تفسير المراغي - ج ١٦

أحمد مصطفى المراغي

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه سؤال فرعون عن رب موسى ـ قفى على ذلك ببيان أنه بصّره بالآيات الدالة على توحيد الله كقوله : ربنا الذي أعطى كل شىء خلقه ثم هدى ، وقوله : الذي جعل لكم الأرض مهدا ، والدالة على نبوته كإلقاء العصا وصيرورتها ثعبانا ونزع يده من تحت جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء ، فعلم كل هذا وكذّب به كفرا وعنادا كما قال «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» الآية.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) أي ولقد بصّرنا فرعون وعرّفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وعلى نبوة موسى فكذب بها وأبى أن يذعن للحق.

وقد يكون المراد بها الآيات التسع المذكورة فى قوله : «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ».

ثم فصل سبحانه صفة تكذيبه وإبائه فقال :

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟) أي قال منكرا مستقبحا لما فعل موسى : أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا ، لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر؟ إذ تستولى على عقول الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم.

وخلاصة ما قال ـ أجئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبى يجب عليهم اتباعك والإيمان بما جئت به إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها ويكون لك الملك فيها ، وإنما قال تلك المقالة ، ليحمل قومه على السخط على موسى والغضب منه ، بإظهار أن مراده ليس مجرد إنجاء بنى إسرائيل من أيديهم ، بل مقصوده إخراج القبط من أوطانهم ، وحيازة أموالهم وأملاكهم جملة ، وبذا يسدّ عليه الباب فلا يتوجه أحد إلى اتباع دعوته ، مبالغة فى المدافعة عن بلادهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولا ينظرون إلى معجزاته ، ولا يلتفتون إلى ما يدعو إليه من الخير ، ثم ادّعى أنه سيعارضه بمثل عمله فقال :

١٢١

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي فو الله لنأتينك بسحر مثل سحرك ، فإن عندنا مثل ما عندك ، فلا يغرنّك ما أنت فاعل.

(فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) أي فاجعل بيننا وبينك ميقاتا وموعدا نجتمع نحن وأنتم فيه ، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر.

وإنما قال تلك المقالة ، ليبين أنه قوى القلب ، جلد متمكن من تهيئة وسائل المعارضة ، وترتيب أسباب المغالبة ، طال الأمد أو قصر.

(مَكاناً سُوىً) أي ويكون الاجتماع فى مكان مستو من الأرض لا انخفاض فيه ولا ارتفاع ، فلا جبال ولا وهاد تستر بعض الحاضرين عن بعض.

وقصارى ذلك ـ عيّن لنا زمان المقابلة ومكانها على ألا يكون فيه ما يستر أحدا من الناس عن أحد ليروا ما يصدر منك ومن السحرة.

وغير خاف ما فى ذلك من إظهار الجلد ، وقوة الوثوق بالغلبة.

ثم ذكر رد موسى على ما طلب فقال :

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أي قال موسى : ميعادكم للاجتماع يوم عيد النيروز وكان على رأس سنتهم حين يفرغ الناس من أعمالهم ويجتمعون ، ليكون الحفل عاما ، ويتحدث الناس بذلك الأمر العجيب فى القرى والأمصار ، فتعلو كلمة الله ويظهر دينه ، ويزهق الباطل وينتصر الحق على رءوس الأشهاد.

وفى ذلك من وضوح الحجة ما لا خفاء فيه ، ومن وثوقه بفلجه على خصمه ، وعدم مبالاته به.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ

١٢٢

يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤))

تفسير المفردات

فتولى فرعون : أي انصرف عن المجلس ، كيده : أي ما يكيد به من السحرة وأدواتهم ، أتى : أي أتى الموعد ومعه ما جمعه من الأعوان والسحرة ، ويلكم : أي هلاك لكم ، والافتراء : الاختلاق والكذب ، فيسحتكم بعذاب : أي يستأصلكم ويهلككم بعذاب شديد ، فتنازعوا : أي فتفاوضوا وتشاوروا ، وأسروا النجوى : أي بالغوا فى إخفاء كلامهم ، بطريقتكم المثلى : أي بمذهبكم الذي أنتم عليه وهو أفضل المذاهب وأمثلها ، فأجمعوا كيدكم : أي اجعلوا كيدكم مجمعا عليه ، صفا : أي مصطفين ، لأنه أهيب للصدور ، أفلح : أي فاز بالمطلوب ، استعلى : أي غلب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن موسى وفرعون اتفقا على موعد يجتمعان فيه وهو يوم عيد لهم ـ أردف ذلك ذكر ما دبره فرعون بعد انصرافه عن المجلس من أمر السحرة وآلات السحر ، وأتى بجميع ذلك ، ثم ذكر أن موسى أوعدهم وحذرهم من عذاب لا قبل لهم به إن أقدموا على ما هم عازمون عليه ، ثم بين أن السحرة حين سمعوا كلام موسى تنازعوا أمرهم وتشاوروا ماذا يفعلون ، وبالغوا فى إخفاء ما يريدون ، وقالوا ما موسى وهرون إلا ساحران يريدان أن يغلباكم ويخرجاكم من دياركم ويرجوان أن تتركوا دينكم وهو أمثل الأديان وأفضلها ، لتعتنقوا دينهما ، فحذار أن تفعلوا ذلك ولا يتخلفنّ منكم أحد وائتوا صفا واحدا وقد فاز بالمطلوب من غلب.

١٢٣

الإيضاح

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) أي فانصرف عن مجلس الحجاج والمناظرة ، وشرع يعدّ ما يكيد به من السحرة وآلاتهم وأنصاره وأعوانه ، وكثير ما هم ، ثم أقبل فى الموعد الذي عيّن ومعه جمعه ، وجلس على سرير ملكه وحوله أكابر دولته ، واصطفت الرعية يمنة ويسرة ، وأقبل موسى يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون ، ووقف السحرة صفوفا بين يدى فرعون يحرّضهم ويستحثهم ويرغّبهم فى جودة العمل ، ويتمنّون عليه وهو يعدهم ويمنيهم ، وقد جاء فى سورة الشعراء : «قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».

ثم ذكر سبحانه ما كان من موسى حينئذ فقال :

(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أي قال موسى للسحرة : لا تختلقوا الكذب على الله ولا تتقولوه عليه ، بأن تدّعوا أن الآيات التي ستظهر على يدىّ سحر كما فعل فرعون ، فيستأصلكم بعذاب من عنده ، ولا يبقى منكم ولا يذر.

(وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) على الله الكذب ، ولم يفلح فى سعيه ، ولم يصل إلى غرضه ، فابتعدوا عن اختلاق الأكاذيب ، ولا تضلّوا سواء السبيل ، حتى لا يصيبكم ما أصاب المفترين الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ولما سمع السحرة كلام موسى وهارون هاجهم ذلك.

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أي فتشاوروا وتفاوضوا ماذا يفعلون ، وبالغوا فى كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه حتى لا يسمعا ما يدور من القول ، فيعدّا للأمر عدته ، ويهيئا وسائل الدفاع ، ومن الطّبعى فى مثل هذه الأحوال أن يخفى أحد المتخاصمين كل ما يدبّره من وسائل الفوز والفلج عن خصمه الآخر.

ثم بين سبحانه خلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور بقوله :

١٢٤

(قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي إن السحرة قالوا فيما بينهم : إن هذا الرجل وأخاه ساحران خبيران بصناعة السحر ، وهما يريدان أن يغلباكم وقومكم ويخرجاكم من دياركم وتخلص لهم الرياسة دونكم.

وخلاصة ما قالوه التنفير منهما لوجوه ثلاثة :

(١) الطعن فى نبوتهما ونسبتهما إلى السحر ، وكل ذى طبع سليم ينفر من السحر ، ويبغض السحرة ، ويعلم أن السحر لا بقاء له ، ولا ينبغى اتباع من جاء به ، ولا اعتناق مذهبه وطريقته.

(٢) إنّ بغيتهما إخراجكم من أرضكم ، ومفارقة الوطن شديدة الوطأة على النفوس ومن ثم قال فرعون : «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى».

(٣) إنهما يريدان أن يستوليا على جميع المناصب والرياسات ، ولا يبقيا شيئا من شئون الدولة والتصرف فى أمورها العامة.

وإجمال هذا ـ إنهما إذا تم لهما الأمر أخرجاكم من دياركم ، وتمحّضت لهما الرياسة دونكم.

ثم بين السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم ، والبلاء المقبل فقالوا :

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به ، كما جاء فى آية أخرى «فَجَمَعَ كَيْدَهُ» ثم ائتوا مصطفين مجتمعين ، وألقوا ما فى أيديكم دفعة واحدة لتبهروا الأبصار ، وتعظم هيبتكم لدى النظارة فى هذا المشهد الحافل.

(وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي وقد فاز بالمطلوب من غلب منا ، أما نحن فقد وعدنا بالعطاء الجزيل والقرب من الملك : «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» وأما هو فسينال الرياسة ، وما مقصدهم من ذلك إلا تشديد العزائم ، وحفز الهمم ، ليبذلوا أقصى الجهد للفوز والفلج بالمطلوب.

١٢٥

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

تفسير المفردات

إيجاس الخوف : الإحساس بشىء منه ، ما فى يمينك : هى العصا ؛ وأبهمها تفخيما لشأنها ، وتلقف : تبتلع بقوة وسرعة ، صنعوا : أي زوّروا وافتعلوا ، كيد ساحر : أي كيد سحرىّ لا حقيقة له ولا ثبات ، حيث أتى : أي أينما كان ، كبيركم : أي

١٢٦

زعيمكم ومعلمكم. قال الكسائي : الصبى بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال جئت من عند كبيرى ، من خلاف : أي من حال مختلفة ، فتقطع الأيدى اليمنى والأرجل اليسرى ، أشد عذابا : أي أدوم ، نؤثرك : أي نفضّلك ونختارك ، فطرنا : أي ابتدعنا وأوجدنا من العدم ، فاقض : أي فاحكم ، جنات عدن : أي جنات أعدت للإقامة ، من تحتها : أي من تحت غرفها ، تزكى : أي تطهّر من أدناس الكفر وأرجاس المعاصي.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الموعد وهو يوم الزينة ، وذكر أنهم قالوا ائتوا صفا ـ ذكر هنا أنهم بعد أن أتوا خيروه بين أن يبدأ بإلقاء ما معه ، وأن يبدءوهم ، فاختار الثانية ، وحين بدءوا فألقو حبالهم وعصيهم خاف موسى عاقبة أمره ، فأوحى إليه ربه «لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ» فسيكون لك الفلج والظفر عليهم ، وقد تحقق ما وعد الله به ، وكتب له النصر وآمن به السحرة ، فلجأ فرعون إلى العناد والاستكبار ، وتوعد السحرة بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسيصلبهم فى جذوع النخل ، فقابلوا تهديده بالازدراء والسخرية ، وقالوا إنما أنت مسلّط علينا فى هذه الحياة الدنيا ، وعذابك لا يعدوها ، وما عند الله من العذاب لا يضارعه عذاب ، وما عنده من الثواب لا يقدر قدره ، ففى جناته التي تجرى من تحتها الأنهار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

الإيضاح

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) أي فأجمع السحرة كيدهم ثم أتوا صفا فقالوا لموسى : اختر لك أحد الأمرين ، إما أن تلقى ما معك ، وإما أن نلقى ما معنا.

وهذا التخيير منهم حسن أدب معه وتواضع منهم ، وتنبيه إلى إعطائه النّصفة

١٢٧

من أنفسهم ، وكأن الله ألهمهم ذلك ، وعلم موسى أن من الخير له اختيار إلقائهم أولا ، لأنهم إذا أبرزوا ما معهم من مكايد السحر واستنفذوا أقصى مجهودهم ، أظهر الله سلطانه ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه ، وسلّط المعجزة على السحر فمحقته ، وكانت آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين ، ومن ثم حكى عنه.

(قالَ بَلْ أَلْقُوا) أي بل ألقوا أنتم أوّلا لنرى ما تصنعون من السحر ، ويظهر للناس حقيقة أمركم ، وحين ألقوا : «قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ».

(فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصىّ فخيّل إلى موسى أنها تمشى ، وجاء فى آية أخرى «سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ».

قيل إنهم حشوها بالزئبق الذي من طبعه أن يتأثر سريعا بحرارة الشمس ، فما أسرع ما تحركت تلك الحبال والعصى حين سقطت عليها أشعة الشمس ، فامتلأ الوادي بحيات يركب بعضها بعضا.

وخلاصة ذلك ـ إنهم حشوها بزئبق أو بمادة أخرى إذا وقعت عليها الشمس اضطربت وتحركت واتصل بعضها ببعض ، فمن رآها ظن أنها تمشى وتسعى.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) أي فأوجس موسى بشىء من الخوف حين فوجىء بذلك على مقتضى الطبيعة البشرية حين ترى الأمر المهول المخيف.

ثم أبان سبحانه أنه ربط على قلبه فقال :

(قُلْنا لا تَخَفْ) أي قلنا : له هدّىء روعك ، واطمئن بالا.

ثم علل ذلك بقوله :

(إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) أي إنك ستنتصر عليهم وستكون لك الغلبة ، فالعاقبة للمتقين.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) أي وألق عصاك تبتلع حبالهم وعصيهم التي سحروا بها أعين الناس حتى خيل إليك أنها تسعى.

١٢٨

وإنما أوتر إبهام العصا تهويلا لأمرها ، وتفخيما لشأنها ، وإيذانا بأنها ليست من جنس العصىّ المعهودة ، لما سينشأ عنها من عجيب الأثر وغريب الصنع.

(إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) أي إن الذي فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة ، كيد سحرى لا حقيقة له ولا بقاء.

وخلاصة ذلك ـ إن الذي ، معك يا موسى معجزة إلهية ، والذي معهم تمويه وتلفيق ظاهر عليه الزور والبهتان ، فكيف يتعارضان؟.

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) أي ولا ينال الساحر مقصوده بالسحر ، خيرا كان أو شرا حيثما كان.

ثم ذكر سبحانه ما يدل على أنه امتثل أمر ربه وألقى العصا وكان ما وعد به من تلقفها لما صنعوا فقال :

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) أي فألقى ما فى يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر للسحرة جليّة الأمر وأن ما عمله ليس بالسحر ، فهو ليس من فنون السحر التي حذقوها ، ولا من أنواع الحيل التي عرفوها ، وإنه الحق الذي لا مرية فيه ، ولا يقدر على مثله إلا من يقول للشىء كن فيكون ، حينئذ وقعوا سجدا لله وقالوا آمنا برب العالمين ، رب موسى وهرون.

روى أن رئيسهم قال : كنا نغلب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا ، فلو كان هذا سحرا فأين الذي ألقيناه ، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على وجود الصانع القادر ، وبظهورها على يد موسى على كونه رسولا صادقا من عند الله ، لا جرم تابوا وآمنوا وأتوا وهم خاضعون ساجدون.

قال صاحب الكشاف ـ سبحان الله ، ما أعجب أمرهم ، قد ألقوا حبا لهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود اه.

روى عن ابن عباس أنه قال : كانوا أول النهار سحرة ، وفى آخره شهداء بررة ؛ وروى عنه عكرمة أنه قال : كان السحرة سبعين رجلا ، أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.

١٢٩

وإنما قالوا برب هرون وموسى ولم يقصروا على قولهم (رب العالمين) لأن فرعون كان قد ادّعى الربوبية فقال : «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» والألوهية إذ قال : «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» فلو قالوا ذلك فحسب لقال فرعون : آمنوا بي ، وإنما لم يقتصروا على ذكر موسى بل ذكروا هرون وقدموه عليه خوفا من هذه الشبهة أيضا ، إذ أن فرعون كان يدعى ربوبيته لموسى ، لأنه رباه فى صغره كما قال : «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً».

ولما خاف فرعون أن يصير ذلك سببا لاقتداء الناس بهما فى الإيمان بالله ورسوله ألقى شبهة فى النبي ونبوته.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي إنكم قد فعلتم جريرتين وارتكبتم جرمين :

(١) إنكم آمنتم له قبل البحث والتفكير ، فإيمانكم لم يكن عن بصيرة وأناة فلا يعتدّ به.

(٢) إنكم تلاميذه فى السحر ، فتواطأتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لدعوته وتفخيما لأمره.

وبعد أن أورد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيرا لهم من الإيمان ، وتحذيرا لغيرهم عن الاقتداء بهما فقال :

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي أقسم بالله لأقطّعنها مختلفات ، بأن تقطع الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى ، وإنما اختار ذلك دون القطع من وفاق ، لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة.

(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) زيادة فى إيلامكم وتشهيرا بكم.

وخلاصة ذلك ـ لأجعلنكم مثلة ، ولأزيلن مالكم من منافع ، ولأشهرنّ بكم ، قال ابن عباس : فكان أول من عذب بهذا العذاب.

(وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أي ولتعلمن أنا أو موسى أشد عذابا وأبقى.

١٣٠

وفى ذلك إيماء إلى اقتداره وقهره وبيان ما ألفه وضرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب ، كما فيه تحقير لشأن موسى واستضعاف له مع السخرية منه.

ثم لما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم فى الله.

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي لن نختارك بالإيمان والانقياد على ما جاءنا من الله على يد موسى من المعجزات التي اشتملت عليها العصا.

وفى هذا إشارة إلى أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان بموسى ، وإلا فعل بهم ما أوعدهم به.

(وَالَّذِي فَطَرَنا) أي لن نختارك على ما جاءنا من الهدى ، وعلى فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم ، إذ هو المستحق للعبادة والخضوع ، لا أنت.

ولما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان ، فعل فرعون ما أوعدهم به قالوا :

(فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فافعل ما شئت ، وما وصلت إليه يدك فوعيدك لا يزحزحنا عن إيماننا واطمئناننا بما صرنا إليه.

ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا :

(إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي إنما لك تسلط علينا فى هذه الدار دار الزوال ونحن نرغب فى دار البقاء.

وقصارى ردهم ـ إنك إنما تصنع ما تهوى فى هذه الدنيا فحسب ، وإنا لا نأبه بنعيمها ، ولا نرهب عذابها.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أي إنا آمنا بربنا المحسن إلينا طوال أعمارنا ، ليستر ما اجترحنا من الذنوب والآثام ، ولا سيما ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آيات الله ومعجزاته.

روى الحسن أن السحرة الذين حشدوا من المدائن ليعارضوا موسى ، أحضروا مكرهين ، وأكرهوا على إظهار السحر ، وروى أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين ، اثنان منهم من القبط ، والباقون من بنى إسرائيل أكرههم فرعون على تعلّم السحر.

١٣١

(وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي والله خير منك جزاء وأدوم ثوابا مما كنت دعوتنا إليه ومنيتنا به.

ولم يرد دليل على أنه نفّذ ما صمم عليه فى عقابهم ، ولكن الراجح أنه نفّذ ذلك كما يرشد إلى ذلك قول ابن عباس وغيره من السلف : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة.

ثم ختم السحرة كلامهم بشرح أحوال المجرمين وأحوال المؤمنين يوم العرض والحساب ، عظة لفرعون وتحذيرا له من نقمة الله وعذابه السرمدي وترغيبا له فى ثوابه الأبدى.

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي إن من يلق الله وهو مجرم بكفره ومعاصيه فإن له جهنم لا يموت فيها فينتهى عذابه ، ولا يحيا حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم المقيم ، قال المبرد : لا يموت ميتة مريحة ، ولا يحيا حياة ممتعة ، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حالة الموت فى المكروه ، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم ؛ والعرب تقول : فلان لا حى ولا ميت. إذا كان غير منتفع بحياته.

كما قالت زوج صخر حين سئلت عنه وهو مريض : لا هو حىّ فيرجى ، ولا ميت فينعى.

ونحو الآية قوله «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» وقوله «وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» وقوله «وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ».

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) أي ومن لقى ربه مؤمنا به وبما جاء به رسوله من عنده من المعجزات التي من جملتها ما رأيناه وشاهدناه ، ثم عمل صالح الأعمال ، فهؤلاء لهم بسبب إيمانهم وجليل أعمالهم المنازل الرفيعة والدرجات العالية.

١٣٢

وفى الصحيحين : «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب العابر فى أفق السماء لتفاضل ما بينهم ، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء ، قال بلى ، والذي نفسى بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». وفى السنن : إن أبا بكر وعمر لمنهم ونعمّا.

ثم فسر تلك الدرجات العلى بقوله :

(جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي تلك الدرجات العلى هى جنات إقامة تجرى من تحت غرفها الأنهار ماكثين فيها أبدا.

ثم بين سبب فوزهم بهذا النعيم فقال :

(وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي وذلك الفوز الذي أوتوه جزاء لهم على طهارة أنفسهم من دنس الكفر ومن تدسية أنفسهم بأوضار الذنوب والآثام ، وعلى عبادتهم لله وحده لا شريك له واتباعهم للنبيين والمرسلين فيما جاءوا به من عند ربهم.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

تفسير المفردات

السرى والإسراء : السير ليلا ، اضرب لهم : أي اجعل لهم ، يبسا : أي طريقا يابسا لا ماء فيه ، والدرك (بالفتح والسكون) : الإدراك واللحوق ، تخشى : أي تخاف

١٣٣

غرقا ، وأتبع وتبع : بمعنى ، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم : أي فغمرهم وعلاهم من البحر ما علاهم من الأمر الهائل الذي لا يعلم كنهه إلا الله ، وأضل فرعون قومه : أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الخسران فى دينهم ودنياهم ، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا ، وما هدى :أي وما أرشدهم إلى طريق يصل بهم إلى طريق السعادة ، الأيمن : أي الذي عن يمين من ينطلق من مصر إلى الشام ، المنّ : نوع من الحلوى يسمى الترنجبين ، والسلوى : طائر شبيه بالسّمانى ، ولا تطغوا فيه : أي فلا تأخذوه من غير حاجة إليه ، فيحل عليكم غضبى : أي ينزل بكم ، هوى : سقط وهلك ، غفار : كثير المغفرة والستر للذنوب ، اهتدى : أي لزم الهداية واستقام.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه قصص موسى مع سحرة فرعون ، وأنه تم له الغلب عليهم ، وأن السحرة آمنوا به ، وأن فرعون أبى أن يذعن للحق ، وتمادى هو وقومه فى العناد والإعراض عن سبيل الرشاد ـ أردف ذلك ذكر ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الغرق فى البحر حين تبعوا موسى للحاق به لما خرج من مصر ذاهبا إلى الطور ، وطوى فى البين ذكر ماجرى على فرعون وقومه بعد أن غلبت السحرة ـ من الآيات المفصّلة التي حدثت على يد موسى فى مدى عشرين سنة بحسب ما فصل فى سورة الأعراف ، وكان فرعون كلما جاءته آية عذاب وعد أن يرسل بنى إسرائيل حين ينكشف عنه العذاب ، فإذا هو انكشف نكص على عقبيه ونكث فى عهده ، حتى أمر الله موسى بالهجرة والخروج ليلا من مصر ، ثم عدد بعدئذ نعمه الدينية والدنيوية على بنى إسرائيل ، فذكر أنه أنجاهم من عدوهم وقد كان ينزل بهم ضروبا من الظلم : من قتل وإذلال وتعب فى الأعمال ، وأنه ذكر أنه أنزل عليهم كتابا فيه بيان دينهم وتفصيل شريعتهم ، وأنه أنزل

١٣٤

لهم المن والسلوى ، وأنه أمرهم بأكل الطيبات من الرزق وزجرهم عن العصيان ، وأن من عصى ثم تاب كانت توبته مقبولة عند ربه.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) أي ولقد أوحينا إلى نبينا موسى حين تابعنا له الحجج على فرعون فأبى أن يستجيب لأمر ربه وتمادى في طغيانه : أن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من هذا الطاغية ، واخرج بهم من مصر ، فاتخذ لهم طريقا يابسا فى البحر ، ولا تخف من فرعون وقومه أن يدركوك ، ولا تخش أن يغرقك البحر.

وفى التعبير عن بنى إسرائيل (بِعِبادِي) إظهار للعناية بأمرهم والرحمة لهم ، وتنبيه إلى قبح صنيع فرعون بهم ، إذ هو قد استعبدهم ، وفعل بهم من ضروب الظلم ما فعل ، ولم يراقب فيهم مولاهم الحق.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) أي ولما سرى بهم موسى أتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر ، فغشيهم من اليم ما لا سبيل إلى إدراك كنهه ، فغرقوا جميعا.

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) أي وقد سلك بقومه سبيل الضلال فى دينهم ودنياهم ، وما هداهم إلى سبيل الرشاد ، وفى هذا تهكم به إذ قال «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ».

ثم شرع سبحانه يعدّد نعمه على بنى إسرائيل فقال :

(١) (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وقومه حين كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ، وأقر عينكم منهم ، إذ أغرقهم وأنتم تنظرون كما قال : «وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».

١٣٥

(٢) (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) فكلمناك تكليما وأعطيناك التوراة وفيها تفصيل شريعتك.

(٣) (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) فكان ينزل عليكم المن وأنتم فى التيه مثل الثلج بياضا مع حلاوة شديدة من الفجر إلى طلوع الشمس ، وتبعث إليكم ريح الجنوب بطير السمانى فيأخذ كل منكم ما يكفيه.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي وقلنا لكم ، كلوا من تلك اللذائذ التي أنعمنا بها عليكم.

(وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي ولا تطغوا فى رزقى بالإخلال بشكره وتعدى حدودى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على المعاصي ومنع الحقوق الواجبة فيه فينزل عليكم غضبى ، وتجب عليكم عقوبتى.

(وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي ومن ينزل به غضبى فقد شقى وهلك.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) أي وإنى لذو مغفرة عظيمة لمن يتوب من شركه ، ويقلع عن ذنبه ، ويخلص لى فى العمل ، ويؤدى فرائضى ، ويجتنب المعاصي ، ويستقيم حتى الموت.

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا

١٣٦

هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩))

تفسير المفردات

يقال جاء على أثره (بفتحتين وبكسر فسكون) : إذا جاء لاحقا به بلا تأخير ، فتنا قومك : أي اختبرناهم ، وأضلهم : أي أوقعهم فى الضلال والخسران ، والسامري : من شعب إسرائيل من بطن يقال له السامرة واسمه موسى ، والأسف : الحزين ، والوعد الحسن : إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور ، والعهد : زمان الإنجاز ، موعدى : أي وعدكم إياى بالثبات على الإيمان ، وقيامكم بأداء ما أمرتم به من التكاليف ، بملكنا : أي بقدرتنا واختيارنا ، والأوزار : الأثقال والأحمال ؛ والمراد بالقوم هنا القبط ، فقذفناها : أي طرحناها فى النار ، جسدا : أي جثة لا روح فيها ، والخوار : صوت العجل ، فنسى : أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه فى الطور ، أن لا يرجع إليهم قولا : أي لا يردّ عليهم جوابا ، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا : أي لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه أوحى إلى موسى أن يخرج هو وقومه من مصر ليلا ويخترق بهم البحر ولا يخشى غرقا ولا دركا من فرعون وجنده ، وأن البحر أغرق فرعون وقومه جميعا حينما أرادوا اللحاق ببني إسرائيل ، ثم عدد نعمه عليهم من إنجائهم من عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم ، ثم أمرهم بأكل الطيبات من الرزق ونهاهم عن الطغيان ، ثم ذكر أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ـ أعقب هذا بما جرى بينه سبحانه وبين موسى من الكلام حين موافاته الميقات بحسب المواعدة التي ذكرت آنفا ،

١٣٧

وبما حدث من فتنة السامري لبنى إسرائيل ورجوع موسى إليهم غضبان أسفا ، ثم معاقبته لهم على ما صنعوا ، ثم ذكر الحيلة التي فعلها السامري حين أخرج لهم من حليهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ، فرد الله عليهم ووبخهم بأن هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه ، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فى دينهم ولا دنياهم.

الإيضاح

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى؟) المراد بالقوم النقباء السبعون ، وإعجاله عنهم تقدمه عليهم ، أي أىّ شىء عجّل بك عن قومك ، وجعلك تتقدمهم؟.

والمراد الإنكار عليه فى تقدمه عليهم ، لأن ذلك يقتضى إغفال أمرهم وعدم العناية بهم ، مع أنه مأمور باستصحابهم وإحضارهم معه ، وإنكار للعجلة فى ذاتها أيضا ، ولا سيما من أولى العزم الذين يجدر بهم مزيد الجزم.

(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي قال موسى مجيبا ربه : هم أولاء بالقرب منى آتون على أثرى ، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة لا يعتدّ بها ، وليس بينى وبينهم إلا مسافة قريبة ، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض.

(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي وعجلت إليك رب لتزداد عنى رضا ، بالمسارعة إلى امتثال أمرك ، والوفاء بعهدك.

وخلاصة معذرته ـ إنى اجتهدت أن أتقدم قومى بخطإ يسيرة ، ظنا منى أن مثل ذلك لا ينكر ، فأخطأت فى اجتهادي ، وقد حملنى على ذلك طلب الزيادة فى مرضاتك ، وكأنه عليه السلام يقول : إنما أغفلت هذا الأمر مبادرة إلى رضاك ومسارعة إلى الميعاد ، والموعود بما يسرّ يود لو ركب أجنحة الطير ليحظى بما يبتغى ويريد.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أي قال : إنا قد اختبرنا قومك الذين خلفتهم مع هرون من بعد فراقك. قال ابن الأنبارى : صيّرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل

١٣٨

من بعد انطلاقك من بينهم ، وهم الذين خلفهم مع هرون اه. وهذه الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى بعشرين يوما.

(وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) أي دعاهم إلى الضلال باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته ، وكان من قوم يعبدون البقر ، فدخل فى دين بنى إسرائيل فى الظاهر وفى قلبه حنين لعبادة البقر ، فأطاعه بعض وامتنع آخرون.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي فانصرف موسى إلى قومه بنى إسرائيل بعد انقضاء الليالى الأربعين ـ مغتاظا من قومه ، حزينا لما أحدثوا من بعده من الكفر بالله. روى أنه لما رجع موسى سمع الصياح والضجيج وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة.

قال القرطبي : سئل الإمام أبو بكر الطرشوشى عن جماعة يجتمعون ويكثرون من ذكر الله وذكر رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، ثم إنهم يضربون بالقضيب على شىء من الطبل ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه ، ويحضرون شيئا يأكلونه ، فهل الحضور معهم جائز أم لا؟ فأجاب : يرحمك الله ، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ؛ وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فقاموا يرقصون حوله ويتواجدون ، فهو دين الكفار وعبّاد العجل ؛ وأما الطبل فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله ، وإنما كان مجلس النبي مع أصحابه ، كأنما على رءوسهم الطير من الوقار ، فينبغى للسطان أن يمنعهم من الحضور فى المساجد وغيرها ، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم ، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين اه.

(قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) لا سبيل لكم إلى إنكاره ، فقد وعدكم بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع والأحكام ، ووعدكم الثواب العظيم فى الآخرة

١٣٩

بقوله : «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» ووعدكم أنكم ستملكون أرض الجبارين وديارهم.

(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي؟) أي أفطال عليكم الزمان ، فنسيتم وعدكم إياى بالثبات على دينى إلى أن أرجع من الميقات؟ أم تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم بعبادتكم للعجل وكفركم به؟.

وخلاصة ذلك ـ أفطال عليكم العهد فنسيتم أم تعمدتم المعصية فأخلفتم؟.

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي قالوا ما أخلفنا عهدك بالثبات على دينك إلا لأنا لم نملك أمرنا ، فلو خلّينا وأنفسنا ولم يسوّل لنا السامري ما سوّله ، لما أخلفنا.

وفى هذا إيماء إلى أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ وأنهم لم يطيقوا حمل أنفسهم على الصواب ، ومن ثم وقعوا فيما وقعوا فيه من الفتنة.

وقصارى كلامهم : إن السامري سول لنا ماسول ، وغلب على عقولنا فخالفنا عهدك.

(وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها) أي ولكن غلبنا موسى السامري إذ حمّلنا أحمالا من حلى القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر بعلة أن لنا عيدا غدا ، وقال : إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها ثم أمرنا أن نحفر حفرة ونملأها نارا وأن نقذف الحلي فيها فقذفناه.

وسميت أوزارا : أي آثاما ، لأنه لا يحل لهم أخذها ، ولا تحل لهم الغنائم فى شريعتهم.

(فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) أي فكما قذفنا نحن تلك الأثقال ، ألقى السامري ما كان معه منها.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أي فأخرج لهم من تلك الأثقال التي

١٤٠