تفسير المراغي - ج ١٦

أحمد مصطفى المراغي

وبين القصصين مناسبة ظاهرة ، ومن ثم ذكرهما مقترنين فى سورة آل عمران وهنا وفى الأنبياء ، وبدأ بقصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد بلا أب ، ثم ثنّى بقصة عيسى لأنها أغرب من تلك.

ومن حسن طرق التعليم والتفهيم التدرج بالانتقال من الأقرب منالا إلى أصعب منه ، وهكذا صعدا.

الإيضاح

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) أي واتل أيها الرسول فى كتاب الله الذي أنزله إليك بالحق ، قصص مريم بنة عمران حين اعتزلت من أهلها وانفردت عنهم إلى مكان شرقى بيت المقدس لتتخلى للعبادة.

وعن ابن عباس أنه قال : إنى لأعلم خلق الله لأى شىء اتخذ النصارى المشرق قبلة ، لقول الله عز وجل : «إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا» فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؟.

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي فاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس ، فأرسلنا إليها جبريل عليه السلام فجاءها بصورة رجل معتدل الخلق ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب ، إذ ربما يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها أسى وغما ، وإنما مثّل لها بهذا المثال ، لتأنس بكلامه ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته ، ولأنّه لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع محاورته.

ثم حكى عنها سبحانه ما قالته حينئذ فقال :

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي فلما رأته فزعت منه وقالت :

٤١

إنى أستجير بالرحمن منك أن تنال منى ما حرّم الله عليك إن كنت ذا تقوى له ، تتقى محارمه ، وتجتنب معاصيه ، فمن يتق الله يجتنب ذلك.

وإجمال المعنى ـ إنه لما تبدى لها فى صورة البشر وهى فى مكان منفرد ، وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت : إنى أعوذ بالله منك إن كنت تخافه ـ وقد فعلت المشروع فى الدفع وهو أن يكون بالهوينى والأسهل فالأسهل.

وخلاصة ذلك ـ إن الاستعاذة لا تؤثر إلا فى التقى ، لأن الله تعالى يخشى فى حال ، دون حال ، فهو كقوله : «وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي إن الإيمان يوجب ذلك.

فلما علم جبريل خوفها :

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) أي فقال الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها : لست ممن تظنين ، ولا يقع منى ما تتوهمين من الشر ، ولكنى رسول ربك بعثني إليك ، لأهب لك غلاما طاهرا مبرّأ من العيوب ، وقد أضاف الهبة إلى نفسه من قبل أنها جرت على يده بأن نفخ فى جيبها بأمر الله.

ولما عجبت مريم مما سمعت :

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي قالت لجبريل : من أي وجه يكون لى غلام ، ولست بذات زوج ، ولا يتصور منى الفجور؟.

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي قال الملك مجيبا لها عما سألت : إن الله قد قال : إنه سيوجد منك غلام وإن لم تكونى ذات بعل ، ولا تقترفين فاحشة ، فإنه تعالى على ما يشاء قدير ، ولا يمتنع عليه فعل ما يريده ، ولا يحتاج فى إنشائه إلى الموادّ والآلات.

٤٢

ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران : «كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي وفعلنا ذلك لنجعل خلقه برهانا على قدرتنا ، فقد خلقنا أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلقنا عيسى من أنثى فحسب ، وخلقنا بقية الذرية من ذكر وأنثى ، وإلى الأولين أشار القائل :

ألا رب مولود وليس له أب

وذى ولد لم يلده أبوان

(وَرَحْمَةً مِنَّا) أي ورحمة من الله لعباده ، إذ بعثه نبيا يدعوا إلى عبادته وتوحيده.

(وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي قد قضاه الله فى سابق علمه ، ومضى به حكمه ، فلا يغير.

ولا يبدّل : «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ».

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

تفسير المفردات

فانتبذت : أي فاعتزلت ، قصيا : أي بعيدا من أهلها وراء الجبل ، فأجاءها المخاض : أي فألجأها واضطرها ، والمخاض : الطلق حين تحرك الولد للخروج من البطن والنسى : (بفتح النون وكسرها) الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل ، والمنسى : ما لا يخطر بالبال لتفاهته ، والسرىّ : السيد الشريف ،

٤٣

والهز : تحريك الشيء بعنف أو بدونه ، تساقط : أي تسقط ، ورطبا : أي بسرا ناضجا جنيا : أي صالحا للاجتناء ، فقولى : أي أشيرى إليهم. قال الفرّاء : العرب تسمى كل ما أفهم الإنسان شيئا ـ كلاما بأى طريق كان ، إلا إذا أكد بالمصدر فيكون حقيقة فى الكلام كقوله : «وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً» صوما : أي صمتا.

الإيضاح

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) أي فلما قال لها جبريل ما قال : استسلمت لقضاء الله ، فنفخ جبريل فى جيب درعها (الفتحة التي من الأمام فى القميص) فدخلت النفخة فى جوفها فحملته قاله ابن عباس ، وقال غيره : نفخ فى كمها ، والقرآن قد أثبت النفخ فقال : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا)» ولم يعين موضع النفخ فلا نجزم بشىء من ذلك إلا بالدليل القاطع ، وحينئذ اعتزلت بالذي حملت وهو عيسى عليه السلام مكانا قاصيا عن الناس.

والقرآن الكريم لم يعين مدة الحمل (ولا حاجة إليها فى العبرة) فنقول إنها كانت كما يكون غيرها من النساء إلا إذا ثبت غيره ، وكذلك لا حاجة إلى تعيين سنها حينئذ ، إذ لا يتعلق به كبير فائدة.

وإنما اتخذت المكان البعيد حياء من قومها وهى من سلائل بيت النبوة ، ولأنها استشعرت منهم اتهامها بالريبة ، فرأت أن لا تراهم وأن لا يروها.

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي فألجأها وجع الولادة وألم الطلق أن تستند إلى جذع النخلة للتشبث به ، لسهولة الولادة ، وتمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت ، حياء من الناس وخوفا من لأئمتهم ، أو كانت شيئا لا يعتد به ولا يخطر ببال أحد من الناس.

٤٤

(فَناداها مِنْ تَحْتِها : أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي فناداها عيسى عليه السلام كما قال الحسن البصري وسعيد بن جبير ، (وقد أنطقه الله حين وضعته تطييبا لقلبها ، وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد بادى ذى بدء علوّ شأن ذلك المولود الذي بشرها به جبريل عليه السلام) ألا تحزنى فقد جعل ربك المحسن إليك ، تحتك غلاما رفيع الشأن ، سامى القدر ذا سخاء في مروءة.

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) أي أميلى إليك جذع النخلة واجذبيه بتحريكه ، يسقط عليك رطبا جنيا تأكلين منه ما تشائين.

وتلك آية أخرى لها ؛ إذ روى أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء ، فأنزل الله لها رزقا فجعل للنخلة رأسا وخوصا وجعل لها ثمرا رطبا ـ وهذه رواية يعوزها الدليل.

وفى هذا إيماء وتنبيه إلى أن من يقدر أن يثمر النخلة اليابسة فى الشتاء يقدر أن يجعلها تحمل من غير السنن العادية ، وإلى أن السعى فى الرزق مطلوب ولا ينافى التوكل ، ولله در القائل :

ألم تر أن الله أوحى لمريم

وهزّى إليك الجذع يسّاقط الرّطب

ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه

إليها ولكن كل شىء له سبب

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أي فكلى من ذلك الرطب ، واشربى من عصيره ، وطيبى نفسا ، وأبعدى عنك الأحزان ، فإن الله قدير أن ينزّه ساحتك ويبعد عنك تخرّصات المبطلين الذين يتقيدون بالسنن التي جعلها الله الطريق للولادة فى البشر ، ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك حتى يثبتوا لك القداسة والطهر.

(فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أي فإن رأيت أحدا من بنى آدم يسألك عن أمرك ، وأمر ولدك وكيف ولدته ، فأشيرى إليهم ـ إنى أوجبت على نفسى لله صمتا ألّا أكلم اليوم أحدا ، فإن كلامى يقبل الرد والجدل ، ولكن يتكلم عنى ذلك المولود الذي لا يقبل كلامه الدفع والرد ، وإنى أنزّه نفسى عن مجادلة السفهاء ، ولا أكلم إلا الملائكة أو أناجى الخالق.

٤٥

وليس الصمت عن الكلام من شريعة الإسلام ، فقد روى أن أبا بكر دخل على امرأة قد نذرت ألا تتكلم ، فقال : إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمى ، وروى ابن أبى حاتم عن ابن مسعود أنه جاءه رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا ، فقال القوم : ما لصاحبك لم يسلّم؟ قال إنه نذر صوما ، لا يكلم اليوم إنسيا ، فقال له ابن مسعود : بئس ما قلت ، إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت ، وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا ـ فتكلّم ، وأمر بالمعروف ، وأنه عن المنكر ، فإنه خير لك.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

تفسير المفردات

فريّا : أي عظيما خارقا للعادة ، وهى الولادة بلا أب ، من فرى الجلد أي قطعه على وجه الإفساد أو الإصلاح ، ومنه فى وصف عمر «فلم أر عبقريا يفرى فريّه» وفى المثل : جاء يفرى الفرىّ ، وهارون هو أخو موسى عليه السلام ، وقيل هو رجل صالح من بنى إسرائيل ، والأخت على هذا بمعنى المشابهة ، وشبهوها به تهكما ، أو لما رأوا من

٤٦

قبل من صلاحها ، والمهد : الموضع يهيّأ للصبى ويوطّأ له والجمع مهود ، والكتاب : الإنجيل ، مباركا : نفّاعا للناس ، أو ثابتا فى دين الله ، الجبار : المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقا ، والشقي : العاصي لربه.

الإيضاح

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا : يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي إن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ، ولا تكلم أحدا من البشر ، وأنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها ـ سلمت أمرها إلى الله ، واستسلمت لقضائه ، فأخذت ولدها وأتت به قومها تحمله ، فلما رأوها كذلك أعظموا ما رأوا ، واستنكروا وقالوا يا مريم ، لقد جئت أمرا عظيما منكرا.

ثم زادوا تأكيدا فى توبيخها وتعييرها فقالوا :

(يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي يا من أنت من نسل هارون أخى موسى ، كما يقال للتميمى يا أخا تميم ، وللمصرى يا أخا مصر ، أو يا من أنت شبيهة بذلك الرجل المسمى بهذا الاسم الذي كنت تتأسّين به فى العبادة والزهد ـ ما كان أبوك بالفاجر وما كانت أمك بالبغىّ ، فمن أين لك هذا الولد؟!.

أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبى شيبة وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون (يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، قال فرجعت ، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : ألا أخبرتم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» وهذا التفسير النبوي يغنى عن سائر ما روى عن السلف فى ذلك.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي فأشارت إلى عيسى أن كلّموه ، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق ، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام ، أو اقتصرت على ذلك

٤٧

للمبالغة فى إظهار الآية العظيمة ، وأن هذا المولود يفهم الإشارة ، ويقدر على العبارة.

(قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي قالوا لها ، متهكمين بها ، ظانين أنها تزدرى بهم وتهزأ : كيف نكلم من هو صبى فى المهد ، ولم يعهد فى مثله وهو لم يدرج بعد من حجر أمه أن يكلم أحدا؟.

روى أن عيسى لما سمع كلامهم أقبل عليهم وترك الرضاع وأشار بيمينه ، ثم بدأ يتكلم فوصف نفسه بجملة صفات :

(١) (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أي إنى عبد الله الذي له صفات الكمال لا أعبد غيره ، وفى هذا إيماء إلى أن من كان لا يتخذ إلها من دونه ، ولا يستعبده شيطان ولا هوى.

(٢) (آتانِيَ الْكِتابَ) أي سينزل علىّ الإنجيل.

(٣) (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) أي وسيجعلنى نبيا ، وفى هذا براءة لأمه ، لأن الله لا يصطفى لنبوته أولاد سفاح.

(٤) (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) أي سيجعلنى نفاعا للناس هاديا لهم إلى سبيل الرشاد فى أىّ مكان كنت ، وقد جعل هذه الصفات كأنها حدثت له فعلا وهى لم تحصل بعد ، من قبل أنها لما كانت واقعة حتما نزّلت منزلة ما قد حصل.

(٥) (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) أي وأمرنى بالصلاة ، إذ فى إقامتها وإدامتها على الوجه الذي سنه الدين ـ تطهير النفوس من الأرجاس ومنع لها عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وأمرنى بالزكاة بإعطاء جزء من المال للبائس والمحتاج ، لما في ذلك من تطهير المال ـ ما دمت حيا فى الدنيا.

(٦) (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي وجعلنى برا بوالدتي ، مطيعا لها محسنا ، وفى هذا رمز إلى نفى الريبة عنها ، إذ لو لم تكن كذلك لما أمر الرسول المعصوم بتعظيمها.

٤٨

(٧) (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) أي ولم يجعلنى جبارا مستكبرا عن عبادته ، ولا شقيا بعقوق والدتي وعدم البر بها.

(٨) (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) أي والأمنة من الله علىّ ، فلا يقدر أحد على ضرّى فى هذه المواطن الثلاثة التي هى أشق ما تكون على العباد.

واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم فى المهد ، واحتج النصارى على ذلك بأن هذا من الأحداث التي لو وجدت لتوافرت الدواعي على نقلها تواترا ، لأنه من المناقب السامية ، والفضائل التي لها الميزة العظمى بين الناس ، ولما لم يعرف ذلك لدينا مع تتبعنا لفضائله ، وشدة بحثنا عن الجليل والحقير من أحواله ـ علمنا أنه لم يوجد ؛ وأيضا فاليهود أظهروا عداوته حين ادعى النبوة ، فلو أنه تكلم إذ ذاك لكانت عداوتهم له أشد ، ولكان تحيلهم فى قتله أعظم ، ومن حيث لم يحصل شىء من هذا علمنا أنه لم يتكلم.

والمسلمون يقولون : كفى إثباتا لذلك نص القرآن القاطع ـ إلى أن العقل يرشد إليه ، إذ لو لا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا الحد عليها ، وربما كان الحاضرون حين كلامه عددا قليلا ؛ ومن ثم لم يشتهر بينهم ، وربما لم يحضر اليهود كلامه ، ولم يسمعوا به.

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ

٤٩

فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

تفسير المفردات

قول الحق : أي قول الصدق الذي لا شبهة فيه ، يمترون : أي يشكّون ويتنازعون ، ما كان لله أن يتخذ من ولد. أي ما ينبغى ولا يصح أن يجعل له ولدا ، صراط مستقيم : أي طريق لا يضل سالكه ، الأحزاب : فرق النصارى الثلاث ، مشهد : أي شهود وحضور ، يوم عظيم : هو يوم القيامة ، اليوم : أي فى الدنيا ، يوم الحسرة ، هو يوم القيامة حين يندم الناس على ما فرّطوا فى جنب الله ، قضى الأمر : أي فرغ من الحساب.

الإيضاح

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي ذلك الذي فصّلت نبوّته ، وذكرت مناقبه وأوصافه ، هو عيسى بن مريم ، نقول ذلك قول الصدق الذي لا ريب فيه ، لا كما يقول اليهود من أنه ساحر وحاشاه ، ولا كما تقول طائفة من النصارى إنه ابن الله ، ولا كما تزعم طائفة أخرى أنه هو الله ، ويخلعون عليه من صفات الألوهية ما هو منه براء.

ثم أكد ما دل عليه سابق الكلام من كونه ابنا لمريم لا لغيرها بقوله :

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) أي لا يليق بحكمة الله وكمال ألوهيته أن يتخذ الولد لأنه لو أراده لخلقه بقول «كن» فلا حمل ولا ولادة ، ولأن الولد إنما يرغب فيه ، ليكون حافظا لأبيه يعوله وهو حىّ ، وذكرا له بعد الموت ، والله تعالى لا يحتاج إلى شىء من ذلك ؛ لعالم كله خاضع له ، لا حاجة له إلى ولد ينفعه ، وهو حى أبدا.

٥٠

ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى تنزيهه تعالى عن ذلك فقال : (سبحانه) أي تنزه ربنا عن كل نقص من اتخاذ الولد أو غيره.

ثم ذكر علة هذا التنزيه وبيان الوجه فيه فقال :

(إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء كما قال : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ومن كان هذا شأنه فكيف يتوهم أن يكون له ولد ، لأن ذلك من أمارات النقص والاحتياج؟.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو فى مهده أن أخبرهم بقوله ـ إن الله ربى وربكم ، وأمرهم بعبادته.

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي أوصيتكم أن الله أمرنى به هو الطريق المستقيم فمن سلكه نجا ، ومن اتبعه اهتدى ، لأنه هو الدين الذي أمر به أنبياءه ، من خالفه ضل وغوى ، وسلك سبيل الردى.

ثم أشار إلى أنه مع وضوح الأمر فى شأن عيسى ، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ـ اختلفوا فيه كما قال :

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي فاختلف قوم عيسى فى شأنه فرقا ثلاثا.

فقالت اليعقوبية : (نسبة إلى عالم منهم يسمى يعقوب) هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وقالت النسطورية (نسبة إلى عالم يسمى نسطور). هو ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه. وقالت الملكانية (نسبة إلى الملك قسطنطين وكان فيلسوفا عالما) إنه عبد الله كسائر خلقه. وهذا الرأى هو الذي نصره الملك ونصره غيره من شيعته.

ثم توعد من كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا فقال :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي فعذاب شديد للكافرين من شهود ذلك اليوم وهو يوم القيامة ، لشدة بأسه وعذابه ، فالأيدى والأرجل والألسن

٥١

تشهد على أصحابها ، وقد أجل الله عقابهم إلى هذا اليوم حلما منه وثقة بقدرته عليهم ، فهو لا يعجّل عقوبة من عصاه كما جاء فى الصحيحين «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وفى الصحيحين أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ـ إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم».

ثم عجب ربنا من قوة سمع الكفار وحذّة أبصارهم يوم القيامة وقد كانوا على الضد من هذا فى الدنيا فقال :

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي لئن كان هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله أندادا وزعموا أن له ولدا ـ عميا فى الدنيا عن إبصار الحق والنظر إلى حجج الله التي أودعها فى الكون دالة على وحدانيته وعظيم قدرته وبديع حكمته ، صما عن سماع آي كتبه وما دعتهم إليه الرسل مما ينفعهم فى دينهم ودنياهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم ـ فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم فى الآخرة ، وما أبصرهم حينئذ ، حيث لا يجدى السماع والإبصار شيئا ، ويعضّون على أناملهم حسرة وأسفا ، ويتمنون على الله الأمانى ، فيودون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من صالح العمل ، ولكن هيهات هيهات فقد فات الأوان.

صاح هل ريت أو سمعت براع

ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب

ومن ثم لا يجاب لهم طلب ، بل يقال لكل أفاك أثيم «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ. إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ».

ثم أمر سبحانه نبيه أن ينذر قومه والمشركين جميعا فقال :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي وأنذر الناس جميعا يوم يتحسر الظالمون على ما فرّطوا فى جنب الله حين فرغ من الحساب ، وذهب

٥٢

أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ، ونودى كل من الفريقين لا خروج من هنا بعد اليوم ، ولا موت بعد اليوم.

روى الشيخان والترمذي عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يؤتى بالموت بهيئة كبش أملح (يخالط بياضه سواد) فينادى مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون.

نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد رأوه ، ثم ينادى مناد يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت وكلهم قد رأوه ، فيذبح بين الجنة والنار ، ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ثم قرأ «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ».

وقوله إذ قضى الأمر أي إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها ، ولأهل الجنة بمقام الأبد فيها بذبح الموت.

وذبحه تصوير لأن كلّا من الفريقين يفهم فهما لا لبس فيه أنه لا موت بعد ذلك.

وقوله : وهم فى غفلة : أي عن ذلك اليوم ، وعن حسراته وأهواله ، وقوله : وهم لا يؤمنون : أي وهم لا يصدّقون بالقيامة والبعث ومجازاة الله لهم على سييء أعمالهم بما أخبر أنه مجازيهم به.

ثم سلى رسوله وتوعد المشركين فقال :

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي لا يحزنك أيها الرسول تكذيب المشركين لك فيما أتيتهم به من الحق ، فإن إلينا مرجعهم ومصيرهم ومصير الخلق أجمعين ، ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس بعد فنائهم ، ثم نجازى كل نفس بما عملت حينئذ ، فنجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لا ظلم اليوم ، إن الله سريع الحساب.

٥٣

قصص إبراهيم عليه السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

تفسير المفردات

واذكر فى الكتاب : أي اتل فى هذه السورة ، صدّيقا : أي مبالغا فى الصدق لم يكذب قط ، صراطا سويا : أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل السعادة ، وليا : أي قرينا تليه ويليك فى العذاب ، أراغب أنت عن آلهتي : أي أكاره لها ، لأرجمنك : أي لأشتمنك باللسان أو لأرجمنك بالحجارة ، مليّا : أي دهرا طويلا. قال مهلهل :

فتصدعت صمّ الجبال لموته

وبكت عليه المرملات مليّا

٥٤

حفيا : أي مبالغا فى برّى وإكرامى ؛ يقال : حفى به إذا اعتنى بإكرامه ، شقيا : أي خائب المسعى ، لسان صدق : أي ثناء حسنا.

المعنى الجملي

اعلم أن المقصد من هذه السورة إثبات الوحدانية والنبوة والبعث ، والمنكرون للتوحيد فريقان : فريق أثبتوا معبودا سوى الله حيا عاقلا وهم النصارى. وفريق أثبتوا معبودا هو جماد ليس بحي ولا عاقل وهم عبدة الأصنام. والفريقان وإن اشتركا فى الضلال ، فضلال الفريق الثاني أشد ، ومن ثم قدم الكلام فى النصارى على الكلام فى عبدة الأصنام. وذكر قصص إبراهيم أوّلا لأنه أبو العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه ، معترفين بدينه كما قال «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» إلى أنه تعالى نبههم إلى أن الطريق التي جروا عليها وهى التقليد بنحو قولهم «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» تخالف طريق الاستدلال التي سار عليها أبوهم إبراهيم فى حجاجه مع أبيه آزر.

الإيضاح

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟) أي واتل أيها الرسول على قومك الذين يعبدون الأصنام ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدّعون أنهم على ملته (وهو الصّدّيق النبي). حين نهى قومه عن عبادتها وقال لأبيه : ما الذي حبّب إليك أن تعبد ما لا يسمع ثناءك على حين عبادتك له ، ولا يبصر خشوعك وخضوعك بين يديه ، ولا ينفعك فيدفع عنك ضرا إذا استنصرت به؟.

وقد سلك عليه السلام فى دعوته أجمل الآداب فى الحجاج ، واحتج بأروع البرهانات ليرده عن غيه ، ويقفه على طريق الهدى والرشاد ، فاستهجن منه أن يعبد

٥٥

ما يستخفّ به كل ذى لبّ ، ويأبى الركون إليه كل ذى عقل ، فالعبادة هى الغاية القصوى فى التعظيم ، فلا يستحقها إلا الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، لا الأصنام التي لا تسمع الأصوات ، ولا تنظر الأشياء ، وتعجز عن جلب المنافع ، ودفع المضار.

وقصارى ما قال ـ إن الإنسان السميع البصير يأنف أن يعبد نظيره ، فكيف تعبد ما خرج عن الألوهية بفقره وضعفه واحتياجه إلى من يصنعه ، وعن الإنسانية بفقد العقل ، وعن الحيوانية بفقد الحواس.

أما كان لك عبرة فى حاجته وفقده السمع والبصر؟.

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي يا أبى إنى وإن كنت من صلبك ، وترانى أصغر منك لأنى ولدك ، فاعلم أنى قد اطّلعت من العلم على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ، فاتبعنى أهدك طريقا مستقيما لا زيغ فيه ، يوصلك إلى نيل المطلوب ، وينجيك من كل مرهوب.

وفى قوله : قد جاءنى إيماء إلى أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبّىء ، ولم يعين ما جاءه ليشمل كل ما يوصّله إلى الجنة ونعيمها ، ويبعد به عن النار وعذابها.

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي لا تطع الشيطان فى عبادة هذه الأصنام ، فإنه هو الداعي إلى عبادتها والموسوس بها.

ونحو الآية قوله : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» وقوله : «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً».

ثم بين سبب النهى عن طاعته بقوله :

(إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) أي إن الشيطان عاص مستكبر عمن شملته

٥٦

رحمتك ، وعمّته نعمتك ، ولا ريب فى أن من أطاع العاصي يكون عاصيا وجديرا بأن تسترد منه النعم ، وحقيقا بأن تنزل عليه النقم.

ثم حذره من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام فقال :

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) أي يا أبى إنى أخاف لمحبتى لك ، وغيرتى عليك ، أن يصيبك عذاب من الرحمن على شركك وعصيانك.

(فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي قرينا وتابعا له فى النار.

وقصارى ذلك ـ إنى أخاف أن تكون تابعا للشيطان فى الدنيا ، فيمسّك عذاب من الرحمن فى العقبى.

ولما دعا إبراهيم أباه إلى التوحيد ، وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان ، وأردف ذلك بالوعظ واللطف ، قابله أبوه بجواب هو على الضد من ذلك.

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟) أي أتكره آلهتي ، ولا ترغب فى عبادتها يا إبراهيم؟.

(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من النهى عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتنى إليه ، لأرجمنك بالحجارة ، فاحذرنى وابعد عنى بالمفارقة من الدار والبلد دهرا طويلا.

وقد قابل الأب رفق الابن بالعنف ، فلم يقل يا بنى كما قال الابن يا أبت ، وقابل وعظه بالسفاهة ، إذ هدده بالشتم أو بالضرب بالحجارة بقوله : لئن لم تنته لأرجمنك.

وفى ذلك تسلية للنبى صلّى الله عليه وسلّم وتأسية له بإبراهيم فيما كان يلقى من الأذى من قومه ويقاسيه منهم ومن عمه أبى لهب من العنت والمكروه.

ولما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجابه بأمرين :

(١) (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) أي سلمت منى لا أصيبك بمكروه ما لم أومر فيك بشىء ، وهذا جواب الحليم للسفيه ، وفيه توديع ومتاركة ومقابلة للسيئه بالحسنة ، وزاد على ذلك أن قال :

٥٧

(٢) (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي سأطلب لك من ربى الغفران ، بأن يوفقك للهداية ، وينير بصيرتك لقبول الحق ، ويرشدك إلى ما فيه الخير.

ونحو الآية قوله : «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ».

وقصارى دعائه ـ رب اهد أبى ، وأخرجه من الضلال.

وإنما استغفر له ، لأنه كان قد وعده أن يؤمن كما قال : «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ».

ثم ذكر أنه محبب إلى ربه فإذا هو استغفر له أجاب طلبه فقال :

(إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي إنه سبحانه للطفه بي ، وإنعامه علىّ ، عوّدنى الإجابة ، فإذا أنا استغفرت لك أغاثك بجوده وكرمه ، وغفر لك ذنوبك إن تبت إليه وأنبت ثم بين ما بيّت النية عليه ، وعزم على إنفاذه فقال :

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي وأتباعد عنك وعن قومك وعما تعبدون من الأوثان والأصنام ، وأفر بديني وأتشاغل بعبادة ربى الذي ينفعنى ويضرنى ، إذ لم تؤثر فيكم نصائحى.

وقد روى أنه عليه السلام هاجر إلى بلاد الشام ، وفى هجرته هذه تزوج سارّة.

(وَأَدْعُوا رَبِّي) أي وأعبده سبحانه وحده ، وأجتنب عبادة غيره من المعبودات.

(عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أي لعلى لا أكون بدعاء ربى المنعم علىّ خائب المسعى ، كما خبتم أنتم وشقيتم بعبادة تلك الأوثان التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم.

وقد حقق ما عزم عليه ، فحقق الله رجاءه ، وأجاب دعاءه فقال :

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) أي فلما اعتزل إبراهيم أباه وقومه لم يضره ذلك لا فى دين ولا دنيا ، بل نفعه إذ أبدله بهم من هم خير منهم ووهبه بنين وحفدة هم آباء الأنبياء من بنى إسرائيل

٥٨

ولهم الشأن الخطير ، والقدر العظيم ، فقد وهبه إسحاق وولد لإسحاق يعقوب وقاما مقامه بعد موته وورثا منه النبوة. أما إسماعيل فتولى الله تربيته بعد نقله رضيعا إلى المسجد الحرام فأحيا تلك المشاعر العظام ، ومن ثم أفرده بالذكر بقوله : «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ» الآية.

ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته بقوله :

(وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) أي وجعلنا لكل منهما نسلا وعقبا من الأنبياء أقر الله بهم عينيه فى حياته.

(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) أي وآتينا هم من فضلنا الديني والدنيوي ما لم نؤته أحدا من العالمين ، فآتيناهم النسل الطاهر ، والذرية المباركة ، وإجابة الدعاء ، واللطف فى القضاء ، والبركة فى المال والأولاد إلى نحو أولئك من خيرى الدنيا والآخرة.

(وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) فمحامدهم مذكورة فى جميع الأزمان ، سطّرها الدهر على صفحاته ، استجابة لدعوته عليه السلام بقوله : «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» قال ابن جرير وإنما قال عليّا ، لأن جميع الملل والأديان تثنى عليهم وتمدحهم ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد اجتمعت لإبراهيم خلال لم تجتمع لسواه :

(١) إنه اعتزل قومه حبا فى الله ، فآتاه الله من هم خير منهم ، فوهب له إسماعيل وإسحاق ويعقوب.

(٢) إنه تبرأ من أبيه حين تبين منه أنه عدو لله ، لا جرم سماه الله أبا المسلمين بقوله : «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ».

(٣) إنه تلّ ولده للجبين ، ليذبحه إطاعة لأمر الله ففداه الله بذبح عظيم.

(٤) إنه أسلم نفسه للنار ابتغاء رضوان الله فكانت عليه بردا وسلاما.

(٥) إنه أشفق على هذه الأمة فقال : «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ»

٥٩

فأشركه الله فى الدعاء وفى الصلوات الخمس ـ وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.

(٦) إنه عادى كل الخلق فى الله فقال : «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» فاتخذه الله خليلا كما أخبر بذلك الكتاب : «وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً».

(٧) إن الله مدحه بقوله : «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» لا جرم جعل موطىء قدميه مباركا كما قال : «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى».

قصص موسى عليه السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

تفسير المفردات

مخلصا : أي مختارا مصطفى ، وقربناه : أي تقريب تشريف وتكريم ، والطور : هو الجبل الذي بين مصر ومدين ، ونجيا : أي مناجيا مكلّما لله بلا واسطة.

الإيضاح

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) أي واتل أيها الرسول على قومك ما اتصف به موسى عليه السلام من صفات الجلال والكمال التي سأقصها عليك ، ليستبين لك علو قدره وعظيم شأنه ، وتلك هى :

(١) (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) أي إن الله أخلصه واصطفاه ، وأبعد عنه الرجس ، وطهّره من الذنوب والآثام كما جاء فى الآية الأخرى : «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي».

٦٠