تفسير المراغي - ج ١٦

أحمد مصطفى المراغي

قذفوها جسد عجل من ذهب لا روح فيه ، وله خوار كخواره ، إذ هو قد صنعه بدقة وجعل فيه أنابيب يظهر فيها الصوت بمرور الريح بعد أن جعله فى اتجاهه.

(فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي فقال السامري ومن افتتن به أول ما رآه : هذا هو إلهكم وإله موسى فاعبدوه ، وقد غفل عنه موسى وذهب يطلبه فى الطور.

فرد عليهم سبحانه ، مقبّحا أفعالهم ، مسفها أحلامهم فقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟) أي أفلا يعتبرون ويتفكرون فى أن هذا العجل لا يرجع إليهم كلاما ، ولا يرد عليهم جوابا ؛ وأنه لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا ، ولا يجلب لهم نفعا؟

وقصارى ما يقول ـ إنه عاجز عن الخطاب ، وعن النفع والضر ، فكيف يتخذونه إلها؟

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ

١٤١

نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨))

تفسير المفردات

فتنتم به : أي وقعتم فى الفتنة والضلال ، فاتبعونى : أي فى الثبات على الحق ، لن نبرح : أي لا نزال ، عاكفين : أي مقيمين ، بلحيتي ولا برأسى : أي بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى ، خشيت : أي خفت ، ولم ترقب قولى : أي ولم تراع ، فما خطبك : أي ما شأنك ، وما الأمر العظيم الذي صدر منك ، بصرت بما لم يبصروا به (بضم الصاد فيهما) : أي علمت ما لم يعلمه القوم ، وفطنت لما لم يفطنوا له ؛ يقال بصر بالشيء إذا علمه ، وأبصره إذا نظر إليه ، والرسول موسى عليه السلام ، وأثره : سنته ، فنبذتها : أي طرحتها وسوّلت لى نفسى : أي زينت وحسنت ، لا مساس : أي لا مخالطة فلا يخالطه أحد ولا يخالط أحدا ، فعاش وحيدا طريدا ، لن تخلفه : أي سيأتيك به الله حتما ، ظلت (أصله ظللت دخله حذف) : أي أقمت ، لنحرقنه : أي لنبردنّه بالمبرد ، لننسفنه : أي لنذرينه ، فى اليمّ : أي فى البحر ، وسع كل شىء علما : أي وسع علمه كل شىء وأحاط به.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أن عبادتهم للعجل مخالفة لقضية العقل ، لأنه لا يستجيب لهم دعاء ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ـ أكد هذا وزاد عليهم فى التشنيع ببيان أنهم قد عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطإ ما فعلوا ، ثم حكى معاتبة موسى لهرون على سكوته على بنى إسرائيل وهو يراهم يعبدون العجل ، ثم ذكر أنه اعتذر له ، ولكنه لم يقبل معذرته ، ثم قص علينا ما قاله السامري وما أنّبه به موسى وما عاقبه الله به فى الدنيا والآخرة ، وما صنعه موسى بالعجل من نسفه وإلقائه فى البحر ، ثم بين لهم أن الإله

١٤٢

الحق هو الذي يحيط علمه بما فى السموات والأرض ، لا ذاك الجماد الذي لا يضر ولا ينفع ، ولا يرد جوابا ، ولا يسمع خطابا.

الإيضاح

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي ولقد قال هرون لعبدة العجل من بنى إسرائيل ناصحا لهم من قبل رجوع موسى إليهم يا قوم إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار ، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض الشاك فى دينه.

(وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) أي وإن خالقكم وخالق كل شىء هو الذي عمت رحمته جميع مخلوقاته ، فآتاهم ما فيه كمالهم الجسمى والروحي ، وما به سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.

وفى ذكر الربوبية والرحمة استمالة لهم إلى الحق إثر زجرهم عن الباطل ، وتذكير لهم بإنجائهم من فرعون وعذابه ، وتنبيه لهم إلى أنهم متى تابوا قبلت توبتهم.

(فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) أي فاتبعونى فيما آمركم به من عبادتى وترك عبادة العجل ، وأطيعونى فى اتباع ما يبلغكم رسولى.

ثم بين أنهم لم يسمعوا نصحه ، ولم يطيعوا أمره.

(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) أي قال عبدة العجل من قوم موسى لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يرجع موسى إلينا ، لنرى ماذا يقول ، وماذا يرى فى ذلك؟.

وما مقصدهم من ذلك إلا التعلل والتسويف وعدم إجابة طلب هرون.

ثم ذكر مقال موسى لهرون بعد أن فرغ من خطاب قومه وبيان خطأ فعلهم.

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي قال موسى لهرون : أىّ شىء منعك حين رأيت ضلالهم أن تلحقنى إلى جبل الطور بمن آمن معك من بنى إسرائيل؟.

١٤٣

وقد كان موسى يرى أن مفارقة هرون لهم ، وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية يكون أزجر لهم من الاقتصار على النصائح وحدها ، لما فى ذلك من الدلالة على شديد الغضب والإنكار عليهم ، فإن مفارقة الرئيس المحبوب لديهم من أجل أمر مبغوض لديهم مما تشق على النفوس ، وتقتضى ترك ذلك الأمر الذي يكرهه.

(أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) فيما قدمت إليك من قولى : «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ».

فلما أقام بينهم ولم يبالغ فى الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة امره.

فترفّق هرون فى خطاب موسى استعطافا له وترقيقا لقلبه إذ أضافه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه.

(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي فامتلأ موسى غضبا مما رأى ، وألقى ما فى يده من الألواح الإلهية ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه فقال : يا بن أمي لا تأخذ بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى. و

قد روى أن موسى أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله ، وكان عليه السلام حديدا غضو با لله تعالى ، وقد شاهد ما شاهد ، وغلب على ظنه تقصير هرون عليه السلام ففعل ما فعل.

قال صاحب الكشاف : كان موسى عليه السلام رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب فى كل شىء ، شديد الغضب لله ولدينه ، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام ، أن ألقى ألواح التوراة ، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة ، غضبا لله واستنكافا وحميّة ، وعنّف بأخيه وخليفته على قومه ، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف ، قابضا على شعر رأسه (وكان أفرع) وعلى شعر وجهه يجره إليه اه.

ثم بين علة هذا النهى بأنى لست عاصيا أمرك ولا مقصرا فى المصلحة ، بل :

(إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي إنى خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا ، فتريثت حتى تكون أنت المتدارك ذلك بنفسك ،

١٤٤

المتلافيه برأيك ، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتنى به ، ولم يكن بد من مراقبة ذلك والعمل على موجبه.

وخلاصة ذلك ـ إنى رأيت من صواب الرأى أن أحفظ العامة وأداريهم على وجه لا يختل به نظامهم ، ولا يكون سببا للومك حتى ترجع فتتدارك الأمر بحسب ما ترى ولا سيما أن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوننى.

وبعد أن انتهى من سماع اعتذار قومه وإسنادهم الفساد إلى السامرىّ ومن سماع اعتذار هارون ـ وجه الكلام إلى السامري.

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ) أي قال موسى للسامرى : ما شأنك وما الذي دهاك حتى فعلت ذلك الأمر الجلل؟ وقد خاطبه بهذا ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ، ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم.

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي قال السامري : إنى عرفت ما لم يعرفه القوم ولم تعرفه أنت ، وعرفت أن ما أنتم عليه ليس بالحق.

(فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) أي وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من سنتك ودينك فطرحته ، كما يقال فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه ، ويتبع طريقته ، وأجرى الكلام على طريق الغيبة وهو يخاطبه على نهج قول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير فى كذا وبماذا يأمر الأمير؟ قاله أبو مسلم الأصفهانى ، وأيده الرازي وقال إنه أقرب إلى التحقيق.

وخلاصة هذا ـ إن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم ـ رد عليه بأنه كان استن بسنته ، واقتفى أثره وتبع دينه ، ثم استبان له أن ذلك هو الضلال بعينه ، وأنه ليس من الحق فى شىء فطرحه وراءه ظهريا وسار على النهج الذي رأى وفى التعبير بكلمة (الرَّسُولِ) على هذا نوع من التهكم والسخرية ، لأنه جاحد

١٤٥

مكذب له ، فهو على نحو ما حكى الله عن بعض الجاحدين بقوله : «وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» وهم لا يؤمنون بالإنزال عليه.

(وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي كما زينت لى نفسى أولا اتباع سنتك واقتفاء أثرك ، زينت لى أيضا ترك ذلك بمحض الهوى لا لشىء آخر من برهان عقلى أو نقلى أو إلهام إلهى.

والخلاصة ـ لم يدعنى إلى ما فعلت إلا هوى النفس فحسب : ولما سمع موسى من السامري ما سمع بيّن له ما سينزل به من الجزاء فى الدنيا والآخرة وذكر له حال إلهه ، أما عزاؤه هو فى الدنيا فما حكاه سبحانه عنه.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي قال له : اذهب فأنت طريد من بين الناس ، فلا يخالطك أحد ولا تخالط أحدا ، حتى لو سئلت عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس : أي لا يماسّنى أحد ، ولا أماسّ أحدا ، قال مقاتل : إن موسى عليه السلام أمره هو وأهله بالخروج من محلة بنى إسرائيل ، فخرج طريدا فى البراري.

وروى أنه لما قال له موسى ذلك هرب ، فجعل يهيم فى البريّة مع السباع والوحش ، ولا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس ، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه.

وقصارى ذلك ـ إنه خاف وهرب ، وجعل يهيم فى الصحارى والقفار حتى صار لبعده عن الناس كأنه قائل ذلك.

وأما جزاؤه فى الآخرة فقد ذكره بقوله :

(وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أي وإن لك موعدا فى الآخرة لن يخلفكه الله ، بل سينجزه لك البتة ، بعد أن يعاقبك فى الدنيا ، وهو آت لا محيص منه.

وأما حال إلهه فقد بينه بقوله :

(وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)

١٤٦

أي وانظر إلى هذا المعبود بزعمك الذي عكفت على عبادته ، لنبردنّه بالمبرد ثم لنذرينه فى البحر إذا صار سحالة كذرات الهباء.

ولقد برّ موسى فى قسمه وفعل ما أوعده به كما يدل على ذلك قوله (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) ولم يصرح بهذا تنبيها إلى وضوحه واستحالة الخلف فى وعيده المؤكد باليمين.

وفى فعله ذلك به عقوبة للسامرى ، وإظهار لغباوة المفتونين به لمن له أدنى نظر.

وبعد أن فرغ من إبطال الباطل شرع فى تحقيق الدين الحق فقال :

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي ليس هذا بإلهكم ، وإنما المستحق للعبادة والتعظيم الله الذي لا إله إلا هو ، ولا تنبغى العبادة إلا له ، فكل شىء فقير إليه ، وهو الخالق لكل شىء.

(وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي هو العالم بكل شىء وقد أحاط بكل شىء عدّا ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

تفسير المفردات

ذكرا : أي قرآنا كما قال : «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» وسمى بذلك ، لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم ، والوزر : الحمل الثقيل ؛

١٤٧

والمراد به العقوبة التي تثقل على حاملها ، والصور : قرن ونحوه ينفخ فيه حين يدعى الناس إلى المحشر كما ينفخ فيه فى الدنيا حين الأسفار وفى المعسكرات ، زرقا : أي زرق الأبدان سود الوجوه ، لما هم فيه من الشدائد والأهوال ، يتخافتون بينهم : أي يخفضون أصواتهم ويخفونها ، لشدة ما يرون من الهول ، إلا عشرا : أي عشرة أيام ، أمثلهم طريقة : أي أعدلهم رأيا ، وأرجحهم عقلا.

المعنى الجملي

بعد أن شرح قصص موسى عليه السلام مع فرعون أولا ثم مع السامري ثانيا على نمط بديع وأسلوب قويم ـ بين لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن مثل هذا القصص عن الأمم الماضية والقرون الغابرة كعاد وثمود وأصحاب الأيكة ، نلقيه إليك تسلية لقلبك ، وإذهابا لحزنك ؛ إذ به تعرف ما حدث للرسل من قبلك من شدائد الأهوال ، وتذكيرا للمستبصرين فى دينهم ، وتأكيدا للحجة على من عاند وكابر من غيرهم.

الإيضاح

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) يخاطب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم ، ويبين له أنه كما قص عليه خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على هذا الأسلوب الرائع والمسلك البديع ـ يقص عليه أخبار الحوادث التي جرت على الأمم الخالية ، ليكون له فى ذلك سلوة ، ليتأسى بالأنبياء السالفين وما لا قوه من أممهم من شديد العناد والجحود والتكذيب ومكابدة الشدائد والأهوال.

(وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) أي وقد أعطيناك من لدنا كتابا جديرا بالتذكر به ، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولم يعط نبىّ قبلك مثله ، فهو جامع للأخبار ، حاو للأحكام التي فيها صلاح حال البشر فى دينهم ودنياهم ، مشتمل على مكارم الأخلاق ، وسامى الآداب التي بها يرتفع قدر الأمم وينبه ذكرها

١٤٨

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي من كذب به وأعرض عن اتباعه وابتغى الهدى من غيره ، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم ، وسيحمل يوم القيامة من الأوزار والآثام ما لا يقدر على حمله ، بل ينقض ظهره ، وبمعنى الآية قوله : «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ».

وكل من بلغه القرآن من العرب والعجم من أهل الكتاب وغيرهم فهو نذير له ، فمن اتبعه هدى ومن أعرض عنه ضل وشقى فى الدنيا ، والنار موعده يوم القيامة كما قال «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ».

(خالِدِينَ فِيهِ) أي مقيمين فى ذلك الوزر أي فى عقوبته لا يجدون عنها محيصا ولا انفكاكا.

(وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي وبئس الحمل الذي حملوه من الأوزار والآثام جزاء إعراضهم وسائر ذنوبهم.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي هذا اليوم هو يوم ينفخ فى الصور النفخة الثانية إيذانا بالقيام للحشر والحساب.

(وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) أي وفى هذا اليوم يساق المجرمون إلى المحشر شاحبى الألوان زرق الوجوه ، لما هم فيه من مكابدة الأهوال ومقاساة الشدائد التي تحلّ بهم.

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يخفضون أصواتهم ويهمس بعضهم فى أذن بعض ، لما امتلأت به قلوبهم من الرعب والذعر.

وبمعنى الآية قوله تعالى : «فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً».

(إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي يقول بعضهم لبعض : ما لبثتم فى الدنيا إلا عشرة أيام ، ذاك أنهم لما عاينوا تلك الأهوال ذهلوا عن مقدار عمرهم فى الدنيا ، ولم يذكروا إلا القليل فقالوا ما عشنا إلا تلك الأيام القلائل.

والإنسان حين الشدائد والأهوال تغيب عنه أظهر الأشياء ، وأكثرها خطورا بباله.

١٤٩

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي نحن أعلم بالذي يقولونه فى مدة لبثهم ، لا هم ، حين يقول أعدلهم رأيا وأكملهم عقلا : ما لبثتم إلا يوما واحدا.

ذاك أن الدنيا وإن تكررت أوقاتها ، وتعاقبت لياليها وأيامها ـ قصيرة المدى إذا قيست بالنظر إلى يوم القيامة ؛ وكأن غرضهم بذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر الأجل على نحو ما جاء فى قوله : «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» وقوله «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ».

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

تفسير المفردات

ينسفها : أي يجعلها ذرات صغيرة ثم يصيرها هباء منثورا ، يذرها : أي يتركها ، القاع : الأرض التي لا بناء فيها ولا نبات قاله ابن الأعرابى ، والصفصف :

١٥٠

الأرض الملساء ، والعوج : الانخفاض ، والأمت : النتوء اليسير ؛ يقال مد حبله حتى ما فيه أمت ، والداعي : هو داعى الله إلى المحشر لا عوج له : أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس ، بل ليسمع الجميع ، خشعت : ذلت ، والهمس : الصوت الخفىّ ، وعنت : خضعت وانقادت ، ومن ذلك العاني : وهو الأسير ، والقيوم : القائم بتدبير أمور عباده ومجازاة كل نفس بما كسبت ، خاب : أي خسر ، والظلم الأول : الشرك.

والظلم الثاني : منع الثواب عن المستحق ، والهضم : النقص.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه حال يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال التي تجعل المجرمين يتخافتون فى حديثهم وينسون مقدار لبثهم فى الدنيا ، ويحشرون زرق الوجوه والأبدان إلى نحو أولئك مما سلف ـ قفى على ذلك بذكر سؤال من لم يؤمن بالحشر ـ عن الجبال وأحوالها فى ذلك اليوم ثم الإجابة عنه ، وضم إلى الجواب أمورا أخر تشرح شؤون هذا اليوم وأهواله ، فبين أن الأرض فى ذلك اليوم تكون مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض ، وأن الناس يسرعون إلى إجابة الداعي ، ولا يسمع لهم كلام إلا همس ، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين إلا إذا أذن لهم الرحمن ورضى للمشفوع له قولا ، ثم ذكر أن الله هو العليم بما أصابوا من خير أو شر ، وهم لا يحيطون به علما ، وفى ذلك اليوم تذل الوجوه وتخضع للواحد الديان ، وقد خسر حينئذ من ظلم نفسه ، فأشرك مع الله غيره ، وعبد معه سواه ، وعصى أوامره ونواهيه.

أما المتقون فإنهم لا يظلمون ، فلا يزاد فى سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم.

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : قالت قريش يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت الآية (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) إلخ.

ولا شك أن سؤالهم هذا سؤال تهكم واستهزاء وطعن فى الحشر والنشر ، لا سؤال معرفة للحق وتثبيت له.

١٥١

الإيضاح

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن الجبال كيف تكون يوم القيامة؟ فقل مجيبا لهم يدكّها ربى دكا ، ويصيّرها هباء تذروه الرياح.

(فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) أي فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساء مستوية ، لا نبات فيها ولا بناء ، ولا ارتفاع ولا انخفاض.

وخلاصة هذا ـ لا ترى فى الأرض يومئذ واديا ولا رابية ، ولا مكانا مرتفعا ولا منخفضا.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) أي يوم يرى الناس هذه الأهوال يتبعون صوت داعى الله الذي يجمعهم إلى موقف الحساب والجزاء ، ولا يكون لهم ميل عنه ولا انحراف ، ولكنهم سراعا إليه يقبلون ، إذا أمروا بشىء قالوا لبّيك ، ونحن بين يديك ، والأمر منك وإليك كما قال : «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ» وقال : «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا».

(وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي وعلمت الخلائق أن لا مالك لهم سواه ، ولا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس الذي لا يكاد يفهم إلا بتحريك الشفتين لضعفه ، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ، ويضعف صوته ، ويختلط قوله ، ويطول غمه ، قاله أبو مسلم.

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي يومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع ، ورضى له قولا صدر منه.

والفاسق قد قال قولا يرضاه الرحمن فقد قال لا إله إلا الله كما روى عن ابن عباس.

والخلاصة ـ إن الشفاعة لا تكون نافعة للمشفوع له إلا بشرطين :

(١) إذن الله للشافع بالشفاعة.

١٥٢

(٢) رضا الله عن قول صدر من المشفوع له ، ليأذن بشفاعة الشافع له.

وقصارى ذلك ـ إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن فى أن يشفع له ، وكان له قول يرضى.

وبمعنى الآية قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وقوله «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى» وقوله : «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» وقوله : «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً».

ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك بقوله :

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي يعلم ما بين أيدى عباده من شؤون الدنيا ، وما خلفهم من أمور الآخرة ، وهم لا يعلمون جملة ذلك ولا تفصيله.

ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها فقال :

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت ، القائم على خلقه بتدبير شؤونهم ، وتصريف أمورهم.

وخص الوجوه بالذكر ، لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة ، ولأن آثار الذل والغبطة والسرور تظهر عليها.

(وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي وقد حرم الثواب من وافى الموقف وهو مشرك بالله ، كافر بأنبيائه ، أو تارك لأوامره ، منغمس فى معاصيه.

وبعد أن ذكر أهوال يوم القيامة بين حال المؤمنين حينئذ فقال :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) أي ومن يعمل صالح الأعمال على قدر طاقته ، وهو مؤمن بربه ورسله ، وما أنزله عليهم من كتبه فلا يخاف من الله ظلما بأن يحمل عليه سيئات غيره وأوزاره ، ولا يخاف أن يهضمه حسناته فينقصه ثوابها ، ونحو الآية قوله : «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى».

١٥٣

وخلاصة ذلك ـ إنه لا يؤاخذ العبد بذنب لم يعمله ، ولا تبطل له حسنة قد عملها.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

تفسير المفردات

صرّفنا : كررنا وفصلنا ، ذكرا : أي عظة وعبرة ، فتعالى الله : أي تنزه وتقدس الحق : أي الثابت فى ذاته وصفاته ، يقضى إليك وحيه : أي يتم جبريل تبليغه لك.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه أنه كما أنزل الآيات المشتملة على الوعيد المنبئة بما سيحدث من أحوال القيامة وأهوالها ـ أنزل القرآن كله كذلك على نمط واحد قرآنا عربيا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم البديع ، والأسلوب العجيب الخارج عن طوق البشر ، ثم بين عز اسمه نفع هذا القرآن لعباده ، وأنه سبحانه موصوف بصفات الكمال ، منزه عن صفات النقص ، وأنه يصون رسوله عن السهو والنسيان فى أمر الوحى.

روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل إياه مخافة النسيان ، فنهى عن ذلك وقيل له : لا تعجل به إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون ، وادع ربك أن يزيدك فهما وعلما.

١٥٤

الإيضاح

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي وكما أنزلنا ما ذكر من الوعد والوعيد وأحوال يوم القيامة وأهوالها ـ أنزلنا القرآن كله بأسلوب عربى مبين ، ليتفهمه العرب الذين نزل عليهم ، ويتفقهوا بدراسته ، ويسعدوا بالعمل بما حواه مما فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم.

(وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي وخوفناهم فيه بضروب من الوعيد ، كى يجتنبوا الشرك والوقوع فى المعاصي والآثام ، أو يحدث لهم عظة تدعوهم إلى فعل الطاعات.

وخلاصة ذلك ـ إنهم بدراستهم إما أن يصلوا إلى مرتبة هى ترك المعاصي والوقوع فى الآثام ، وإما أن يرتقوا إلى مرتبة هى فوق ذلك ، وهى أن يفعلوا الطاعات ويؤدوا الفرائض والواجبات.

وبعد أن عظم الله كتابه أردفه بتعظيم نفسه فقال :

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي تقدس الله المتصرف بالأمر والنهى ، الحقيق بأن يرجى وعده ، ويخشى وعيده ، وهو الثابت الذي لا يزول ولا يتغير ـ من ألا يكون إنزال القرآن على من أنزل عليهم مؤديا إلى الغاية التي أنزل لأجلها وهى تركهم للمعاصى وفعلهم للطاعات.

ولا يخفى ما فى هذا من طلب الإقبال على دراسة القرآن وبيان أن قوارعه وزواجره سياسات إلهية ، فيها صلاح الدارين ، لا يحيد عنها إلا من خذله الله ، وأن ما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله ، لا يحوم الباطل حول حماه ، وأن المحق من أقبل عليه بشراشره ، والمبطل من أعرض عن تدبر زواجره.

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي ولا تعجل بقراءته فى نفسك من قبل أن يتم جبريل تبليغه لك ، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا ألقى

١٥٥

عليه جبريل القرآن يتبعه حين يتلفظ بكل حرف وكل كلمة خوفا أن يصدر عليه الصلاة والسلام ولم يحفظه ، فنهى عن ذلك ، إذ ربما يشغله التلفظ بالكلمة عن سماع ما بعدها : وفى هذا أنزل قوله تعالى : «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ».

وخلاصة ذلك ـ أنصت حين نزول الوحى بالقرآن عليك ، حتى إذا فرغ الملك من قراءته ، اقرأه بعده.

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي سل الله زيادة فى العلم دون استعجال بتلاوة الوحى ، فإن ما أوحى إليك يبقى لا محالة ، روى الترمذي عن أبى هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : «اللهم انفعني بما علمتنى ، وعلمنى ما ينفعنى ، وزدنى علما ، والحمد لله على كل حال ، وأعوذ بالله من حال أهل النار» وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : اللهم زدنى إيمانا وفقها ، ويقينا وعلما.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣)

١٥٦

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

تفسير المفردات

العهد : الوصية يقال عهد إليه الملك بكذا وتقدم إليه بكذا : إذا أمره وأوصاه به ، من قبل : أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين ، فنسى : أي فترك ، ولم نجدله : أي ولم نعلم ، والعزم على الشيء : تصميم الرأى والثبات عليه ، أبى أي امتنع ، فتشقى : أي تتعب بمتاعب الدنيا وهى لا تكاد تحصى ، تظمأ : تعطش ، تضحى ، أي تصيبك الشمس يقال ضحا كسعى وضحى كرضى : إذا أصابته الشمس بحرها اللافح ، شجرة الخلد : أي الشجرة التي إذا أكل منها الإنسان خلد ولم يمت ، لا يبلى : أي لا يفنى ، طفقا يخصفان أي شرعا يلزقان ورق التين على سوءاتهما لسترها ، غوى : أي ضل عن الرشد حيث اغترّ بقول عدوه ، اصطفاه وقربه إليه ، وهدى : أي إلى الثبات على التوبة ، عن ذكرى : أي عن الهداية بكتبي السماوية ، والضنك : الضيق الشديد ، أعمى : أي عن النظر فى الحجج والبراهين الإلهية ، عن آياتنا : أي عن أدلتنا ، فنسيتها : أي فتركتها ، وتنسى : أي تترك ، أسرف : أي انهمك فى الشهوات واسترسل فيها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه صرّف الوعيد فى القرآن وكرره لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ـ قفىّ على هذا ببيان أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم آدم

١٥٧

إلى الوعيد ونسى العهد ، فمخالفتهم قديمة ، وعرقهم فيها راسخ ثم فصل عهده لآدم وبين كيف نسيه وفقد العزم ، ثم ذكر عصيان إبليس للسجود لآدم وتحذيره من الخروج من الجنة إذا هو اتبع نصائحه ، وهو بعد كل هذا قد أطاع وساوسه وقبل إرشاده ، فأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها ، فأخرج من الجنة مع إعلامه بأن الشيطان عدو له ولذريته ، ثم بين أن من جاءه الهدى من ربه واتبعه عاش فى الدنيا قرير العين هادىء البال ، ويؤتى فى الآخرة ما شاء الله أن يؤتى من ألوان النعيم والسعادة ، ومن أعرض عن ذلك عاش فى الدنيا عيشة ضنكا ، إذ هو لشدة حرصه عليها يخاف انتقاصها ، ومن ثمّ يغلب عليه الشح والبخل ، ويفعل كل منكر فى سبيل جمع المال من أي وجه كان ، ولا يبالى أمن حلال كان أم من حرام؟ ولذلك تراهم يقولون (الغاية تبرر الواسطة). أما المؤمن الذي لا يعنيه جمع حطام الدنيا فإنه فى سرور وراحة قلّ ماله أو كثر.

وهو فى الآخرة يكون أعمى عن الحجة التي تنقذه من ذلك الخزي الدائم ، والعذاب المقيم.

ثم أردف هذا ببيان سبب ذلك وهو إعراضه فى الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد ، ومن ثم يسير فى جهالته إلى يوم القيامة ، وهذا مما يوجب له أشد الآلام الروحية من حين مماته إلى حين الحشر ، وهكذا يجازى الله المسرفين المكذبين بآياته فى الدنيا والآخرة جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات ، وارتكبوا من الذنوب والآثام كما قال سبحانه : «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ».

الإيضاح

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي ولقد وصينا آدم وقلنا له : إن إبليس عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة ، فوسوس إليه الشيطان فأطاعه ،

١٥٨

وخالف أمرى ، وترك العهد الذي أمرته ، به ولم يهتم بالعمل به ، ولم نجد له ثباتا فى الرأى ولا تصميما فى العزيمه.

وخلاصة ذلك ـ إنه ترك ما وصّى به من الاحتراس من الأكل من الشجرة.

ثم بين سبحانه ما عهد إليه به وكيفية نسيانه وفقدان عزمه فقال :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أي واذكر أيها الرسول الكريم ما وقع فى ذلك الحين منا ومن آدم ، حتى يستبين لك نسيانه وفقدان عزمه إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فلبّوا الأمر إلا إبليس فإنه امتنع وأبى أن يكون مع الساجدين.

وقد تقدم هذا القصص فى سورة البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف ، وسيأتى ذكره فى سورة ص ، وفيه إشارة إلى تكريم آدم وتشريفه ، وتفضيله على كثير ممن خلق.

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) أي فقلنا له عقب ذلك رعاية لإرشاده ونصحه : إن هذا الذي رأيت منه ما رأيت ـ عدوّ لك ولزوجك ، ومن ثم لم يسجد لك وخالف أمرى وعصانى ، فلا تطيعاه فيما يأمر كما به.

(فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أي فلا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة ، فتتعبا بمتاعب الدنيا التي لا تكاد تحصى.

وخلاصة ذلك ـ إياك أن تسعى فى إخراجك منها فتتعب وتشقى فى طلب رزقك ، وأنت هاهنا فى عيش رغد هنىء بلا كلفة ولا مشقة.

ثم علل ما يوجبه النهى عن ذلك فقال :

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) أي لا يكون لك فى الجنة جوع ولا عرى ، ولا ظمأ ولا إصابة بحر الشمس.

وقرن بين الجوع والعرى أوّلا ، لأن فى الجوع ذل الباطن وفى العرى ذل الظاهر ، وبين حر الباطن وهو العطش وحر الظاهر وهو الضّحى ثانيا.

١٥٩

وخلاصة ذلك ـ إن الجنة اجتمعت فيها الأسباب التي توجب راحة الإنسان ، وذلك مما يوجب الاهتمام بتحصيل الوسائل التي توجب البقاء فيها ، والابتعاد عما يدعو إلى الخروج منها.

وقصارى ذلك ـ إن لك فيها تمتعا بأنواع المعاش ، وتنعما بأصناف النعم ، من المآكل الشهية ، والملابس البهية.

وبعد أن بين أنه عظم آدم وعرفه شدة عداوة إبليس له بين أنه قبل نصحه ، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها فقال :

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى؟) أي فألقى الشيطان النصيحة إلى آدم وقال له : هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت ولم تمت ، وملكت ملكا لا ينقضى ولا يفنى.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها وأطاعا أمر إبليس وخالفا أمر ربهما ، فانكشفت عورتهما وكانت مستورة عن أعينهما ، فشرعا يلزقان ورق التين عليهما ، ليغطيا جسمهما.

(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) أي وخالف أمر ربه ، وتعدى ما لم يكن له أن يتعدى إليه ، من الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) أي ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته ، ورزقه التوبة والعمل بما يرضيه حين قال هو وزوجه : «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ».

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي قال الرب الذي انتهكت حرمة داره وخولف أمره. انزلا من الجنة إلى الأرض ، أنتما عدو لإبليس وذريته ، وإبليس عدوكما وعدو ذريتكما.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) أي فإن يأتكم

١٦٠