تفسير المراغي - ج ١٦

أحمد مصطفى المراغي

(٢) (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أي إن الله أرسله إلى الخلق داعيا ومبشرا ونذيرا ، والرسول هو من أرسله الله إلى الناس ومعه كتاب فيه شريعته التي أرسله بها كموسى عليه السلام ، والنبىّ هو الذي ينبىء عن الله ويخبر قومه عنه ، وليس معه كتاب كيوشع عليه السلام.

(٣) (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي وكلمناه من الجانب الأيمن للطور أي الذي عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجها إلى مصر ، وأنبأناه بأنه رسولنا ، ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون ، ورحمنا بنى إسرائيل بإنزال الكتاب عليهم.

(٤) (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي وقربناه تقريب تشريف وإجلال حين مناجاته لنا ؛ وقد مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته ، واصطفاه لمصاحبته ، ورفع الوسائط بينه وبينه.

وقصارى ذلك ـ إنه تجاوز العالم المادي ، وانغمس فى العالم الرّوحى ، فقرب من ربه وارتقت نفسه حتى بلغت أقصى مناها ، واستعدت للاطلاع على عالم الملكوت ، ورؤية ما غاب عن عالم المادة.

(٥) (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) أي ووهبنا له من رحمتنا معاضدة أخيه ومؤازرته ، إجابة لدعوته عليه السلام بقوله : «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي» وحققنا ما طلبه له ، وجعلناه نبيا : «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» قال بعض السلف : ما شفع أحد فى أحد فى الدنيا أعظم من شفاعة موسى فى هرون أن يكون نبيا ، قال ابن عباس : كان هرون أكبر من موسى بأربع سنين.

قصص إسماعيل عليه السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

٦١

المعنى الجملي

قدم الكلام فى موسى على الكلام فى إسماعيل ليكون الحديث عن يعقوب وبنيه فى نسق واحد دون فاصل بينهما ، وإسماعيل هو إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام ، وقد أثنى عليه ربه بما هو أهله ووصفه بصفات هى مفخرة البشر ومنتهى السموّ والفضل فى هذه الدنيا.

الإيضاح

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) أي اتل أيها الرسول على قومك صفات أبيهم إسماعيل ، علّهم يهتدون بهديه ، ويحتذون حذوه ، ويتخلقون بمثل ما له من مناقب وفضائل منها :

(١) (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) فما وعد عدة إلا وفّى بها ، حتى وعد أباه بالصبر على الذبح فقال : «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فصدق فى ذلك ووفّى بما قال وامتثل حتى جاءه الفداء.

وصدق الوعد من الصفات التي حث عليها الدين ، وشدد فيها أيّما تشديد فقال تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن خان» وقد فقدت هذه الصفة من كثير من المسلمين ، فلا تجد عالما ولا جاهلا إلا وهو بمنأى عنها ولا سيما التجار والصناع والعمال.

(٢) (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أي وكان رسولا إلى جرهم الذين حلّوا بمكة معه ومع أمه ، وكان مرسلا من الله بتبليغ شريعة إبراهيم ، فنبأ بها قومه وأنذرهم وخوفهم ومن هذا يعلم أن الرسول لا يجب أن ينزل عليه كتاب مستقل.

٦٢

(٣) (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي إنه بعد أن كمل نفسه اشتغل بتكميل أمته وأقرب الناس إليه ، على نحو ما قاله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلم : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» وقال : «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» وقال : «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً».

(٤) (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) عمله ، محمودا فيما كلفه به ، غير مقصّر فى طاعته ، فاقتد أيها الرسول به ، لأنه من أجلّ آبائك.

قصص إدريس عليه السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧))

الإيضاح

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) بالثناء عليه ، والنسابون يقولون : إنه جد أبى نوح عليه السلام ، ويقولون : إنه أول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط ، وكانوا قبله يلبسون الجلود ، وأول من نظر فى النجوم وتعلم الحساب. وجعل الله ذلك من معجزاته.

وإن تقادم العهد ، وطول الزمن ، وعدم وجود السند الصحيح الذي يعوّل عليه فى الرواية ، يجعلنا فى شك من كل هذا ، فعلينا أن نكتفى بما جاء به الكتاب الكريم فى شأنه ، وقد وصفه الله بجملة صفات كلها مفاخر ومناقب إعظام وإجلال :

(١) (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) تقدم القول فى هذا.

(٢) (نبيا) (٣) (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) أي أعلينا قدره ورفعنا ذكره فى الملأ ، ونحو هذا قوله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم : «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ»

٦٣

ويرى بعض الباحثين فى الآثار المصرية أن إدريس تعريب لكلمة (أوزريس ـ أموريس) وهو الذي ألف له المصريون القدماء رواية خلّدت فى بطون تواريخهم ، ومنها أنه حصل بينه وبين أخيه تحاسد وشقاق أدى إلى قتله وتقطيعه إربا إربا ، فجمعت امرأته تلك القطع وحفظتها وحنطتها ، واتخذوه إلها بعد أن كان مصلحا عظيما.

وهذا القصص الخرافى جعل المصريين يعنون بتحنيط الموتى ، وقد أفاد هذا العمل صناعة التحنيط ورقّاها حتى صارت مضرب الأمثال فى الخافقين.

وقد كان الملك والدين فى عهد تلك الدولة أمرا واحدا ، فالملك يجمع بين شئون الدين والدنيا ، فمن عصى الملك فقد عصى الله.

ويعتقدون أن أوزريس صعد إلى السماء وصار إلى العالم العلوي وله عرش عظيم فى السماء ، ويتمتع بأعظم الخيرات ، وكل من حفظ جسمه ووزنت أعماله بعد الموت وحكم القضاة وهم اثنان وأربعون قاضيا بأن حسناته غلبت سيئاته ـ يلحق بأوزريس وهذا النبي الذي جعلوه إلها بعد ذلك هو الذي علمهم العلوم والمعارف وينسبون الفضل فى ذلك إليه.

وقد ارتقت الأمة المصرية فى العلوم والمعارف إلى حد لم تصل إليه أمة أخرى لا فى القديم ولا فى الحديث ، وخدمت النوع البشرى خدمة جليلة ، فارتفاع إدريس إلى السماء راجع إلى رقى تعاليمه وانتفاع أمته بها ، فالنبى بأمته ، ومن ثم تجد آثار أمته بادية للعيان ، بعد أن كانت خافية عن الأنظار.

وبعد أن ذكّر الله أولئك المرسلين أخذ يعدد مناقبهم ويذكر صفاتهم فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

٦٤

تفسير المفردات

إسرائيل : يعقوب عليه السلام ، واجتباه. اصطفاه واختاره ، والسجّد ، واحدهم ساجد ، والبكىّ : وأحدهم باك ، يقال : بكى يبكى بكاء ، وبكيا : قال الخليل : إذا قصرت البكاء فهو مثل الجزن : أي لا صوت معه كما قال الشاعر :

بكت عينى وحق لها بكاها

وما يغنى البكاء ولا العويل

المعنى الجملي

بعد أن أفرد الله كل رسول من رسله العشرة الذين سبق ذكرهم بالثناء عليه بما هو جدير به ـ أردفه بذكر بعض ما جازاهم به من النعم ، فقد هداهم إلى سبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه.

الإيضاح

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) أي هؤلاء النبيون الذين قصصت أنباءهم عليك أيها الرسول هم الذين أنعم الله عليهم بما خصصهم به من مزيد القرب منه ، وعظيم المنزلة لديه ، وهداهم إلى سبيل الرشاد ، ورفع ذكرهم بين العباد.

(مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أبى البشر الأول.

(وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي ومن ذرية من حملنا مع نوح أبى البشر الثاني فى الفلك كإبراهيم خليل الرحمن.

(وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) وهم إسحاق ويعقوب وإسماعيل.

(وَإِسْرائِيلَ) أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه السلام ، وهم : موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريم.

(وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي ومن جملة من هديناهم إلى سبيل الحق ، واجتبيناهم للنبوة والكرامة.

٦٥

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أي إذا تتلى على هؤلاء الأنبياء الذين أنعم الله عليهم أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم فى كتبه ـ خروا لله سجدا استكانة له وتذللا ، وخضوعا لأمره وانقيادا له ، وهم باكون خشية منه وحذرا من عقابه.

قال صالح المرّى : قرأت القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المنام فقال : يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وفى الحديث «اتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن ابن عباس : إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه».

وقصارى ذلك ـ إنه سبحانه أبان علوّ أمرهم فى الدين والنسب والقرب منه.

جزاء خلف هؤلاء ممن ضل وغوى

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠))

تفسير المفردات

الخلف : (بسكون اللام) عقب السوء ، ويقال لعقب الخير والصدق خلف (بفتح اللام) ، أضاعوا الصلاة : أي تركوها بتاتا ، اتبعوا الشهوات : أي انهمكوا فى المعاصي واللذات ، غيّا : أي ضلالا ، والمراد يلقون جزاءه فى نار جهنم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حزب السعداء وهم الأنبياء ومن تبعهم بإحسان ممن قاموا بحدود الدين فاتبعوا أوامره وأدّوا فرائضه وتركوا نواهيه ـ أردف هذا ذكر من

٦٦

خلفهم ممن أضاعوا واجباته ، وأقبلوا على شهوات الدنيا ولذاتها ، وأعقب هذا بذكر ما ينالهم من النكال والوبال فى الآخرة إلا من تاب وأناب ، فإن الله يقبل توبته ، ويحسن عاقبته ، ويجعله من ورثة جنة النعيم ، ولا ينقصه شيئا من جزاء أعماله. قال مجاهد : نزلت هذه الآية فى قوم من هذه الأمة يتراكبون فى الطرق كما تراكب الأنعام ، لا يستحيون من الناس ، ولا يخافون من الله فى السماء.

وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم فى جماعة آخرين عن أبى سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتلا هذه الآية قال : «يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، ثم يكون خلف يقرؤن القرآن لا يعدو تراقيهم ، ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ، ومنافق ، وفاجر».

وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «سيهلك من أمتى أهل الكتاب وأهل اللبن قلت يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال : قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا. قلت وما أهل اللبن؟ قال : قوم يتبعون الشهوات ، ويضيعون الصلوات».

الإيضاح

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) أي فجاء من بعد الأنبياء الذين ذكروا ـ خلف سوء خلفوهم فى الأرض كاليهود والنصارى ومن على شاكلتهم من أهل الضلال ، إذ تركوا الصلوات المفروضة عليهم ، وآثروا شهواتهم على طاعة الله ، فانكبوا على شرب الخمور ، وشهادة الزور ، ولعب الميسر ، وإتيان الفاحشة خفيّة وعلانية.

ثم ذكر عاقبة أعمالهم ، وسوء مآلهم فقال : (فسوف يلقون غيّا) أي شرا وخسرانا ، لإهما لهم أداء واجبات الدين ، وانهما كهم فى المعاصي والآثام.

٦٧

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أي لكن من أنابوا إلى ربهم ، وأقلعوا عن ذنبهم ، وآمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمر به وأدّوا فرائضه ، فأولئك يدخلهم ربهم جناته ، ويغفر لهم حوباتهم ، فالتوبة تجبّ ما قبلها كما جاء فى الحديث «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».

(وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أي ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم ، إذ أفعالهم السابقة ذهبت هباء ، وصارت نسيا منسيا بكرم اللطيف الخبير ، وعظيم حلمه على عباده.

ولما ذكر أن التائب يدخل الجنة وصف هذه الجنة بأمور فقال :

(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

تفسير المفردات

جنات عدن : أي جنات إقامة ، وهذا وصف لها بالدوام ، بالغيب : أي وهى غائبة عنهم ، وعده ، أي ما وعد به من الجنات : مأتيا ، أي يأتيه من وعد به لا محالة ، لغوا أي فضولا من الكلام لا طائل تحته ، سلاما : أي سلاما من الله أو من الملائكة.

المعنى الجملي

لما ذكر أنه سبحانه يدخل التائبين الجنة ـ وصف هذه الجنة بجملة أوصاف كلها غاية فى تعظيم أمرها ، وشريف قدرها ، وجليل خطرها.

الإيضاح

أوصاف هذه الجنة :

(١) (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي هذه الجنات هى جنات إقامة دائمة لا كجنات الدنيا ، وقد وعد بها المتقين وهى غائبة عنهم لم يشاهدوها ، ووعد الله لا يخلف ، فهم آتوها لا محالة.

٦٨

(٢) (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) أي لا يسمع المتقون فيها فضول القول وما لا طائل تحته ، ولكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم بما يشعرهم بالأمان والاطمئنان ، وهما منتهى السعادة ، والدنيا لا طمأنينة فيها ولا استقرار ، فلا سعادة فيها ولا نعيم ، ومن ثم طلب إلينا أن ندعو فى الصلاة بالأمان ونقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

ولا شك أن تكرار هذه العبارة فى الصلوات يحدث فى النفس أثرا إذا أدركت مغزاها ، ويشعر بأن الله لم يخلق العالم إلا لغاية واحدة وهى الطمأنينة ، ولا تكون إلا إذا أمن المرء الفقر والمرض والشيخوخة ، وأنى لنا بذلك فى الدنيا؟ وإنما تكون الطمأنينة لعباده المتقين فى الآخرة ، وهذا المعنى هو الذي تترجم عنه الجملة (السلام عليكم) أي إن الأمان سيحققه الله لكم ، بأن يأمن يعضكم بعضا فى الدنيا وفى الآخرة بالخروج من جميع المآزق.

وهذا الدعاء أمنية من أمانى النفوس ، لا تتحقق إلا إذا أمن الإنسان العذاب والعقاب ، وانتهى الحساب ، وارتفع السوء كالمرض والموت والفقر والذل يوم القيامة.

(٣) (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي ولهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب فى قدر وقت البكرة ووقت العشى من نهار أيام الدنيا : أي إن الذي بين غدائهم وعشائهم فى الجنة قدر ما بين غداء أحدنا فى الدنيا وعشائه.

وخلاصة ذلك ـ إنه لا بكرة فى الجنة ولا عشى ، إذ لا ليل ولا نهار ، وإنما يؤتون بأرزاقهم فى مقدار طرفى النهار كما كانوا فى الدنيا ولما ذكر أن هذه الجنة تخالف جنات الدنيا ـ ذكر الدواعي التي توجب استحقاقها فقال :

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أي هذه الجنة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة ، نورثها عبادنا المتقين الذين يطيعون الله فى السر والعلن ،

٦٩

ويحمدونه على السراء والضراء ، والمراد أننا نجعلها ملكا لهم كملك الميراث الذي هو أقوى تمليك.

وجاء بمعنى الآية قوله : «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» إلى أن قال : «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ».

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

تفسير المفردات

التنزل : النزول وقتا غب وقت ، ما بين أيدينا : أي ما قدامنا من الزمان المستقبل ، وما خلفنا : أي من الزمان الماضي ، وما بين ذلك : هو الزمان الحاضر ، نسيّا : أي تاركا لك ، واصطبر عليها : أي اثبت لشدائد العبادة وما فيها من المشاق كما تقول للمبارز : اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من حملاته ، سميّا : أي مثلا ونظيرا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تثبيتا له صلّى الله عليه وسلّم وأعقبه بذكر ما أحدثه الخلف بعدهم ، وذكر جزاء الفريقين ، أعقب ذلك بقصص تأخر نزول جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلم ؛ إذا زعم المشركون أن الله ودّعه وقلاه ، وقد رد عليهم زعمهم وأبان لهم أن الأمر على غير ما زعموا.

روى «أن جبريل عليه السلام احتبس عنه صلّى الله عليه وسلّم أياما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح ، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟

٧٠

فحزن واشتد عليه ذلك ، وقال المشركون إن ربه ودّعه وقلاه ، فلما نزل قال له عليه السلام يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى ، واشتقت إليك ، فقال إنى إليك لأشوق ، ولكنى عبد مأمور إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله هذه الآية» وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت هذه الآية إلى آخرها».

الإيضاح

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أي وما تنزل الملائكة بالوحى على الرسل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته ، وتدعو إليه مصلحة عباده ، ويكون فيه الخير لهم فى دينهم ودنياهم.

ثم علل الملك ذلك بقوله :

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي إنه تعالى هو المدبر لنا فى جميع الأزمنة مستقبلها وماضيها وحاضرها.

وقصارى ذلك ـ إن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته لا اعتراض لأحد عليه ، فلا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل فى زمان دون زمان إلا بإذنه عزّ وجل.

(وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي إنه تعالى لإحاطة علمه بملكه ، لا يطرأ عليه غفلة ولا نسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك ، وإنما كان تأخير الوحى لحكمة علمها جل شأنه.

أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه والطبراني فى جماعة آخرين عن أبى الدرداء مرفوعا قال «ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرمه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)».

ثم أقام الدليل على ما تقدم بقوله :

٧١

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فلا يجوز عليه النسيان ، فإن من بيده ملكوت كل شىء ، كيف يتصور أن تحوم حوله الغفلة والنسيان.

ثم بين ما ينبغى لرسوله أن يفعله بعد أن عرف هذا فقال : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أي وإذ قد علمت أنه الرب المسيطر على ما فى السموات والأرض وما بينهما ، القابض على أعنّتهما ، فاعبده ودم على مشاقّ العبادة وشدائدها ، وإياك أن يصدّك عنها ما يحدث من إبطاء الوحى وتقوّل المشركين الخرّاصين عن سببه : ثم أكد الأمر بالعبادة بقوله :

(هل تعلم له سميا؟) أي هل تعلم له شبيها ومثلا يقتضى العبادة لكونه منعما متفضلا بجليل النعم وحقيرها ، ومن ثم يجب تعظيمه غاية التعظيم بالاعتراف بربوبيته ، والخضوع لسلطانه؟.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

تفسير المفردات

يذكر : أي يتذكر ويتفكر ، لنحشرنهم : أي لنجمعنهم ، جثيا : واحدهم جاث وهو البارك على ركبتيه ، شيعة : أي جماعة تعاونت على الباطل وتشايعت عليه

٧٢

عتيا : أي تكبرا ومجاوزة للحد ، صليّا : أي دخولا فيها من صلّى بالنار إذا قاسى حرها ، واردها : أي مارّ عليها ، حتما : أي واجبا ، مقضيا : أي قضى بوقوعه البتة.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بالعبادة والمصابرة عليها على ما فيها من مشاق وشدائد ـ أبان فائدة ذلك وهى أنها تنجيهم يوم الحشر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وهو يوم لا ريب فيه ولا وجه لإنكاره ، فإن إعادة الإنسان أهون من بدئه ، ثم ذكر ما يلقاه الكافرون يومئذ من الذل والهوان ، ثم أردف ذلك ببيان أن جميع الخلائق ترد على النار ولا ينجو منها إلا من اتقى ربه وأخلص فى عمله.

روى الكلبي أنها نزلت فى أبىّ بن خلف أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده ويذريه فى الريح ويقول : زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا ، إن هذا لن يكون أبدا.

الإيضاح

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) أي ويقول الكافر الذي لا يصدّق بالبعث بعد الموت متعجّبا مستبعدا : أأخرج حيا مرة أخرى فأبعث بعد الموت والبلى؟ وأسند القول إلى الكفرة جميعا وإن لم يقل هذه المقالة إلا بعضهم ، من حيث رضاهم عن هذا المقال وسكوتهم عن إنكاره كما سلف لك من قبل.

ثم أقام الدليل على صحة ذلك بقوله :

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟) أي أولا يتفكر الإنسان المجترئ على ربه ، المنكر لتلك الإعادة بعد الفناء ، وللإحياء بعد الممات ، أن الله خلقه من قبل مماته ، فأنشأه بشرا سويا من غير شىء ، فليعتبر بذلك وليعلم أن من أنشأه كذلك لا يعجز عن إحيائه بعد مماته ، وإيجاده بعد فنائه.

٧٣

ونحو الآية قوله تعالى : «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ : أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» وقوله : «وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» وقوله : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وفى الحديث القدسي : يقول الله تعالى : كذّبنى ابن آدم ولم يكن له أن يكذبنى ، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذينى ، أما تكذيبه إياى فقوله لن يعيدنى كما بدأنى ، وليس أول الخلق بأهون علىّ من آخره ، وأما أذاه إياى فقوله : إن لى ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد».

ولما قرر القضية وأقام عليها الدليل أردفها بالتهديد من وجوه فقال :

(١) (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) أقسم الرب بذاته الكريمة أنه حاشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله.

وفى قسمه على جمعهم وسوقهم إلى المحشر دون القسم على بعثهم ، تنبيه إلى أن ذلك غنىّ عن الإثبات بعد أن أقام البرهان على إمكانه ، وإنما الذي يحتاج إلى ذلك ما بعده من الشدائد والأهوال.

روى أن الكافرين يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم ، كلّ منهم مع شيطانه.

(٢) (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) أي ثم لنحضرنهم بعد طول الوقوف حول جهنم من خارجها ـ جاثين على ركبهم إهانة لهم ، أو لعجزهم عن القيام لما حل بهم من المكاره والأهوال.

(٣) (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أي لنأخذن من

٧٤

كل جماعة منهم من هو أشد على الرحمن الذي غمر هم بإحسانه ـ تكبرا ومجاوزة للحدود التي سهّا لخلقه وقصارى ذلك ـ إن الله تعالى يحضرهم أولا حول جهنم ، ثم يميز بعضهم عن بعض ، فمن كان أشدهم تمردا فى كفره ، خص بعذاب أعظم ، فعذاب الضالّ المضلّ فوق عذاب من يضلّ بالتبع لغيره.

(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) أي ثم لنحن العالمون بظواهر أعمالهم وبواطنها ، وبما اجترحوا من السيئات ، وبما دسّوا به أنفسهم من الموبقات ، من هم أولى بجهنم دخولا واحتراقا ، فنبدأ بهم أولا ثم بمن يليهم.

وخلاصة هذا ـ إنهم جميعا يستحقون العذاب ، لكنا ندخلهم فى جهنم بحسب عتيّهم وتجبرهم فى كفرهم.

ثم خاطب سبحانه الناس جميعا فقال :

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي وما أحد منكم أيها الناس إلا يدنو من جهنم ويصير حولها ، قد قضى ربك بذلك وجعله أمرا محتوما مفروغا منه.

روى السدى عن ابن مسعود قال : «يرد الناس جميعا الصراط ، ويقومون حول النار ، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم ، فمنهم من يمر مثل البرق ، ومنهم من يمر مثل الريح ، ومنهم من يمر مثل الطير ، ومنهم من يمر كأجود الخيل ، ومنهم من يمر كأجود الإبل ، ومنهم من يمر كعدو الرجل ...» فى حديث طويل ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون بأعمالهم». (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة على قدر ما اجترحوا من الآثام والذنوب ـ نجى الله المتقين منها بحسب أعمالهم ، وترك الكافرين جاثين على الركب كما جاءوا.

٧٥

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))

تفسير المفردات

بينات : أي ظاهرات الإعجاز ، مقاما : أي مكانا ومنزلا ، نديّا : أي مجلسا ومجتمعا ، ومثله النادي ؛ وقيل هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة ، ومنه دار الندوة التي كان المشركون يتشاورون فيها فى أمورهم ، والقرن : أهل كل عصر ، والأثاث : متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها ولا واحد له ، والرئى المنظر والمراد به النضارة والحسن ، فليمدد : أي فليمهله بطول العمر والتمكن من سائر التصرفات ، جندا : أي أنصارا ، والباقيات الصالحات : أي الطاعات التي تبقى آثارها ، مردّا : أي مرجعا وعاقبة.

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه الحجة على مشركى قريش المنكرين للبعث بعد الفناء ، وللعودة إلى حياة أخرى ـ أتبعه بذكر شبهة أخرى قالوها وعارضوا بها حجة الله التي يشهد بصحتها كل منصف ، ويعتقدها من له أدنى مسكة من عقل.

تلك أنهم قالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم فى الدنيا أحسن وأطيب من حالنا ، من قبل أن الحكيم لا يجدر به أن يوقع المخلصين من

٧٦

أوليائه فى الذل والمهانة ، وأعداءه فى العز والراحة ، لكنا نجد الأمر على العكس من هذا ، فإنا نحن الذين يمتعون برفاهية العيش والرخاء والنعيم ، وأنتم فى ضنك وفقر وخوف وذل ، فهذا دليل على أنا على الحق وأنتم على الباطل.

وقد رد الله عليهم مقالتهم بأن الكافرين قبلكم وكانوا أحسن منكم حالا ، وأكثر مالا ، قد أبادهم الله وأهلكهم بعذاب الاستئصال ، فدل هذا على أن نعيم الدنيا لا يرشد إلى محبة الله لمن أوتوه ، ولا إلى أنهم مصطفون له من بين خلقه.

روى أن قائل هذه المقالة النضر بن الحرث ومن على شاكلته من قريش ، للمؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا فى خشونة من العيش وفى رثاثة من الثياب ، وهم كانوا يرجّلون شعورهم ويلبسون فاخر الثياب.

ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية ببيان مآل الفريقين يوم القيامة ، وأن ما كان للمشركين فى الدنيا من المال وسعة الرزق فإنما ذلك استدراج وإمهال من الله لهم ، ثم يلقون النكال والوبال فى جهنم وبئس القرار.

الإيضاح

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؟) أي وإذا تتلى على المشركين آياتنا واضحات الدلالة قالوا مفتخرين على المؤمنين ، ومحتجين على صحة ما هم عليه من الباطل ، أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا ، وأنعم بالا ، وأفضل مسكنا ، وأحسن مجلسا ، وأجمع عددا؟ أنحن أم أنتم؟ فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل ، وأولئك المستخفّون المستترون فى دار الأرقم ابن أبى الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟

ونحو الآية قوله تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ».

٧٧

وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) أي وكم من أمة من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم وقد كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأثاثا ومناظر ذات جمال وزخرف.

وخلاصة هذا ـ إن كثيرا ممن كانوا أعظم منكم نعمة فى الدنيا كعاد وثمود وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله ، فلو صدق ما تدّعون من أن النعمة فى الدنيا تدل على الكرامة عند الله ، ما أهلك أحدا من المتنعمين بها.

وفى هذا تهديد ووعيد لا يخفى ، وكأنه قد قيل : فليرتقب هؤلاء ، فسيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات.

ثم أمر عز اسمه نبيه أن يجيب هؤلاء المفتخرين بقوله :

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المدّعين أنهم على الحق ، وأنكم على الباطل : إن ما افتخرتم به من زخرف الدنيا وزينتها لا يدل على حسن الحال فى الآخرة ، فقد جرت سنة الله بأن من كانوا منهمكين فى الضلالة ، مرخين لأنفسهم الأعنّة ، فى سلوك المعاصي والآثام ، يبسط لهم نعيم الدنيا ، ويطيب عيشهم فيها ، ويمتعهم بأنواع اللذات ، ولا يزال يمهلهم استدراجا لهم إلى أن يشاهدوا ما وعدوا به رأى العين ، إما عذابا فى الدنيا كما حصل يوم بدر ، وإما مجىء الساعة وهم بها مكذبون ، وعن الاستعداد لها مفرّطون ، وإذ ذاك يعلمون من هو شر من الفريقين مكانا ، وأن الأمر على عكس ما كانوا يقدّرون ، وسيرون أنهم شر مكانا وأضعف جندا وأقل ناصرا من المؤمنين ، وهذا رد على قولهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

وقصارى ذلك ـ إن من كان فى الضلالة فسنة الله أن يمدّ له ويستدرجه ليزداد

٧٨

إثما ، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر ، إما بعذاب فى الدنيا يأتيه من حيث لا يحتسب ، وإما بعذاب فى الآخرة لا قبل له بدفعه ، وحينئذ يعلم أنه كان فى ضلال مبين ، ويندم ، ولات ساعة مندم.

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

ولا يجد عن النار محيصا ولا مهربا.

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) أي ويزيد الله الذين اهتدوا إلى الإيمان هدى بما ينزل عليهم من الآيات ، عوضا مما منعوا من زينة الدنيا كرامة لهم من ربهم ، كما بسط للضالين فيها لهوانهم عليه.

ومجمل هذا ـ إن من كان فى الضلالة من الفريقين يمهله الله وينفّس له فى حياته ليزداد فى الإثم والغىّ ويجمع له عذاب الدارين ، ومن كان فى الهداية منهما يزيد الله فى هدايته ويجمع له خيرى السعادتين.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي والطاعات التي بها تنشرح الصدور ، وتستنير القلوب ، وتصل إلى القرب من الله ، ونيل رضوان ـ خير عند ربك منفعة وعاقبة مما منع به أولئك الكفرة من النعم الفانية التي يفخرون بها من مال وولد وجاه ومنافع تحصل منها ، فإن عاقبة الأولين السعادة الأبدية ، وعاقبة أولئك الحسرة الدائمة والعذاب المقيم.

وخلاصة هذا ـ إن الطاعات التي يبقى ثوابها لأهلها خير عند ربهم جزاء وخير عاقبة من مقامات هؤلاء المشركين بالله وأنديتهم التي بها يفخرون على أهل الإيمان فى الدنيا.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

٧٩

تفسير المفردات

أطلع الغيب؟ من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه : أي أظهر له علم الغيب؟ عهدا : أي عملا صالحا ، كلا : كلمة زجر وتنبيه إلى الخطأ ، سنكتب ما يقول : أي سنظهر له أنا كتبنا ، ونمد له من العذاب : أي سنطيل له العذاب الذي يستحقه ونرثه ما يقول : أي نسلب ذلك منه بموته ونأخذه أخذ الوارث ما يرثه ، والمراد بما يقول مدلوله ومصداقه ، وهو ما أوتيه فى الدنيا من المال والولد ، فردا : أي لا يصحبه مال ولا ولد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الدلائل على صحة البعث ، ثم أورد شبه المنكرين له وأجاب عنها بما فيه مقنع لكل ذى لب ـ قفّى على ذلك بذكر مقالتهم التي قالوها استهزاء وطعنا فى القول بالحشر والبعث.

أخرج البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وابن حبان عن خبّاب بن الأرت قال : «كنت رجلا قينا (حدادا) وكان لى على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت لا والله لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حتى تموت ثم تبعث ، قال فإنى إذ متّ ثم بعثت جئتنى ولى ثمّ مال وولد فأعطيك ، فأنزل الله تعالى : أفرأيت الآية».

الإيضاح

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) أي انظر إلى حال هذا الكافر ، وأعجب من مقالته الشنيعة ، وجرأته على الله ، إذ قال لأعطينّ فى الآخرة مالا وولدا.

ولما كان ما ادعاه لا يحصل له العلم له إلا بأحد أمرين ـ الاطلاع على الغيب أو اتخاذ العهد ـ ولم يحصل له واحد منهما ، فتكون دعوى لا برهان عليها ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

٨٠