تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

(وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي إن ما أجرى الله به العادة لا يتسنى لأحد سواه أن يغيّره ولا أن يحوّله.

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

تفسير المفردات

دلوك الشمس : زوالها عن دائرة نصف النهار ، والغسق : شدة الظلمة ، وقرآن الفجر : أي صلاة الصبح ، كان مشهودا : أي تشهده شواهد القدرة ، وبدائع الحكمة ، وبهجة العالم العلوي والسفلى ؛ فمن ظلام حالك ، أزاله ضوء ساطع ، ونور باهر ، ومن نوم وخمود ، إلى يقظة وحركة ، وسعى إلى الأرزاق ، فسبحان الواحد الخلاق ، وهل هناك منظر أجمل فى نظر الرائي من ظهور ذلك النور ينفلت من خلال الظلام الدامس يدفعه بقوة ، ليضىء العالم بجماله ، ويقظة النّوّام وحركتهم على ظهر البسيطة ، وقد كانوا فى سكون ، فهى حياة متجددة بعد موت وغيبوبة للحواس ، والتهجد :

٨١

الاستيقاظ من النوم للصلاة ، نافلة : أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة عليك ، والمقام المحمود : مقام الشفاعة العظمى حين فصل القضاء ، حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلى الله عليه وسلّم ، والسلطان : الحجة البينة ، والنصير : الناصر والمعين ، زهق : أي زال واضمحل ، نأى بجانبه : أي لوى عطفه عن الطاعة وولاها ظهره ، وشاكلته : أي مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله فى الهدى والضلال ، ويئوسا : أي شديد اليأس والقنوط من رحمة الله ، وأهدى سبيلا : أي أسدّ طريقا ، وأقوم منهجا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسوله صلى الله عليه وسلّم ليخرجوه من أرضه ، وسلاه بما سلاه به ـ أمره بالإقبال على ربه بعبادته لينصره عليهم ، ولا يبالى بسعيهم ولا يلتفت إليهم ، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم ويجعل يده فوق أيديهم ، ودينه عاليا على أديانهم ، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه ، فيه الشفاء للقلوب من الأدواء النفسية ، والأمراض الاعتقادية ، كما أنه يزيد الكافرين خسارة وضلالا ، لأنه كلما نزلت عليه آية ازدادوا بها كفرا وعتوّا.

الإيضاح

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي أدّ الصلاة المفروضة عليك بعد دلوك الشمس وزوالها إلى ظلمة الليل ، ويشمل ذلك الصلوات الأربعة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الصبح ، وقد بينت السنة المتواترة من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلّم تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه عنه خلفا عن سلف قرنا بعد قرن.

٨٢

وقد تقدم فى سورة البقرة أن المراد بإقامة الصلاة أداؤها على الوجه الذي سنه الدين ، والنّهج الذي شرطه ، من توجيه القلب إلى مناجاة الرب ، والخشية منه فى السر والعلن ، مع اشتمالها على الشرائط والأركان التي أوضحها الأئمة المجتهدون ؛ والصلاة لبّ العبادة ، لما فيها من مناجات الخالق ، والإعراض عن كل ما سواه ، ودعائه وحده ، وهذا هو مخّ كل عبادة ، وفى الحديث «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) أي ففى الفجر تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار وتشهده جميعا ، ثم يصعد أولئك ويقيم هؤلاء ، روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون فى صلاة الصبح ، وفى صلاة العصر فيعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم ، كيف تركتم عبادى؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلون» وروى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم فى قوله : «(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» وقد يكون المراد كما قال الرازي ـ إن الإنسان يشهد فيه آثار القدرة وبدائع الحكمة ، فى السموات والأرض ، فهناك الظلام الحالك الذي يزيله النور الساطع ، وهناك يقظة النوم بعد الخمود والغيبوبة عن الحس إلى نحو ذلك من مظاهر القدرة فى الملك والملكوت ، فكل العالم يقول بلسان حاله أو مقاله «سبّوح قدّوس ، رب الملائكة والروح».

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي واسهر بعض الليل وتهجد به ، وهو أول أمر له صلى الله عليه وسلّم بقيام الليل زيادة على الصلوات المفروضة. روى مسلم عن أبى هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل : أىّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال صلاة الصبح» وقد ثبت في صحيح الأحاديث عن عائشة وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتهجد بعد نومه.

(نافِلَةً لَكَ) أي إنها مخصوصة بك وحدك دون الأمة ، فهى فريضة عليك ومندوبة فى حق أمتك.

٨٣

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أي افعل هذا الذي أمرتك ، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحمدك فيه كل الخلائق وخالقهم تبارك وتعالى.

قال ابن جرير : قال أكثر أهل العلم : ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة فى ذلك اليوم.

أخرج النسائي والحاكم وجماعة عن حذيفة رضى الله عنه قال : «يجمع الله الناس فى صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فينادى يا محمد ، فيقول (لبّيك وسعديك ، والخير فى يديك ، والشر ليس إليك ، والمهدىّ من هديت وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت) فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله» اه.

وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ، حلّت له شفاعتى».

وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبى يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» الحديث.

وسر هذا ـ أن الهداة فى الأرض ، وهم الأنبياء ومن سلك نهجهم من الأئمة والعلماء ، لا تشرق قلوبهم إلا بتوجههم إلى الله فى أوقات الصلوات ، فإذا قاموا للخلق داعين أشرقت مرايا نفوسهم الصافية على من يدعونهم من العباد ، فتضىء نفوسهم ، فيستجيبون لدعوتهم ، ويكون لهم المقام المحمود بينهم ، والثناء العظيم الذي هم له أهل : إلى أنهم يحسون فى أنفسهم سرورا ولذة ، وبهجة ورضا ، فيحمدون مقامهم كما حمدهم الناس من حولهم ، والله والملائكة من فوقهم.

٨٤

لا جرم أن هذا المقام المحمود بالرشد والإرشاد يتبعه مقام الشفاعة ، إذ لا شفاعة فى الآخرة إلا على مقدار ما أوتى المشفوع له فى الدنيا من علم وخلق ، ولله فى الشفاعة ما يشاء من غفران وإعلاء درجات.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي وقل داعيا رب أدخلنى فى كل مقام تريد إدخالى فيه فى الدنيا وفى الآخرة مدخلا صادقا أي يستحق الداخل فيه أن يقال له أنت صادق فى قولك ، فعلك ، وأخرجنى من كل ما تخرجنى منه مخرج صدق أي يستحق الخارج منه أن يقال له أنت صادق.

وخلاصة ذلك ـ أدخلنى إدخالا مرضيا كإدخالى للمدينة مهاجرا ، وإدخالى مكة فاتحا ، وإدخالى فى القبر حين الموت ، وأخرجنى إخراجا محفوظا بالكرامة والرضا ، كإخراجى من مكة مهاجرا ، وإخراجى من القبر للبعث.

ثم سأل الله القوة بالحجة والتسلط على الأعداء فقال :

(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي واجعل لى تسلطا بالحجة والملك ، فأقنع المستمعين للدعوة بالحجة ، ويكون للإسلام الغلبة بالاستيلاء على أهل الكفر.

وقد أجاب الله دعاءه ، وأعلمه أنه يعصمه من الناس كما قال : «وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» وقال : «فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ» وقال : «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ».

ثم أمره أن يخبر بالإجابة بقوله :

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي وقل للمشركين مهددا لهم : إنه قد جاءهم الحق الذي لا مرية فيه ، ولا قبل لهم به. وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع ، واضمحل باطلهم وهلك ، إذ لا ثبات له مع الحق كما قال : «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ».

(إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي مضمحلا لا ثبات له فى كل آن.

أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : «دخل النبي صلى الله عليه وسلّم

٨٥

مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها بعود فى يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ، جاء الحق وما يبدى الباطل وما يعيد.

وفى رواية للطبرانى والبيهقي عن ابن عباس «أنه صلى الله عليه وسلّم جاء ومعه قضيب ، فجعل يهوى به إلى كل صم منها فيخرّ لوجهه فيقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ـ حتى مر عليها كلّها».

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وننزل عليك أيها الرسول من القرآن ما به يستشفى من الجهل والضلالة ، وتزول أمراض الشدة والنفاق ، والزيغ والإلحاد ، وهو أيضا رحمة للمؤمنين الذين يعملون بما فيه من الفرائض ، ويحلّون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، فيدخلون الجنة ، وينجون من العذاب ، وفى الخبر «من لم يستشف بالقرآن ، فلا شفاه الله».

(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لأنهم كلما سمعوا آية منه ازدادوا بعدا عن الإيمان وازدادوا كفرا بالله ، لأنه قد طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون كما قال : «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» وقال : «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ».

قال قتادة فى قوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي لا ينتفعون به ، ولا يحفظونه ، ولا يعونه ، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين اه.

٨٦

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا أنعمنا على الإنسان بمال وعافية ، وفتح ونصر وفعل ما يريد ـ أعرض عن طاعتنا وعبادتنا ، ونأى بجانبه ، وهذا كقوله «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» وقوله : «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ».

(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) أي وإذا أصابته الجوائح ، وانتابته النوائب ، كان يئوسا قنوطا من حصول الخير بعد ذلك.

ونحو الآية قوله «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ» وقوله : «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ».

ولما ذكر حالى العمى والمهتدين ختم القول ببيان أن كلا يسير على مذهبه فقال :

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي قل إن كلا من الشاكر والكافر يعمل على طريقته وحاله فى الهدى والضلال ، وما طبع عليه من الخير والشر.

(فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي فربكم أعلم من كل أحد ، بمن منكم أوضح طريقا واتباعا للحق ، فيؤتيه أجره موفورا ، ومن هو أضل سبيلا فيعاقبه بما يستحق ، لأنه يعلم ما طبع عليه الناس فى أصل الخلقة وما استعدوا له ، وغيره يعلم أمورهم بالتجربة ، وبمعنى الآية قوله «وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» ولا يخفى ما فى الآية من تهديد شديد ووعيد للمشركين.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)).

٨٧

تفسير المفردات

فى المراد من الروح فى هذه الآية ثلاثة آراء :

(١) القرآن وهو المناسب لما تقدمه من قوله : «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ» ولما بعده من قوله «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» ولأنه سمى به فى مواضع متعددة من القرآن كقوله «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» وقوله «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ» ولأن به تحصل حياة الأرواح والعقول ، إذ به تحصل معرفة الله وملائكته وكتبه واليوم الآخر ، ولا حياة للأرواح إلا بمثل هذه المعارف.

(٢) جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة ، وقد سمى جبريل فى مواضع عدة من القرآن كقوله «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» وقوله «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا» ويؤيد هذا أنه قال فى هذه الآية «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» وقال جبريل «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» فهم قد سألوا الرسول كيف جبريل فى نفسه وكيف يقوم بتبليغ الوحى.

(٣) الروح الذي يحيا به بدن الإنسان ـ وهذا قول الجمهور ـ ويكون ذكر الآية بين ما قبلها وما بعدها اعتراضا للدلالة على خسارة الظالمين وضلالهم ، وأنهم مشتغلون عن تدّبر الكتاب والانتفاع به إلى التعنت بسؤالهم عما اقتضت الحكمة سد الطريق على معرفته ، ويؤيد هذا ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال : «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفر من اليهود ، فقال بعضهم : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون ، فقاموا إليه وقالوا يا أبا القاسم حدّثنا عن الروح ، فقام ساعة ينظر ، فعرفت أنه يوحى إليه ، ثم قال : ويسألونك عن الروح الآية».

الإيضاح

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الذي يحيا به البدن ، أقديم هو أم حادث؟

٨٨

(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الأمر واحد الأمور : أي الروح شأن من شؤونه تعالى ، حدث بتكوينه وإبداعه من غير مادة ، وقد استأثر بعلمه ، لا يعلمه إلا هو ، لأنكم لا تعملون إلا ما تراه ، حواسكم وتتصرف فيه عقولكم ، ولا تعلمون من المادة إلا بعض أوصافها كالألوان والحركات للبصر ، والأصوات للسمع ، والطعوم للذوق ، والمشمومات للشم ، والحرارة والبرودة للمس ، فلا يتسنى لكم إدراك ما هو غير مادى كالروح.

وللعلماء فى حقيقة الروح أقوال كثيرة أولاها بالاعتبار قولان :

(١) إن الروح جسم نورانى حىّ متحرك من العالم العلوي ، مخالف بطبعه لهذا الجسم المحسوس ، سار فيه سريان الماء فى الورد ، والدّهن فى الزيتون ، والنار فى الفحم ، لا يقبل التبدل والتفرق والتمزق ، يفيد الجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض وعدم حدوث ما يمنع السريان ، وإلا حدث الموت ، واختاره الرازي وابن القيم فى كتاب الرّوح.

(٢) إنه ليس بجسم ولا جسمانى ، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف ، وإلى هذا ذهب حجة الإسلام الغزالي وأبو القاسم الراغب الأصفهانى.

ثم أكد عدم علم أحد بها بقوله :

(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أي وما أوتيتم من العلم إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحس. فعلومنا ومعارفنا النظرية طريق حصولها الحواس ، ومن ثم قالوا : من فقد حسا فقد علما.

روى أنه لما نزلت الآية قالت اليهود : أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتى التوراة فقد أوتى خيرا كثيرا ، فنزل قوله «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً».

وخلاصة ذلك ـ إنه ما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، والذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر بعلمه تبارك وتعالى ولم يطلعكم عليه.

٨٩

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

تفسير المفردات

وكيلا : أي ملتزما استرداده بعد الذهاب به ، كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه ، وظهيرا : أي معينا فى تحقيق ما يتوخّونه من الإتيان بمثله ، وصرفنا : كررنا وردّدنا ، والكفور : الجحود.

المعنى الجملي

بعد أن امتن سبحانه على نبيه بما أنزل عليه من الكتاب ، وذكر أنه شفاء للناس ، وأنه ثبّته عليه حين كادوا يفتنونه عنه ، ثم أردفه بمسألة الروح اعتراضا ، لأن اليهود والمشركين اشتغلوا بها عن تدبر الكتاب والانتفاع به ، وسألوا تعنتا عن شىء لم يأذن الله بالعلم به لعباده ـ امتن عليه ببقاء ذلك الكتاب وحذّره من فتنة الضالين ، وإرجاف المرجفين ، وهو المعصوم من الفتنة ، فإنه لو شاء لأذهب ما بقلبه منه ولكن رحمة بالناس تركه فى الصدور.

وفى هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء وهم غير معصومين من الفتنة ، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين بمظاهرتهم للرؤساء والعامة ، وتركهم العمل به اتباعا لأهوائهم ، واستبقاء لودهم ، وحفظا لزعامتهم على الناس.

ثم ذكر أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا ، وقد اشتمل على الحكم والأحكام والآداب التي يحتاج إليها البشر فى معاشهم ومعادهم ، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا.

٩٠

الإيضاح

لما ذكر سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلا ، بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل فقال :

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي والله لئن شئنا لنمحونّ القرآن من الصدور والمصاحف ولا نترك له أثرا ، وتصيرنّ كما كنت لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان. أخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي فى جماعة آخرين ، عن ابن مسعود قال : «إن هذا القرآن سيرفع ، قيل كيف يرفع وقد أثبته الله فى قلوبنا وأثبتناه فى المصاحف؟ قال يسرى عليه فى ليلة واحدة فلا تترك منه آية فى قلب ولا مصحف إلا رفعت ، فتصبحون وليس فيكم منه شىء ثم قرأ هذه الآية».

وعنه أنه قال : ذهاب القرآن رفعه من صدور قارئيه.

(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) أي ثم لا تجد ناصرا ينصرك ، فيحول بيننا وبين ما نريد بك ، ولا قيّما لك يمنعنا من فعل ذلك بك.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به ، وفى هذا امتنان من الله ببقاء القرآن. قال الرازي إنه تعالى امتن على جميع العلماء بنوعين من المنة ، أحدهما : تسهيل ذلك العلم عليهم. ثانيهما : إبقاء حفظه (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) إذ أرسلك للناس بشيرا ونذيرا ، وأنزل عليك الكتاب ، وأبقاه فى حفظك ومصاحفك ، وفى حفظ أتباعك ومصاحفهم ، وصيّرك سيد ولد آدم ، وختم بك النبيين ، وأعطاك المقام المحمود.

ثم نبه إلى شرف القرآن العظيم وكبير خطره فقال :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي قل لهم متحديا : والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله بلاغة وحسن معنى وتصرفا وأحكاما ونحو ذلك ، لا يأتون بمثله وفيهم العرب الفصحاء وأرباب البيان ، ولو تعاونوا وتظاهروا ،

٩١

فإن هذا غير ميسور لهم ، فكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل؟

ثم ذكر بعض محاسن هذا القرآن فقال :

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد رددنا القول فيه بوجوه مختلفة ، وكررنا الآيات والعبر ، والترغيب والترهيب ، والأوامر والنواهي ، وأقاصيص الأولين ، والجنة والنار ، ليدبّروا آياته ، ويتعظوا بها.

(فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي فأبى أكثر الناس إلا الجحود والإنكار ، والثبات على الكفر ، والإعراض عن الحق.

ولما تم الإقناع بالحجة وقطعت ألسنتهم وأفحموا ولم يجدوا وسيلة للرد ، أرادوا المراوغة باقتراح الآيات وذكروا من ذلك ستة أنواع ذكرها سبحانه بقوله :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ

٩٢

اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

تفسير المفردات

الينبوع : العين التي لا ينضب ماؤها ، جنة : أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من الأرض ، كسفا : واحدها كسفة كقطع وقطعة لفظا ومعنى ، وقبيلا : أي مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر والمراد رؤيتهم عيانا ، والزخرف : هنا الذهب ، وأصله الزينة ، وأجملها ما كان بالذهب ، ترقى : أي تصعد ، مطمئنين : أي ساكنين مقيمين فيها ، وخبت : أي سكن لهبها ، والسعير : اللهب ، وكفورا أي جحودا للحق ، خشية الإنفاق : أي خوف الفقر ، والقتور : الشديد البخل.

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ـ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ، ويتعثرون فى أذيال الحيرة ، فطلبوا آية من آيات ست ، فإن جاءهم بآية منها ، آمنوا به ، وصدقوا برسالته.

٩٣

روى عن ابن عباس «أن أشراف مكة أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهم جلوس عند الكعبة ، فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيّقة ، فسيّر جبالها لننتفع بأرضها ، وفجرّ لنا فيها نهرا وعيونا نزرع فيها ، فقال لا أقدر عليه ، فقال قائل : أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، فقال لا أقدر عليه ، فقيل أو يكون لك بيت من زخرف (ذهب) فيغنيك عنا ، فقال لا أقدر عليه ، فقيل له أما تستطيع أن تأتى قومك بما يسألونك؟ فقال لا أستطيع ، قالوا إن كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر ، فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا بالعذاب ، فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لا والذي يحلف به ، لا أومن بك حتى تشدّ سلما فتصعد فيه ونحن ننظر إليك ، فتأتى بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة ، ثم بعد ذلك لا أدرى أنؤمن بك أم لا؟.

فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل ، وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.

ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهى استبعادهم أن يرسل الله بشرا رسولا ، فأجابهم بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ، لأن الجنس أميل إلى جنسه.

ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلّم على ما يلاقى من قومه ، بأن الهداية والإيمان بيد الله ولا قدرة له على شىء من ذلك ، ومن يظلل الله فلا هادى له ، وسيلقون جزاءهم نار جهنم بما كسبت أيديهم ودسّوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي ، وإنكار البعث والحساب ، وهم يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة أخرى ؛ ثم بين أنه لو أجابهم إلى ما طلبوا من إجراء الأنهار والعيون وتكثير الأموال واتساع المعيشة لما كان هناك من فائدة ، ولما أوصلوا النفع إلى أحد ، فالإنسان بطبعه شحيح كزّ بخيل.

٩٤

الإيضاح

علمت مما سلف أنهم طلبوا منه آية من ست ، وها هى ذى :

(١) (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبى سفيان والنضر بن الحرث قول المبهوت المحجوج المتحير : لن نصدّقك حتى تستنبط لنا عينا من أرضنا تدفق بالماء أو تفور ، وذلك سهل يسير على الله لو شاء فعله وأجابهم إلى ما يطلبون ، ولكن الله علم أنهم لا يهتدون كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وقال : «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» الآية.

(٢) (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) أي أو يكون لك بستان فيه نخيل وعنب تتفجر الأنهار خلاله تفجيرا لسقيه.

(٣) (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) تقول العرب : جاءنا بثريد كسف أي قطع من الخبز : أي أو تسقط علينا جرم السماء إسقاطا مماثلا لما زعمت فى قولك : «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ».

وخلاصة ذلك ـ أو تسقط السماء علينا متقطعة قطعا قطعا ، ونحو الآية قوله : «اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا : «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

(٤) (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أي أو تأتى بالله والملائكة نقابلهم معاينة ومواجهة قاله مجاهد وعطاء ، ونحو الآية قولهم : «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا».

(٥) (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي أو يكون لك بيت من ذهب ، روى ذلك عن ابن عباس وقتادة وغيرهما.

٩٥

(٦) (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) أي أو تصعد فى سلم إلى السماء ونحن ننظر إليك ، ولن نصدّقك من أجل رقيك وحده ، بل لا بد أن تنزل علينا كتابا نقرؤه بلغتنا على نهج كلامنا ، وفيه تصديقك.

(قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) أي قل لهم متعجّبا من مقترحاتهم ، ومنزّها ربك من أن يقترح عليه أحد أو يشاركه فى القدرة : ما أنا إلا كسائر الرسل ، وليس للرسل أن يأتوا إلا بما يظهره الله على أيديهم بحسب ما تقتضيه المصلحة ، من غير تفويض إليهم فيه ، ولا تحكم منهم عليه.

وخلاصة ذلك ـ سبحانه أن يتقدم أحد بين يديه فى أمر من أمور سلطانه وملكوته بل هو الفعال لما يشاء ، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم ، وإن شاء لم يجبكم ، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم ، وقد فعلت ذلك ، وأمركم فيما سألتم إلى الله عزّ وجلّ.

ثم أعقب ذلك بشبهة أخرى وهى استبعادهم أن يكون من البشر رسول فقال :

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً؟) أي وما منع مشركى قريش وهم من حكيت أباطيلهم ـ من الإيمان بك حين مجىء الوحى المقرون بالمعجزات التي تستدعى الإيمان بنبوتك وبما نزل عليك من الكتاب إلا قولهم : أبعث الله بشرا رسولا ، إنكارا منهم أن يكون الرسول من جنس البشر ، واعتقادا منهم بأن الله لو بعث رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون من الملائكة.

ونحو الآية قوله : «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» وقوله : «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟» الآية. وقال فرعون وملؤه : «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟» وكذلك قالت الأمم لرسلهم : «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا».

٩٦

فأجابهم الله عن هذه الشبهة ذاكرا وجه الحق منبّها إلى المصلحة بقوله :

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) أي لو وجد فى الأرض ملائكة يمشون كما يمشى البشر ، ويقيمون فيها كما يقيمون ، ويسهل الاجتماع بهم ، وتتلقى الشرائع منهم ـ لنزلنا عليهم من السماء رسلا من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه ، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر ، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم ، لبعد ما بين الملك وبينهم ، ومن ثم لم نبعث ملائكة إليهم ، بل بعثنا خواصّ البشر ، لأن الله قد وهبهم نفوسا زكية ، وأيدهم بأرواح قدسية ، وجعل لهم ناحية ملكية ، بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة ، وناحية بشرية ، بها يبلغون رسالات ربهم إلى عباده.

وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة ، وجليل تلك النعمة بقوله : «لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم» وقوله : «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» وقوله : «كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيّكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم مالم تكونوا تعلمون».

وإجمال القول فى ذلك ـ إنه لو جعل الرسل ملائكة لما استطاع الناس التخاطب معهم ، ولما تمكّنوا من الفهم منهم ، فلزم أن يجعلوا بشرا حتى يستطيعوا أداء الرسالة كما قال تعالى جدّه : «ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون».

وقد ثبت أن جبريل عليه السلام جاء فى صورة دحية الكلبي مرارا عدة ، فقد صح أن أعرابيا جاء وعليه وعثاء السفر فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الإسلام والإيمان ، فأجابه عليه السلام بما أجابه ثم انصرف ، ولم يعرفه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم فقال عليه السلام : هذا جبريل جاء يعلّمكم دينكم.

٩٧

ثم أجابهم سبحانه بجواب آخر بقوله :

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل لهم : إن الله لما أظهر المعجزة وفق دعواى كان ذلك شهادة منه على صدقى ، ومن شهد له الله فهو صادق ، فادّعاؤكم أن الرسول يجب أن يكون ملكا تحكّم منكم وتعنت.

وخلاصة ذلك ـ إن الله شاهد علىّ وعليكم ، عالم بما جئتكم به ، فلو كنت كاذبا عليه لا نتقم منى أشد الانتقام كما قال سبحانه : «ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل.

لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين».

ثم ذكر سبحانه ما هو كالتهديد والوعيد بقوله :

(إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي إنه محيط بأحوال عباده الظاهر منها والباطن ، وأعلم بمن يستحق الإحسان والرعاية ، ومن هو أهل للشقاء والضلال.

وفى هذا إيماء إلى أنه ما دعاهم إلى إنكار نبوته صلى الله عليه وسلّم إلا الحسد وحب الرياسة والتكبر عن قبول الحق ، كما أن فيه تسلية له صلى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من الإصرار والعناد والإمعان فى إيذائه.

ثم أخبر سبحانه بأنه لا معقّب لحكمه ، ولا سلطان لأحد من خلقه فى شىء فقال :

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) أي ومن يهد الله للإيمان به وتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك ، فهو المهتدى إلى الحق ، المصيب سبيل الرشد ، ومن يضلله لسوء اختياره وتدسيته نفسه ، وركوبه رأسه فى الغواية والعصيان كهؤلاء المعاندين ، فلن تجد لهم أنصارا ينصرونهم من دونه يهدونهم إلى الحق ، ويمنعون عنهم العذاب الذي يقتضيه ضلالهم.

(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) أي ونجمعهم فى موقف الحساب بعد تفرقهم فى القبور ـ عميا وبكما وصما كما كانوا فى الدنيا ، لا يستبصرون

٩٨

ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن استماعه ، فهم فى الآخرة لا يبصرون ما تقر به أعينهم ، ولا يسمعون ما يلذّ لمسامعهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم كما قال : «ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا».

روى البخاري ومسلم عن أنس رضى الله عنه أنه قال : «قيل يا رسول الله ، كيف يمشى الناس على وجوههم؟ قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم».

وروى الترمذي : «إن الناس يكونون ثلاثة أصناف فى الحشر : مشاة ، وركبانا ، وعلى وجوههم».

وإنا نرى فى الدنيا من الحيوان ما هو طائر ، ومنه ما هو ماش ، ومنه ما هو زاحف كالحيات وهوامّ الأرض.

والقسم الأخير من الأقسام الثلاثة فى الحديث أقرب إلى هيئة الزواحف بحيث يبقى الوجه فى الأرض وتحيط به زوائد كالأرجل الصغيرة الحيوانية ، وهو يهيم على وجهه.

والخلاصة ـ إنهم يبعثون فى أقبح صورة ، وأشنع منظر ، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم كما يفعل فى الدنيا بمن يبالغ فى إهانته وتعذيبه ، ويؤيده قوله تعالى : «يوم يسبحون فى النّار على وجوههم».

(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي ثم بعد أن يتم حسابهم يكون منقلبهم ومصيرهم جهنم ، كلما سكن لهيبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به وتحرقه ، زدناها لهبا وتوقدا بأن نعيدهم إلى ما كانوا عليه فتستعر وتتوقد.

أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : إن الكفار وقود النار ، فإذا أحرقتهم ولم يبق شىء صارت جمرا تتوهّج ، فذلك خبوها ، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم اه.

٩٩

وكأن هذا عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء بتكرارها مرة بعد أخرى ، ليروها عيانا ، حيث أنكروها برهانا.

ثم بين علة تعذيبهم ، لعله يرجع منهم من قضى بسعادته فقال :

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أي ذلك العذاب الذي جاز يناهم به من البعث على العمى والبكم والصّمم هو جزاؤهم الذي يستحقونه على تكذيبهم بالبينات والحجج التي جاءتهم ، وعلى استبعادهم وقوع البعث ، وقولهم : أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق فى أرجاء الأرض نعاد مرة أخرى ـ استنكارا منهم وتعجبا من أن يحصل ذلك.

ثم استدل على البعث فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي خلق السموات والأرض ابتداعا على غير مثال سابق وأقامهما بقدرته ـ قادر على أن يخلق أمثالهم من الخلق بعد فنائهم ، وكيف لا يقدر على إعادتهم ، والإعادة أهون من الابتداء؟.

وبعد أن أثبت أن البعث أمر ممكن الوجود فى نفسه ، أردف ذلك أن لحصوله وقتا معلوما عنده فقال.

(وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) أي وجعل لإعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها ، لا يعلمها إلا هو كما قال : «وما نؤخّره إلّا لأجل معدود».

وخلاصة ذلك ـ إنهم قد علموا بالبرهان العقلي أن الله قادر على إعادتهم ، وقد جعل لميقات إعادتهم أجلا وهو يوم القيامة الذي لا شك فيه ، فلا وجه لإنكاره.

(فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي وبعد إقامة الحجة عليهم أبوا إلا تماديا فى ضلالهم وكفرهم مع وضوح الحجة وظهور المحجّة.

١٠٠