تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) تقدم أن قلنا فى سورة البقرة : إن الملائكة عالم من العوالم الغيبية لا نعرف حقيقتهم ، والقرآن الكريم يرشد إلى أنهم أصناف ، لكل صنف عمل ، وقد جاء على لسان الشرع إسناد إلهام الحق والخير إليهم ، كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام ، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين كما ورد فى الحديث «إن للشيطان امّة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإبعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإبعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، وليحمد الله على ذلك ، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ثم قرأ : «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ».

الملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس على وجه لا نعرف حقيقته ، بل نؤمن به كما ورد ، ولا نزيد عليه شيئا. وكلنا نشعر بأنا إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو الخير ، ووجه للباطل أو الشر ـ بأن فى نفوسنا تنازعا وكأن هاجسا يقول افعل ، وآخر يقول : لا تفعل ، حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر ، فهذا الذي أودع فى النفوس ونسميه قوة وفكرا ـ لا يبعد أن نسميه ملكا إن كان يميل إلى الخير ، وشيطانا إن كان يميل إلى الشر.

والسجود : الخضوع والانقياد ، وكان تحية للملوك عند بعض القدماء كما جاء من سجود يعقوب وأولاده ليوسف ، والسجود قسمان : سجود العقلاء تعبدا على الوجه المخصوص ، وسجود سائر المخلوقات لمقتضى إرادته تعالى كما قال «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ».

والمعنى ـ واذكر أيها الرسول لقومك وقت قولنا للملائكة : اسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام اعترافا بفضله ، واعتذارا عما قالوه فى شأنه من نحو قولهم : «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» فسجدوا كلهم أجمعون امتثالا إلا إبليس أبى واستكبر.

١٦١

ثم بين السبب فى عصيانه ومخالفته للأمر فقال :

(كانَ مِنَ الْجِنِّ) أي إن الذي منعه من السجود أنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة ، مغمورا بينهم ، متصفا بصفاتهم ، بدليل أنه قال : «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ولأنه تعالى أثبت له فى هذه الآية ذرية ونسلا والملائكة لا ينسلون ، ولأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر.

ويرى قوم أنه كان من الملائكة بدليل أن خطاب السجود كان معهم ، ولأن وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ، دليل على أنه يتصور منهم العصيان ، ولولا ذلك ما مدحوا به ، لكن طاعتهم طبع ، وعصيانهم تكلف ، وطاعة البشر تكلف ، ومتابعة الهوى منهم طبع ، ولأنه تعالى ذكر من هاروت وماروت ما ذكر ، وهما ملكان.

على أنه لا دليل على أن هناك فروقا جوهرية بين الملائكة والجن ، بها يمتاز أحدهما من الآخر ، بل هى فروق فى الصفات فحسب ، والجميع من عالم الغيب لا نعلم حقيقتهم ولا نضيف إليها شيئا إلا إذا ورد به نص عن المعصوم.

(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر الله للملائكة المعدود هو فى عدادهم ، إذ لولا الأمر ما تحقق إباء.

وفى الآية إيماء إلى أن فسقه قد نتج عن كونه من الجن ، إذ أن من شأنهم التمرد والعصيان لكدورة مادتهم ، وخباثة ذاتهم (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) وإن كان منهم من أطاع وآمن.

ثم حذر سبحانه من اتباعه بعد أن استبان من حاله ما استبان فقال :

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟) أي وبعد العلم بما صدر منه من القبائح لا ينبغى لكم أن تتخذوه وأولاده وأعوانه أولياء لكم من دونى تطيعونهم بدل طاعتى وهم لكم أعداء.

وجملة المعنى ـ كيف تصنعون هذا الصنيع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم

١٦٢

بجميع ما أنتم فيه من النعم ، من لم يكن لكم منه منفعة قط بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم فى كل حين.

(بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) أي بئس البدل للكافرين بالله اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دونه ، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم ، المتفضل عليهم بما لا يحصى من الفواضل.

ثم بين السبب فى عدم استحقاق إبليس وذريته هذه الولاية فى أنفسهم بعد بيان خباثة أصلهم فقال :

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السموات والأرض ، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، فكيف تطيعونهم وتعبدون الأصنام من دونى وهم عبيد أمثالكم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟.

وقصارى ذلك ـ ما أطلعتهم على أسرار التكوين ، وما خصصتهم بخصائص لا تكون لسواهم ، حتى يقتدى الناس بهم ، فأنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ليس لى فى ذلك شريك ولا وزير.

(وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي وما كنت متخذ من لا يهدون إلى الحق أعوانا وأنصارا ، لأنهم يضلون فمتبعهم يجور عن قصد السبيل ، ولا يصل إلى هدى ، فكيف اتبعوهم وعبدوا الأصنام على مقتضى وسوستهم؟.

ثم أخبر سبحانه عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا فقال :

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي واذكر أيها الرسول يوم الجمع حين يقول الله تعالى للكافرين على سبيل التأنيب والزجر : نادوا للشفاعة لكم من زعمتم فى الدنيا أنهم شركائى ، لينقذوكم مما أنتم فيه ، والمراد بهم كل ما عبد من دون الله ، فدعوهم ليستغيثوا بهم ، ويشفعوا لهم ، فلم يغيثوهم.

١٦٣

ونحو الآية قوله : «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» وقوله «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ» وقوله «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا».

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) أي وجعلنا بين المشركين وما كانوا يدعون من دون الله شركاء فى الدنيا ـ موضعا للهلاك وهو النار حسما لأطماعهم أن يصل إليهم من دعوه للشفاعة.

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي وعاين المشركون النار يومئذ فعلموا أنهم داخلوها ولم يجدوا بدّا من الوقوع فيها ، لأن الله قد حتّم عليهم ذلك ، فلا معدل لهم عنها ، ولا مكان لهم ينصرفون إليه ويزايلونها ، إذ قد أحاطت بهم من كل جانب.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ

١٦٤

لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

تفسير المفردات

صرّفنا : أي ردّدنا وكررنا ، والمثل : الصفة الغريبة ، والجدل : المنازعة بالقول ؛ ويراد به هنا المماراة والخصومة بالباطل ، وسنة الأولين : الإهلاك بعذاب الاستئصال ، والقبل (بضمتين) الأنواع والألوان واحدها قبيل ، ليدحضوا به الحق : أي ليبطلوه ويزيلوه من قولهم دحضت رجله أي زلقت ودحضت حجته بطلت ، وما أنذروا : أي ما خوفوه من أنواع العقاب ، ونسى ما قدمت يداه ، أي لم يتدبر عواقبه ، أكنة : أي أغطية واحدها كنان ، أن يفقهوه : أي أن يفهموه. وقرا : أي ثقلا فى السمع ، الموعد : يوم القيامة ، موئلا : أي ملجأ ؛ يقال وأل فلان إلى كذا وألا ووءولا : إذا لجأ إليه ، القرى : أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه شبهات المبطلين ورد عليها بأدلة لا تدحض ، وبرهانات لاتردّ ـ قفى على ذلك ببيان أن فى القرآن من الأمثال ما فيه مقنع لمن تذكر وتدبر وألقى السمع وهو شهيد ، لكنها القلوب قد تحجرت ، والأفئدة قد قست ، فلا تنفع فيها الذكرى ، ولا تستجيب لوعظ الواعظ ، ونصيحة المذكر ، ولو آخذهم ربهم بما كسبوا لأرسل عليهم العذاب معجّلا ، ولم يبق منهم على ظهر الأرض أحدا ، ولكنه الغفور ذو الرحمة ، فجعل لهلا كهم موعدا ، لعلهم يثوبون إلى رشدهم ، ويرعوون عن غيهم.

أخرج الشيخان وابن المنذر وابن أبى حاتم عن على كرم الله وجهه «أن النبي

١٦٥

صلى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال (ألا تصلّيان) فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ، ولم يرجع إلىّ شيئا ، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً».

الإيضاح

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد وضّحنا للناس كل ما هم فى حاجة إليه من أمور دينهم ودنياهم ، ليتذكروا فينيبوا ويعتبروا ويزدجروا عماهم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لكنهم لم يقبلوا ذلك ، ولم يرعووا عن غيهم وعنادهم ، واستكبارهم وعتوهم.

ثم بين سبب هذا العتو وتلك المماراة فقال :

(وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أي وكان الإنسان بمقتضى جبلّته أكثر شىء مراء وخصومة ، لا ينيب إلى حق ، ولا يزدجر لموعظة ، والمراد بذلك خصومة الأمم لأنبيائهم وردهم عليهم ما جاءوا به ، كما حكى الله عنهم من قولهم «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ» وقولهم «يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» وشديد تعنتهم كما حكى عنهم بنحو قولهم «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ».

وخلاصة ذلك ـ إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل ، لما أوتيه من سعة الحيلة ، وقوة المعارضة ، واختلاف النزعات والأهواء ، وقوة العزيمة إلى غير حد ؛ فلو اتجه إلى سبل الخير ، وتاقت نفسه إلى سلوك طريقه ، ارتقى إلى حظيرة الملائكة ، ولو نزعت نفسه إلى اتباع وساوس الشيطان ، انحط إلى الدرك الأسفل ولحق بأنواع الحيوان ، يفعل ما يشاء ، غير مقيد بوازع من الدين ، ولازمام من العقل وصادق العريمة.

١٦٦

ولما بين سبحانه وتعالى إعراضهم ذكر علة ذلك فقال :

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) أي وما منع هؤلاء المشركين من أن يؤمنوا بالله ، حين جاءتهم البينات الواضحة ، والدلالات الظاهرة ، وعلموا صحة ما تدعوهم إليه ، وأن يستغفروا ربهم بالتوبة عما فرط منهم من الذنوب ـ إلا تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم يطلبون أحد أمرين :

(١) إما عذاب الاستئصال بنحو قولهم «اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ».

(٢) وإما أن تأتيهم بأنواع من العذاب والبلاء يتلو بعضها بعضا حين وجودهم فى الدنيا كقولهم «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ». وقولهم «ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

ولما كان مجىء ذلك بيد الله ، وأمره مفوض إليه ، لا إلى الرسول نبه إلى ذلك بقوله :

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي وما نرسل رسلنا إلا ليبشروا أهل الإيمان والتصديق بالله ورسله بجزيل ثوابه فى الآخرة ، وينذروا أهل الكفر به وتكذيب رسله بعظيم عقابه وأليم عذابه ، ولم نرسلهم ليقترح عليهم الظالمون من أممهم الآيات بعد ظهور المعجزات ، ويطلبوا منهم ما لا قبل لهم به.

ثم ذكر أن من شأن المشركين كثرة الجدل للرسول صلى الله عليه وسلّم فقال :

(وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي ويجادل أولئك المشركون بالباطل كقولهم للنبى صلى الله عليه وسلّم : أخبرنا عن فتية ذهبوا أول الدهر ، ما شأنهم؟

وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وعن الروح ، وما أشبه ذلك مما يقصد منه التعنت وإزالة الحق الذي جاء به الرسل عليهم ، لا كشف حقيقة تفيد فى دين أو دنيا.

١٦٧

وخلاصة ذلك ـ إن الرسل ما أرسلوا للجدل والشغب بالباطل ، بل بعثوا للبشارة والإنذار ، وأنتم تجادلون بالباطل لتدحضوا الحق الذي جاءكم به رسولى.

(وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) أي واتخذوا الحجج التي احتج بها عليهم ، وكتابه الذي أنزل إليهم ، والنذر التي أنذرهم بها العقاب والعذاب ـ استهزاء وسخرية كقولهم : «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» وقولهم : «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا».

ولما حكى عنهم خبيث أحوالهم وصفهم بما يوجب الخزي والنكال فقال :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ؟) أي لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات الله ، ودلّ بها على سبيل الرشاد ، وهدى بها إلى طريق النجاة ، فأعرض عنها ولم يتدبرها ولم يتعظ بها ، ونسى ما عمله من الكفر والمعاصي أي لم يتفكر فى عواقبه ، ومن ثم لم يتب منها ولم ينب إلى ربه.

ثم علل ذلك الإعراض والنسيان بقوله :

(إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي إن ذلك الإعراض منهم بسبب أن جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا ما ذكّروا به ، وجعلنا فى آذانهم ثقلا لئلا يسمعوه ، والمراد أنه لا يدع شيئا من الخير يصل إليها ، فهى لا تعى شيئا من الآيات إذا تليت عليها.

ذاك أنهم فقدوا الاستعداد لقبول الرشاد ، بما دنسوا به أنفسهم من قبيح الافعال والأقوال ، وبما اجترحوا من الكفر والفسوق والعصيان ، فأصبح بينهم وبين سماع الحق حجاب غليظ ، فلا ينفذ إلى السمع شىء مما يسمع سماع تدبر واتعاظ ، ولا إلى القلب شىء مما يقال فيعيه وينتفع به كما قال : «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» وقال : «خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».

١٦٨

وقد تكرر هذا المعنى فى غير موضع من الكتاب الكريم : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».

ثم ذكر سبحانه أثر هذا الختم على القلوب فقال :

(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) أي ومهما كررت أيها الرسول من الدعوة إلى الحق ، حرصا منك على نجاتهم وخشية نزول البلاء بهم ، فلن يستجيبوا لك ، ولن يهتدوا بهداك ، لأن الله قد كتب عليهم الضلال ، بسوء أعمالهم وقبح طواياهم ، فأنّى يفيد النصح ، وتجدى العظة ، ويرقّ القلب؟.

وخلاصة المعنى ـ كأنه صلى الله عليه وسلّم حرصا منه على هداهم قال : مالى لا أدعوهم رجاء أن تنكشف تلك الأكنة ، وتمزّق بيد الدعوة ، فقيل له ـ وأنى لك ذلك؟ فإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا أبدا.

وقد جاءت هذه الآية فى قوم علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركى مكة.

ثم بين أنه سبحانه لا يعجّل العقوبة لعباده على ما يجترحون من الفسوق والآثام رجاء أن ينيبوا إليه فقال :

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) أي وربك أيها الرسول غفور لذنوب عباده ، ذو رحمة واسعة بهم ، إذا هم أنابوا إليه ورجعوا إلى رحاب عفوه وجوده وكرمه ، فيرحمهم واسع الرحمات ، ويتجاوز لهم عن عظيم الخطيئات ، ولو شاء أن يؤاخذهم بما اجترحوا من المعاصي كإعراضهم عن آياته ، ومناصبتهم العداء لرسله ، ومجادلتهم بالباطل ـ لعجل لهم العذاب فى الدنيا وأنزل بهم عذاب الاستئصال جزاء وفاقا لقبيح أعمالهم.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وقوله : «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» إلى نحو ذلك من الآيات الكثيرة فى هذا الباب.

١٦٩

ثم أبان أن هذا إمهال لا إهمال فقال :

(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي بل لهم موعد ليس لهم منه محيص ولا ملجأ يلجئون إليه من عذابه.

ثم ذكر ما هو كالدليل على ما سلف فقال :

(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكناهم لما ظلموا فكفروا بآياتنا ، وجعلنا لهلا كهم ميقاتا وأجلا حين بلغوه جاءهم عذابنا فأهلكناهم به ، وهكذا جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك الذين لا يؤمنون بك موعدا لهلاكهم إذا جاء أهلكناهم كما هى سنتنا فى الذين خلوا من قبلهم من أضرابهم من سالفى الأمم.

قصة موسى والخضر

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨)

١٧٠

قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)).

مقدمات تشرح هذا القصص

(١) من موسى؟

أكثر العلماء على أن موسى الذي ذكر فى هذه الآية هو موسى بن عمران نبىّ بنى إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة والشريعة الباهرة ، ولهم على ذلك أدلة :

(ا) إنه ما ذكر الله موسى فى كتابه إلا أراد صاحب التوراة ، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ، ولو كان شخصا آخر سمّى بهذا الاسم لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وتزيل الشبهة.

(ب) ما أخرجه البخاري ومسلم فى جماعة آخرين عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس رضى الله عنهما : إن نوفا البكالي بن فضالة ابن امرأة كعب من أصحاب أمير المؤمنين على كرم الله وجهه ، يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بنى إسرائيل ، فقال كذب عدو الله.

وذهب أهل الكتاب وتبعهم بعض المحدّثين والمؤرخين أن موسى هنا هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران ولهم على ذلك أدلة :

١٧١

(ا) إن موسى بعد أن أنزلت عليه التوراة وكلمه الله بلا واسطة ، وحجّ خصمه بالمعجزات العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر الأنبياء ـ يبعد أن يبعثه الله بعد ذلك ليستفيد علما من غيره ـ وردّ هذا بأنه لا يبعد بأن العالم الكامل فى أكثر العلوم يجهل بعد أشياء ، فيحتاج فى تعلمها إلى من دونه ، وهذا مشاهد معلوم.

(ب) إن موسى عليه السلام بعد خروجه من مصر وذهابه إلى التيه توفّى ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته ، ولو كانت هذه القصة معه لا قتضت خروجه من التيه ، لأنها لم تكن وهو فى مصر بالاتفاق.

(ح) إنها لو كانت معه لا قتضت غيبته أياما ، ولو كان كذلك لعلمها الكثير من بنى إسرائيل الذين كانوا معه ونقلت لتوافر الدواعي على نقلها ، ولم يكن شىء من ذلك ، فإذا لم تكن معه ـ وردّ هذا بأنه قد يكون موسى عليه السلام خرج وغاب أياما ، لكن لم يعلموا أنه ذهب لهذا الغرض ، بل ذهب ليناجى ربه ، ولم يقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع ، لعلمه بقصور فهمهم ، فخاف من حط قدره عندهم ، فأوصى فتاه بكتمان ذلك.

وعلى الجملة فإنكارهم لا يؤبه به ، وهو جائز عقلا وقد أخبر به سبحانه رسوله

(٢) من فتاه؟

فتى موسى ـ هو يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام ، وقد كان يخدمه ويتعلم منه ، والعرب تسمى الخادم فتى ، لأن الخدم أكثر ما يكونون فى سن الفتوّة كما يطلقون على العبد فتى ، وفى الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاى وفتاتى ، ولا يقل عبدى وأمتى» وهذا من محاسن الآداب الشرعية.

(٣) من الخضر؟

الخضر (بفتح الخاء وكسرها وكسر الضاد وسكونها) لقب لصاحب موسى ، واسمه بليا (بفتح الباء وسكون اللام) ابن ملكان ، والأكثرون على أنه كان نبيا ، ولهم على ذلك أدلة :

١٧٢

(ا) قوله : «آتيناه رحمة من عندنا» والرحمة : النبوة بدليل قوله :

«أهم يقسمون رحمة ربّك».

(ب) قوله «وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» وهذا يقتضى أنه علّمه بلا واسطة معلم ولا إرشاد مرشد ، وكل من كان كذلك كان نبيا.

(ح) إنه قال له موسى : «هل أتبعك على أن تعلّمن» والنبي لا يتعلم من غير النبي.

(د) إنه قال : «وما فعلته عن أمرى» أي بل قد فعلته بوحي من الله وهذا دليل النبوة.

(٤) أين كان مجمع البحرين؟

مجمع البحرين ـ هو المكان الذي يجتمع فيه البحران ويصيران بحرا واحدا ، وفيه رأيان :

(ا) إنه ملتقى بحرى فارس والروم (ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند باب المندب).

(ب) إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطى عند طنجة قاله محمد بن كعب القرظي (البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسى عند مضيق جبل طارق أمام طنجة).

وسيأتى رأى آخر للبقاعى.

وليس فى الكتاب الكريم ما يدل على تعيين هذين البحرين ، فإن جاء فى الخبر الصحيح شىء فذاك ، وإلا فيجمل السكوت عنه.

تفسير المفردات

لا أبرح : أي لا أزال سائرا ، والحقب (بضمتين وبضم فسكون) الدهر ، وقيل ثمانون سنة ، وعن الحسن سبعون ، مجمع بينهما ، أي مكان اجتماعهما ، سربا :

١٧٣

أي مسلكا كالسرب : وهو النفق فصار الماء عليه كالقنطرة ، والغداء : الطعام الذي يؤكل أول النهار والمراد به هنا الحوت ، نصبا : أي تعبا وإعياء ، أوينا : أي التجأنا نبغى : نطلب ، ارتد : رجع ، على آثارهما : أي على طريقهما الذي جاءا منه ، قصصا : أي اتباعا من قولهم أثره إذا اتبعه ، رحمة : هى النبوة هنا ، الرشد (بضم فسكون وبفتحتين) إصابة الخير ، والإحاطة بالشيء : معرفته معرفة تامة ، والخبر : المعرفة ، وذكرا : أي بيانا ، إمرا : (بكسر الهمزة) أي منكرا : من أمر الأمر بمعنى كثر ، والعرب تصف الدواهي بالكثرة ، لا ترهقنى : أي لا تحملني ، والعسر : ضد اليسر وهو المشقة ، زكية : أي طاهرة من الذنوب ، بغير نفس : أي بغير حق قصاص لك عليها ، والنكر : المنكر الذي تنكره العقول وتنفر منه النفوس.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه قصص المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأنصار ، وامتنعوا عن حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم ، لئلا يشتركوا مع أولئك الصعاليك فى مجلس واحد ، ولئلا يؤذوهم بمناظرهم البشعة ، وروائحهم المستقذرة ـ قفّى على ذلك بذكر قصص موسى عليه السلام مع الخضر ، ليبيّن بها أن موسى مع كونه نبيا صادقا أرسله الله إلى بنى إسرائيل بشيرا ونذيرا وهو كليم الله ـ أمر أن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه مالم يعلمه ، وفى ذلك دليل على أن التواضع خير من التكبر.

روى البخاري ما خلاصته ـ إن موسى عليه السلام قام فى بنى إسرائيل خطيبا فسئل : أىّ الناس أعلم؟ فقال أنا ، فعتب عليه ربه ، إذ لم يردّ العلم إليه تعالى فأوحى إليه : إن لى عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، وأمره أن يأخذ حوتا فى مكتل ، فحيثما فقد الحوت فهو ثمّة ، ففعل ذلك ، وسافر مع فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا صخرة فناما فاضطرب الحوت وسقط فى البحر ـ فاتخذ سبيله فى البحر

١٧٤

سربا ـ وصار الماء كالطاق عليه وهو يجرى ، فلما استيقظ موسى نسى صاحبه أن يخبره بالحوت ، وانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، فلما كان الغد طلب موسى الغداء ووجد النّصب ، ولم ذلك إلا بعد أن جاوزا المكان الذي أمره الله به ، فقال فتاه : إنى نسيت الحوت وذكر ما كان من أمره عند الصخرة ، فارتدا على آثارهما قصصا ، حتى انتهيا إلى الصخرة فوجدا رجلا مسجّى بثوب أبيض ، وكان من أمر هما ما سترى من مسألة السفينة والغلام والجدار.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي واذكر أيها الرسول حين قال موسى بن عمران لفتاه يوشع : لا أزال أمشى حتى أبلغ مكان اجتماع البحرين أو أسير دهرا.

وسبب قوله هذا : أن الله أوحى إليه أن عبدا من عبادى بمجمع البحرين عنده من العلم مالم تحط به ، فأحبّ أن يرحل إليه.

وخلاصة ذلك ـ إن الله أعلم موسى حال هذا العالم وما أعامه موضعه بعينه ، فقال لا أزل أمشى حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضى دهرا طويلا حتى أجده.

ومجمل الأمر أنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم فى السفر مهما طال به الزمان.

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أي فانطلقا يمشيان ، فلما بلغا مجمع بينهما وهو المكان الذي وعده الله بلقائه عنده ـ نسيا حوتهما فاتخذ الحوت طريقه فى البحر مسلكا وصار الماء كالقنطرة عليه ، فكان ذلك للحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا.

ولا شك أن حياة الحوت بعد موته كانت لموسى معجزة ، وأما كون ماء البحر

١٧٥

صار كالقنطرة عليه أو كأى وضع آخر ، فليس بالواجب علينا أن نعتقده إلا إذا ثبت بالنص القاطع.

روى أن موسى عليه السلام أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له : متى فقدت الحوت فهو ثمة ، فأخذ حوتا وجعله فى مكتل (قفة) ثم انطلق ومعه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين ناما واضطرب الحوت فى المكتل وخرج منه وسقط فى البحر.

روى البخاري ومسلم أن الله تعالى قال لموسى : خذ نونا (حوتا) ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح ، فأخذ ذلك فجعله فى مكتل ، وقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال : ما كلفت كثيرا ، فبينما هما فى ظل صخرة إذ تسرّب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه : لا أوقظه ، حتى إذا استيقظ نسى أن يخبره.

وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس : جعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا ييس حتى يكون صخرة.

وحدث محمد بن إسحاق عن الزهري عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين ذكر حديث ذلك : «ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير الحوت الذي فيه ، فانجاب كالكوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه ، فقال ذلك ما كنا نبغ».

(فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي فلما جاوزا ذلك المكان المقصود من مجمع البحرين ، وسارا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى بالجوع ، حينئذ قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا تعبا ونصبا من ذلك السفر.

وقد كان من الحكمة فى حصول الجوع والتعب له حين جاوز المكان أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمن يريد.

١٧٦

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي قال له فتاه : أرأيت ما حدث لى حين التجأنا إلى الصخرة التي بمجمع البحرين؟ إنى نسيت أن أخبرك بما حدث من الحوت ، إنه حىّ واضطرب ووقع فى البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا. وذاك أن مسلكه كان كالطاق والسّرب ـ وما أنسانى ذكره إلا الشيطان.

(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي قال موسى : ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت ما كنا نطلبه من حيث إنه أمارة للفوز بما هو المقصود بالذات.

(فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي فرجعا فى الطريق الذي جاءا فيه يتبعان أثرهما اتباعا حتى أتيا الصخرة.

قال البقاعي ـ إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة فيها ، فالظاهر والله أعلم أنها مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر ، ويؤيده نقر العصفور فى البحر الذي ركب فيه سفينته للتعدية كما ورد فى الحديث ، فإن الطير لا يشرب من الماء الملح اه.

وخلاصة ما تقدم ـ إنه تعالى بيّن لموسى عليه السلام أن موضع هذا العالم مجمع البحرين ، وأن علامة وجوده فى المكان المعين انقلاب الحوت الميت الذي فى المكتل حيا ، فلما بلغا مجمع بينهما اضطرب الحوت فيه ووثب فى الماء وقد أمسك الله إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق أو الكوّة حتى سرى الحوت فيه ، فلما جاوز موسى وفتاه المكان المعين وهو الصخرة بسبب النسيان ، وسارا كثيرا وتعبا وجاعا قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، قال الفتى : أرأيت ما وقع لى من الحوت حين لجأنا إلى الصخرة فاتخذ سبيله فى البحر اتخاذا عجبا إذا انقلب من المكتل وصار حيا وألقى نفسه فى البحر على غفلة منى ، وإنى نسيت أن أبلغك خبره ، وما أنسانى ذكره إلا الشيطان ، قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه ، لأنه أمارة الظفر

١٧٧

بالمطلوب وهو لقاء الخضر ، فرجعا فى طريقهما الأولى ، إذ علما أنهما تجاوزا الموضع الذي يقيم فيه ذلك العالم.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟) أي فوجد موسى وفتاه عند الصخرة حين رجعا إليها عبدا من عبادنا وهو الخضر مسجى بثوب أبيض ، فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام؟ فقال أنا موسى. قال موسى بنى إسرائيل؟ قال نعم. قال هل أصحبك لتعلمنى مما علمك الله شيئا أسترشد به فى أمرى من علم نافع وعمل صالح؟.

(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يا موسى ، فإنى على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من الله ، علّمكه لا أعلمه.

ثم أكد ذلك مشيرا إلى علة عدم الاستطاعة فقال :

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟) أي وكيف تصبر وأنت نبى على ما أتولى من أمور ظواهرها منكرة ، وبواطنها مجهولة ، والرجل الصالح لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك ، بل يبادر بالإنكار.

(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) معك غير منكر عليك.

(وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) تأمرنى به غير مخالف لظاهر أمر الله.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي قال له الخضر : إن سرت معى فلا تفاتحنى فى شىء أنكرته علىّ حتى أبتدى بذكره فأبين لك وجه صوابه ، فإنى لا أقدم على شىء إلا وهو صواب جائز فى نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك ، فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أي فانطلقا يمشيان على الساحل يطلبان سفينة فوجداها ، فعرف أهلها الخصر من بينهم فحملوهم بغير أجر ، حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها حين توسطوا لجّة البحر ، إذ أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من ألواح السفينة.

١٧٨

(قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً؟) أي قال موسى للخضر : لقد جئت عظيما منكرا ، ثم أخذ موسى ثوبه فحشا به الخرق.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي قال الخضر : ألم أقل لك يا موسى إنك لن تستطيع صبرا معى فيما ترى مما أفعل.

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي قال موسى للخضر لا تؤاخذني بما غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك ، ولا تكلفنى مشقة ، ولا تضيق علىّ أمرى ، ولا تعسّر علىّ متابعتك ، بل يسرها بالإغضاء وترك المناقشة.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) أي فانطلقا بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب ، يمشيان على الساحل فأبصر الخضر غلاما يلعب مع لداته وأترابه فقتله ، ولم يبين القرآن كيف قتله : أحزّ رأسه أم ضرب رأسه بالجدار ، أم بطريق آخر؟ وعلينا ألا نهتم بذلك ، إذ لو علم الله فيه خيرا لنا لذكره.

(قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟) أي قال موسى عليه السلام للخضر :

أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب بغير قتل نفس محرمة؟ وخص هذا من بين مبيحات القتل كالكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، لأنه أقرب إلى الوقوع نظرا إلى حال الغلام.

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي لقد جئت شيئا تنكره العقول وتنفر منه النفوس.

وأتى هنا بقوله (نكرا) وهناك بقوله (إمرا) لأن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة ، لأن هذا لم يكن إهلاكا لنفس ، إذ ربما لا يحصل الغرق ، وفى هذا إتلاف النفس قطعا ، فكان أنكر.

وإلى هنا تم تفسير الجزء الخامس عشر فى الليلة السادسة عشرة من شعبان المعظم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

١٧٩

فهرس

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

آراء العلماء فى الإسراء........................................................... ٥

إلمامة فى المعراج.................................................................. ٨

عظة وذكرى فيما يستخلص من الإسراء والمعراج................................... ٩

سلط الفرس على بنى إسرائيل مرتين.............................................. ١٥

صفات القرآن................................................................. ١٧

لكل امرئ كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة........................................ ٢٣

الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم أصناف ثلاثة........................... ٢٥

شعائر الإيمان.................................................................. ٣٣

ما جاء فى بر الوالدين من الأحاديث.............................................. ٣٦

«ما عال من اقتصد»........................................................... ٤٠

مفاسد الزنا.................................................................... ٤٢

الحكمة فى تحريم قتل النفس...................................................... ٤٣

فى الحديث : «أعوذ بك من شر سمعى وشر بصرى وشر قلبى وشر منى»............. ٤٦

إنكار المشركين للبعث وشبهاتهم على ذلك....................................... ٥٤

ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا فى القبر ولا فى الحشر............. ٥٧

«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»................................... ٥٩

فى الحديث «سلوا الله لى الوسيلة»............................................... ٦٣

كان الإسراء فتنة للناس واختبارا لإيمانهم.......................................... ٦٦

١٨٠