرض ـ قفى على ذلك بذكر المعجزة الثانية التي آتاها إياه وهى معجزة اليد ، فإنه كان إذا وضع يده اليمينى إلى جنبه الأيسر تحت العضد ثم أخرجها أضاءت كشعاع الشمس تعشى البصر ، ثم بذكر أمره له بالذهاب إلى فرعون لتبليغ رسالة ربه ، ثم دعائه ربه أن يشرح له صدره ويسهل له أمره ، وأن يجعل له أخاه هارون نبيا كى يشد أزره ويقوى على تبليغ الرسالة ، ويتعاونا على ذكر الله وعبادته.

١٠٤

الإيضاح

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي أدخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك (قميصك) واجعلها تحت الإبط اليسرى تخرج بيضاء لامعة من غير برص ولا عيب.

روى أن موسى كان إذا أدخل يده فى جيبه ثم أخرجها ـ تتلالأ كأنها فلقة قمر ، قال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها مصباح فعلم أنه قد لقى ربه.

(آية أخرى) أي وهذه علامة أخرى غير الآية التي أرينا كها من قبل من تحويل العصا حية تسعى ـ تدل على صدقك فيما بعثناك به من الرسالة لمن بعثناك إليهم.

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) أي افعل ذلك ، كى نريك بعض أدلتنا ، على عظيم سلطاننا ، وكامل قدرتنا ، وبديع تصرفنا ، فى ملكوت السموات والأرض.

وبعد أن أظهر له هذه الآيات أمره بالذهاب إلى فرعون المتكبر الجبار فقال :

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى ، وادعه إلى عبادتى ، وحذّره نقمتى ، فإنه قد تجاوز قدره ، وتمرد على ربه ، حتى تجاسر على دعوى الربوبية ، وقال : أنا ربكم الأعلى.

قال وهب بن منبّه : قال الله لموسى : اسمع كلامى ، واحفظ وصيتي ، وانطلق برسالتى ، فإنك بعيني وسمعى ، وإن معك يدى ونصرى ، وإنى ألبستك جبّة من سلطانى تستكمل بها القوة فى أمرك ، أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقى ، بطر نعمتى ، وأمن مكرى ، وغرّته الدنيا حتى جحد حقى ، وأنكر ربوبيتى ؛ أقسم بعزّتى ، لو لا الحجة التي وضعت بينى وبين خلقى لبطشت به بطشة جبار ، ولكن هان علىّ ، وسقط من عينى ، فبلّغه رسالتى ، وادعه إلى عبادتى ، وحذّره نقمتى ، وقل له قولا لينا ، لا يغتر

١٠٥

بلباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي ، قال : فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم حتى جاءه ملك فقال : أجب ربك فيما أمرك ، فحينئذ.

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) أي رب وسّع لى صدرى ، لأعى عنك ما تودعه فيه من وحيك ، وأجترى به على خطاب فرعون ، فإنك قد كلفتنى أمرا عظيما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط ، وصدر فسيح ، فقد بعثتني إلى أعظم ملك على وجه الأرض ، وأجبرهم وأشدهم كفرا ، وأكثر هم جندا ، وأعمر هم ملكا ، وأطغاهم وأبلغهم تمردا ، وقد بلغ من تمرده أنه لا يعلم إلها غيره.

وخلاصة ذلك ـ اجعلنى رابط الجأش حتى لا أخاف سواك ، ولا أرهب غيرك ، حين تبليغ رسالتك ، وكن عونى ونصيرى ، وإلا فلا طاقة لى بذلك.

(وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي سهّل علىّ القيام بما تكلفنى به من تبليغ الرسالة ، وتحمّلنى من الطاعة ، وأفض علىّ من القوة ما يفى بالعمل على نشر الدين ، وإصلاح حال الخلق.

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) أي وأطلق لسانى بالنطق ليفهموا قولى حين تبليغ الرسالة ، وكان فى لسانه حبسة تمنعه من كثير من الكلام.

وقد روى أن الحسين رضى الله عنه كان فى لسانه رتّة (حبسة) فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : إن هذه ورثها من عمه موسى.

ولما كان التعاون على نشر الدين مع خلوص الود قربة عظيمة لله ـ طلب موسى المعاونة على ذلك فقال :

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) أي واجعل لى عونا من أهل بيتي هرون أخى ، ليحمل معى أعباء الرسالة ، ويكون ظهيرا لى عند الشدائد ، وحلول المكاره ، ولمثل هذا قال عيسى عليه السلام «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم : «إن لى فى السماء وزيرين وفى الأرض وزيرين ، فاللذان فى السماء جبريل وميكائيل ، واللذان فى الأرض أبو بكر وعمر».

١٠٦

وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا ، إن نسى ذكّره ، وإن نوى خيرا أعانه ، وإن أراد شرا كفّه». وقال أنو شروان : لا يستثنى أجود السيوف عن الصقل ، ولا أكرم الدواب عن السوط ، ولا أعلم الملوك عن الوزير.

وقد اختصّ هرون بأمور منها :

(١) الفصاحة ؛ لقول موسى هو أفصح منى لسانا.

(٢) الرفق لقول هرون : يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى.

(٣) الوسامة والجمال وبياض اللون ، وكان موسى آدم اللون أقنى جعدا.

روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلا يقول : أىّ أخ كان فى الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا لا ندرى. قال : أنا والله أدرى ، قالت فقلت فى نفسى ، فى حلفه لا يستثنى ؛ إنه ليعلم أىّ أخ كان فى الدنيا أنفع لأخيه؟ قال موسى حين سأل لأخيه النبوة ، فقلت صدق والله.

ثم طلب موسى من ربه أن يشدّ به أزره فقال :

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي أحكم به قوتى ، واجعله شريكى فى أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها على الوجه الذي يؤدى إلى أحسن الغايات ، ويوصل إلى الغرض على أجمل السبل.

ثم حكى عنه سبحانه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال :

(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) أي لكى ننزّهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من بينها ما يدّعيه فرعون الطاغية ، وفئته الباغية من الألوهية له ، ونذكرك وحدك ابتغاء مرضاتك ، دون أن نشرك معك غيرك أثناء أداء الرسالة ، ودعوة المردة الطّغاة إلى الحق.

ولا شك أن التعاون فى الدعوة أنجع فى الوصول إلى المقصد من الانفراد ، فكل

١٠٧

من النبيّين يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يصدر عنه مثله فى حال الانفراد.

(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي عليما بأحوالنا ، وأن ما طلبناه مما يفيدنا فى تحقيق ما كلفتنا به من إقامة مراسم الرسالة على أتم الوجوه وأكلها ، فإن هرون نعم العون على أداء ما أمرت به من نشر معالم الدين ، وكبح جماح المضلين ، وإرشادهم إلى حق اليقين.

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

تفسير المفردات

السؤل : بمعنى المسئول : أي المطلوب كالخبز بمعنى المخبوز ، منّنا : أي أنعمنا ، مرة أخرى : أي فى وقت آخر غير هذا الوقت ، أوحينا : أي ألهمنا كما جاء فى قوله «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» وقوله : «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي» اقذفيه : أي ألقيه واطرحيه ، واليمّ : البحر. والمراد به هنا نهر النيل ، والساحل : الشاطئ ، ولتصنع على عينى : أي ولتربّى وتغذّى بمرأى منى وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء بعينيه دلالة على عنايته به ، يكفله : أي يضمه إلى نفسه ، تقر عينها : أي تسر ، والغم : الكدر الناشئ من خوف شىء أو فوات مقصود ، والفتون : الابتلاء والاختبار بالوقوع فى المحن ثم تخليصه منها ، لبثت : أي أقمت ، مدين : بلد بالشام.

١٠٨

المعنى الجملي

اعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه أمورا ثمانية وكان قيامه بما كلّف به لا يتم على الطريق المرضىّ إلا إذا أجابه إليها ـ لا جرم أجابه الله تعالى إلى ما طلب ، ليكون أقدر على الإبلاغ على الوجه الذي كلّف به ، ثم ذكّره بنعمه السالفة حين كانت أمه ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه ، فألهمها أن تصنع تابوتا وتضعه فيه وتلقيه فى النيل ففعلت ، فألقاه النيل فى الساحل ، فالتقطه آل فرعون وربّوه فى منزلهم ، وألقى الله محبة فى قلوبهم له وصار كأنه ابنهم ، ثم ذكّره بنجاته من القصاص حين قتل المصري وهرب إلى مدين.

الإيضاح

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي قال الله تعالى لموسى : قد أعطيتك جميع ما سألتنى عنه من شرح صدرك ، وتيسير أمرك ، وحل عقدة لسانك ، وجعل أخيك هارون وزيرا لك ، وشد أزرك به ، وإشراكه فى الرسالة معك.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي ولقد تفضلنا عليك من قبل بنعم كثيرة ، ومن راعى مصلحتك قبل سؤلك ، وأعطاك ما ترجو ، أفيمنع عنك ما تريد بعد سؤالك؟

ومن رقى بك إلى مراتب الكمال ، وصعد بك فى أوج المعالي ، وسما بك إلى درجات الرفعة. ووكل إليك ذلك المنصب الخطير ، أفيليق به وهو الجواد الكريم أن يحجز عنك ما تؤمّل مما أنت فى شديد الحاجة إليه لتبليغ رسالته؟.

وفى التعبير عن تلك النعم بالمنن إيماء إلى أنها إنما وصلت إليه بمحض التفضل والإحسان.

وقد عد سبحانه من تلك النعم ثمانيا فقال :

(١) (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ

١٠٩

الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) أي واذكر حين ألهمنا أمك وأوقعنا فى قلبها عزيمة صادقة ، أنّ أمثل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته ، أن تضعك فى تابوت ـ صندوق ـ ثم تطرح هذا التابوت فى نهر النيل ، ففعلت فألقاك النهر فى الساحل ، فأخذك فرعون عدو الله ورباك فى بيته ، وسيصير عدوا لك بعد ذلك كما هو عدو لى.

روى أنها جعلت فى التابوت قطنا محلوجا ووضعته فيه ، وطلت ظاهره بالجص والقار ثم ألقته فى اليم ، وكان يشرع منه (يتفرع) نهر كبير إلى بستان فرعون ، فبينا هو جالس إلى رأس بركة مع زوجه إذا بتابوت يجرى به الماء ، فأمر فرعون غلمانه وجواريه بإخراجه ففعلوا ، وفتحوا رأسه فإذا صبى من أصبح الناس وجها فأحبه فرعون حبا شديدا لم يتمالك أن يصبر عنه.

(٢) (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي وألقيت عليك محبة خالصة منى قد ركزتها فى القلوب وزرعتها فيها ، ومن ثم أحبك فرعون وزوجه حتى قالت «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً».

(٣) (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي ولتربّى برعايتى ، فأنا مراقبك وحافظك ، كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا أراد شدة العناية به ، يقول الرجل للصانع : اصنع هذا على عيني ، أنظر إليه حتى يأتى وفق ما أحبّ وأبغى.

(٤) (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أي وألقيت عليك محبة منى حين تمشى أختك تتبعك متعرّفة حتى وجدتك وصادفتهم يطلبون لك مرضعا تقبل ثديها ، حتى اضطروا إلى تتبع النساء ، فلما رأت ذلك منهم جاءت إليهم متنكرة وقالت : هل أدلّكم على من يضمّه إليه ويحفظه ويربيه؟ فجاءت بالأم فقبل ثديها ورجع إليها بما لطف الله له من التدبير ، وقرت عينها بسلامته ، وزال عنها الحزن والغم الذي كان قد ألمّ بها.

١١٠

(٥) (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ) أي وقتلت بعد كبرك القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلى فنجّيناك من الغم الذي نزل بك من وجهين :

(ا) عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون كما جاء فى الآية «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ».

(ب) عقابنا إذ قتلته بغير أمر منا ، فغفرنا لك ذنبك حين قلت : «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» ووفقناك للهجرة إلى مدين.

(٦) (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي وأوقعناك فى محنة بعد محنة وتفضلنا عليك بالخلاص منها ، فمن ذلك :

(ا) إن أمك حملت بك فى السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأبناء ، فنجاك الله من الذبح.

(ب) إن أمك ألقتك فى البحر بعد وضعك فى التابوت فالتقطك آل فرعون وعنوا بتربيتك ورعايتك.

(ح) إنك امتنعت عن الرضاع إلا من ثدى أمك وكان ذلك وسيلة إلى إرجاعك إليها.

(د) إنك أخذت بلحية فرعون فغضب من ذلك وأراد قتلك لو لا أن قالت له زوجه : إنه صغير لا يفرق بين الجمرة والتمرة وأتى لك بهما فأخذت الجمرة.

(ه) قتلك القبطي وخروجك إلى مدين هاربا.

(٧) (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) قاسيت أثناءها من المحن ما قاسيت ، وتحمّلت بسبب الفقر والغربة آلاما كثيرة حتى احتجت إلى أن تؤاجر نفسك لشعيب وترعى غنمه.

(ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أي ثم جئت وفق الوقت الذي سبق فى قضائى وقدرى أن أكملك فيه ، وأن أجعلك رسولا دون تقدم ولا تأخر عنه ، ولو لا توفيق الله لما تهيأ لك شىء من ذلك.

١١١

(٨) (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي اخترتك لإقامة حجتى ، وجعلتك واسطة بينى وبين خلقى فى تبليغ الدين وهدايتهم إلى التوحيد والشرع القويم الذي به صلاح البشر فى دينهم ودنياهم.

وخلاصة ذلك ـ إنى جعلتك من خواصى ، واصطفيتك برسالاتى وبكلامي ، فصرت بما آتيتك من كرامة النبوة وجليل النعمة بالمكالمة ، أشبه بمن يراه الملك أهلا لكرامته ، فيقر به إليه ويجعله من خواصه وندمائه ، ويصطنعه بالإحسان إليه فى الحين بعد الحين والفينة بعد الفينة.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨))

تفسير المفردات

الآيات : هى المعجزات ، والمراد بها العصا واليد البيضاء ، فإن فرعون حين قال له : فأت بآية ، ألقى العصا ونزع اليد وقال فذانك برهانان من ربك ، ولا تنيا : أي لا تفترا ولا تقصّرا ، فى ذكرى : أي فى تبليغ رسالتى ، فالذكر يطلق على كل العبادات ، وتبليغ الرسالة من أعظمها ، طغى : أي تجاوز الحد ، قولا لينا : أي لا عنف فيه ولا غلظة : يتذكر : أي يتأمل فيذعن للحق ويؤمن ، يخشى : أي يخاف من بطش الله وعذابه ، يفرط : أي يعجّل بالعقوبة ، من قولهم فرس فارط إذا كان سباقا للخيل ،

١١٢

يطغى : أي يزداد طغيانا ، أسمع وأرى : أي أسمع وأرى ما يجرى بينكما من قول أو فعل ، فأتياه : أي فقابلاه وجها لوجه ، فأرسل معنا بنى إسرائيل : أي فأطلقهم من الأسر ، ولا تعذبهم : أي ولا تبقهم على ما هم عليه من العذاب والتسخير فى شاقّ الأعمال ، والسلام على من اتبع الهدى : أي والسلامة من العذاب فى الدارين لمن صدّق بآيات الله الهادية إلى الحق ، تولى : أي أعرض.

المعنى الجملي

بعد أن عدد سبحانه المنن الثمانية بإزاء ما طلبه موسى من المطالب الثمان ـ شرع يذكر الأوامر والنواهي التي طلب إليه أن يقوم بتنفيذها ويؤدى الرسالة على النهج الذي أمره به.

الإيضاح

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أي اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه ، وإنى ممدّ كما بحججي وبرهاناتى الدالة على صدق نبوتكما ، ومظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل والمعاذير ، ولا تفترا فى دعوتهم وتبليغ الرسالة إليهم ، فبيّنا لهم أن الله أرسلكما إليهم مبشرين بثوابه ومنذرين بعقابه.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي اذهبا معا إلى فرعون ، وناضلاه الحجة بالحجة ، وقارعاه البرهان بالبرهان ، لأنه طغى وتجبر وتمرّد حتى ادعى الربوبية فقال «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى».

وتخصيص فرعون بالدعوة آخرا بعد أن كانت الدعوة عامة أوّلا ، من قبل أنه إذا صادفت الدعوة من فرعون أذنا صاغية ، واستجاب لدعوتهما وآمن بهما تبعه المصريون قاطبة كما قيل : الناس على دين ملوكهم.

ثم بين لهما سبيل الدعوة فقال :

١١٣

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي فكلماه بكلام رقيق لين ، ليكون أوقع فى نفسه ، وأنجع فى استجابته للدعوة ، فبرقيق القول تلين قلوب العصاة ، وتنكسر سورة الطغاة ، ومن ثم جاء الأمر به لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فى قوله : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

ومن هذا ما حكى الله بعضه عن موسى فى قوله لفرعون : «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» وقوله تعالى له : «وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى».

ثم علل الأمر بإلانة القول بقوله :

(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) تقدم أن قلنا إن (لعل) فى مثل هذا لتوقع حصول ما بعدها : أي أدّيا الرسالة ، وقوما بتنفيذ ما دعوتكما إليه ، واسعيا إلى إنجازه سعى من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ، ولا يخيب سعيه ، فهو يجتهد قدر استطاعته ، ويحتشد بأقصى وسعه آملا أن تكلل أعماله بالنجاح والفوز والفلاح.

وقصارى ذلك ـ اصدعا بالأمر وأنتما طامعان أن أعمالكما ستثمر ، وأنكما ستهديانه إلى سواء السبيل ؛ وقد جرت العادة أن من رجا شيئا طلبه ، ومن يئس انقطع عمله ، والمقصد من ذلك إلزامه الحجة ، وقطع المعذرة ، وإن لم يفد هدايته.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) أي قال موسى وهارون : ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا أن ندعوه إليه ، أن يعجّل علينا بالعقوبة ، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة ، وإظهار المعجزة ، أو يزداد طغيانا فيقول فى شأنك ما لا ينبغى ، لعظيم جرأته ، وقساوة قلبه ، وفجوره وشديد عصيانه.

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) أي قال الله لهما : لا تخافا فرعون إننى معكما بالنصرة والتأييد ، والحفظ من غوائله ، وإننى أسمع وأرى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل ، وأحدث فى كل حال ما يصرف شره عنكما.

والخلاصة ـ لست بغافل عنكما ، وإنى سأفعل ما يؤدى إلى حفظكما ونصركما عليه ، فلا تأبها به ، ولا تهتمّا بأمره.

١١٤

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أي فقابلاه وقولا له : إن الله أرسلنا إليك ـ وقد أمرا بتبليغه ذلك من أول وهلة ، ليعرف لهما حقهما ، ويفكر فيما يقابلهما به من الرد على ما ادّعيا.

وفى التعبير بقولهما (ربك) إيماء إلى أن ما ادعيته من الربوبية لنفسك ، مما لا ينبغى أن يلتفت إليه ، ولا أن ينظر إليه نظرة الاعتبار والصدق.

(فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أي فأطلق بنى إسرائيل من الأسر ، ولا تعذبهم بتسخيرك إياهم فى شاقّ الأعمال كالحفر والبناء ونقل الأحجار ، وقد كان المصريون يستخدمونهم هم ونساء هم فى تلك الأعمال.

وإنما بدأ بهذا الطلب دون دعوة هذا الطاغية وقومه إلى الإيمان ، لأنه أخف وأسهل من ذلك ، لما فيه من تبديل الاعتقاد وهو عسر شاقّ على النفس.

ثم ذكرا ما يوجب امتثال أمرهما ، ويؤكد دعوى رسالتهما بقولهما.

(قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أي قد جئناك بالحجة البالغة ، والبرهان الساطع ، على أنه أرسلنا إليك ، وإن لم تصدقنا فيما نقول أريناكها.

(وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي والسلامة والأمن من العذاب فى الدنيا والآخرة على من اتبع رسل ربه ، واهتدى بآياته التي ترشد إلى الحق ، وتنيل البغية ، وتبعد عن الغى والضلال.

قال الزّجّاج : أي من اتبع الهدى سلّم من سخط الله وعذابه ، وليس بتحية ، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب اه.

ويمثل هذا كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل ملك الروم قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام ، فاسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين.

وفى هذا ترغيب فى التصديق على أتم وجوهه ، وتنفير من مخالفته ، وصد عنها على أقصى غاية كما لا يخفى.

١١٥

ثم ذكرا علة لما سبق لهما من النصح والإرشاد بقولهما.

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي إنا قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا أن عذابه الذي لا نفاد له ولا انقطاع فى الدنيا والآخرة ، على من كذّب بما ندعو إليه من توحيده وطاعته وإجابة رسله ، وأدبر معرضا عما جئناه به من الحق.

وجاء بمعنى الآية قوله تعالى : «فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى» وقوله : «فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» وقوله : «فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى».

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

تفسير المفردات

أعطى كل شىء خلقه : أي أعطى كل نوع صورته وشكله الذي يشاكل ما نيط به من الخواص والمنافع ، ثم هدى : أي ثم عرّفه كيف يرتفق بما أعطى له ، البال : الفكر ؛ يقال خطر ببالي كذا ، ثم أطلق على الحال التي يعتنى بها وهو المراد هنا

١١٦

فى كتاب : أي دفتر مقيّد فيه ؛ والمراد بذلك كمال علمه الذي لا يضيع منه شىء ، ضل الشيء : أخطأه ولم يهتد إليه ، ونسيه : ذهب عنه ولم يخطر بباله ، والمهد. ما يمهّد للصبى ويفرش له : أي جعل الأرض كالمهد ، وسلك : أي سهّل ، والسبل : واحد ها سبيل : أي طريق ، أزواجا : أي أصنافا ، شتى : واحدها شتيت كمريض ومرضى : أي مختلفة النفع والطعم واللون والشكل ، لآيات : أي لدلالات ، والنهى : واحدها نهية (بالضم) وهى العقل سمى بها لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح.

المعنى الجملي

اعلم أن موسى وهارون عليهما السلام سارعا إلى الامتثال وجاءا فرعون وأبلغاه ما أمرا به ، فسألهما سؤال الإنكار والجحد للصانع الخالق لكل شىء وربه ومليكه ، ودار بينهما من الحوار ما قصه الله علينا.

روى عن ابن عباس أنهما لما جاءا إلى بابه أقاما حينا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فدخلا وكان من الحوار ما أخبرنا الله به.

الإيضاح

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أي إذا كنتما رسولى ربكما الذي أرسلكما فأخبرانى ، من ربكما الذي أرسلكما؟.

وإنما خص موسى بالنداء مع توجيه الخطاب إليهما ، لما ظهر له أنه هو الأصل وهارون وزيره.

فأجاب موسى عن سؤاله :

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) أي ربنا الذي أعطى كل شىء ما يليق به مما قدر له من الخواص والمزايا ، فأعطى العين الوضع الذي يطابق ما يراد بها من الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وهكذا الأنف واليد والرجل وجميع أعضاء الجسم.

١١٧

(ثُمَّ هَدى) أي ثم أرشده كيف ينتفع بما أعطاه ويرتفق به ، وكيف يصل بذلك إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما فى الحيوان وإما طبعا كما فى النبات والجماد.

وخلاصة هذا ـ ربنا الذي خلق كل شىء على الوجه الذي يليق بما قدّر له من المنافع والخواص ، وأرشده كيف ينتفع بما خلق له ، وجعل ذلك دليلا على وجوده ، وعظيم جوده ، وكأنه يقول له : إن ذلك الخالق والهادي هو الله.

وبعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر ـ شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى الذين لم يعبدوا هذا الإله ، وهذا ما أشار إليه بقوله :

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟) أي فما حال القرون الماضية كعاد وثمود الذين لم يعبدوا الله بل عبدوا غيره؟.

فأجاب موسى : (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أي إن ذلك من علوم الغيب التي لا يعلمها إلا الله ، فهو الذي ضبط أعمالهم وأحصاها فى كتاب لا يشذّ عنه شىء ، ولا يفوته شىء ، لا كبير ولا صغير ، ولا ينسى شيئا ، وسيجزيهم بما عملوا جزاء وفاقا.

وقصارى ذلك ـ إن علمه تعالى محيط بكل شىء ، وأنه لا ينسى شيئا ، تبارك وتعالى ، فعلمه ليس كعلم المخلوقين الذي يعتريه النقص من وجهين : عدم الإحاطة بالأشياء ، ونسيانها بعد علمها.

وإنما سأل فرعون هذا السؤال لخوفه أن يزيد موسى فى إظهار تلك الحجة فيستبين للناس صدقه ، فأراد صرفه عن ذلك ، وشغله بالقصص والحكايات التي لا تعلق لها بشئون رسالته ، لكن موسى كان أحرص من أن يهتم بمثل هذا ، ومن ثم أوجز فى رده. ووكل أمر ذلك إلى ربه.

١١٨

وإجمال سؤاله ـ إنه إذا كان الأمر كما ذكرت ففضّل لنا حال الماضين من سعادة وشقاء ، فرد عليه السلام عليه بأن علم ذلك إلى الله ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول بإبراز الدلائل على الوحدانية فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي ربى الذي لا يضل ولا ينسى هو الذي جعل لكم الأرض كالمهاد ، تتمهّدونها وتستقرون عليها ، فتقومون وتنامون وتسافرون على ظهرها.

(وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي وجعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية تمشون فى مناكبها وتسلكونها من قطر إلى قطر ، لتقضوا مآربكم ، وتنتفعوا بمرافقها.

ونحو الآية قوله : «وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي وأنزل من السماء مطرا فأخرج به مختلف أنواع النبات من زروع وثمار حامضة وحلوة ؛ وهى أيضا مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للإنسان ، وبعضها يصلح للحيوان ؛ وفى هذا بيان لنعمه على خلقه بما يحدث لهم من الغيث الذي يولد تلك المنافع.

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم كلوا وارعوا أنعامكم إلخ. فشىء منها أعد لطعامكم وفاكهتكم ، وشىء أعد لأنعامكم قوتا لها أخضر ويابسا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي إن فيما وصفت لكم من قدرة ربكم وعظيم سلطانه ـ لأدلة على وحدانيته وأنه لا إله غيره إذا كنتم من ذوى العقول الراجحة ، والأفكار الثاقبة.

ولما ذكر سبحانه منافع الأرض والسماء بين أنها غير مقصودة لذاتها ، بل هى وسائل إلى منافع الآخرة فقال :

(مِنْها خَلَقْناكُمْ) أي من الأرض خلقنا النطفة المتولدة من الأغذية التي تكونت

١١٩

منها بوسائط ، إذ الغذاء إما حيوانى وإما نباتى ، والحيواني ينتهى إلى نباتى ، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء بالتراب.

(وَفِيها نُعِيدُكُمْ) أي وفى الأرض نعيدكم بعد مماتكم فتصيرون ترابا كما كنتم قبل نشأتكم (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) أي وسنخرجكم منها بعد مماتكم مرة أخرى بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ، ثم نرد الأرواح من مقرّها إليها.

وجاء بمعنى الآية قوله : «فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ» وقوله : «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً».

وفى الحديث «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة ، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها فى القبر وقال : منها خلقناكم ، ثم أخذ أخرى وقال وفيها نعيدكم ، ثم أخذ أخرى وقال : ومنها نخرجكم تارة أخرى.

وأخرج أحمد والحاكم عن أبى أمامة قال : «لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى القبر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : منها خلقناكم ، وفيها نعيدكم ، ومنها نخرجكم تارة أخرى ، بسم الله ، وفى سبيل الله ، وعلى ملة رسول الله».

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩))

تفسير المفردات

أبى : امتنع ، موعد : أي ميعادا معيّنا ، سوى : مستويا لا جبال فيه ولا وهاد بحيث يستر النظارة ، يوم الزينة : يوم عيد كان لهم ، يحشر الناس : أي يجمعون ، والضحى : وقت ارتفاع النهار.

١٢٠