تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

تفسير المفردات

طائره : أي عمله ، سمى به إما لأنه طار إليه من عشّ الغيب ، وإما لأنه سبب الخير والشر كما قالوا : طائر الله لا طائرك ، أي قدر الله الغالب الذي يأتى بالخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن ؛ إذ جرت عادتهم بأن يتفاءلوا بالطير ويسمونه زجرا ، فإن مرّبهم من اليسار إلى اليمين تيمنوا به وسمّوه سانحا ، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه وسموه بارحا ، كتابا : هو صحيفة عمله ، منشورا : أي غير مطوى ، حسيبا : أي حاسبا أي عادّا له يعد عليه أعماله ، والوزر : الإثم والذنب ، يقال منه وزر يزر فهو وازر وهى وازرة ، أي نفس وازرة ، والمترفون : هم المنعّمون من الملوك والعظماء ، أمرنا مترفيها ، أي أمرناهم بالطاعة ، ففسقوا : أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا ، فحق عليها القول : أي وجب لها العذاب ، والتدمير : الإهلاك مع طمس الأثر ، والقرن : القوم يجمعهم زمان واحد ، وقد حدد بأر بعين سنة ، وبثمانين ، وبمائة ، والعاجلة : الدار

٢١

الدنيا ، يصلاها : أي يقاسى حرها ، مدحورا : أي مطرودا مبعدا من رحمة الله ، محظورا : أي ممنوعا عمن يريده.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف حال كتابه الذي يحوى النافع والضار من الأعمال ، مما يكون به سعادة الإنسان وشقاؤه فى دينه ودنياه ـ قفى على ذلك بذكر حال كتاب المرء وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله إلا أحصاها ، وأن حسنها وقبحها تابع لأخذه بما فى الكتاب الأول أو تركه لذلك ، فمن أخذ به اهتدى ومنفعة ذلك عائدة إليه ، ومن أعرض عنه ضل وغوى ، ووبال ذلك راجع عليه ؛ ثم أكد عنايته بعباده ، وأنه لا يعاقب أحدا منهم إلا إذا أرسل الرسل يبلغون رسالات ربهم رحمة بهم ورأفة ، وأعقب ذلك بأن عذابه إنما يكون بكسب المرء واختياره ، وأن هذا واقع بتقدير الله وعلمه ، وإذا وقعت المعصية حلت العقوبة بعذاب الاستئصال ، كما فعل بكثير من الأمم التي من بعد نوح كعاد وثمود ، والله عليم بأفعالهم وبما يستحقون ، ثم قسم العباد قسمين قسم يحب الحياة الدنيا ويعمل لها ، وعاقبته دار البوار وبئس القرار ، وقسم يعمل للآخرة ويسعى لها سعيها وهو مؤمن ، وأولئك سعيهم مشكور مقبول عند ربهم ، ولهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وهؤلاء وهؤلاء يمدهم ربهم بعطائه ، إذ ليس عطاؤه بممنوع عن أحد ، ولكن قد فضّل بعضهم على بعض فى أرزاق الدنيا ، ومراتب التفاوت فى الآخرة أكثر من درجات التفاوت فى الدنيا وأبعد مدى.

الإيضاح

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي وألزمنا كل امرئ عمله الذي يصدر منه باختياره بحسب ما قدر له من خير أو شر ،

٢٢

لا ينفك عنه بحال ؛ والعرب تضرب المثل للشىء الذي يلزم بالشيء الذي يوضع فى العنق ، فيقولون جعلت هذا فى عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به ، وخصوا العنق لأنه يظهر عليه ما يزين المرء كالقلائد والأطواق ، أو ما يشينه كالأغلال والأوهاق (الحبال تجرّ بها الدواب).

وخلاصة هذا ـ إن كل إنسان منكم معشر بنى آدم ألزمناه نحسه وسعده ، وشقاءه وسعادته ، بما سبق فى علمنا أنه صائر إليه ، ونحن نخرج له حين الحساب كتابا يراه منشورا وفيه أعماله التي كسبها فى الدنيا ، وقد أحصى عليه ربه فيه كل ما أسلف فى تلك الحياة.

أخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال : قال الله يا بن آدم بسطنا لك صحيفة ، ووكّل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والآخر عن يسارك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ طويت صحيفتك فجعلت فى عنقك معك فى قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، قد عدل والله من جعلك حسيب نفسك.

(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي ونخرج له يوم القيامة حين البعث والحساب كتابا يلقاه منشورا ، فيقال له اقرأ كتاب عملك الذي عملته فى الدنيا وكان الملكان يكتبانه ويحصيانه عليك ، وحسبك اليوم نفسك عليك حاسبا تحسب عليك أعمالك فتحصيها ، لا نبتغى عليك شاهدا غيرها ، ولا نطلب محصيا سواها.

وبعد أن ذكر أن القرآن هاد للتى هى أقوم وأن الأعمال لازمة لأصحابها بين أن منفعة العمل ومضرته راجعة إلى عامله فقال :

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي من استقام على طريق الحق واتبعه ، واتبع الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلّم ، فنفسه قد نفع ، ومن حاد عن قصد السبيل وسار على غير هدى وكفر بالله ورسوله وبما جاء به من

٢٣

عند ربه من الحق فلا يضرنّ إلا نفسه ، لأنه جعلها مستحقة لغضب الله وأليم عذابه ثم زاد الجملة الثانية توكيدا بقوله :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تأثم نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس.

وفى هذا قطع لأطماعهم الفارغة ، إذ كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فى الوليد ابن المغيرة حين قال : اكفروا بمحمد وعلىّ أوزاركم.

ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله : «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» وقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ)» فإن الدعاة إلى الضّلال عليهم إثم ضلالتهم فى أنفسهم ، وإثم آخر بسبب إضلالهم من أضلوا من غير أن ينقص أوزار أولئك ولا يرفع عنهم منها شيئا ، وهذا عدل من الله ورحمة منه بعباده.

ثم ذكر عنايته ورحمته بهم فقال :

(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) أي وما كنا مهلكى قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع أعذارهم ، وبمعنى الآية قوله تعالى «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» وقوله : «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» إلى نحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.

٢٤

وخلاصة ذلك ـ إن سنتنا المبنية على الحكم العالية ألا نعذب أحدا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروى على فعل شىء أو تركه إلا إذا أرسلنا رسولا يهدى إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع وتبلغه دعوته.

قال الإمام الغزالي : الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم أصناف ثلاثة :

(ا) من لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا ، وأولئك مقطوع لهم بالجنة.

(ب) من بلغتهم دعوته وظهور المعجزات على يديه ، وما كان عليه صلى الله عليه وسلّم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ، ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهر أنينا ، وأولئك مقطوع لهم بالنار.

(ح) من بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلّم وسمعوا به ولكن كما يسمع أحدنا بالدجالين وحاشا قدره الشريف عن ذلك ، وهؤلاء أرجو لهم الجنة إذا لم يسمعوا ما يرغبهم فى الإيمان به اه.

يريد الغزالي بهذا أنهم سمعوا عنه أخبارا مكذوبة ، وعن دينه أخبارا لا تنطبق على حقيقته ، كما يفعل رجال الكنائس فى تشويه أخبار الرسول بأنه مزواج مطلاق ، وأنه كان متهالكا فى حب النساء ، وأن دينه دين وثنية ، لأنه كان يسجد للكعبة ، وأنه خالف جميع الأنبياء واتجه إليها ولم يتجه لبيت المقدس ، وأن القرآن كثير المتناقضات كثير التكرار للقصص وفيه كذب ، إلى نحو أولئك مما يقولون وهم لا يقولون إلا ترّهات وأباطيل.

ثم بين كيف يقع العذاب بعد بعثة الرسل فقال :

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك أي قرية بعذاب الاستئصال لما ظهر منها من المعاصي ودنست به أنفسها من الآثام ـ لم نعاجلها بالعقوبة ، بل نأمر مترفيها بالطاعة فإذا فسقوا عن أمرنا وتمردوا حق عليهم العذاب جزاء وفاقا لاجتراحهم

٢٥

السيئات وارتكابهم كبائر الإثم والفواحش ، فدمرنا تلك القرية تدميرا ولم نبق منها ديّارا ولا نافخ نار.

وخص المترفين بالذكر لما جرت به العادة أن من سواهم يكون تبعا لهم ، وأن العامة والدهماء يقلدونهم فيما يفعلون ، ولأنهم أسرع إلى الفجور وأقدر على الوصول إلى سبله.

وقد يكون المراد من الأمر ـ أن الله يفيض عليهم نعمه التي تبطرهم وتجعلهم يقعون فى المعاصي ، فكأنه تعالى يأمرهم بها ، إذ مهد لهم الأسباب الموصلة إليها.

وحكى بعض أئمة اللغة أن المراد (بأمرنا) أكثرنا واستدل بما أخرجه أحمد والطبراني من قوله صلى الله عليه وسلّم «خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة» أي مهرة كثر نسلها وطريق مصطفة من النخل مأبورة (كثر فيها اللقاح) لتثمر الثمر الجنى.

ثم ذكر أن كثيرا من الأمم قد حق عليها العذاب بذنوبها فقال :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) أي وقد أهلكنا أمما كثيرة قبلكم من بعد نوح حتى زمانكم حين جحدوا آيات الله وكذبوا رسله وكانوا على مثل ما أنتم عليه من الشرور والآثام ، ولستم بأكرم على الله منهم ، فاحذروا أن يحل بكم من العقاب مثل ما حل بهم وينزل بكم سخطه مثل ما نزل بهم.

وفى هذا من الوعيد لمكذبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مشركى قريش وتهديدهم بشديد العقاب إن لم ينتهوا عما هم عليه من تكذيب رسوله ـ ما لا يخفى.

(وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي وحسبك أيها الرسول بالله خبيرا بذنوب خلقه ، فلا يخفى عليه شىء من أفعال مشركى قومك ولا أفعال غيرهم ، بل هو عليم بجميع أعمالهم لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقون.

ثم قسم سبحانه عباده قسمين محب للعاجلة ومحب لأعمال الآخرة :

(١) (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ

٢٦

يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أي من كان طلبه الدنيا العاجلة ، ولها يعمل ويسعى وإياها يبتغى ، لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا من ربه على ما يعمل ، يعجل الله له فى الدنيا ما يشاء من بسط الرزق وسعة العيش ثم يصليه حين مقدمه عليه فى الآخرة جهنم مذموما على قلة شكره وسوء صنيعه فيما سلف ، مبعدا من رحمته مطرودا من إنعامه.

وقد اشتمل هذا العقاب على أمور ثلاثة :

(ا) الدوام والخلود وإلى ذلك الإشارة بقوله : ثم جعلنا له جهنم يصلاها أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه.

(ب) الإهانة والاحتقار وإلى ذلك أشار بقوله مذموما.

(ح) البعد والطرد من رحمة الله دائما فلا يتخلل ذلك راحة ولا يعقبه خلاص وإلى هذا أشار بقوله : مدحورا ، وفى قوله : لمن نريد ، إشارة إلى أن الفوز بالدنيا لا يحصل لكل من يريدها ، فكثير من الكفار الضلال يعرضون عن الدين فى طلب الدنيا ثم هم يبقون محرومين من الدين والدنيا.

وفى هذا تهديد وزجر عظيم لهؤلاء الكفار ، فإنهم قد يتركون الدين لطلب الدنيا ، وربما فاتتهم أيضا.

(٢) (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي ومن أراد الآخرة ولها عمل وإياها طلب ، فأطاع الله وطلب ما يرضيه ، وهو مصدق بثوابه وعظيم جزائه على سعيه لها ـ شكر الله له جزيل سعيه وآتاه حسن المثوبة كفاء ما قدم من صالح العمل ، وتجاوز عن سيئاته ، وأدخله فراديس جناته.

وقد اشترط لهذا الجزاء أمورا ثلاثة :

(ا) أن يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها ، فإن لم تحصل هذه النية لم ينتفع بذلك العمل كما قال : «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وجاء فى الحديث :

٢٧

«إنما الأعمال بالنيات» ـ إلى أن استنارة القلب بمعرفة الله ومحبته لا تحصل إلا إذا نوى العامل بعمله طاعة ربه والإخبات والخشوع له.

(ب) أن يعمل العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة ، ولا يكون ذلك إلا إذا كان من القرب والطاعات ، لا من الأعمال الباطلة كعبادة الأوثان والكواكب والملائكة.

(ح) أن يكون ذلك وهو مؤمن ، فإن أعمال البر لا توجب الثواب إلا إذا وجد الإيمان.

ثم بين سبحانه أن عطاءه ورزقه الدنيوي لا يحظر على كل من الفريقين فقال :

(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي إن كلا من الفريقين مريدى العاجلة ومريدى الآجلة الساعي لها سعيها وهو مؤمن يمده ربه بعطائه ويوسع عليه الرزق ويكثر الأولاد وغيرهما من زينة الدنيا ، فإن عطاءه ليس بالممنوع من أحد من خلقه مؤمنا كان أو كافرا ، فكلهم مخلوق فى دار العمل ، فوجب إزالة العذر ورفع العلة وإيصال متاع الدنيا إليهم على القدر الذي يقتضيه صلاحهم ، ثم تختلف أحوال الفريقين ، ففريق العاجلة إلى جهنم وبئس المهاد ، وفريق الآجلة إلى جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ونعم عقبى الدار.

ثم وضح مامر من الإمداد وعدم محظورية العطاء على أحد فقال :

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي انظر إلى عطائنا للفريقين فى الدنيا ، كيف فضلنا بعضهم على بعض ، فأوصلنا رزقنا إلى مؤمن وقبضناه عن آخر ، وأوصلناه إلى كافر ومنعناه من كافر آخر ، ولهذا حكم وأسباب بيّنها سبحانه بقوله : «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» وقوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا».

٢٨

(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) أي ولتفاوتهم فى الدار الآخرة وتفاضلهم فيها أكبر من تفاضلهم فى الدار الدنيا ، فإن منهم من يكون فى الدركات السفلى فى جهنم مصفّدا بالسلاسل والأغلال ، ومنهم من يكون فى الدرجات العليا فى نعيم وحبور ، وكل فريق يتفاوتون فيما بينهم ؛ ففى الصحيحين «إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر فى السماء» وفيهما : «إن الله تعالى أعدّ لعباده الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

وروى ابن عبد البر عن الحسن قال : حضر جماعة من الناس باب عمر رضى الله عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (وكان أحد الأشراف فى الجاهلية) وأبو سفيان ابن حرب ومشايخ من قريش ، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم ، فقال أبو سفيان ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا ، فقال سهيل وكان أعقلهم : أيها القوم إنى والله قد أرى الذي فى وجوهكم ، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم ، إنهم دعوا ودعينا (يعنى إلى الإسلام) فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر ، فكيف التفاوت فى الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم فى الجنة أكبر.

وعن بعضهم أنه قال : أيها المباهي بالرفع منك فى مجالس الدنيا ، أما ترغب فى المباهاة بالرفع فى مجالس الآخرة ، وهى أكبر وأفضل؟

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ

٢٩

كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

٣٠

تفسير المفردات

فتقعد : أي فتصير ، مذموما : أي ممن يستحق الذم من الملائكة والمؤمنين ، مخذولا : أي من الله لأنك أشركت معه مالا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وقضى : أي حكم وأمر ، وأفّ : اسم صوت ينبىء عن التضجر والتألم ويقولون لا تقل لفلان أف أي لا تتعرّض له بنوع من الأذى والمكروه ، والنهر : الزجر بغلظة ، كريما : أي جميلا لا شراسة فيه ، قال الراغب : كل شىء يشرف فى جنسه يقال إنه كريم. وخفض الجناح يراد به التواضع والتذلل ، من الرحمة : أي من فرط رحمتك عليهما ، والأوّاب :

الذي ديدنه الرجوع إلى الله والالتجاء إليه حين الشدة ، والتبذير إنفاق : المال فى غير موضعه ، وإخوان الشياطين : أي قرناؤهم ، والابتغاء : الطلب ، والرحمة الرزق ، والميسور : السهل اللين ، والمغلولة : المقيدة بالغلّ وهو القيد يوضع فى اليدين والعنق ، وتبسطها : أي تتوسع فى الإنفاق ، والمحسور : المنقطع عن السير إعياء وكلالا ، ويقدر : أي يقتر ، والإملاق : الفقر قال :

وإنى على الإملاق ياقوم ماجد

أعدّ لأضيافى الشّواء المضهّبا

والخطء : كالإثم لفظا ومعنى ، والفاحشة : الفعلة الظاهرة القبح ، والسلطان : التسلط والاستيلاء ، فلا يسرف : أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه ، التي هى أحسن : أي الطريق التي هى أحسن ، والعهد : ما تعاهدون عليه غيركم من العباد لتوثيقه وتوكيده ، والقسطاس : (بكسر القاف وضمها) الميزان ، والمستقيم : العدل ، والتأويل : ما يئول إليه الشيء وهو عاقبته ، ولا تقف من قفوت أثر فلان : أي اتبعته ، والمرح : الفخر والكبر ، لن تخرق الأرض : أي لن تجعل فيها طرقا بدوسك وشدة وطأتك ، والحكمة : معرفة الحق سبحانه ومعرفة الخير للعمل به ، والمدحور : المبعد من رحمة الله.

٣١

المعنى الجملي

بعد أن ذكر جلت قدرته أن الناس فريقان فريق يريد بعمله الدنيا فقط ، وعاقبتهم العذاب والوبال ، وفريق يريد بعمله طاعة الله ، وهم أهل مرضاته ، والمستحقون لثوابه ، وقد اشترط لنيلهم ذلك أن يعملوا للآخرة وأن يكونوا مؤمنين ـ لا جرم فصل الله فى هذه الآية حقيقة الإيمان والأعمال التي إذا عملها المؤمن كان ساعيا للآخرة ، وصار من الذين سعد طائرهم ، وحسن حظهم ، ثم أعقب ذلك بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وبعدئذ أتبع ذلك بالأمر ببر الوالدين من قبل أنهما السبب الظاهر فى وجوده ، وبالأمر بإيتاء ذوى القربى حقوقهم ، ثم بالأمر بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل ، لأن فى إصلاحهما إصلاح المجتمع ، والمسلمون كلهم إخوة ، وهم يد على من سواهم ، ثم قفى على ذلك بالنهى عن التبذير ، لما فيه من إصلاح حال المرء وعدم ارتباكه فى معيشته ، وصلاحه إصلاح للأمة جمعاء ، فما الأمم إلا مجموعة الأفراد ، ففى صلاحهم صلاحها ، ثم علمنا سبيل إنفاق المال على الوجه الذي يرضاه الدين ، ويرشد إلى حسنه العقل ، وبعدئذ نهانا عن قتل الأولاد خشية الفقر ، وبين أن الكفيل بأرزاقهم وأرزاقكم هو ربكم ، فلا وجه للخوف من ذلك ، ثم تلا هذا بالنهى عن الزنا ، لما فيه من اختلاط الأنساب ، وفقدان النسل أو قلته ، ووقوع الشغب والقتال بين الناس دفاعا عن العرض ؛ ثم بالنهى عن القتل لهذا السبب عينه ، ثم بالنهى عن إتلاف مال اليتيم ، ثم بالأمر بالوفاء بالعهد وهو العقد الذي يعمل لتوكيد الأمر وتثبيته ، ثم بإيفاء الكيل والميزان ، لما فى حسن التعامل بين الناس من توافر المودة والمحبة بينهم ، وهذا ما يرمى إليه الدين ، لإصلاح شؤون الفرد والمجتمع ، ثم بالنهى عن تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل ، فلا تتّبع ما كان يعمله الآباء اقتداء بهم من عبادة الأصنام تقليدا لهم ، ولا تشهد على شىء لم تره ، ولا تكذب ، فتقول فى شىء لم تسمعه إنك قد سمعته ،

٣٢

ولا فى شىء لم تره ، إنك قد رأيته ، ثم بالنهى عن مشية الخيلاء والمرح لما فيهما من الصّلف الذي لا يرضاه الله ولا الناس ، ثم ختم ذلك ببيان أن تلك الأوامر والنواهي هى من وحي الله وتبليغه ، لا من عند نفسه ، أمر بها ونهى عنها ، لأنها أسس سعادة الدارين ، وعليها تبنى العلاقات بين الأفراد والأمم على نظم صحيحة لا تكون عرضة للاضطراب وفقدان الثقة فى معاملاتهم.

الإيضاح

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) أي لا تجعل أيها الإنسان مع الله شريكا فى ألوهيته وعبادته ، ولكن أخلص له العبادة وأفرد له الألوهة ، فإنه لا ربّ غيره ، ولا معبود سواه ، وإنك إن تجعل معه إلها غيره ، وتعبد معه سواه ، تصر ملوما على ما ضيعت من شكر الذي أنعم عليك بنعمه ، وشكر من لم يولك نعمة ، مخذولا لا ينصرك ربك ، بل يكلك إلى من عبدته معه ، ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

وبعد أن ذكر الركن الأعظم فى الإيمان أتبعه بذكر شعائره وهى الأمور الآتية فقال :

(١) (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي وأمر ربك ألا تعبدوا غيره ، إذ العبادة نهاية التعظيم ، ولا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ، ولا منعم إلا هو.

(٢) (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأن تحسنوا إلى الوالدين وتبرّوهما ، ليكون الله معكم «إنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون».

وقد أمر سبحانه بالإحسان إليهما للأسباب الآتية :

(ا) شفقتهما على الولد ، وبذل الجهد فى إيصال الخير إليه ، وإبعاد الضر عنه ، جهد المستطاع ، فوجب مقابلة ذلك بالإحسان إليهما والشكر لهما.

٣٣

(ب) إن الولد قطعة من الوالدين كما جاء فى الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال : «فاطمة بضعة منى».

(ج) إنهما أنعما عليه ، وهو فى غاية الضعف ، ونهاية العجز ، فوجب أن يقابل ذلك بالشكر حين كبرهما ، كما قال الشاعر العربي يعدّد نعمه على ولده وقد عقّه فى كبره :

غذوتك مولودا ومنتك يافعا

تعلّ بما أجنى عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت

لسقمك إلا ساهرا أتململ

كأنى أنا المطروق دونك بالذي

طرقت به دونى فعينىّ تهمل

تخاف الردى نفسى عليك وإنها

لتعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي

إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

جعلت جزائى غلظة وفظاظة

كأنك أنت المنعم المتفضّل

فليتك إذ لم ترع حق أبوّتى

فعلت كما الجار المجاور يفعل

والخلاصة ـ إنه لا نعمة تصل إلى الإنسان أكثر من نعمة الخالق عليه ، ثم نعمة الوالدين ، ومن ثم بدأ بشكر نعمته أوّلا بقوله : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» ، ثم أردفها بشكر نعمة الوالدين بقوله : «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً».

ثم فصل ما يجب من الإحسان إليهما بقوله :

(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي إذا وصل الوالدان عندك أو أحدهما إلى حال الضعف والعجز وصارا عندك فى آخر العمر كما كنت عندهما فى أوله ـ وجب عليك أن تشفق عليهما ، وتحنو لهما. تعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه ، ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما الأمور الخمسة الآتية :

٣٤

(ا) ألا تتأفف من شىء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس ، ولكن اصبر على ذلك منهما ، واحتسب الأجر عليه ، كما صبرا عليك فى صغرك.

(ب) ألا تنغّص عليهما بكلام تزجرهما به ، وفى هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ، وفيما قبله منع من إظهار الضجر القليل أو الكثير.

(ج) أن تقول لهما قولا حسنا ، وكلاما طيبا مقرونا بالاحترام والتعظيم ، مما يقتضيه حسن الأدب ، وترشد إليه المروءة ، كأن تقول يا أبتاه ويا أماه ، ولا تدعوهما بأسمائهما ، ولا ترفع صوتك أمامهما ، ولا تحدّق فيهما بنظرك.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبى الهدّاج قال : قلت لسعيد بن المسيّب : كل ما ذكر الله تعالى فى القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله «وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً» ما هذا القول الكريم ، فقال ابن المسيّب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ.

(د) أن تتواضع لهما وتتذلل ، وتطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن معصية لله ، رحمة منك بهما وشفقة عليهما ، إذ هما قد احتاجا إلى من كان أفقر الخلق إليهما ، وذلك منتهى ما يكون من الضراعة والمسكنة ، ولله در الخفاجي إذ يقول :

يا من أتى يسأل عن فاقتى

ما حال من يسأل من سائله

ماذلة السلطان إلا إذا

أصبح محتاجا إلى عامله

وقوله : من الرحمة ، أي أن يكون ذلك التذلل رحمة بهما ، لا من أجل امتثال الأمر وخوف العار فقط ، فتذكّر نفسك بما تقدّم لهما من الإحسان إليك ، وبما أمرت به من الشفقة والحدب عليهما.

وقد مثل حاله معهما بحال الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه لتربيته ، فإنه يخفض له جناحه ، فكأنه قال للولد : اكفل والديك ، بأن تضمهما إلى نفسك ، كما فعلا ذلك حال صغرك.

٣٥

(هـ) أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الباقية ، كفاء رحمتهما لك فى صغرك وجميل شفقتهما عليك.

وعلى الجملة فقد بالغ سبحانه فى التوصية بهما من وجوه كثيرة ، وكفاهما أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ، ونظمهما فى سلك القضاء بهما معا.

وقد ورد فى بر الوالدين أحاديث كثيرة منها :

(١) إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستأذنه فى الجهاد معه فقال أحيّ والدك؟ قال نعم ، قال ففيهما فجاهد».

(٢) مارواه مسلم وغيره : «لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه ويعتقه».

(٣) ما روى عن ابن مسعود قال : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم : أىّ العمل أحب إلى الله ورسوله؟ قال الصلاة على وقتها ، قلت ثم أىّ؟ قال بر الوالدين قلت ثم أىّ؟ قال الجهاد فى سبيل الله».

وبر الأم مقدم على بر الأب ، لما روى الشيخان «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل من أحق الناس بحسن صحابتى؟ قال أمك ، قال ثم من؟ قال أمك ، قال ثم من؟ قال أمك ، قال ثم من؟ قال أبوك».

ولا يختص برهما بحال الحياة ، بل يكون بعد الموت أيضا ، فقد روى ابن ماجه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل : هل بقي من بر أبويّ شىء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال نعم ، خصال أربع : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ، فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما».

والخلاصة ـ إنه سبحانه بالغ فى التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ منها جلود أهل العقوق ، وتقف عندها شعورهم ، من حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته ، ثم شفعهما بالإحسان إليهما ثم ضيّق الأمر فى مراعاتهما حتى لم يرخّص فى أدنى كلمة تنفلت من المتضجر ، مع موجبات الضجر ، ومع أحوال لا يكاد الإنسان يصبر معها ، وأن

٣٦

يذلّ ويخضع لهما ، ثم ختمها بالدعاء لهما والترحم عليهما ، وهذه الخمسة الأشياء جعلها سبحانه من رحمته بهما ، مقرونة بوحدانيته ، وعدم الشرك به.

ولما كان بر الوالدين عسيرا حذّر من التهاون فيه فقال :

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) أي ربكم أيها الناس أعلم منكم بما فى نفوسكم ، من تعظيمكم أمر آبائكم وأمهاتكم والبر بهم ، ومن الاستخفاف بحقوقهم والعقوق بهم ، وهو مجازيكم على حسن ذلك وسيئه ، فاحذروا أن تضمروا لهم سوءا ، وتعقدوا لهم فى نفوسكم عقوقا ، فإن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم ، وأطعتم ربكم فيما أمركم من البر بهم ، والقيام بحقوقهم عليكم ، بعد هفوة كانت منكم أو زلة فى واجب لهم عليكم ، فإنه تعالى يغفر لكم ما فرط منكم ، فهو غفار لمن يتوب من ذنبه ، ويرجع من معصيته إلى طاعته ، ويعمل بما يحبه ويرضاه.

وفى هذا وعد لمن أضمر البر بهم ، ووعيد لمن تهاون بحقوقهم ، وعمل على عقوقهم.

وبعد أن أمر بالبر بالوالدين أمر بالبر بأصناف ثلاثة أخرى فقال :

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي وأعط أيها المكلّف القريب منك حقه ، من صلة الرحم والمودة ، والزيارة وحسن العشرة ، وإن كان محتاجا إلى النفقة فأنفق عليه ما يسد حاجته. والمسكين ذا الحاجة. وابن السبيل وهو المسافر لغرض دينى ، فيجب إعانته ومساعدته على سفره حتى يصل إلى مقصده.

ولما رغب سبحانه فى البذل بيّن الطريق التي تتبع فى ذلك فقال :

(وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي ولا تفرّق أيها الإنسان ما أعطاك الله من مال فى معصيته تفريقا ، بإعطائه من لا يستحقه.

ونحو الآية قوله «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً».

قال عثمان بن الأسود : كنت أطوف المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه

٣٧

إلى أبى قبيس (جبل بمكة) وقال لو أن رجلا أنفق مثل هذا فى طاعة الله لم يكن من المسرفين ، ولو أنفق درهما واحدا فى معصية الله كان من المسرفين.

وأنفق بعضهم نفقة فى خير وأكثر فقيل له : لا خير فى السرف ، فقال : لا سرف فى الخير.

وعن عبد الله بن عمر قال : «مر رسول الله بسعد وهو يتوضأ ، فقال ما هذا السرف يا سعد؟ قال : أو فى الوضوء سرف؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار».

وروى أحمد عن أنس بن مالك أنه قال : أتى رجل من تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إنى ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة ، فأخبرنى كيف أنفق ، وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : «تخرج الزكاة من مالك إن كان ، فإنها طهرة تطهّرك ، وتصل أقرباءك ، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» فقال : يا رسول الله أقلل لى ، قال «فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا» فقال حسبى يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : نعم إذا أديتها إلى رسولى فقد برئت منها ولك أجرها ، وإثمها على من بدّ لها».

وعن على كرم الله وجهه قال : ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك فى غير سرف ولا تبذير ، وما تصدقت فلك ، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان.

ثم نبه سبحانه إلى قبح التبذير بإضافته إلى الشياطين فقال :

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) تقول العرب لكل من لازم سنة قوم واتبع أثرهم هو أخوهم ، أي إن المفرّقين أموالهم فى معاصى الله المنفقيها فى غير طاعته قرناء الشياطين فى الدنيا والآخرة كما قال «ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطانا فهو له قرين» وقال : «احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم» أي قرناءهم من الشياطين.

(وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي وكان الشيطان لنعمة ربه التي أنعم بها عليه

٣٨

جحودا لا يشكره عليها ، بل يكفرها بترك طاعته ، ور كوبه معصيته ، وهكذا إخوانه المبذرون أموالهم فى معاصى الله ، لا يشكرون الله على نعمه عليهم ، بل يخالفون أمره ، ولا يستنون سنته ، ويتركون الشكران عليها ويتلقونها بالكفران.

قال الكرخي : وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا ، فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفورا لنعمة الله ، لأنه موافق للشيطان فى الصفة والفعل اه.

وفى ذكر وصف الشيطان بالكفران دون ذكر سائر أوصافه ، بيان لأن المبذر لما صرف نعم الله عليه فى غير موضعها فقد كفر بها ولم يشكرها ، كما أن الشيطان كفر بهذه النعم.

وقد كان من عادة العرب أن يجمعوا أموالهم من السلب والنهب والغارة ثم ينفقونها فى التفاخر وحب الشهرة. وكان المشركون من قريش ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه ، فجاءت الآية تبين قبح أعمالهم.

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أي وإن أعرضت عن ذوى القربى والمسكين وابن السبيل وأنت تستحى أن تردّ عليهم ، انتظار فرج من الله ترجو أن يأتيك ، ورزق يفيض عليك ، فقل لهم قولا لينا جميلا ، وعدهم وعدا تطيب به قلوبهم ، قال الحسن : أمر أن يقول لهم : نعم وكرامة ، وليس عندنا اليوم شىء ، فإن يأتنا نعرف حقكم.

وفى هذا تأديب من الله لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبم يردّون؟. ولقد أحسن من قال :

إلا يكن ورق يوما أجود به

للسائلين فإنى ليّن العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقى

إما نوال وإما حسن مردود

ثم بين سبحانه الطريق المثلى فى إنفاق المال فقال :

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)

٣٩

أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطى أحدا شيئا ، ولا تسرف فى الإنفاق فتعطى فوق طاقتك ، وتخرج أكثر من دخلك ، فإنك إن بخلت كنت ملوما مذموما عند الناس كما قال زهير :

ومن يك ذا مال فيبخل بماله

على قومه يستغن عنه ويذمم

ومذموما عند الله لحرمان الفقير والمسكين من فضل مالك ، وقد أوجب الله عليك سد حاجتهما ، بإعطاء زكاة أموالك.

وإن أسرفت فى أموالك فسرعان ما تفقدها ، فتصبح معسرا بعد الغنى ، ذليلا بعد العزة ، محتاجا إلى معونة غيرك بعد أن كنت معينا له ، وحينئذ تقع فى الحسرة التي تقطع نياط قلبك ، ويبلغ منك الأسى كل مبلغ ، ولكن أنّى يفيد ذلك؟ وقد فات ما فات ، فلا ينفع الندم ، ولا تجدى العظة والنصيحة.

وخلاصة ذلك ـ اقتصد فى عيشك ، وتوسط فى الإنفاق ، ولا تكن بخيلا ولا مسرفا.

روى أحمد وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما عال من اقتصد» وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة» وروى عن أنس مرفوعا : «التدبير نصف المعيشة ، والتودد نصف العقل ، والهمّ نصف الهرم ، وقلة العيال أحد اليسارين». وقيل : حسن التدبير مع العفاف ، خير من الغنى مع الإسراف.

وإجمال المعنى ـ لا تجعل يدك فى انقباضها كالمغلولة الممنوعة عن الانبساط ، ولا تتوسّع فى الإنفاق فتصير نادما مغموما وعاجزا عن الإنفاق لا شىء عندك ، فتكون كالدابة التي قد عجزت عن السير فوقفت ضعفا وعجزا وإعياء.

ثم سلّى رسوله والمؤمنين بأن الذي يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي إن ربك أيها الرسول يبسط الرزق لمن يشاء ويوسع عليه ، ويقتر على من يشاء ويضيق عليه ، بحسب السنن

٤٠