تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

التي وضعها لعباده فى كسب المال ، وحسن تصرفهم فى جمعه ، بالوسائل والنظم التي وضعها فى الكون.

(إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي إن ربك ذو خبرة بعباده ، فيعلم من الذي تصلحه السعة فى الرزق ، ومن الذي تفسده؟ ومن الذي بصلحه الإقتار والضيق؟ ومن الذي يفسده؟ وهو البصير بتدبيرهم وسياستهم ، فعليك أن تعمل بما أمرك به أو نهاك عنه ، من بسط يدك فيما تبسط فيه وفيمن تبسطها له ، ومن كفها عمن تكفها عنه ، فهو أعلم بمصالح العباد منك ومن جميع الخلق ، وأبصرهم بتدبير شؤونهم.

وقصارى ذلك ـ إنكم إذا علمتم أن شأنه تعالى البسط والقبض ، وأنعمتم فى النظر فى ذلك ، وجدتم أن من سننه تعالى الاقتصاد ، فاقتصدوا واستنّوا بسنته.

وبعد أن بين أنه تعالى الكفيل بالأرزاق وهو الذي يبسط ويقدر ، نهاهم عن قتل الأولاد خشية الفقر فقال :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) أي ولا تئدوا بناتكم خوف الفقر ، فنحن نرزقهم لا أنتم ، فلا تخافوا الفقر لعلكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم.

وقد كان العرب فى جاهليتهم يقتلون البنات ، لعجزهن عن الكسب ، وقدرة البنين عليه ، بالغارات والسلب والنهب ، ولأن فقرهن ينفّر الأكفاء عن الرغبة فيهن ، فيحتاجون إلى تزويجهنّ لغير الأكفاء ، وفى ذلك عار أيّما عار عليهم.

والخلاصة ـ إن الأرزاق بيد الله ، فكما يفتح خزائنه للبنين يفتحها للبنات ، فليس لكم سبب يدعو إلى قتلهن ، ومن ثم قال :

(إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) أي إن قتلهم كان إثما فظيعا لما فيه من انقطاع النسل وزوال هذا النوع من الوجود. وفى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : «قلت يا رسول الله أىّ الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندّا وهو الذي خلقك ، قلت ثم أىّ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت ثم أي؟ قال : أن تزانى بحليلة جارك» ـ

٤١

والخلاصة ـ إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو من سوء الظن بالله ، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى فى تخريب العالم ، والأول انتهاك لحرمة أوامر الله ، والثاني ضد الشفقة على خلق الله ، وكلاهما مذموم غاية الذم.

ولما كان فى قتل الأولاد حظ من البخل ، وفى الزنا داع من دواعى الإسراف أتبعه به فقال :

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) نهى الله عباده عن القرب من الزنا بمباشرة أسبابه ودواعيه ، فضلا عن مباشرته هو ، للمبالغة فى النهى عنه وبيان شدة قبحه ، ثم علل ذلك بقوله :

(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) أي إنه كان فعلة ظاهرة القبح مشتملة على مفاسد كثيرة أهمها :

(١) اختلاط الأنساب واشتباهها ، وإذا اشتبه المرء فى الولد الذي أتت به الزانية ، أمنه هو أم من غيره ، لا يقوم بتربيته ، ولا يستمر فى تعهده ، وذلك مما يوجب إضاعة النسل وخراب العالم.

(٢) فتح باب الهرج والمرج والاضطراب بين الناس دفاعا عن العرض ، فكم سمعنا بحوادث قتل كان مبعثها الإقدام على الزنا ، حتى إنه ليقال عند السماع بحادث قتل : (فتش عن المرأة).

(٣) إن المرأة إذا عرفت بالزنا وشهرت به استقذرها كل ذى طبع سليم ، فلا تحدث ألفة بينها وبين زوجها ، ولا يتم السكن والازدواج الذي جعله الله مودة ورحمة بين الناس بقوله : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً».

(٤) إنه ليس المقصد من المرأة مجرد قضاء الشهوة ، بل أن تصير شريكة للرجل فى ترتيب المنزل وإعداد مهامه من مطعوم ومشروب وملبوس ، وأن تكون حافظة له ، قائمة بشؤون الأولاد والخدم ، وهذه المهامّ لا تتم على وجه الكمال إلا إذا كانت مختصة يرجل واحد ، منقطعة له دون غيره من الناس.

٤٢

وإجمال ذلك ـ إن الزنا فاحشة وأي فاحشة ، لما فيه من اختلاط الأنساب والتقاتل والتناحر دفاعا عن العرض ، وإنه سبيل سيء من قبل أنه يسوّى بين الإنسان والحيوان ، فى عدم اختصاص الذكران بالإناث.

وبعد أن نهى عن قتل الأولاد للسبب المتقدم نهى عن القتل مطلقا فقال :

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا تقتلوا النفس التي حرم الإسلام قتلها إلا قتلا متلبسا بالحق ، وهو أحد أمور ثلاثة : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل مؤمن معصوم عمدا كما جاء فى الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود : «لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة».

والسبب فى هذا التحريم وجوه :

(١) إنه إفساد فوجب حرمته لقوله «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ».

(٢) إنه ضرر ، والأصل فى المضارّة الحرمة لقوله : «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وقوله صلى الله عليه وسلّم «لا ضرر ولا ضرار».

(٣) إنه إذا أبيح القتل زال هذا النوع من الوجود ففتك القوى بالضعيف ، وحدث الاضطراب فى المجتمع ، فلا يستقيم للناس حال ولا ينتظم لهم معاش (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي ومن قتل مظلوما بغير حق يوجب قتله فقد جعلنا لمن يلى أمره من وارث أو سلطان عند عدم الوارث تسلطا واستيلاء على القاتل ، بمؤاخذته بأحد أمرين : إما القصاص منه ، وإما الدية لقوله تعالى : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى» الآية ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الفتح «من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين ، إن أحبّوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية».

(فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا بإزاء واحد ، كما كانوا يفعلون فى الجاهلية ، إذ كانوا يقتلون القاتل ويقتلون معه غيره إذ كان رجلا شريفا ، وأحيانا لا يرضون بقتل القاتل بل يقتلون بدله رجلا شريفا

٤٣

وفى الآية إيماء إلى أن الأولى للولى ألا يقدم على استيفاء القتل ، وأن يكتفى بالدية أو يعفو.

(إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي إن الله نصر الولي بأن أوجب له القصاص أو الدية ، وأمر الحكام أن يعينوه على استيفاء حقه ، فلا يبغى ماوراءه ولا يطمع فى الزيادة على ذلك.

وقد يكون المعنى : إن المقتول ظلما منصور فى الدنيا بإيجاب القود له على قاتله ، وفى الآخرة بتكفير خطاياه ، وإيجاب النار لقاتله ، وهذه الآية أول ما نزل من القرآن فى شأن القتل ، لأنها مكية.

وبعد أن نهى عن إتلاف الأنفس نهى عن إتلاف الأموال ، لأن المال أخو الروح ، وأحق الناس بالنهى عن إتلاف ماله هو اليتيم لضعفه وكمال عجزه ولذلك قال :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي لا تتصرفوا فى مال اليتيم إلا بالطريق التي هى أحسن الطرق ، وهى طريق حفظه وتثميره بما يزيد به ، حتى تستحكم قوة عقله وشبابه ، وإذ ذاك يمكنه القيام على ماله بما فيه المصلحة.

ولما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانوا لا يخالطون اليتامى فى طعام ولا غيره ، فأنزل الله تعالى : «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» فكانت لهم فيها رخصة.

ونظير الآية قوله تعالى : «وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ».

وبعد أن نهى عن الزنا والقتل وأكل مال اليتيم أتبعها بثلاثة أوامر فقال :

(١) (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) أي وأوفوا بما عاهدتم الله عليه من التزام ما كلفكم به ، وما عاهدتم الناس عليه من العقود التي تتعاملون بها فى البيوع والإجارة ونحوها ، قال الزجاج : كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد ، ويدخل فى ذلك ما بين العبد وربه ، وما بين العباد بعضهم وبعض.

والوفاء به القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضى.

٤٤

(إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي إن الله سائل ناقض العهد عن نقضه إياه ، فيقال للناكث له على سبيل التبكيت والتوبيخ لم نكثت عهدك؟ وهلا وفيت به ، كما يقال لوائد الموءودة : بأى ذنب قتلت؟ وقوله تعالى لعيسى عليه السلام : «أأنت قلت للنّاس اتّخذونى وأمّى إلهين؟» والمخاطبة لعيسى والإنكار على غيره.

(٢) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي وأتموا الكيل للناس ولا تخسروهم إذا كلتم لهم حقوقهم قبلكم ، فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم تفوا بالكيل.

(٣) (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان العدل دون شىء من الجور أو الحيف ، لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ، ومن ثم بالع. الشارع فى المنع من التطفيف والنقصان ، سعيا فى إبقاء الأموال لأربابها.

ثم بين عاقبة هذه الأوامر وحسن مآلها فقال :

(ذلِكَ خَيْرٌ) أي إيفاؤكم بالعهد ، وإيفاؤكم من تكيلون له ، ووزنكم بالعدل لمن توفون له ، خير لكم فى الدنيا من نكثكم وبخسكم فى الكيل والوزن ، لأن ذلك مما يرغّب الناس فى معاملتكم ، وحب الثناء عليكم.

(وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي وأجمل عاقبة ، لما يترتب على ذلك من الثواب فى الآخرة ، والخلاص من العقاب الأليم وكثير من الفقراء الذين اشتهروا بالأمانة والبعد عن الخيانة ، أقبلت عليهم الدنيا ، وحصل لهم الثروة والغنى ، وكان ذلك سبب سعادتهم فيها.

وبعد أن ذكر سبحانه أوامر ثلاثة نهى عن مثلها فقال :

(١) (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي ولا تتّبع أيها المرء ما لا علم لك به من قول أو فعل ، وذلك دستور شامل لكثير من شؤون الحياة ، ومن ثم قال المفسرون فيه أقوالا كثيرة :

(ا) قال ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأت عيناك ، وسمعته أذناك ، ووعاه قلبك

٤٥

(ب) قال قتادة : لا تقل سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم.

(ج) وقيل المراد النهى عن القول بلا علم بل بالظن والتوهم كما قال : «اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» وفى الحديث «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وفى سنن أبى داود «بئس مطية الرجل زعموا» إلا ما قام الدليل على جواز العمل به إن لم يوجد دليل من كتاب أو سنة كما رخص النبي صلى الله عليه وسلّم فى ذلك لمعاذ حين بعثه قاضيا فى اليمن إذ قال له «بم تقضى ، قال : بكتاب الله ، قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيى».

(د) وقيل المراد نهى المشركين عن اعتقاداتهم تقليدا لأسلافهم واتباعا للهوى كما قال : «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ، ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ».

ثم ذكر سبحانه تعليلا لذلك النهى فقال :

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) أي إن الله سائل هذه الأعضاء عما فعل صاحبها كما قال «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» وفى الخبر عن شكل بن حميد قال : «أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت يا نبى الله علّمنى تعويذا أتعوذ به ، فأخذ بيدي ثم قال : قل أعوذ بك من شر سمعى ، وشر بصري ، وشر قلبى ، وشر منيىّ» (يريد الزنا).

(٢) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ولا تمش متبخترا متمايلا كمشى الجبارين ، فتحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها بدوسك وشدة وطئك لها ، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها ، فأنت محوط بنوعين من الجماد أنت أضعف منهما ، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر ، ولقد أحسن من قال :

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا

فكم تحتها قوم هم منك أرفع

وإن كنت فى عز وحرز ومنعة

فكم مات من قوم هم منك أمنع

٤٦

وخلاصة ذلك ـ تواضع ولا تتكبر ، فإنك مخلوق ضعيف محصور بين حجارة وتراب ، فلا تفعل فعل القوى المقتدر. ولا يخفى ما فى الآية من التقريع والتهكم والزجر لمن اعتاد ذلك.

ثم علل هذا النهى بقوله :

(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) أي لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطأتك ، ولن تبلغ الجبال التي هى بعض أجزاء الأرض فى الطول حتى يمكنك أن تتكبر عليها ، فالتكبر إنما يكون بالقوة وعظم الجثة وكلاهما غير موجود لديك ، فما الحامل لك على ما أنت فيه وأنت أحقر من كل من الجمادين؟ وكيف يليق بك الكبر؟

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) أي كل الذي ذكر من الخصال أثناء الأوامر والنواهي وهى الخمس والعشرون السالفة كان سيئه وهو ما نهى عنه منها ، من الجعل مع الله إلها آخر وعبادة غيره ، والتأفف والتبذير ، وغل اليد ، وقتل الأولاد خشية الإملاق ـ مكروها عند ربك أي مبغوضا عنده وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية كما قال صلى الله عليه وسلّم «ما شاء الله كان ، وما لم يشألم يكن» وهذه الإرادة لا تستدعى الرضا منه سبحانه.

وفى وصف هذه الأشياء بالكراهة مع أن أكثرها من الكبائر ـ إيماء إلى أن الكراهة عنده تعالى تكفى في وجوب الكف عن ذلك.

ثم بين وجوب امتثال تلك الأوامر ، وترك تلك النواهي فقال :

(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة ، ونهيناك عنه من الرذائل ، مما أوحينا إليك من فقه الدين ومعرفة أسراره ، ومن الحكم فى تشريعه.

أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما إن التوراة كلها فى خمس عشرة آية من بنى إسرائيل ثم تلا (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.

٤٧

(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) كرر هذا مع ما سلف ، للتنبيه إلى أن التوحيد رأس الدين ورأس الحكمة ، وهو مبدأ الأمر ومنتهاه ، وقد رتب عليه أولا آثار الشرك فى الدنيا فقال : فتقعد مذموما مخذولا ، ورتب عليه هنا نتيجة فى العقبى فقال : فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا : أي ملوما من جهة نفسك ومن جهة غيرك ، ومبعدا من رحمة الله تعالى.

وقد علمت فيما تقدم لك أن مثل هذا الخطاب إما موجه إلى الإنسان عامة ، وإما إلى الرسول خاصة والمراد أمته والكلام من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره).

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

تفسير المفردات

الإصفاء بالشيء : جعله خالصا له ، وصرفنا : أي بينا ، ليذكروا : أي يتدبروا ويتعظوا ، والنفور : البعد من الشيء ، وابتغاء الشيء : طلبه ، والسبيل : الطريق ، والفقه : الفهم.

٤٨

المعنى الجملي

بعد أن نبه سبحانه إلى جهل من أثبتوا له شريكا واتخذوا له ندّا ونظيرا ـ ففى على ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا ، وأنه قد بلغ من قحتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم مع علمهم بعجزهم ونقصهم ، وأعطوا الله البنات ، مع علمهم بأنه الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له ، والجلال الذي لا غاية له ـ ثم أتبعه ببيان أنه قد ضرب فى القرآن الأمثال ليتدبروا ويتأملوا فيها ، ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه ، ثم أردفه ببيان أنه لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى ، لطلبت لأنفسها قربة إلى الله وسبيلا إليه ، ولكنها لم تفعل ذلك ، وكيف تقرّبكم إليه وكل ما فى السموات والأرض يسبح بحمده ، بدلالة أحواله على توحيده ، وتقديسه وكمال قدرته ، ولكنكم لجهلكم وغفلتكم لا تدركون دلالة تلك الدلائل.

الإيضاح

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟) أي أفخصّكم ربكم بالذكور من الأولاد ، واتخذ من الملائكة إناثا وأنتم لا ترضونهنّ لأنفسكم ، بل تئدونهن وتقتلونهن ، فتجعلون له ما لا ترضون لأنفسكم.

وخلاصة ذلك ـ إنهم جعلوا الملائكة إناثا ، ثم ادّعوا أنهن بنات الله ، ثم عبدوهن ، فأخطئوا فى الأمور الثلاثة خطأ عظيما ، ومن ثم قال :

(إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) فتفترون على الله الكذب ، وتنسبون إليه ما تستحقون عليه الإثم والعذاب ، وتخرقون قضايا العقول ، فتجعلون أشرف خلق الله الذين منهم من يقدر على جعل عالى الأرض سافلها ، إناثا غاية فى الرخاوة.

ونحو الآية قوله : «(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

٤٩

إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)».

ولما كان هذا الكلام غاية فى الوضوح والبيان ، ولا يخفى فهمه على إنسان ، ثم هم بعد ذلك أعرضوا عنه نبه إلى ذلك بقوله :

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي ولقد بينا فى هذا القرآن الآيات والحجج ، وضربنا لهم الأمثال ، وحذرناهم وأنذرناهم ، ليتذكروا ويتعظوا فيقفوا على بطلان ما يقولون ـ فإن التكرار يقتضى الإذعان واطمئنان النفس ـ وهم مع ذلك لا يعتبرون ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنذر بل ما يزيدهم التذكير إلا نفورا وبعدا عن الحق وهربا منه.

ثم رد على هؤلاء الذين يشركون بربهم ، ويتخذون الشفعاء والأنداد وندد عليهم وسفه أحلامهم فقال :

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر : لو كان الأمر كما تقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرّب إليه وتشفع لديه ـ لكان أولئك المعبودون يعبدونه ، ويتقربون إليه ، ويبتغون لديه الوسيلة ، فاعبدوه وحده كما يعبد من تدعونه من دونه ، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه ، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه ، بل يكرهه ويأباه. وقد نهى عن ذلك على ألسنة رسله وأنبيائه ونزه نفسه عن ذلك فقال :

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) أي تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم من الفرية والكذب ، فهو الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

وفى الآية إيماء إلى وجود البون الشاسع بين ذاته وصفاته سبحانه ، وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد ، للمنافاة التي لا غاية وراءها ، بين القديم والمحدث والغنى والمحتاج.

٥٠

ثم بين سبحانه عظمة ملكه ، وكبير سلطانه فقال :

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات ، تنزهه وتعظمه عما يقول هؤلاء المشركون ، وتشهد له بالوحدانية فى ربوبيته وألوهيته كما قال أبو نواس :

وفى كل شىء له آية

تدل على أنه واحد

والمكلف العاقل يسبّح ربه إما بالقول كقوله : سبحان الله ، وإما بدلالة أحواله على توحيده وتقديسه ، وغير العاقل لا يسبح إلا بالطريق الثاني ، فهى تدل بحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدانيته ، وقدرته وتنزهه عن الحدوث ، فإن الأثر يدل على مؤثره.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي وما شىء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله أي يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ، ووحدته وقدرته ، وتنزهه عن لوازم الحدوث.

والخلاصة ـ إن كل الأكوان شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات فى صفاتها المحدثة.

(وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي ولكن لا تفهمون أيها المشركون تلك الدلالة ، لأنكم لما جعلتم مع الله آلهة ، فكأنكم لم تنظروا ولم تفكروا ، إذ النظر الصحيح ، والتفكير الحق ، يؤدى إلى غير ما أنتم فيه ، فأنتم إذا لم تفقهوا التسبيح ، ولم تستوضحوا الدلالة على الخالق.

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فمن حلمه أن أمهلكم ، ولم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء جهلكم بهذا التسبيح بإشراككم به سواه ، وعبادتكم معه غيره ، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم.

أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال. «إن

٥١

نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه : آمر كما بسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شىء ، وبها يرزق كل شىء».

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))

تفسير المفردات

الحجاب والحجب : المنع من الوصول إلى الشيء والمراد الحاجب ، والمستور : أي الساتر كما جاء عكسه من نحو «ماء دافق» : أي مدفوق ، أن يفقهوه أي لئلا يفقهوه ويفهموه ، والأكنة : الأغطية واحدها كنان ، والوقر : الصمم والثقل فى الآذان المانع من السماع ، والنفور : الانزعاج ، مسحورا : أي مخبول العقل ، فهو كقولهم «إن هو إلا رجل به جنة» فضلوا أي جاروا عن قصد السبيل.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا فى مقام الألوهية وجدالهم بالتي هى أحسن ، بضرب الأمثال لهم ، وإقامة الحجة عليهم ، وإيضاح السبيل لهم ـ والكلام هنا فى مقام النبوة والنعي عليهم فى عدم فهمهم للقرآن والنفور منه والهزء به ، وضربهم الأمثال للنبى صلى الله عليه وسلّم وقولهم فيه تارة إنه ساحر وأخرى إنه مجنون ، وحينا إنه شاعر.

روى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلّم ويستمعون إلى حديثه ، فقال النضر يوما ما أدرى ما يقول

٥٢

محمد ، غير أنى أرى شفتيه تتحركان بشىء ، وقال أبو سفيان : إنى لأرى بعض ما يقول حقا ، وقال أبو جهل : هو مجنون ، وقال أبو لهب : هو كاهن ، وقال حو يطب بن عبد العزّى : هو شاعر فنزلت هذه الآية.

الإيضاح

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) أي وإذا قرأت أيها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالبعث ، ولا يقرون بالثواب والعقاب ـ جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم عن أن تفهم ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به ، عقوبة منالهم على كفرهم وتدسيتهم لأنفسهم ، واجتراحهم الجرائر والمعاصي التي تظلم القلوب ، وتضع عليها الأغشية ، وتستر عنها فهم حقائق القرآن ومراميه ، وأسراره وأحكامه وحكمه ، ومواعظه وعبره.

روى أنه عليه الصلاة والسلام الصلاة كان إذا قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصىّ يصفّقون ويصفرون ويخلّطون عليه بالأشعار.

ثم بين السبب فى عدم فهمهم لمدارك القرآن فقال :

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي إنه تعالى جعل فى قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفى آذانهم ما يمنع من سماع صوته.

وخلاصة ذلك ـ إنا منعناهم فقهه ، والوقوف على كنهه ، فنبت قلوبهم عن فهمه ، ومجّته أسماعهم ، فهم لا متناعهم عن قبول دلائله صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب ساتر.

ونسب جعل الحجاب إلى نفسه ، لأنه خلّاهم وأنفسهم ، فصارت تلك التخلية كأنها السبب فى وقوعهم فى تلك الحال ؛ ألا ترى أن السيد إذا لم يراقب أحوال مولاه حتى ساءت حاله ، يقول أنا الذي أوصلك إلى هذا ، إذ ألقيت حبلك على غاربك ، ولم أراقبك عن كثب.

ونحو الآية قوله : «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ».

٥٣

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) أي وإذا ذكرت ربك وحده فى القرآن وأنت تتلوه ، ولم تقل واللات والعزّى انفضوا من حولك وهربوا نافرين استكبارا واستعظاما لأن يذكر الله وحده.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزء والسخرية والتكذيب حين استماعهم ، وأعلم بما يتناجون به ويتسارّون ، فبعضهم يقول مجنون ، وبعضهم يقول كاهن ، وبعضهم يقول : ما اتبعتم إلا رجلا قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء ، وهل من خير لكم فى اتباع أمثاله المجانين؟

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي تأمل وانظر أيها الرسول ، كيف مثلوا لك الأمثال وشبهوا لك الأشباه ، فقالوا هو مسحور ، وهو شاعر مجنون ، فحادوا فى كل ذلك عن سواء السبيل ، ولم يهتدوا لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه.

وفى هذا من الوعيد وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم ما لا يخفى.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

تفسير المفردات

الرفات : ما تكسر وبلى من كل شىء ، يكبر فى صدوركم : أي يستبعد قبوله للحياة ، فطركم : أي ذرأكم وأوجدكم ، فسينغضون إليك رءوسهم : أي سيحركونها

٥٤

استهزاء ، يقال نغض رأسه ينغض نغضا إذا تحرك ، وأنغض رأسه : حركه كالمتعجب من الشيء ، فتستجيبون : أي تجيبون الداعي.

المعنى الجملي

اعلم أن أمهات المسائل التي دار حولها البحث فى الكتاب الكريم الإلهيات ، والنبوات والبعث والجزاء والقضاء والقدر ، وقد تكلم فيما سلف فى الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم فى النبوات ، وفنّدها بما لا مجال للرد عليه ، ولا لدحضه وتكذيبه ، ثم ذكر فى هذه الآيات شكوكهم فى المعاد والبعث والجزاء ، ورد عليها بما لو نظر إليه المنصف لأيقن بصدق ما يدّعى ، وألزم نفسه تصديق ما يقال.

الإيضاح

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟) أي وقال الذين لا يؤمنون باليوم الآخر من المشركين : أئذا كنا عظاما فى قبورنا ، لم نتحطم ولم نتكسر بعد مماتنا ، ورفاتا متكسرة مدقوقة ، أئنا لمبعوثون بعد مصيرنا فيها ، وقد بلينا فتكسرت عظامنا ، وتقطعت أوصالنا ـ خلقا جديدا كما كنا قبل الممات.

ومثل الآية قوله تعالى حكاية عنهم : «يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» وقوله : «وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».

وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم ، ويعرفهم قدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم ، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بلاهم خلقا جديدا ، على أي حال كانوا ، عظاما أو رفاتا أو حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر فى صدورهم فقال :

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي قل كونوا حجارة

٥٥

او حديدا أو خلقا مما يستبعد عندكم قبوله للحياة كالسموات والأرض والجبال ، فإن الله لا يعجزه إحياؤكم لتساوى الأجسام فى قبولها الأعراض المختلفة ، فكيف إذا كنتم عظاما بالية ، وقد كانت قبل حيّة ، والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد؟.

وخلاصة هذا ـ إنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله عن الإعادة والإحياء ، وهذا كما يقول القائل للرجل : أتطمع فىّ وأنا فلان ؛ فيقول : كن ابن من شئت ، كن ابن الخليفة ، فسأطلب منك حقى.

وجملة المعنى ـ إن فى هذا مبالغة أيّما مبالغة فى قدرة القادر العليم على الإعادة والإحياء ، كما يقال : لو كنت عين الحياة فالله يميتك ، ولو كنت عين الغنى فالله يفقرك.

وبعد أن استبعدوا الإعادة استبعدوا صدورها وهى على هذه الحال حجارة أو حديدا من أىّ معيد. كما حكى عنهم سبحانه بقوله :

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي فسيقولون لك من يعيدنا ونحن على هذه الحال؟ قل لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد ، وإرشادا إلى طريق الاستدلال : الذي يفعل ذلك هو القادر العظيم ، الذي ذرأكم أول مرة على غير مثال يحتذى ، ولا منهاج معين ينتحى ، وكنتم ترابا لم يشمّ رائحة الحياة ، أليس الذي يقدر على ذلك ، يقدر على أن يفيض الحياة على العظام البالية ، ويعيدها إلى ما كانت عليه أولا؟ بلى إنه سبحانه على كل شىء قدير.

ثم بين جلّت قدرته ما يفعلون حين سماع هذه الإجابة فقال :

(فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) قال أبو الهيثم يقال لمن أخبر بشىء فحرك رأسه إنكارا له : قد أنغض ، أي إنك إذا قلت لهم ذلك يحركون رءوسهم استهزاء وتكذيبا ، ثم يسألون.

(وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟) أي متى هذا البعث ، وفى أي وقت وحال يعيدنا خلقا جديدا كما كنا أول مرة ، ومقصدهم من هذا السؤال استبعاد حصوله.

٥٦

وفى معنى الآية قوله «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وقوله : «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها».

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) أي فاحذروا ذلك ، فإنه قريب منكم سيأتيكم لا محالة ، وكل آت قريب ، وكل ما هو محقق الحصول قريب وإن طال زمانه ، ولم يخبر به أحدا من خلقه ، لا ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا ، لكن الخبر قد جاء بقرب حدوثه كما قال «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى.

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي ذلك يوم يدعوكم ، فتستجيبون له من قبوركم ، بقدرته ودعائه إياكم ، ولله الحمد فى كل حال ، وهذا كما يقول القائل فعلت هذا بحمد الله أي ولله الحمد على كل ما فعلت.

وروى عن أنس مرفوعا «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا فى القبر ولا فى الحشر ، وكأنى بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب ، يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن».

(وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي وتظنون حين تقومون من قبوركم أنكم ما أقمتم فى دار الدنيا إلا زمنا قليلا.

ونحو الآية قوله : «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» وقوله : «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» وقوله : «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».

قال الحسن : المراد تقريب وقت البعث ، فكأنك بالدنيا ولم تكن ، وبالآخرة ولم تزل.

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ

٥٧

يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥))

تفسير المفردات

ينزغ : يفسد ويهيج الشر ، والوكيل : هو المفوض إليه الأمر ، والزبور : اسم الكتاب الذي أنزل على داود عليه السلام.

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه الحجج على إبطال الشرك ، فقال : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا ، وذكر الأدلة على صحة البعث والجزاء فقال : «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» أمر رسوله أن يأمر عباده المؤمنين بأن يحاجوا مخالفيهم ، ويجادلوهم باللين ، ولا يغلظوا لهم فى القول ، ولا يشتموهم ولا يسبوهم ، فإن الكلمة الطيبة تجذب النفوس ، وتميل بها إلى الاقتناع ، كما يعلم ذلك الذين تولوا النصح والإرشاد ، من الوعاظ والساسة والزعماء فى كل أمة.

ثم ذكر من الكلمة الطيبة أن يقول لهم : ربكم العليم بكم ، إن شاء عذبكم ، وإن شاء رحمكم ، ولا يصرّح بأنهم من أهل النار ، فإن ذلك مما يهيج الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله سبحانه ، ثم بين لرسوله أنه لا يقسر الناس على الإسلام ، فما عليه إلا البلاغ والإنذار ، والله هو العليم بمن فى السموات والأرض ، فيختار لنبوته من يشاء ، ممن يراه أهلا لذلك ، وأولئك الأنبياء ليسوا سواء فى مراتب الفضل والكمال ، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته.

٥٨

الإيضاح

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي وقل لعبادى يقولوا فى مخاطباتهم ومحاوراتهم مع خصومهم من المشركين وغيرهم : الكلام الأحسن للإقناع ، مع البعد عن الشتم والسب والأذى.

ونظير الآية قوله «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وقوله «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ». روى أن الآية نزلت فى عمر ابن الخطاب ، ذلك أن رجلا شتمه فسبّه عمر وهمّ بقتله فكادت تثير فتنة فأنزل الله الآية.

ثم علل ذلك بقوله :

(إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي إن الشيطان يفسد بين المؤمنين والمشركين ويهيج الشر بينهم ، فينتقل الحال من الكلام إلى الفعال ، ويقع الشر والمخاصمة ، ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة ، فإن الشيطان ينزغ فى يده فر بما أصابه بها. روى أحمد عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ولا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدرى لعل الشيطان ينزغ فى يده ، فيقع فى حفرة من النار» وروى أيضا عن رجل من بنى سليط قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وهو فى رفلة (جماعة) من الناس فسمعته يقول «والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ، التقوى هاهنا ووضع يده على صدره».

ثم بين سبب نزغ الشيطان للإنسان بقوله :

(إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) أي إن بين الشيطان والإنسان عداوة قديمة مستحكمة كما قال تعالى حكاية عن الشيطان «ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم» وقال «كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّى برىء منك إنّى أخاف الله ربّ العالمين».

٥٩

ثم فسر سبحانه التي هى أحسن بما علّمهم النّصفة بقوله :

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) أي ربكم أيها القوم هو العليم بكم ، إن يشأ رحمتكم بتوفيقكم للايمان والعمل الصالح يرحمكم ، وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان فتموتوا على شرككم.

وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى للمؤمنين أن يحتقروا المشركين ولا أن يقطعوا بأنهم من أهل النار ويعيّروهم بذلك ، فإن العاقبة مجهولة ، ولا يعلم الغيب إلا الله ـ إلى أن ذلك مما يجرّ إلى توليد الضغينة فى النفوس ، بلا فائدة ولا داع يدعو إليها.

ثم وجه خطابه إلى أعظم الخلق ليكون من دونه أسوة له فقال :

(وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي وما أرسلناك أيها الرسول حفيظا ورقيبا ، تقسر الناس على ما يرضى الله ، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا ، فدارهم ولا تغلظ عليهم ، ومر أصحابك بذلك ، فإن ذلك هو الذي يؤثّر فى القلوب ، ويستهوى الأفئدة ، ثم انتقل من عامه تعالى بهم إلى علمه بجميع خلقه فقال :

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبأحوالهم الظاهرة والباطنة ، فيختار منهم لنبوته والفقه فى دينه من يراه أهلا لذلك ، ويفضل بعضهم على بعض ، لإحاطة علمه وواسع قدرته. ونحو الآية قوله «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ».

وفى هذا رد عليهم حين قالوا : يبعد كل البعد أن يكون يتيم ابن أبى طالب نبيا ، وأن يكون أولئك الجوع العراة كصهيب وبلال وخبّاب وغيرهم صحابة دون الأكابر والصناديد من قريش.

وفى ذكر من في السموات ردّ لمقالهم حين قالوا «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» وفى ذكر من فى الأرض رد لمقالهم حين قالوا «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».

(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بما لهم من الفضائل النفسية ، والمزايا القدسية ، وإنزال الكتب السماوية ، فخصصنا كلا منهم بفضيلة ومزية ، ففضلنا

٦٠