تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

عن شخص يقبل عليه ، ومن غضب عليه يعرض عنه ، ولا تعد عيناك عنهم : أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ؛ والمراد لا تحتقرهم وتصرف النظر عنهم إلى غيرهم لرثاثة منظرهم ، تريد زينة الحياة الدنيا : أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الثراء ، أغفلنا قلبه : أي جعلناه غافلا ، فرطا : أي تقريطا وتضييعا لما يجب عليه أن يتّبعه من أمر الدين ، وأعتدنا : أي أعددنا وهيأنا ، والسرادق : لفظ فارسى معرّب يزاد به الفسطاط (الخيمة) شبه به ما يحيط بهم من لهب النار المنتشر منها فى سائر الجهات ، المهل : دردىّ الزيت أو ما أذيب من المعادن كالرّصاص والنّحاس ، يشوى الوجوه : أي ينضجها إذا قدّم ليشرب ، لشدة حره ، ومرتفقا : أي متكأ ؛ يقال بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرق يده ، وجنات عدن : أي جنات إقامة واستقرار ؛ يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه واستقر ، ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه ، والأساور : واحدها سوار ، والسندس : رقيق الديباج واحده سندسة وهو فارسى معرّب ، والإستبرق : ما غلظ منه وهو رومى معرب ، والأرائك واحدها أريكة ـ سرير عليه حجلة (ناموسية).

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه قصص أهل الكهف ودل اشتمال القرآن عليه على أنه وحي من علام الغيوب ـ أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه وتلاوته ، وألا يكترث بقول القائلين له : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، ثم ذكر ما يلحق الكافرين من النكال والوبال يوم القيامة ، وما ينال المتقين من النعيم المقيم كفاء ما عملوا من صالح الأعمال.

الإيضاح

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي واتل الكتاب الذي أوحى إليك ، والزم العمل به ، واتّبع ما فيه من أمر ونهى ، وإن أحدا لا يستطيع أن يغيّر ما فيه من وعيد لأهل معاصيه ، ومن وعد لأهل

١٤١

طاعته ، فإن أنت لم تتبعه ولم تأتمّ به ، فنالك وعيد الله الذي أوعد به المخالفين حدوده ـ فلن تجد موئلا من دونه ، ولا ملجأ تلجأ إليه ، إذ قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه ، لا يقدر أحد على الهرب من أمر أراده به.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي احبس نفسك وثبّتها مع فقراء الصحابة كعمار بن ياسر وصهيب وبلال وابن مسعود وأضرابهم ممن يدعون ربهم بالغداة والعشى بالتسبيح وصالح الأعمال ابتغاء مرضاة الله ، لا يريدون عرضا من أعراض الدنيا ولا شيئا من لذاتها ونعيمها.

روى «أن عيينة بن حصن الفزاري أنى النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يسلم وعنده جماعة من فقراء أصحابه ، فيهم سامان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها ، وبيده خوص يشقّه ثم ينسجه ، فقال له : أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها ، فإن أسلمنا أسلم الناس ، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء ، فنحّهم حتى نتّبعك ، أو اجعل لهم مجلسا ، ولنا مجلسا ، فنزلت الآية».

وعن أبى سعيد وأبى هريرة قالا : «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسى معهم».

ونحو الآية قوله : «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ».

ومقال هؤلاء شبيه بمقالة قوم نوح : «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» :

ثم أمره سبحانه بمراقبة أحوالهم فقال :

(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لا تصرف بصرك ونفسك عنهم ، رغبة فى مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون.

وخلاصة ذلك ـ النهى عن احتقارهم ، وصرف النظر عنهم إلى غيرهم ، لسوء

١٤٢

حالهم وقبح يزّتهم ، روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لما نزلت الآية : الحمد لله الذي جعل فى أمتى من أمرت أن أصبر نفسى معه.

ثم أكد هذا النهى بقوله :

(وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي ولا تطع فى تنحية الفقراء عن مجلسك من جعلنا قلبه غافلا عن ذكر الله ، لسوء استعداده ، واتباع شهواته ، وإسرافه فى ذلك غاية الإسراف ، وتدسيته نفسه ، حتى ران الكفر والفسوق والعصيان على قلبه ، وتمادى فى اجتراح الآثام والأوزار.

وفى ذلك تنبيه إلى أن الباعث لهم على استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله ، والعمل على ما يقرّب منه ، وشغلهم بالأمور الحسية حتى خفى عليهم أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد وزخرف الحياة من اللباس والطعام والشرف.

وبعد أن أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم أن لا يلتفت إلى قول أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت أولئك الفقراء آمنا بك ـ أمره أن يقول لهم ولغيرهم على طريق التهديد والوعيد : هذا هو الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، وقد أشار إلى ذلك بقوله :

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي قل أيها الرسول لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر ، واتبعوا أهواءهم : هذا الذي أوحى إلىّ هو الحق من عند ربكم ، وهو الذي يجب عليكم اتباعه والعمل به ، فمن شاء أن يؤمن به ويدخل فى غمار المؤمنين ، ولا يتعلل بما لا يصلح أن يكون معذرة له فليفعل ، ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فأمره إلى الله ، ولست بطارد لأجل أهوائكم من كان للحق متّبعا ، وبالله وبما أنزل علىّ مؤمنا.

وخلاصة ذلك ـ إننى فى غنى عن متابعتكم ، وإننى لا أبالى بكم ولا بإيمانكم ، وأمر ذلك إليكم ، وبيد الله التوفيق والخذلان ، والهوى والضلال ، وهو لا ينتفع بإيمان

١٤٣

المؤمنين ، ولا يضره كفر الكافرين كما قال : «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها».

ولما هدد السامعين بأن يختاروا لأنفسهم ما يجدونه غدا عند الله ـ أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والمعاصي ، والوعد على الأعمال الصالحة ، وبدأ بالأول فقال :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي إنا قد أعددنا لمن ظلم نفسه وأنف من قبول الحق ، ولم يؤمن بما جاء به الرسول ـ نارا يحيط بهم لهيبها المستعرة من كل جانب كما يحيط السرادق بمن حل فيه ، فلا مخلص منه ، ولا ملجأ إلى غيره (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة وهم فى النار ، فيطلبوا الماء لشدة ما هم فيه من العطش لحر جهنم كما قال فى سورة الأعراف حكاية عنهم : «أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله» يؤت لهم بماء غليظ كدردىّ الزيت ، وإذا قرب إليهم للشرب سقطت جلود وجوههم ونضجت من شدة حره.

روى أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال «المهل : كعكر الزيت ، فإذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه» ، وعن ابن عباس قال : أسود كعكر الزيت (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي ما أقبح هذا الشراب الذي هو كالمهل ، فهو لا يطفىء غلّة ، ولا يسكّن حرارة الفؤاد ، بل يزيد فيها إلى أقصى غاية ، وما أسوا هذه النار منزلا ومرتفقا ، وجاء فى الآية الأخرى : «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» ثم ثنّى بذكر السعداء فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك ، وعملوا ما أمرهم به ربهم ، فالله لا يضيع أجرهم على ما أحسنوا من الأعمال ، ولا يظلمهم على ذلك نفيرا ولا قطميرا.

١٤٤

ثم بين ما أعد لهم من النعيم بقوله :

(١) (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي إنه لهم جنات يقيمون فيها تجرى من تحت غرفها الأنهار.

(٢) (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) أي يلبسون فيها أساور من ذهب تكون حلية لهم ، وعن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب ، وجاء فى آية أخرى من فضة ، وفى أخرى من ذهب ولؤلؤ فيعلم من هذا أنهم يحلون بالأساور الثلاثة ، فيكون فى يد الواحد منهم سوار من ذهب وآخر من فضة وآخر من لؤلؤ.

(٣) (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) أي ويلبسون رقيق الحرير وغليظه مما نسج من سلوك الذهب ، وهذا لباس المترفين فى الدنيا ، ومنتهى ما يكون لأهل النعيم.

واختير اللون الأخضر ، لأنه أرفق بالأبصار ، ومن ثم جعله الله لون النبات والأشجار ، وجعل لون السماء الزرقة ، لأنه نافع لأبصار الحيوان أيضا ، وقد قالوا : ثلاثة مذهبة للحزن : الماء والخضرة والوجه الحسن.

(٤) (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي يتكئون فيها على سرر مزدانة بالستور ، وفى هذا دليل على منتهى الراحة والنعيم ، كما يكون ذلك فى الدنيا.

(نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) أي نعمت الجنة لهم جزاء وفاقا على جميل أعمالهم ، وحسنت منزلا ومقيلا.

ونحو الآية قوله : «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً. خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً».

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها

١٤٥

وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)).

تفسير المفردات

الجنة : البستان ، سميت بذلك لا جتنان أرضها واستتارها بظل الشجر ، وكل مادة (ج ن ن) تفيد الخفاء والاستتار كالجنين والجن والمجنون لاستتار عقله وجن الليل : أي أظلم إلى نحو ذلك ، أعناب : أي كروم منوعة ، وحففناهما بنخل : أي جعلنا النخل محيطا بهما مطبقا بحفافيهما : أي جانبيهما ، يقال حفّه القوم : أي

١٤٦

طافوا به ، ومنه قوله «حافّين من حول العرش» وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله ، أكلها : أي ثمرها ، ولم تظلم : أي لم تنقص ، والنهر لغة فى النهر : وهو مجرى الماء العذب ، ثمر : أي أنواع من المال يقال ثمر فلان ماله وأثمره : إذا نماه. قال الحرث ابن كلدة :

ولقد رأيت معاشرا

قد أثمروا مالا وولدا

والصاحب : المصاحب لك ، يحاوره : أي يجادله ويراجعه الكلام بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله والبعث ، والمراد من النفر الخدم والحشم والأعوان ، أن تبيد : أي تفنى وتهلك ، قائمة : أي كائنة متحققة ، ومنقلبا : أي مرجعا وعاقبة ، سواك : أي عدلك وكملك إنسانا ، لكنا هو الله ، أصل التركيب لكن أنا هو الله ربى (دخله نقل وحذف) لولا : حرف يفيد الحث على الشيء والتوبيخ على تركه ، ما شاء الله : أي ماشاء الله كائن ، حسبانا من السماء : أي مطرا عظيما يقلع زرعها وأشجارها ، والصعيد : وجه الأرض ؛ وزلقا : أي تصير بحيث تزلق عليها الرجل ؛ والمراد أنها تصير ترابا أملس لا تثبت فيه قدم ، والغور : الغائر فى الأرض الغائص فيها ، طلبا : أي عملا وحركة لرده ، وأحيط بثمره : أي أهلكت أمواله ، يقال أحاط به العدو : إذا استولى عليه وغلبه ، ثم استعمل فى كل إهلاك ، ويقلب كفيه ، هذا أسلوب فى اللغة يفيد الندامة والحسرة ، فإن من تعظم حسرته يصفق بإحدى يديه على الأخرى متأسفا متلهفا ، خاوية : أي ساقطة ، يقال خوت الدار وخوت وخويت خيا وخويا : تهدمت وخلت من أهلها ، والعروش : واحدها عرش وهى الأعمدة التي توضع عليها الكروم ، منتصرا : أي ممتنعا بقوة عن انتقام الله ، عقبا : أي عاقبة.

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله نبيه بصبر نفسه مع فقراء المؤمنين ، وعدم طاعة أولئك الأغنياء من المشركين الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلّم طرد هؤلاء الصعاليك ، وأن

١٤٧

يعين لهم مجلسا وللسادة مجلسا آخر حتى لا يؤذوهم بمناظرهم البشعة ، وروائحهم المستقذرة ، وحتى لا يقال إن السادة ومواليهم يجتمعون فى صعيد واحد ، ويتحدثون وإياهم حديث الند للند ، وفى ذلك امتهان لكبريائهم وخفض من عزتهم ـ قفى على ذلك بمثل يستبين منه أن المال لا ينبغى أن يكون موضع فخار ، لأنه ظل زائل ، وأنه كثيرا ما يصير الفقير غنيا والغنى فقيرا ، وإنما الذي يجب أن يكون أساس التفاخر ، وعمدة التفاضل ، هو طاعة الله وعبادته ؛ والعمل على ما يرضيه فى دار الكرامة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

الإيضاح

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) أي واضرب أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى ـ مثلا هو مثل رجلين جعلنا لأحدهما بستانين من كروم العنب ، وأحطناهما بنخل ، وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا.

وخلاصة ذلك ـ إن أرضه جمعت القوت والفواكه ، وهى متواصلة متشابكة ، فلها منظر ورواء حسن ووضع أنيق يخلب اللب بجماله وبهجته إذا امتلأ منه البصر.

روى أن أخوين من بنى إسرائيل ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر بنصيبه ضياعا وعقارا ، وأنفق المؤمن ما ورثه فى وجوه الخير وطاعة الله وآل أمرهما إلى ما قصه الله علينا فى كتابه.

وسواء أصحت الرواية أم لم تصح ، فإن ضرب المثل لا يتوقف على صحتها.

وقد ضرب الله المثل ليبين حال الفريقين المؤمنين والكافرين ، من قبل أن الكفار مع تقلبهم فى النعيم قد عصوا ربهم ، وأن المؤمنين مع مكابدتهم للشدائد والبأساء قد أطاعوه.

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي كلتا الجنتين أخرجت ثمرها

١٤٨

ولم تنقص منه شيئا فى سائر الأعوام على خلاف ما يعهد فى الكروم والأشجار من أنها تكثر غلتها أعواما وتقل أعواما أخرى.

(وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي وشققنا وسط الجنتين نهرا كبيرا تتفرع منه عدة جداول ، ليدوم سقيهما ، ويزيد بهاؤهما وتكثر غلتهما.

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي وكان لصاحب الجنتين أموال أخرى غيرهما من ذهب وفضة ثمرها بما ادخره من غلات الجنتين ومن تجارات أخرى.

وخلاصة ذلك ـ إنه سبحانه أنعم عليه بخيرات الدنيا صامتها وناطقها ، ثاغيها وراغيها ، وكان له مزارع يستخدم فيها أعوانه وخدمه ولا يستعصى عليه شىء من مسرات الدنيا ومباهجها ، ولذاتها ونعيمها.

وبعد أن تم له الأمر وقعد على سنام العز والكبرياء ، داخله الزّهو والخيلاء.

(فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي فقال لصاحبه المؤمن حين حاوره وراجعه الحديث ، مذكرا له بالإيمان بالله والبعث والقيامة : أنا أكثر منك مالا كما ترى من جناتى وزروعى المختلفة ، وأعز عشيرة ورهطا تقوم بالذبّ عنى ودفع خصومتى ، وتنفر معى عند الحاجة إلى ذلك.

ثم زاد فخرا على صاحبه المسلم وأراه عيانا ما يتمتع به من المناظر البهيجة فى تلك الجنان التي لا تفنى ، وذلك ما أخبر عنه سبحانه بقوله :

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي ودخل هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب وأشجار ونخيل ، ومعه صاحبه ، هاتين الجنتين وطاف به فيهما مفاخرا وقال حين عاين ما فيهما من أشجار وثمار وزروع وأنهار مطردة : ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا ولا تخرب ـ كما قال (وهو شاك فى المعاد إلى الله والبعث والنشور) ما أظن أن يوم القيامة آت كما تقولون ، وقد كان فى كل ذلك ظالما لنفسه ، إذ وضع الشيء فى غير موضعه ، فقد كان أليق به أن يكون شاكرا لتلك

١٤٩

النعم ، متواضعا لربه ، لا أن يكون كافرا به ، منكرا لما جاء به الوحى ، وأقرته جميع الشرائع.

وخلاصة ذلك ـ إنه لحقه الخسار من وجهين.

(١) ظنه أن تلك الجنة لا تهلك ولا تبيد مدى الحياة.

(٢) ظنه أن يوم القيامة لن يكون.

ثم تمنى أمنية أخرى كان فى شك منها فقال :

(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي ولئن كان معاد ورجعة إلى الله ليكوننّ لى هناك أحسن من هذا الحظ عند ربى ، والذي جرّأه على هذا الطمع وعلى تلك اليمين الفاجرة ـ اعتقاده أن الله إنما حباه بما حباه به فى الدنيا لما له من كرامة لديه ، ولما فيه من مزايا استحق بها أن ينال ما نال.

ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن الكافر «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى».

وخلاصة ذلك ـ إنه لم يعطنى الجنة فى الدنيا إلا ليعطينى فى الآخرة ما هو أفضل منها قال ذلك طمعا وتمنيا على الله ، وادعاء للكرامة عنده.

ثم ذكر سبحانه جواب المؤمن له فقال :

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ : أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً؟) أي قال له صاحبه المؤمن واعظا وزاجرا عما هو فيه من الكفر : أكفرت بالذي خلقك من التراب؟ إذ غذاء والديك من النبات والحيوان ، وغذاء النبات من التراب والماء ، وغذاء الحيوان من النبات ، ثم يصير هذا الغذاء دما يتحول بعضه إلى نطفة يكون منها خلقك بشرا سويا على أتم حال وأحكمه بحسب ما تقتضيه الحكمة ـ فهذا الذي خلقك على هذه الحال قادر على أن يخلقك مرة أخرى.

والخلاصة ـ كيف تجحدون ربكم ، ودلالة خلقكم على وجوده ظاهرة جلية

١٥٠

يعلمها كل أحد من نفسه ، فما من أحد إلا يعلم أنه كان معدوما ثم وجد ، وليس وجوده من نفسه. ولا مستندا إلى شىء من المخلوقات ، لأنها مثله ، وقد أشار إلى ذلك بقوله :

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) أي لكن أنا لا أقول بمقالتك ، بل أعترف بالوحدانية والربوبية وأقول هو الله ربى.

(وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) فهو المعبود وحده لا شريك له.

وفى هذا تعريض بأن صاحبه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساويا لخلقه فى هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك.

ثم زاد فى عظة صاحبه فقال له :

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ : ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي وهلا إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت إليها ـ حمدت الله على ما أنعم به عليك ، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك ، وقلت : الأمر ما شاء الله ، والكائن ما قدره الله ، ليكون ذلك منك اعترافا بالعجز ، وبأن كل خير بمشيئة الله وفضله ، وهلا قلت : لا قوة إلا بالله ، إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فإنما هو بمعونة الله وتأييده.

وبعد أن نصح الكافر بالإيمان ، وأبان له عظيم قدرة الله وكبير سلطانه ـ أجابه عن افتخاره بالمال والنفس ورد على قوله : أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا فقال :

(إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي إن ترنى أيها الرجل أفقر منك فإنى أرجو الله أن يقلب الآية ، ويجعل ما بي بك ، ويرزقنى الغنى ، ويرزقنى لإيمانى جنة خيرا من جنتك ، ويسلبك بكفرك نعمته ، ويخرب جنتك ، بأن يرسل عليها مطرا من السماء يقلع زروعها وأشجارها ، أو يجعل ماءها يغور فى الأرض ، فلن تطيق أن تدركه بعد غوره بطلبك إياه.

١٥١

وخلاصة ذلك ـ إن المؤمن رجا هلاك جنة صاحبه الكافر إما باقة سماوية أو بآفة أرضية وهى غور مائها ، وكلناهما تتلف الشجر والزرع والكرم.

ثم أخبر سبحانه بأنه قد حقق ما قدره هذا المؤمن فقال :

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) أي وأحاطت الجوائح بثمار جنته التي كان يقول فيها : ما أظن أن تبيد هذه أبدا ـ فأصبح يقلب كفيه ندما وأسفا على ضياع نفقته التي أنفقها فى عمارتها حين رآها ساقطة على عروشها ، ويتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدا.

ولخلاصة ـ إنه لما أنفق عمره فى تحصيل الدنيا وأعرض عن الدين ، ثم ضاعت منه الدنيا حرم الدين والدنيا معا ، ومن ثم عظمت حسرته وقال : ليتنى لم أشرك بربي أحدا.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ولم تكن له عشيرة ممن افتخر بهم واستعز ينصرونه ويقدرون على دفع الجوائح عنه أو رد المهلك له ، من دون الله ، فإن الله هو الذي يقدر وحده على نصره ، وما كان منتصرا بقوته عن انتقام الله منه بإهلاك جنته.

وخلاصته ـ إنه لا يقدر على نصره إلا الله ، ولا ينصره غيره من عشيرة وولد ، وخدم وحشم وأعوان ، كما لا يقدر أن ينتصر لنفسه.

ثم أكد الجملة السالفة وقرر المراد منها بقوله :

(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) أي فى مثل هذه الشدائد والمحن ـ النصرة لله وحده لا يقدر عليها غيره.

(هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي هو خير جزاء وخير عاقبة لأوليائه ، فينتقم لهم منهم ، ويفوض أمرهم إليهم.

وبعد أن ضرب المثل لدنيا هؤلاء الكافرين التي أبطرتهم ، وكانت سبب

١٥٢

شقائهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا ـ ضرب مثلا لدار الدنيا عامة فى سرعة فنائها وعدم دوام نعيمها فقال :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

تفسير المفردات

المثل : الصفة ، وهشيما : أي يابسا متفتتا ، تذروه : أي تنثره وتفرقه ، ومقتدرا : أي كامل القدرة ، والباقيات الصالحات : هى الأعمال الصالحة كلها ، وثوابا : أي جزاء.

المعنى الجملي

أخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «استكثروا من الباقيات الصالحات ، قيل وما هى يا رسول الله؟ قال : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله».

وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبى الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا اله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هن الباقيات الصالحات ، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها ، وهن من كنوز الجنة».

وأخرج النسائي والطبراني والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعا «خذوا جنّتكم ، قيل يا رسول الله من أىّ عدو قد حضر ، قال بل جنّتكم من النار قول سبحان الله ، والحمد لله ،

١٥٣

ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات معقّبات ومجنبّات ، وهن الباقيات الصالحات».

الإيضاح

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) شبّهت الدنيا فى نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال بحال نبات اخضرّ والتف وأزهر ، ثم صار هشيما متفتّتا تنثره الرياح ذات اليمين وذات الشمال ومن ثم لا يغترّنّ أهلها بها ، ولا يفخرنّ ذو الأموال الكثيرة بأمواله ، ولا يستكبرنّ بها على غيره ، فإنما هى ظل زائل ، وفى الحديث «الدنيا كسوق قام ثم انفضّ».

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي وكان الله ذو الكمال والجلال قادرا على كل شىء إنشاء وإفناء وإعادة ، فهو يوجد الأشياء ثم ينمّيها ثم يفنيها ، وما حال الدنيا إلا هذه الحال ، فهى تظهر أولا ناضرة زاهرة ثم تتزايد قليلا قليلا ، ثم تأخذ فى الانحطاط إلى أن تصير إلى الهلاك والفناء ، فلا ينبغى للعاقل أن يبتهج بما يحوزه منها أو يفخر به أو يصعّر خذه استكبارا.

ثم بين سبحانه ما كانوا يفتخرون به من محسّنات الدنيا إثر بيان حالها بما مرّ من المثل فقال :

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن الأموال والبنين التي يفخر بها عيينة والأقرع وأضرابهم هى من زينة هذه الحياة ، وليسا من زاد الآخرة ، وقد علمت أن الدنيا سريعة الفناء ، فلا ينبغى التفاخر بها.

وقدم المال على البنين مع كونهم أعز منه لدى جميع الناس ـ من قبل أن الزينة به أتم ، ولأنه يمد الآباء والأبناء فى كل حين ، ولأنه مناط بقاء النفس والأولاد ، وبذا يبقى النوع الإنسانى ، ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ، ولأنه زينة بدونهم ، دون العكس ، فإن من له بنون ولا مال له فهو فى بؤس وشقاء.

١٥٤

روى عن على كرم الله وجهه : المال والبنون حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد جمعهما الله لأقوام.

ثم بين ما ينبغى التفاخر به فقال.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي وأعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وهى أفعال الطاعات كالصلات والصدقات والجهاد فى سبيل الله ومساعدة البائسين وذوى الحاجات ـ خير عند ربك من المال والبنين جزاء ، وخير أملا ، إذ ينال بها صاحبها فى الآخرة ما كان يؤمله فى الدنيا.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

تفسير المفردات

بارزة أي ظاهرة ، إذ لم يبق على وجهها شىء من العمائر ولا من الجبال والأشجار ، وحشرناهم : أي سقناهم إلى الموقف من كل أوب ، فلم نغادر : أي لم نترك يقال غادره وأغدره إذا تركه ، ومنه الغدر وهو ترك الوفاء ، وعرضوا : أي أحضروا لفصل القضاء ، صفا : أي مصطفين ، موعدا : أي وقتا ننجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه ، ووضع الكتاب : أي جعل كتاب كل عامل فى يد صاحبه حين الحساب ، مشفقين : أي خائفين ، والويل : الهلاك ، ويا ويلتنا : أي يا هلاك أقبل فهذا أوانك ، أحصاها : أي

١٥٥

عدّها ، حاضرا ، أي مسطورا فى كتاب كل منهم ، ولا يظلم ربك : أي لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أن الدنيا ظل زائل ، وأنه لا ينبغى أن يغتر أحد بزخرفها ونعيمها ، بل يجب أن يكون موضع التفاخر العمل الصالح الذي فيه رضا الله وانتظار مثوبته فى جنات تجرى من تحتها الأنهار ـ أردف ذلك ذكر أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من أخطار وأهوال ، وأنه لا ينجى منها إلا اتباع ما أمر به الدين وترك ما نهى عنه مما جاء على لسان الأنبياء والمرسلين ، لا الأموال التي يفتخر بها المشركون على المؤمنين.

الإيضاح

ذكر سبحانه من أحوال يوم القيامة أمورا :

(١) (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي واذكر أيها الرسول يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيّرها فى الجو كالسحاب ونجعلها هباء منثورا كما قال «ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّى نسفا. فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا» أي تذهب الجبال ، وتتساوى المهاد ، وتبقى الأرض سطحا مستويا لا عوج فيه ولا وادي ولا جبل ، وقال : «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» وقال : «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا».

(٢) (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) أي وترى أيها الرائي جميع جوانب الأرض بادية ظاهرة ، إذ لم يبق على وجهها شىء من العمائر ولا شىء من الجبال ولا شىء من الأشجار فليس عليها ما يسترها ، فيكون جميع الخلق ضاحين لربهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم وهذا هو المراد من قوله : لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.

١٥٦

(٣) (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب بعد أن أقمناهم من قبورهم ، فلم نترك منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا كما قال : «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» وقال : «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» وعن عائشة رضى الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «يحشر الناس حفاة عراة غرلا (الغرلة القلفة) فقلت : الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال الأمر أشد من أن يهمّهم ذلك» زاد النسائي فى رواية «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ».

ولما ذكر سبحانه حشر الخلق بين كيفية عرضهم على ربهم فقال :

(٤) (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي يعرض الخلق كلهم على الله صفا واحدا كما قال : «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» ويقال لهم على طريق التوبيخ والتقريع : لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة فرادى حفاة عراة لا شىء معكم من المال والولد.

ونحو الآية قوله : «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ».

وفى هذا زجر لأولئك المشركين المنكرين للبعث الذين يفخرون فى الدنيا على الفقراء من المؤمنين بالأموال والأنصار.

أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «إن الله تعالى ينادى يوم القيامة : يا عبادى أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين ، أحضروا حجتكم. ويسّروا جوابكم ، فإنكم مسئولون محاسبون ، يا ملائكتى أقيموا عبادى صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب».

وفى الحديث الصحيح «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين فى صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» والحديث له بقية.

١٥٧

(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ولا هو كائن ، وكنتم مع الافتخار على المؤمنين بالأموال تنكرونه ، فالآن قد استبان لكم أنه حق ، وأنه لا مال ولا ولد بين أيديكم.

(٥) (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي ووضع كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير فى يد صاحب اليمين والشمال ، فترى المجرمين جميعا نادمين على ما فيه من قبائح أعمالهم ، وسىء أفعالهم وأقوالهم ، وظهور ذلك لأهل الموقف ، خائفين من عقاب الحق ، والفضيحة عند الخلق.

(وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟) أي ويقولون حين وقوفهم على ما فى تضاعيفه : يا حسرتنا على ما فرطنا فى جنب الله ، ما لهذا الكتاب لا يترك هنة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعدّها ، فهو محيط بجميع ما كسبته يد الإنسان.

ونحو الآية قوله : «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» وقوله : «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وما مثل النفس إلا مثل الزجاجة التي يضعها المصور فى صندوق آلة التصوير ، فكل صورة تقع عليها تلتقطها وتحفظها من ضار ونافع ، فإذا كشف الغطاء أبصرنا كل ما عملنا ورأينا صوره كما هى من حسن وسىء ، وفضيلة ورذيلة ، فتفعل فى عقولنا فعلها دون كلام ولا كتابة ، وكل امرئ يراها يقرؤها والناس فيها سواء.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مثبتا فى كتابهم ، خيرا كان أو شرا كما قال :

«يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» الآية. وقال : «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ».

(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) من خلقه ، بل يعفو ويصفح ، ويغفر ويرحم ، ويعذب

١٥٨

من يشاء بحكمته وعدله ، فإنه سبحانه وعد بإثابة المطيع ، وتعذيب العاصي ، بمقدار جرمه من غير زيادة ، وإنه قد يغفر له ما سوى الكفر ، ومن ثم لا يعذب أحدا بما لم يعمله ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه ، ولا يزيد فى عقابه الملائم لعمله الذي نهى عنه ولم يرتضه.

ونحو الآية قوله «إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» وقوله «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ».

وخلاصة ذلك ـ إن الجزاء نتيجة العمل ، والعمل مرسوم فى قوالب حافظة له ، فليس يمكن رفعه ولا دفعه ، ولا يكون الجزاء عليه ظلما ، كما لا تعد التّخمة بعد الأكل الكثير ظلما ، ولا المرض بعد الشرب من الماء الآسن المملوء بالجراثيم والأدران ظلما ، وإنما تلك مسببات لأسباب كل عاقل يعلم أنها نتيجة حتمية لها.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

١٥٩

تفسير المفردات

فسق : خرج ؛ يقال فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، أفتتخذونه ، الهمزة فى مثل هذا تفيد الإنكار والتعجب ممن يفعل مثل ذلك ، والذرية : الأولاد وبذلك قال جمع من العلماء ، منهم الضحاك والأعمش والشعبي ، وقيل المراد بهم الأتباع من الشياطين ، والعدو يطلق على الواحد والكثير كما قال : «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» وقال : «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» والعضد : أصله ما بين المرفق إلى الكتف ، ويستعمل بمعنى المعين كاليد ونحوها وهو المراد هنا ، فدعوهم. أي فاستغاثوا بهم ، فلم يستجيبوا لهم : أي فلم يغيثوهم ، والموبق : مكان الوبوق : أي الهلاك وهو النار ؛ يقال وبق وبوقا كوثب وثوبا : إذا هلك ، مواقعوها : أي داخلوها وواقعون فيها ، ومصرفا : أي مكانا ينصرفون إليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه رده على أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بأموالهم وأعوانهم وقالوا كيف نجلس مع هؤلاء ونحن من أنساب شريفة وهم من أنساب وضيعة ، ونحن أغنياء وهم فقراء؟ ـ قفّى على ذلك بذكر عصيان إبليس لأمره تعالى بالسجود لآدم ، لأن الذي حداه إلى ذلك هو كبره وافتخاره عليه بأصله ونسبه إذ قال «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ، فأنا أشرف منه أصلا ونسبا فكيف أسجد له؟ تنبيها إلى أن هذه الطريقة السالفة هى بعينها طريقة إبليس ، ثم حذر سبحانه منها فى قوله : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ).

وقد تكرر ذكر هذه القصة فى مواضع من الكتاب الكريم ، وهى فى كل موضع سيقت لفائدة غير ما جاءت له فى المواضع الأخرى ، على اختلاف أساليبها وعباراتها ، ولا غرو فهى من نسج العليم الخبير.

١٦٠