تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

ثم بين السبب فى عدم إجابتهم إلى ما طلبوا من الجنات والعيون بأنهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبقوا على شحّهم فقال :

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) المراد من الإنفاق هنا الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ، وروى نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب فقال : يقال أنفق فلان إذا افتقر ، وقال أبو عبيدة : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى ، أي قل لهم أيها الرسول : لو أنكم تملكون التصرّف فى خزائن الله لأمسكتم خشية الفقر : أي خشية أن تزول وتذهب مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا.

وقصارى ذلك ـ إنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على والشح والبخل ، وفى هذا إيماء إلى أن الله لا يجيبكم إلى ما طلبتم من نبيه صلى الله عليه وسلّم من بساتين وعيون تنبع ، لا بخلا منه ، ولكن اقتضت الحكمة أن يكون نظام الدنيا هكذا ، ولا رقىّ للإنسان إلا على هذا المنوال ، فهو يوسّع الرزق على قوم ويضيّقه على آخرين على مقتضى الحكمة والمصلحة ، ومن ثم لم ينزل ما اقترحتموه.

(وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي وكان الإنسان بخيلا منوعا بطبعه كما قال «أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون النّاس نقيرا» أي لو أن لهم نصيبا فى ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير.

وقد روى البخاري ومسلم «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء (أخذ) الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما فى يمينه».

وإجمال المعنى ـ إن الله لم يجب محمدا إلى ما طلبتم ، لا هوانا لنبيه ، ولا لأنه ليس بنبي ، ولا بخلا منه (حاشاه) بل لحكمة منه ، فر بما كانت وفرة العطاء إذا نزلت على غير وجهها مصايب على الناس ، فأما أنتم فمنعكم يجرى على طريق البخل ، فلو سلم لكم السموات والأرض وادّارستموها لم تفهموا إلا الإمساك ، ومن ثم لا يسلمكم مفاتيح خزائنه ، لئلا تمسكوا المال لأنفسكم ولا تنفعوا خلقه.

١٠١

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

تفسير المفردات

مسحورا : أي مخبول العقل ، بصائر : أي حججا وبينات واحدها بصيرة أي مبصرة بينة ، مثبورا : أي هالكا كما روى عن الحسن ومجاهد ، قال الزجاج : يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك ، ويقال فلان يدعو بالويل والثبور حين تصيبه المصيبة ، كما قال تعالى : «دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا» أن يستفزهم : أي أن يخرجهم بالقتل أو أن يزيلهم عنها ، واللفيف : الجمع العظيم من أخلاط شتى ، من شريف ودنىء ، ومطيع وعاص ، وقوى وضعيف ، وكل شىء خلطته بغيره فقد لففته.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف ما اقترحوه من الآيات وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقترحوا على الله شيئا ـ ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم وأعظم منه ، ولم تجد فرعون وقومه شيئا ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات ، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم ، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج أهلككم كما أهلك

١٠٢

فرعون بالغرق ، وفى ذلك تسلية لرسوله بذكر ما جرى لموسى مع فرعون ، وما جوزى به فرعون وقومه.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي ولقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على صحة نبوته وصدقه حين أرسل إلى فرعون وقومه ، فلم يؤمنوا بها كما قال تعالى (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) وقال (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).

وقد ذكر سبحانه فى كتابه العزيز ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام.

(١) إنه أزال العقدة من لسانه ، أي أذهب العجمة عن لسانه وصار فضيحا.

(٢) انقلاب العصا حية.

(٣) تلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها.

(٤) اليد البيضاء.

(٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩) الطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم.

(١٠) شق البحر.

(١١) انفلاق الحجر فى قوله (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ).

(١٢) إظلال الجبل فى قوله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ).

(١٣) إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه.

(١٤ ، ١٥) الجدب ونقص الثمرات فى قوله (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ).

(١٦) الطمس على أموالهم من الحنطة والدقيق والأطعمة.

وقد اختلفوا فى المراد من هذه التسع. أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور

١٠٣

وابن جرير وابن المنذر من طرق عدة عن ابن عباس إنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون ونقص الثمرات.

وقيل المراد بالآيات الأحكام ، فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه «أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله ، فأتياه صلى الله عليه وسلّم فسألاه عن قول الله تعالى «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات» فقال عليه الصلاة والسلام : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تقلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذى سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا مخصنة ، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا فى السبت ، فقبّلا يده ورجله وقالا نشهد إنك نبى ، قال فما يمنعكا أن تسلما؟ قالا إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبى ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود».

قال الشهاب الخفاجي : وهذا هو التفسير الذي عليه المعوّل فى الآية.

ثم خاطب نبيه فقال :

(فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فاسأل بنى إسرائيل الذين كانوا فى عصرك وآمنوا بك كعبد الله بن سلام وأصحابه سؤال استشهاد ، لتزيد طمأنينتك ويقينك ، ولتعلم أن ذلك محقق ثابت عندهم فى كتابهم.

(إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي فاسألهم يخبروك ، لأنه جاءهم أي جاء آباءهم بهذه الآيات وأبلغها فرعون ، فقال له فرعون : إنى لأظنك يا موسى مخلّط العقل ، ومن ثم ادّعيت ما ادعيت ، مما لا يقول مثله كامل العقل ، حصيف الرأى.

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي قال موسى لفرعون : لقد علمت يا فرعون ما أنزل الله هذه الآيات التسع التي أريتكها إلا حجة لى على حقيقة ما أدعوك إليه ، وشاهدة لى على صدقى وصحة قولى إنى رسول الله ، بعثني بها رب السموات والأرض ، لأنه هو الذي يقدر عليها وعلى أمثالها ، وهى بصائر لمن

١٠٤

استبصر بها ، وهدى لمن اهتدى بها ، يعرف من رآها أن من جاء بها فهو محق ، وأنها من عند الله لا من عند غيره ، إذ كانت معجزة لا يقدر عليها إلا رب السموات والأرض.

(وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي وإنى لأظنك يا فرعون مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر.

(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وبنى إسرائيل من أرض مصر بقتلهم واستئصالهم بحيث لا يبقى منهم أحدا ، فعكسنا عليه مكره وأغرقناه فى البحر ومن معه من جنده جميعا ، فأخرجناه من أرضه أفظع إخراج.

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي ونجينا موسى وبنى إسرائيل وقلنا لهم من بعد هلاك فرعون : اسكنوا أرض الشام وهى الأرض المقدسة التي وعدتهم بها.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي فإذا جاءت الساعة الآخرة حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة مختلطين أنتم وهم ، ثم نحكم بينكم وبينهم ، ونميز سعداءكم من أشقيائكم.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا

١٠٥

تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

تفسير المفردات

الحق : هو الثابت الذي لا يزول ، والقرآن مشتمل على كثير من ذلك كدلائل التوحيد وتعظيم الملائكة ونبوة الأنبياء وإثبات البعث والقيامة ، وفرقناه : أي أنزلناه مفرقا منجما ، والمكث (بالضم والفتح) : التؤدة والتأنى ، والخرور : السقوط بسرعة ، والأذقان واحدها ذقن : وهو مجتمع اللحيين ، ادعوا الله أو ادعوا الرحمن : أي سموه بهذين الاسمين ، خفت الرجل بقراءته : إذا لم يبينها برفع الصوت ، وتخافت : القوم تسارّوا فيما بينهم.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أن القرآن معجز دالّ على صدق الرسول بقوله «قل لئن اجتمعت الإنس والجن» الآية ، ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز ، بل طلبوا معجزات أخرى ، وأجابهم ربهم بأنه لا حاجة إلى شىء سواه ، وبأن موسى أتى فرعون وقومه بتسع آيات فجحدوا بها فأهلكوا ، فلو أتاكم محمد صلى الله عليه وسلّم بتلك المعجزات التي اقترحتموها ثم كفرتم بها أنزل عليكم عذاب الاستئصال ولم يكن ذلك من الحكمة التي أرادها ، لعلمه أن منكم من يؤمن ومنكم من لا يؤمن ، ولكن سيظهر من نسله من يكون مؤمنا ـ عاد هنا إلى تعظيم حال القرآن وجلالة قدره ، وبيان أنه هو الثابت الذي لا يزول ، وأنه أنزله على نبيه مفرّقا ليسهل حفظه وتعرف دقائق أسراره ، وأنكم سيان آمنتم به أولم تؤمنوا ، فإن من قبلكم من أهل الكتاب إذا تلى

١٠٦

عليهم خروا له سجّدا وبكيّا ؛ ثم أردف ذلك ببيان أنكم إن ناديتم الله أو ناديتم الرحمن فالأمران سواء ثم قفّى على ذلك بطلب التوسط فى القراءة فى الصلاة بين الجهر والخفوت ، ثم أمر نبيه أن يقول حين الدعاء : الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا.

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : «صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم ، فدعا الله تعالى فقال فى دعائه : يا الله يا رحمن ، فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابىء ، ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزل (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية.

وعن الضحاك أنه قال : قال أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إنك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله فى التوراة هذا الاسم فنزلت.

الإيضاح

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي وأنزلنا عليك القرآن متضمنا للحق ، ففيه أمر بالعدل والإنصاف ومكارم الأخلاق ، ونهى عن الظلم والأفعال الذميمة ، وذكر براهين الوحدانية وحاجة الناس إلى الرسل ، لتبشيرهم وإنذارهم وحثهم على صالح الأعمال ، انتظار ليوم الحساب والجزاء.

(وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي ونزل إليك محفوظا محروسا لم يشب بغيره ، فلم يزد فيه ولم ينقص ، وقد يكون المراد ونزل إليك مع الحق وهو شديد القوى الأمين المطاع فى الملأ الأعلى جبريل عليه السلام.

وبعد أن مدح الكتاب مدح من أنزل عليه فقال :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي وما أرسلناك أيها الرسول إلى من أرسلناك إليهم من عبادنا إلا مبشرا بالجنة من أطاعنا فانتهى إلى أمرنا ، ومنذرا لمن عصانا فخالف ذلك.

١٠٧

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أي وآتيناك قرآنا فرقناه أي نزلناه مفرّقا منجّما ، وقد بدىء بإنزاله ليلة القدر فى رمضان ، ثم أنزل نجوما فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع.

وسر نزوله هكذا بعضه إثر بعض أن تقرأه على الناس بتؤدة وتأنّ ليسهل عليهم حفظه ويكون ذلك أعون على تفهم معناه.

أخرج البيهقي فى الشّعب عن عمر رضى الله عنه أنه قال : تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات ، فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا ، وكذلك أخرج ابن عساكر عن أبى سعيد الخدري ، والمراد أن الغالب كذلك ، فقد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه.

وفائدة قوله : ونزلناه تنزيلا بعد قوله فرقناه ـ بيان أن ذلك التنزيل لمقتض وهو التنزيل بحسب الحوادث.

ثم هددهم سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم بقوله :

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي قل لهؤلاء الضالين القائلين لك : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ـ آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يأتوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ـ أو لا تؤمنوا به ، فإن إيمانكم به لن يزيد فى خزائن رحمة الله ، ولا ترككم للايمان به ينقص ذلك.

ثم علل عدم المبالاة بهم ، واحتقار شأنهم ، بقوله :

(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً. وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) أي وإن تكفروا به فإن العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من قبل نزول القرآن ، وعرفوا أن الله سيبعث نبيا ـ يخرون لله سجّدا ، شكرا له على إنجاز وعده بإرسالك ، حين يتلى عليهم هذا القرآن ، ويقولون فى سجودهم ، تنزه ربنا عن خلف الوعد إنه كان وعده آتيا لا محالة.

والخلاصة ـ إنكم إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم ، وفيه تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وازدراء لشأنهم.

١٠٨

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) أي ويخرّون للأذقان باكين من خشية الله إذا يتلى عليهم ، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعظ خشوعا وخضوعا لأمره وطاعته.

وقد جاء فى مدح البكاء من خشية الله أخبار كثيرة ؛ فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : «عبنان لا تمسّنهما النار ، عين بكت من خشية الله تعالى ، وعين باتت تحرس فى سبيل الله تعالى».

وأخرج مسلم والنسائي عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن فى الضرع ، ولا اجتمع على عبد غبار فى سبيل الله ودخان جهنم».

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التميمي أنه قال إن من أوتى من العلم مالم يبكه لخليق أن قد أوتى من العلم مالا ينفعه ، لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال (ويخرون للأذقان يبكون).

ثم رد على المشركين المنكرين إطلاق اسم الرحمن عليه عزّ وجلّ فقال :

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك الذين أنكروا اسم الرحمن سمّوا الله أيها القوم أو سموا الرحمن ، فبأى أسمائه جل جلاله تسمونه فهو حسن ، لأن كل أسمائه حسنى ، إذ فيها التعظيم والتقديس لأعظم موجود ، وهو خالق السموات والأرض وهذان الاسمان منها.

روى مكحول «أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقول فى سجوده : يا رحمن يا رحيم ، فقال إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو اثنين فأنزل الله الآية».

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالتوسط فى القراءة ، فلا يجهر بصوته ولا يخافت به فقال :

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي ولا تجهر بقراءتك

١٠٩

فيسمع المشركون فيسبّوا القرآن ، ولا تخافت بها عن أصحابك ، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك ، بل ابتغ طريقا بين الجهر والمخافتة.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال : «نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مختف بمكة (يصلى خفية) فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به».

وروى أن أبا بكر رضى الله عنه كان يخفت فى قراءته ويقول أناجى ربى وقد علم حاجتى ، وعمر كان يجهر بها ويقول : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا ، وعمر أن يخفض قليلا.

ولما أمر سبحانه رسوله ألا يناديه إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد بقوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) أي وقل لله ذى الجلال والكمال : لك الحمد والشكر على ما أنعمت على عبادك من واسع النعم.

وقد وصف سبحانه نفسه بثلاث صفات :

(١) إنه لم يتخذ ولدا ، فإن من يتخذ الولد يمسك جميع النعم لولده ، ولأن الولد يقوم مقام الوالد بعد انقضاء أجله وفنائه ـ تنزه ربنا عن ذلك ـ ومن كان كذلك لم يستطع الإنعام فى كل الحالات ، فلا يستحق الحمد على الإطلاق.

وفى هذا رد على اليهود الذين قالوا عزيز ابن الله ، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله ، تعالى الله عما يقولونه علوا كبيرا.

(٢) إنه ليس له شريك فى الملك ، إذ لو كان له ذلك لم يعرف أيهما المستحق للحمد والشكر ، ولكان عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره ، ولم يكن منفردا بالملك والسلطان.

١١٠

(٣) إنه لم يكن له ولىّ من الذل أي لم يوال أحدا من أجل مذلة به يدفعها بموالاته.

والخلاصة ـ إنه ليس له ولد يحبس نعمه عليه ، وليس له شريك يقف أعماله فى الملك ، ولا ناصر يدفع العدو المذلّ له ، وإذا تنزه ربنا عن ذلك فقد أمن الناس نضوب موارده ، وأصبحت أبوابه مفتّحة لكل قاصد ، فلتغترف أيها العبد من مناهله ، ولتعلم أنه لا يحابيك لأجل أهلك ولا نسلك ولا دينك ، ولو كنت ابن نبى من الأنبياء أو عظيم من العظماء.

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي وعظّم ربك أيها الرسول بما أمرناك أن تعظمه به من قول أو فعل ، وأطعه فيما أمرك به ونهاك عنه.

وتكبيره تعالى وتنزيهه يكون :

(١) بتكبيره فى ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته ، وأنه غنى عن كل موجود.

(٢) بتكبيره فى صفاته باعتقاد أنه مستحق لكل صفات الكمال منزه عن صفات النقص.

(٣) بتكبيره فى أفعاله ، فتعتقد أنه لا يجرى شىء فى ملكه إلا وفق حكمته وإرادته.

(٤) بتكبيره فى أحكامه ، بأن تعتقد أنه ملك مطاع ، له الأمر والنهى ، والرفع والخفض ، وأنه لا اعتراض لأحد عليه فى شىء من أحكامه ، يعزّ من يشاء ، ويذل من يشاء.

(٥) تكبيره فى أسمائه ، فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ، ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة.

روى أحمد فى مسنده عن معاذ الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول «آية العز (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية» وعن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله فى السراء والضراء».

وأخرج عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبى أمية قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلم الغلام من بنى هاشم إذا أفصح ، الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات».

١١١

مجمل ما حوته السورة من الأغراض

(١) الإسراء من مكة إلى بيت المقدس.

(٢) تاريخ بنى إسرائيل فى حالى الارتقاء والانحطاط.

(٣) حكم وعظات للأمة الإسلامية يجب أن تراعيها حتى لا تذهب دولها كما ذهبت دولة بنى إسرائيل.

(٤) بيان أن كل ما فى السموات والأرض مسبّح لله.

(٥) الكلام فى البعث مع إقامة الأدلة على إمكانه.

(٦) الرد على المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة من الأوثان والأصنام.

(٧) الحكمة فى عدم إنزال الآيات التي التي اقترحوها على محمد صلى الله عليه وسلّم.

(٨) قصص سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس من ذلك.

(٩) تعداد بعض نعم الله على عباده.

(١٠) طلب المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يوافقهم فى بعض معتقداتهم وإلحافهم فى ذلك.

(١١) أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بإقامة الصلاة والتهجد فى الليل.

(١٢) بيان إعجاز القرآن وأن البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله.

(١٣) قصص موسى مع فرعون.

(١٤) الحكمة فى إنزال القرآن منجما.

(١٥) تنزيه الله عن الولد والشريك والناصر والمعين.

١١٢

سورة الكهف

هى مكية كلها فى المشهور واختاره جمع من العلماء ، وآيها مائة وإحدى عشرة.

ومناسبتها ما قبلها من وجوه.

(١) إن سورة الإسراء افتتحت بالتسبيح ، وهذه بالتحميد ، وهما مقترنان فى سائر الكلام فى نحو «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» ونحو سبحان الله وبحمده.

(٢) تشابه ختام السالفة وافتتاح هذه ، فإنّ كلا منهما حمد.

(٣) إنه ذكر فى السابقة قوله : «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً» والخطاب فيها لليهود ، وذكر هنا قصة موسى نبىّ بنى إسرائيل مع الخضر عليهما السلام وهى تدل على كثرة معلومات الله التي لا تحصى ، فكانت كالدليل على ما تقدم.

(٤) إنه جاء فى السورة السابقة : «فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا» ثم فصل ذلك هنا بقوله : «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» إلى قوله : «وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى

١١٣

الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

تفسير المفردات

العوج : (بالكسر والفتح) : الانحراف والميل عن الاستقامة ، فلا خلل فى لفظه ولا فى معناه ، قيما : أي معتدلا لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ، ولا تفريط فيه بإهمال ما تمس الحاجة إليه ، والبأس : العذاب الشديد فى الآخرة ، من لدنه : أي من عنده ، كبرت : (بضم الباء) كلمة : أي ما أعظمها مقالة قيلت ، وهذا أسلوب فى الكلام يدل على التعجب والاستغراب مما حدث من قول أو فعل ، باخع : أي قاتل (منتحر) قاله ابن عباس وأنشد قول لبيد :

لعلك يوما إن فقدت مزارها

على بعده يوما لنفسك باخع

على آثارهم : أي من بعدهم أي من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه ، والحديث : هو القرآن ، والأسف : المبالغة فى الحزن والغضب ، وصعيدا : أي ترابا ، وجرزا : أي لا نبات فيه.

الإيضاح

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) حمد الله نفسه على إنزاله كتابه العزيز إلى رسوله صلى الله عليه وسلّم ، لأنه أعظم نعمة أنزلها على أهل الأرض ، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، وجعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ ، بل يهدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

وخلاصة ذلك ـ إنه تعالى أنزل الكتاب على عبده محمد صلى الله عليه وسلّم

١١٤

مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، بل بعضه يصدّق بعضا ، وبعضه يشهد لبعض ، ولا اعوجاج فيه ، ولا ميل عن الحق.

(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي ليخوّف الذين كفروا به عذابا شديدا صادرا من عنده أي نكالا فى الدنيا ونار جهنم فى الآخرة.

(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) أي ويبشر المصدقين الله ورسوله الذين يمتثلون أوامره ونواهيه ـ بأن لهم ثوابا جزيلا منه على إيمانهم به وعملهم الصالح فى الدنيا ، وذلك الثواب الجزيل هو الجنة التي وعدها الله المتقين خالدين فيها أبدا لا ينتقلون منها ولا ينقلون.

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي وليحذّر من بين هؤلاء الكفار من قالوا هذه المقالة الشنعاء ـ إن الله اتخذ ولدا ، وهؤلاء ثلاث طوائف.

(١) المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله.

(٢) اليهود القائلون عزيز ابن الله.

(٣) النصارى القائلون المسيح ابن الله.

وإنما خص هؤلاء مع دخولهم فى الإنذار السابق لفظاعة حالهم ، وشناعة كفرهم وضلالهم.

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم باتخاذ الولد برهان ، بل هو قول لم يصدر عن علم يؤيده ، ولا عقل يظاهره.

(وَلا لِآبائِهِمْ) أي وكذلك ليس لآبائهم الذين قالوا مثل هذه المقالة وهم القدوة لهم ـ به علم.

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي عظمت مقالتهم هذه فى الكفر ، وليتهم اكتفوا بخطورها بالبال ، وترددها فى الصدور ، بل تلفظوا بها على مرأى من الناس ومسمع ، وكثير مما يوسوس به الشيطان وتحدّث به النفس لا يتلفّظ به ، بل يكتفى

١١٥

بما يعتقده القلب ، فكيف ساغ لهم أن يجرءوا على التلفظ بهذا المنكر الذي لا مستند له من عقل ولا نقل؟.

ثم أكد هذا الإنكار وبين أنه كما لا علم لهم ولآبائهم به ـ لا علم لأحد به ، لأنه لا وجود له ، وما هو إلا محض اختلاق بقوله :

(إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون إلا قولا لا حقيقة له بحال.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) لعل هنا للاستفهام الإنكارى المتضمن معنى النهى ـ أي لا تبخع نفسك من بعد توليهم عن الإيمان وإعراضهم عنه أسفا وحسرة عليهم.

أي إنك قد اشتد وجدك عليهم ، وبلغت حالا من الأسى والحسرة صرت فيها أشبه بحال من يحدّث نفسه أن يبخعها أسى وحسرة عليهم ، وما كان من حقك أن تفعل ذلك ، إن عليك إلا البلاغ ، وليس عليك الهداية «ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدى من يشاء».

وقد جاء مثل هذا النهى فى آيات كثيرة كقوله «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وقوله «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» وقوله «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ».

وخلاصة ذلك ـ أبلغهم رسالة ربك ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تذهب نفسك عليهم أسى وحسرة ، فإنما أنت منذر ، ولست عليهم بمسيطر ، إن عليك إلا البلاغ ثم ذكر سبحانه سبب إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ بالبشارة والنذارة ، وهو أنه تعالى جعل ما على الأرض زينة لها ، ليختبر المحسن والمسيء ، ويجازى كلا بما يستحق فقال :

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي إنا جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات ومعادن زينة لها ولأهلها ، لنختبر حالهم فى فهم

١١٦

مقاصد تلك الزينة والاستدلال بها على وجود خالقها ، والإخبات إليه ، والطاعة له ، فيما أمر به ، والبعد عما نهى عنه ، فتقوم عليهم الحجة ، فمن اعتبر بتلك الزينة ، وفهم حكمتها ، حاز المثوبة ، ومن اجترأ على مخالفة أمره ، ولم يفهم أسرارها ومقاصدها ، استحق العقوبة.

وخلاصة ذلك ـ إنا جعلنا ما على الأرض زينة ، لنعاملهم معاملة من يختبرون فنجازى المحسنين بالثواب ، والمسيئين بالعقاب ، ويمتاز أفراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب امتياز درجات أعمالهم.

روى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «إن الدنيا نضرة حلوة ، والله مستخلفكم فيها ، فينظر كيف تعملون» ، وقال «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا ، قيل وما زهرة الدنيا؟ قال بركات الأرض» ، وروى البخاري أن عمر كان يقول : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيّنته لنا ، اللهم إنى أسألك أن ننفقه فى حقه.

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإن الأرض وما عليها بائد فإن ، وإن المرجع إلى الله ، فلا تأس ولا تحزن لما تسمع وترى ، ونحو الآية قوله «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» وقوله «فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً».

وإجمال المعنى ـ إن ما على الأرض سيصير ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجّب من بهجته النظّارة ، وتسرّ برؤيته العيون ، فلا تحزن لما عاينت من تكذيب هؤلاء لما أنزل عليك من الكتاب ، فإنا جعلنا ما على الأرض من مختلف الأشياء زينة لها ، لنختبر أعمال أهلها ، فنجازيهم بحسب ما هم له أهل ، وإنا لمفنون ذلك بعد حين.

وفى هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم ، وكأنه قيل : لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم.

١١٧

ملخص قصة أهل الكهف كما أثر عن العرب

روى أن النصارى عظمت فيهم الخطايا ، وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام ، وأكرهوا الناس على عبادتها ، وأصدر (الملك دقيانوس) الأوامر المشدّدة فى ذلك ، ومعاقبة من يخالفه ، وأراد أن يلزم فتية من أشراف قومه عبادتها ، وتوعدهم بالقتل ، فأبوا إلا الثبات على دينهم ، فنزع ثيابهم وحليهم ، ولكنه رحم شبابهم فأمهلهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم ، وهكذا ذهب الملك إلى مدن أخرى ليحثّ أهلها على عبادتها ، وإلا قتلوا.

أما الفتية فإنهم انطلقوا إلى كهف قريب من مدينتهم (أفسوس أوطرسوس) فى جبل يدعى (نيخايوس) وأخذوا يعبدون الله فيه حتى إذا هجم عليهم دقيانوس وقتلهم ماتوا طائعين ، وقد كانوا سبعة ، فلما مروا فى الطريق إلى الكهف تبعهم راع ومعه كلبه ، فجلسوا هناك يعبدون الله ، وكان من بينهم امرؤ يدعى (تمليخا) يبتاع لهم طعامهم وشرابهم ، ويبلغهم أخبار دقيانوس الذي لا يزال مجدّا فى طلبهم ، حتى إذا عاد من مطافه ، ووصل إلى مدينتهم ، بحث عن هؤلاء العبّاد والنساك ليذبحهم أو يسجدوا للأصنام ، فسمع بذلك تمليخا بينما كان يشترى لهم الطعام خفية فأخبرهم فبكوا ، ثم ضرب الله على آذانهم فناموا ، وتذكّرهم دقيانوس ، فهدّد آباءهم إن لم يحضروهم ، فدلّوه عليهم ، وقالوا إنهم فى الكهف ، فتوجه إليهم وسدّه عليهم ليموتوا هناك وينتهى الأمر على ذلك.

وقد كان فى حاشية الملك رجلان يكتمان إيمانهما وهما بيدروس ، وروناس ، فكتبا قصة هؤلاء الفتية سرا فى لوحين من حجر وجعلاهما فى تابوت من نحاس ، وجعلا التابوت فى البنيان ليكون ذلك عظة وذكرى لمن سيجيئ من بعد.

ثم مضت قرون يتلو بعضها بعضا ، ولم يبق لدقيانوس ذكر ولا أثر.

وبعدئذ ملك البلاد ملك صالح يسمى بيدروس دام ملكه ٦٨ سنة ، وانقسم

١١٨

الناس فى شأن البعث والقيامة فرقتين : فرقة به ؛ وأخرى كافرة ، فحزن الملك لذلك حزنا شديدا ، وضرع إلى الله أن يرى الناس آية يرشدهم بها إلى أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وقد خطر إذ ذاك ببال راع يسمى (أولياس) أن يهدم باب الكهف ويبنى به حظيرة لغنمه ، فلما هدمه استيقظوا جميعا فجلسوا مستبشرين ، وقاموا يصلون ، ثم قال بعضهم لبعض : كم لبثتم نياما؟ قال بعضهم : لبثنا يوما أو بعض يوم ، وقال آخرون ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم (الورق الفضة) هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاما وليحضر لنا جانبا منه ، فذهب تمليخا كما اعتاد من قبل ، ليشترى لهم الطعام وهو متلطّف فى السؤال مختف حذرا من دقيانوس.

وبينما هو ماش سمع اسم المسيح ينادى به فى كل مكان ، فحدّث نفسه وقال : عجبا لم لم يذبح دقيانوس هؤلاء المؤمنين؟ وبقي حائرا دهشا وقال : ربما أكون فى حلم أو لعل هذه ليست مدينتنا ، فسأل رجلا ما اسم هذه المدينة ، قال (أفسوس) وفى آخر مطافه تقدم إلى رجل فأعطاه ورقا ليشترى به طعامه ، فدهش الرجل من نوع هذا النقد الذي لم يره من قبل ، وأخذ يقلّبه ويعطيه إلى جبرته ، وهم يعجبون منه ويقولون له : أهذا من كنز عثرت عليه ، فإن هذه الدراهم من عهد دقيانوس ، وقد مضت عليه حقبة طويلة ثم أخذوه وقادوه إلى حاكمى المدينة ، فظن فى بادىء الأمر أنهم ساقوه إلى دقيانوس ، ولكن لما عرف أنه لم يؤت به إليه زال عنه الكرب ، وجفت مدامعه ، ثم سأله حاكما المدينة وهما أريوس وطنطيوس : أين الكنز الذي وجدت يافتى؟ وبعد حوار بينه وبينهما ذكر لهما خبر الفتية ودقيانوس وأن حديثهما كان أمس ؛ وإن كان لديكما ريب من أمرى فها هو ذا الكهف فاذهبا معى لتريا صدق ما أقول ، فسارا معه حتى وصلا إلى باب الكهف ، وتقدمهما تمليخا فأخبرهما بالحديث كله ، فداخلهما العجب حين علما أنهم ناموا تسعا وثلاثمائة سنة ، وأنهم أوقظوا ليكونوا آية للناس.

١١٩

ثم دخل أريوس فرأى تابوتا من نحاس مخترما بخاتم. وبداخله لوحان مكتوب عليهما قصة هؤلاء الفتية ، وكيف هربوا من دقيانوس حرصا على عقيدتهم ودينهم ، فسدّ عليهم بالحجارة.

ولما رأى أريوس ومن معه هذا القصص خرّوا لله سجدا وأرسلوا بريدا إلى ملكهم أن عجّل واحضر لترى آية الله فى أمر فتية بعثوا بعد أن ناموا ثلاثمائة سنة.

ثم سار الملك ومعه ركب من حاشيته وأهل مدينته حتى أتوا مدينة أفسوس وكان يوما مشهودا ، وحين رأى الفتية خر ساجدا لله ثم اعتنقهم وبكى وهم لا يزالون يسبّحون ، ثم قال الفتية له : أيها الملك نستودعك الله ونعيذك من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم وقبضت أرواحهم ، فأمر الملك أن يجعل كل منهم فى تابوت من ذهب ، وحين جنّ الليل ونام رآهم فى منامه يقولون له : اتركنا كما كنا فى الكهف ننام على التراب حتى يوم البعث ، فأمر الملك أن يوضعوا فى تابوت من ساج وألا يدخل عليهم أجد بعد ذلك ، وأن يبنى على باب الكهف مسجد يصلى فيه الناس ، وجعل لهم ذلك اليوم عيدا عظيما. ذلك هو القصص الذي جعله النصارى دليلا على البعث أما القرآن الكريم فإنه يقول إن آياتي على البعث وإعادة الأرواح بعد الموت ليست مقصورة على هذا القصص وحده ، فآياتى عليه لا تعدّ ولا تحصى ، فاقرءوا صحائف هذا الوجود ولا تقصروا أمركم على صحائف أهل الكهف والرقيم ، واجعلوا أنظاركم تتجه إلى ما حواه الكون لا إلى ما كتب فى القصص والحكايات ، وإن كانت فيها الدلائل والآيات.

إجمال القرآن لقصص أهل الكهف

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ

١٢٠