تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

تفسير المفردات

أم : حرف يدل على الانتقال من كلام إلى آخر ، وهو بمعنى بل وهمزة الاستفهام أي بل أحسبت ، والخطاب فى الظاهر للنبى عليه الصلاة والسلام ، والمراد غيره كما سبق نظيره ، والكهف : النقب المتسع فى الجبل ، فإن لم يكن متسعا فهو غار ، والرقيم : لوح حجرى رقمت فيه أسماؤهم كالألواح الحجرية المصرية التي يذكر فيها تاريخ الحوادث وتراجم العظماء ، أوى إلى المكان : اتخذه مأوى ومكانا له ، والفتية واحدهم فتى وهو الشاب الحدث ، وقد كانوا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم ، لهم أطواق وأسورة من الذهب ، وهيىء : أي يسر ، والرشد (بفتحتين وضم فسكون) الهداية إلى الطريق الموصل للمطلوب ، فضربنا على آذانهم أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع ، كما يقال بنى على امرأته ، يريدون بنى عليها قبة ، والمراد أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة. عددا : أي ذوات عدد والمراد التكثير ، لأن القليل لا يحتاج إلى العدّ غالبا ، بعثناهم : أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم ، والحزبين : هما الحزب القائل لبثنا يوما أو بعض يوم ، والحزب القائل ربكم أعلم بما لبثتم ، وأحصى : أي أضبط لاوقات لبثهم ، والأمد : مدة لها حد وغاية.

الإيضاح

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي لا تحسب أن قصة أصحاب الكهف والرقيم المذكورة فى الكتب السالفة حين استمروا أحياء أمدا طويلا ـ عجيبة بالإضافة إلى ما جعلناه على ظهر الأرض من الزينة ؛ فليست هى بالعجب وحدها من بين آياتنا ؛ بل زينة الأرض وعجائبها أبدع وأعجب من قصة

١٢١

أصحاب الكهف ؛ فإذا وقف علماء الأديان الأخرى لدى أمثالها دهشين حائرين ، فأنا أدعوك وأمتك إلى ما هو أعظم منها ؛ وهو النظر فى الكون وعجائبه ، من خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب ، إلى نحو أولئك من الآيات الدالة على قدرة الله ، وأنه يفعل ما يشاء لا معقّب لحكمه.

أما القصص وغرائبها فلا تكفى للوصول إلى أبواب الخير والسعادة التي يطمح إليها الإنسان ، ويجعلها مثله العليا ، ليفوز بخيرى الدنيا والآخرة ، فابحث عما نقش فى صحائف الأكوان ، لا فى صحائف الكهوف والغيران.

قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله ، لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم.

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي اذكر أيها الرسول حين أوى أولئك الفتية إلى الكهف هربا بدينهم من أن يفتنهم عباد الأصنام والأوثان ، وقالوا إذ ذاك : ربنا يسر لنا بما نبتغى من رضاك وطاعتك رشدا من أمرنا ، وسدادا إلى العمل الذي نحب ، وارزقنا المغفرة والأمن من الأعداء.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي فضربنا على آذانهم حجابا يمنعهم السماع ، وأنمناهم نوما لا ينبههم فيه مختلف الأصوات فى الكهف سنين كثيرة معدودة.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي ثم أيقظناهم من رقدتهم لنعلم أي الطائفتين المتنازعتين فى مدة لبثهم ، أضبط فى الإحصاء والعد لمدة هذا اللبث فى الكهف.

وخلاصة ذلك ـ إنا بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبر حالهم ، لنرى أيهم أحصى لما لبعثوا أمدا ، فيظهر لهم عجزهم ، ويفوّضوا ذلك إلى العليم الخبير ، ويتعرّفوا ما صنع الله

١٢٢

بهم من حفظ أبدانهم ، فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه ، ويستبصروا به فى أمر البعث ، ويكون ذلك لطفا لمؤمنى زمانهم ، وآية بينة لكفارهم.

تفصيل ذلك القصص وبسطه

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

تفسير المفردات

النبأ : الخبر العظيم ، وبالحق : أي بالصدق ، والربط : الشد ، وربطت الدابة : شددتها بالرباط ، والمربط : الحبل ، وربط الله على قلبه ، أي قوّى عزيمته ، قاموا :

١٢٣

أي وقفوا بين يدى ملكهم الجبار دقيانوس ، إلها : أي معبود آخرا لا استقلالا ولا اشتراكا ، اتخذوا من دونه آلهة : أي نحتوا أصناما وعبدوها ، والسلطان : الحجة ، والبيّن : الظاهر ، والاعتزال والتعزل : تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب كما قال :

يا بيت عاتكة التي أتعزّل

حذر العدا وبه الفؤاد موكّل

فأووا إلى الكهف : أي التجئوا إليه ، وينشر لكم : أي يبسط لكم ، والمرفق : ما يرتفق وينتفع به ، وتزاور : تتنحى ، وذات اليمين : أي جهة يمين الكهف ، وتقرضهم : أي تعدل عنهم ، قال الكسائي : يقال : قرضت المكان : إذا عدلت عنه ولم تقربه ، فجوة : أي متسع ، والأيقاظ ، واحدهم يقظ (بضم القاف وكسرها) والرقود : واحدهم راقد ، أي نائم ، وباسط ذراعيه : أي مادّهما ، والوصيد : فناء الكهف ، والرعب : الخوف يملأ الصدر.

الإيضاح

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) أي نحن ننبئك نبأ هؤلاء الفتية الذين آووا إلى الكهف ، نبأ حقا لا محل للريبة فيه.

وفى هذا إيماء إلى أن نبأهم كان معروفا لدى العرب على وجه ليس بالصدق ، ويدل على ذلك قول أمية بن أبى الصّلت :

وليس بها إلا الرقيم مجاورا

وصيدهمو والقوم فى الكهف هجّد

ثم فصّل ذلك بقوله :

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي إنهم شباب آمنوا بربهم ، وزدناهم هدى بالتثبيت على الإيمان ، والتوفيق للعمل الصالح ، والانقطاع إلى الله ، والزهد فى الدنيا.

وقد جرت العادة أن الفتيان أقبل للحق ، وأهدى للسبل من الشيوخ الذين

١٢٤

قد عتوا وانغمسوا فى الأديان الباطلة ، ومن ثم كان أكثر الذين استجابوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم شبّانا ، وبقي الشيوخ على دينهم ، ولم يسلم منهم إلا القليل.

ونحو الآية قوله : «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» وقوله : «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» وقوله : «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ».

فى أي زمن كان قصص أهل الكهف؟

رجح ابن كثير أن قصص أهل الكهف كان قبل مجىء النصرانية ، لا بعدها كما رواه كثير من المفسرين متّبعين ما أثر عن العرب ، والدليل على ذلك أن أحبار اليهود كانوا يحفظون أخبارهم ، ويعنون بها ، فقد روى عن ابن عباس أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء الفتية ، وعن خبر ذى القرنين ، وعن الرّوح ، وفى هذا أعظم الأدلة على أن ذلك كان محفوظا عند أهل الكتاب ، وأنه مقدّم على النصرانية.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وألهمناهم قوة العزيمة ، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان ، حتى عزفت نفوسهم عما كانوا عليه من خفض العيش والرغبة عنه ، وقالوا حين قاموا بين يدى الجبار دقيانوس إذ عاتبهم على تركهم عبادة الأصنام ـ ربنا رب السموات والأرض ورب كل مخلوق.

ثم أردفوا تلك المقالة البراءة من إله غيره فقالوا :

(لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي لن ندعو من دون رب السموات والأرض إلها ، لا على طريق الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك ، إذ لا رب غيره ولا معبود سواه.

وقد أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الألوهية والخلق ، وبالجملة الثانية إلى توحيد الربوبية والعبادة ، وعبدة الأصنام يقرون بتوحيد الأولى ، ولا يقرون بتوحيد

١٢٥

الثانية ، بدليل قوله. «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ» وقوله سبحانه حكاية عنهم : «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى» وكانوا يقولون فى تلبيتهم فى الحج : لبيك لا شريك لك : إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

ثم عللوا عدم دعوتهم لغيره بقولهم :

(لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي إنا إذا دعونا غير الله ، لقد أبعدنا عن الحق ، وتجاوزنا الصواب.

وفى هذا إيماء إلى أنهم دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها.

ثم حكى سبحانه عن أهل الكهف مقالة بعضهم لبعض فقال :

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي إن قومنا هؤلاء وإن كانوا أكبر منا سنّا وأكثر تجربة قد أشركوا مع الله غيره ، فهلا أتوا بحجة بينة على صدق ما يقولون ، كما أتينا على صدق ما ندّعى بالأدلة الظاهرة ، وإنهم لأظلم الظالمين فيما فعلوا ، افتروا ، ومن ثم قال :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟) أي لا أظلم ممن افترى على الله الكذب ونسب إليه الشريك ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم فى عبادتهم غير الله ففارقوهم بأبدانكم والجئوا إلى الكهف ، وأخلصوا لله العبادة فى مكان تتمكنون منها بلا رقيب ولا حسيب ، وإنكم إن فعلتم ذلك فالله تعالى يبسط لكم الخير من رحمته فى الدارين ، ويسهل لكم من أمر الفرار بدينكم ، والتوجه إليه فى عبادتكم ، ما ترتفقون وتنتفعون به.

وقد قالوا ذلك ثقة بفضل الله تعالى ورجاء منه ، لتوكلهم عليه وكمال إيمانهم به ، أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب ،

١٢٦

وقرأ : «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» «وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ».

ثم بيّن سبحانه حالهم بعد أن أووا إلى الكهف فقال :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي إنك أيها المخاطب لو رأيت الكهف لرأيت الشمس حين طلوعها تميل عنه جهة اليمين ، ورأيتها حين الغروب تتركهم وتعدل عنهم جهة الشمال ، والحال أنهم فى وسطه ومتسعه ، فيصيبهم نسيم الهواء وبرده.

وخلاصة ذلك ـ إنهم طوال نهارهم لا تصيبهم الشمس فى طلوعها ولا فى غروبها ، إذ كان باب الكهف فى مقابلة بنات نعش ، فهو إلى الجهة الشمالية ، والشمس لا تسامت ذلك أبدا ، لأنها لا تصل إلى أبعد من خط السرطان ، وكل بلاد بعده إلى جهة الشمال تكون الشمس من ورائها لا أمامها فيكون الظل مائلا جهة الشمال طول السنة ، كما يعلم ذلك من علم الفلك.

وإيضاح ذلك أنه لو كان باب الكهف فى ناحية الشرق لما دخل إليه شىء منها حين الغروب ، ولو كان من ناحية الجنوب لما دخل منها شىء حين الطلوع ولا الغروب وما تزاور الفيء لا يمينا ولا شمالا ، ولو كان جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولا تزال فيه إلى الغروب.

مكان الكهف

وللمفسرين فى تعيين مكان الكهف أقوال : فقيل هو قريب من إيلياء (بيت المقدس) ببلاد الشام ، وقال ابن إسحاق : عند نينوى ببلاد الموصل ، وقيل ببلاد الروم ، ولم يقم إلى الآن الدليل على شىء من ذلك ، ولو كان لنا فى معرفة ذلك فائدة دينية لأرشدنا الله إليه كما قال صلى الله عليه وسلّم : «ما تركت شيئا يقرّبكم إلى الجنة ، ويباعدكم عن النار ، إلا وقد أعلمتكم به».

١٢٧

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي إن هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم ، وإيواءهم إلى كهف تلك صفته بحيث تزاور الشمس عنهم طالعة ، وتقرضهم غاربة ، وإخبارك بقصصهم ـ كل ذلك من آيات الله الكثيرة فى الكون ، الدالة على كمال قدرته ، وعلى أن التوحيد هو الدين الحق ، وعلى أن الله يكرم أهله.

ثم بين أن هدايتهم إلى التوحيد كانت بعناية الله ولطفه فقال :

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي من يوفّقه الله للاهتداء بآياته وحججه إلى الحق كأصحاب الكهف ، فهو المهتدى الذي أصاب سبيل الحق ، وفاز بالحظ الأوفر فى الدارين.

وفى هذا إيماء إلى أن أصحاب الكهف أصابوا الصواب ، ووفّقوا لتحقيق ما أنيلوا من نشر الرحمة عليهم وتهيئة المرفق.

(وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) أي ومن يضلله الله لسوء استعداده ، وصرف اختياره ، إلى غير سبل الهدى والرشاد ، فلن تجد له أبدا خليلا ولا حليفا يرشده لإصابة سبل الهداية ، ويخلّصه من الضلال ، لأن التوفيق والخذلان بيد الله ، يوفّق من يشاء من عباده ، ويخذل من يشاء.

وفى هذا تسلية لرسوله وإرشاد له إلى أنه لا ينبغى له أن يحزن على إدبار قومه عنه ، وتكذيبهم إياه ، فإن الله لو شاء لهداهم وآمنوا.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) أي ولو رأيتهم لظنتهم فى حال يقظة لانفتاح أعينهم وهم نيام ، كأنهم ينظرون إلى من أمامهم ، ولما للنوم من الحال الخاصة به التي يستبينها الناظر بادىء ذى بداء كاسترخاء المفاصل والأعضاء ولا سيما العينان والوجه.

(وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) ونقلّب هؤلاء الفتية فى رقدتهم مرة للجنب الأيمن ، ومرة للجنب الأيسر ، كى ينال روح النسيم جميع أبدانهم ، ولا يتأثر ما يلى الأرض منها بطول المكث.

١٢٨

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي وكلبهم ملق يديه على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين بفناء الكهف كما روى عن ابن عباس ، وقيل المراد بالوصيد الباب وأنشدوا :

بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها

علىّ ومعروفى بها غير منكر

(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) أي لو شاهدتهم فى رقدتهم التي رقدوها فى الكهف ، لأدبرت عنهم هاربا فارا منهم.

(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي ولملئت نفسك حين اطلاعك عليهم خوفا وفزعا ، لأن الله قد ألبسهم هيبة ووقارا كى لا يصل إليهم واصل ، ولا تلمسهم يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه فى الحين الذي أراد أن يجعلهم فيه عبرة لمن شاء من خلقه ، وآية لمن أراد الاحتجاج عليهم من عباده ، وليعلموا أن وعد الله حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ

١٢٩

ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢))

تفسير المفردات

بعثناهم : أي أيقظناهم ، لبثتم : أي أقمتم ، والورق : الفضة ، مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وأزكى : أجود وأطيب ، وليتلطف : أي يتكلف اللطف فى المعاملة ، كى لا تقع خصومة تجرّ إلى معرفته ، ولا يشعرنّ : أي لا يفعلنّ ما يؤدى إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم ، إن يظهروا عليكم : أي إن يطّلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم ؛ وأصل العثور السقوط للوجه ، يقال عثر عثورا وعثارا : إذا سقط لوجهه ، ويقال فى المثل «من سلك الجدد أمن العثار» ، ثم استعمل فى الاطلاع على أمر من غير طلب له ، والساعة : يوم القيامة حين يبعث الله الخلائق جميعا للحساب والجزاء ، والتنازع : التخاصم ، والذين غلبوا على أمرهم : هم رؤساء البلد ، لأنهم هم الذين لهم الرأى فى مثل هذا ، والمسجد :

معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا نصارى على المشهور ، والرجم : القول بالظن ويقال لكل ما يخرص : رجم فيه وحديث مرجوم ومرجّم كما قال :

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجّم

والغيب : ما غاب عن الإنسان ؛ فالمراد أن يرمى الإنسان ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة ، كما يقال فلان يرمى بالكلام رميا : أي يتكلم من غير تدبر ، والمراد هنا القول بالظن والتخمين ، والمراء : المحاجة فيما فيه مرية وتردد ، والمراد الظاهر : ما لا تعمّق فيه بألا يكذّبهم فى تعيين العدد ، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه ، فيجب عدم الجزم به ولا تستفت : أي لا تطلب الفتيا منهم.

١٣٠

الإيضاح

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي كما أرقدنا هؤلاء الفتية فى الكهف ، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان ، وثيابهم من العفن على مرّ الأيام بقدرتنا ـ بعثناهم من رقدتهم ، وأيقظناهم من نومهم ، لنعرّفهم عظيم سلطاننا ، وعجيب فعلنا فى خلقنا. وليزدادوا بصيرة فى أمرهم الذي هم عليه ، من براءتهم من عبادة الآلهة ، وإخلاصهم العبادة لله الواحد القهار ، إذا تبينوا طول الزمان عليهم وهم بهيئتهم حين رقدوا.

(لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟) أي ولتكون عاقبة أمرهم أن يسأل بعضهم بعضا ، فيقول قائل منهم لأصحابه : كم لبثتم؟ ذاك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم.

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أي فأجابه الآخرون ، فقالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ظنا منهم أن ذلك كذلك كان.

وإيضاح هذا أنهم لم يتحققوا مقدار لبثهم ، فهم لا يدرون مقدار ذلك اللّبث ، أيوم هو أو بعض يوم ، لأن لوثة النوم وظواهره لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم ، فلم ينظروا إلى الأمارات التي تدل على ذلك المقدار الذي يظنّ ، أنه قد كان.

وأكثر المفسرين على أن دخولهم فى الكهف كان أول النهار واستيقاظهم كان آخر النهار.

(قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أي وقال آخرون : ربكم أعلم بما لبثتم أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، بل الله هو الذي يعلمها ، وهذا من الأدب البارع فى الرد على الأولين بأحسن أسلوب وأجمل تعبير.

وحين علموا أن الأمر ملتبس عليهم عدلوا إلى الأهم فى أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا :

(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي فابعثوا بدراهمكم هذه إلى المدينة وهى طرسوس كما جزم بذلك فخر الدين الرازي.

١٣١

وفى قولهم (هذه) إشارة إلى أن القائل كان قد أحضرها ليناولها بعض أصحابه ، وإلى أن التأهب لأسباب المعاش بحمل الدراهم ونحوها لمن خرج من منزله ، لا ينافى التوكل على الله كما جاء فى الحديث «اعقلها وتوكل».

(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي فليبصر أىّ الأطعمة أجود وألذّ فليأتكم بمقدار منه.

(وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي وليترفق فى دخول المدينة ، وفى شرائه ، وفى إيابه منها ، ولا يخبرنّ بمكانكم أحدا من أهلها.

ثم ذكروا تعليل الأمر والنهى السالفين بقولهم :

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي إن الكفار إن علموا بمكانكم ولم تفعلوا ما يريدون منكم ، بل ثبتم على إيمانكم ، إما أن يقتلوكم رميا بالحجارة ، وكان ذلك هو المتبع فى الأزمنة الغابرة فيمن يعلن خلاف ما عليه الجماهير فى الأمور الدينية والسياسية التي لها شأن فى الدولة ، وإما أن يعيدوكم إلى ملة آبائكم التي هم مستمسكون بها.

(وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي وإن دخلتم فى ملتهم ولو بالإكراه والقسر لن تفوزوا بخير لا فى دنياكم ولا فى آخرتكم ، إذ ربما استدرجكم الشيطان إلى أن تستحسنوا ما ستعتنقونه من ذلك الدين الجديد ، وتستمرئوه فتستمروا عليه فيكون قد كتب عليكم الشقاء عند ربكم ، والخذلان الذي لا خذلان بعده.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) أي وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم حين رقدوا ، ليتساءلوا بينهم فيزدادوا بصيرة بعظيم سلطانه تعالى ، ومعرفة حسن دفاع الله عن أوليائه ـ أعثرنا الفريق الآخر الذين كانوا فى شك من قدرة الله على إحياء الموتى ، وفى مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد البلى ، ليعلموا أن وعد الله حق ، ويوقنوا أن الساعة آتيا لا ريب فيها ، إذ لا حجة لمن أنكرها إلا الاستبعاد ، ولكن وقوع ذلك الأمر العظيم

١٣٢

وعلمهم به ، مما يخفف من غلوائهم ، ويكبح جماح إنكارهم ويردهم إلى رشدهم.

ذاك أن حال هؤلاء الفتية فى تلك الحقبة الطويلة ، وقد حبست عن التصرف نفوسهم ، وعطّلت مشاعرهم وحواسهم ، وحفظت من التحلل والتفتّت أبدانهم ، وبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب ، ثم رجعت بعدئذ تلك المشاعر والحواس إلى حالها ، وأطلقت النفوس من عقالها ، وأرسلت إلى تدبير أبدانها ، فرأت الأمور كما كانت ، والأعوان هم الأعوان ، ولم تنكر شيئا عهدته فى مدينتها ، ولم تتذكر حبسها المدى الطويل عن التصرف فى شؤونها ـ وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم ـ من واد واحد فى الغرابة ، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند ، ووقوع الأول يزيل الارتياب فى إمكان وقوع الثاني ، ولا يبقى بعد ذلك شك فى أن وعد الله حق ، وأن الله سيبعث من فى القبور ، فيردّ عليهم أرواحهم ، ويجازيهم جزاء وفاقا بحسب أعمالهم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهو الحكم العدل ، اللطيف الخبير.

(إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي وكذلك أطلعنا عليهم بيدروس وقومه حين ينازع بعضهم بعضا فى أمر البعث ، فمن مقرّ به ، وجاحد له ، وقائل تبعث الأرواح دون الأجساد ـ ففرح الملك وفرحوا بآية الله على البعث ، وزال ما بينهم من الخلاف فى أمر القيامة ، وحمدوا الله إذا رأوا ما رأوا مما يثبتها ، ويزيل كل ريب فيها.

ثم حكى آراء القوم فى شأنهم بعد اطلاعهم عليهم فقال :

(فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي إنهم انقسموا فى شأنهم فريقين ، فريق يقول : نسد عليهم باب الكهف ونذرهم حيث هم ، وفريق يقول : نبنى عليهم مسجدا يصلى فيه الناس ، وقد غلب هذا الفريق الفريق الأول فى الرأى.

وقوله (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) جملة معترضة من كلامه تعالى ردا للخائضين فى أمرهم

١٣٣

ممن أعثروا عليهم ، أو ممن كان فى عهده صلى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب ، فى بيان أنسابهم وأسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم.

وقد ذكر العلماء أن اتخاذ القبور مساجد منهىّ عنه أشد النهى حتى ذكر ابن حجر فى كتابه الزواجر أنه من الكبائر ، لما روى فى صحيح الأخبار من النهى عن ذلك ، روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسّرج» وزاد مسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، فإنى أنها كم عن ذلك».

وروى الشيخان والنسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «لعن الله تعالى اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

وروى أحمد والشيخان والنسائي قوله صلى الله عليه وسلّم : «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق يوم القيامة».

وروى أحمد والطبراني : «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد».

إلى نحو ذلك من الآثار الصحيحة ، فليعتبر المسلمون اليوم بهذه الأخبار التي لا مرية فى صحتها ، وليقلعوا عما هم عليه من اتخاذ المساجد فى أضرحة الأولياء والصالحين والتبرك بها ، والتمسح بأعتابها ، وليعلموا أن هذه وثنية مقنّعة ، وعود إلى عبادة الأوثان والأصنام على صور مختلفة ، والعبرة بالجوهر واللب ، لا بالعرض الظاهر ، فذلك إشراك بالله فى ربوبيته وعبادته ، وقد حاربه الدين أشد المحاربة ، ونعى على المشركين ما كانوا يفعلون.

اللهم ألهم المسلمين رشدهم ، وثبتهم فى أمر دينهم ، ولا تجعلهم يحذون حذو من قبلهم حذو القذّة بالقذة ، وأرجعهم إلى مثل ما كان يفعله المسلمون فى الصدر الأول

١٣٤

وما بعده ، فرجاله هم الأسوة ، وقد صح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما وجد قبر دانيال فى عهده بالعراق أمر أن يسوّى بالأرض ، وأن تدفن تلك الرّقعة التي وجدوها عنده وفيها شىء من الملاحم وغيرها من الأخبار.

ولما ذكر سبحانه القصة ونزاع المتخاصمين فيما بينهم ـ شرع يقص علينا ما دار فى عهد النبي صلى الله عليه وسلّم من الخلاف فى عدد أصحاب الكهف فقال :

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي سيقول بعض الخائضين من أهل الكتاب ذلك ، فقد روى أن نصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى عدد أهل الكهف ، فقالت الملكانية (أصحاب الملك) : هم ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقالت اليعقوبية : هم خمسة سادسهم كلبهم ، وقالت النسطورية : هم سبعة وثامنهم كلبهم ، وروى هذا عن ابن عباس ، وهو الحق بدليل أنه تعالى حكم على القولين السابقين بأنهما رجم بالغيب ، فأرشد ذلك إلى أن الحال فى الأخير بخلافه ، وأنهم إنما قالوه عن ثبات علم ، وطمأنينة نفس.

(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) فى هذا إرشاد لنا إلى أن الأحسن فى مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى ، إذ لا احتياج إلى الخوض فى مثل ذلك بلا علم ، فإن اطلعنا على أمر قلنا به ، وإلا توقّفنا ولم نجزم بشىء.

(ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس. روى قتادة عن ابن عباس أنه قال : أنا من القليل الذي استثنى الله عزّ وجلّ ، كانوا سبعة سوى الكلب ، ولم يرد فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم شىء فى ذلك.

وفى هذا دلالة على أن المهمّ ليس هو معرفة العدد ، بل المهمّ الاعتبار بذلك القصص ، وبما يكون نافعا لعقولنا وتطهير أخلاقنا ورقينا فى حياتينا الدنيوية والأخروية.

١٣٥

وبعد أن ذكر سبحانه هذا القصص ، نهى رسوله صلى الله عليه وسلّم عن شيئين :

المراء فى أمرهم ، والاستفتاء فى شأنهم فقال :

(فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي فلا تجادل فى شأن الفتية إلا جدلا سهلا ليّنا ، وقص عليهم ما جاء فى الكتاب الكريم دون تكذيب لهم فى تعيين العدد ، ولا تجهيل لهم فى الحديث ، إذ لا يترتب على ذلك كبير فائدة ، لأن المقصد من القصة هو العظة والاعتبار ، ومعرفة أن البعث حاصل لا محالة ، وهذا لا يتوقف على عدد معين ، إلى أن ذلك مما يخلّ بمكارم الأخلاق التي بعث لإتمامها.

ونحو الآية قوله : «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

(وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي ولا تستفت النصارى فى شأنهم ، فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب من غير استناد إلى دليل قاطع ، ولا نص صريح ، وقد جاءك ربك بالحق الذي لا مرية فيه ، فهو الحاكم المقدّم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال السالفة.

وفى الآية دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب فى شىء من العلم.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤))

المعنى الجملي

جاءت هاتان الآيتان إرشادا وتأديبا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلّم ، يعلمه بأنه إذا أراد أن يخبر عن شىء سيفعله فى مستأنف الأيام ، أن يقرن قوله بمشيئة علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون.

وجاءتا معترضتين أثناء القصة لما تضمنتاه من تعليم عباده تفويض الأمور كلها إليه ، وبيان أنه لا يحدث فى ملكه إلا ما يشاء.

١٣٦

روى «أنهما نزلتا حين سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذى القرنين ، فقال عليه الصلاة والسلام : غدا أخبركم ، ولم يستن (لم يقل إن شاء الله) فأبطأ عليه الوحى خمسة عشر يوما ، فشق ذلك عليه وكذبته قريش.

الإيضاح

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي ولا تقولن أيها الرسول لشىء إنى سأفعل ذلك غدا إلا أن تقول : إن شاء الله ، ذاك أنه ربما مات المرء قبل مجىء الغد ، أو ربما عاقه عائق عن فعله ، فإذا لم يقل إن شاء الله صار كاذبا فى ذلك الوعد ونفر الناس منه.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي واذكر مشيئة ربك إذا فرط منك نسيان ثم نذكرت ذلك ، وهذا أمر بالتدارك حين التذكر ، سواء أطال الفصل أم قصر.

(وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي وقل عسى أن يوفّقنى ربى لشىء أقرب إرشادا للناس ، وأظهر حجة من نبأ أهل الكهف.

وقد حقق الله له ذلك ، فآتاه من الآيات ما هو أعظم من ذلك ، كقصص الأنبياء مع أممهم على توإلى العصور ومر الأيام.

وخلاصة ذلك ـ أطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدك إليه خيرا ومنفعة فى ضمن ما ألقى إليك من الأوامر والنواهي ، وقد استجاب الله دعاءه ، فهداه فيما أنزل عليه إلى ما هو خير منفعة ، وأجدى فائدة للمسلمين فى دنياهم وآخرتهم ، وآتاهم من الخير العميم ما جعلهم به خير أمة أخرجت للناس.

ثم بين سبحانه ما أجمل فى قوله : «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» فقال :

١٣٧

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

الإيضاح

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) أي ولبثوا فى الكهف حين ضربنا على آذانهم ثلاثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علّموا قومك السؤال عن شأنهم ، وتسعا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك.

ولا شك أن فى هذا البيان معجزة لرسوله النبي الأمى الذي لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يدرس الحساب ولا الهندسة ولا الفلك ، فمن أين له أن كل مائة سنة شمسية تزيد ثلاث سنين قمرية ، وكل ثلاث وثلاثين سنة شمسية تزيد سنة قمرية ، وكل سنة شمسية تزيد نحو أحد عشر يوما على السنة القمرية؟

لا شك أنه قد أعلمه اللطيف الخبير بما أوحاه إليه ، وهداه لأقرب من هذا رشدا ، وهو الذي جعله يلفت الأنظار إلى علم ما على الأرض زينة لها كضوء الشمس والقمر على وجهها ، وما نتج عن ذلك الضوء من بهجة الأرض وزينتها ؛ فلولا اختلاف الفصول لم يكن للأرض زينة ، ولا اختلاف للفصول إلا بتقلب أحوال الشمس وطلوعها من حيث لا تمسى ، فما من حيوان ولا نبات إلا أسّ حياته ضوء الشمس الذي أرسله الله إلى الأرض ، كما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلّم ليهدينا إلى نور العلم ويقول لنا : إن النظر فيما على الأرض من زينة أقرب رشدا من قصص الأولين ، وحكايات الغابرين.

فكم فى العوالم المحيطة بكم من خوارق ، فإياكم أن تذروها ابتغاء ما يقع على أيدى أنبيائكم وأوليائكم. فإنى قد أرسلت الأنبياء ليرشدوكم إلى ملكى وما فى خلقى

١٣٨

من عجائب ، وما الأنبياء والأولياء إلا بعض خلقى «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».

ثم أكد أن المدة المضروبة على آذانهم هى هذه المدة فقال :

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أي قل الله أعلم منكم بهم ، وقد أخبر بمدة لبثهم ، فهو الحق الذي لا يحوم حوله شك.

وفائدة تأخير بيانها الدلالة على أنهم تنازعوا فيها أيضا كما تنازعوا فى العدد ، وعلى أن هذا البيان من الغيب الذي أخبر الله به نبيه ليكون معجزة له ، وجاء قوله «قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا» تذييلا لسابقه ، ليكون محاكيا قوله حكاية عددهم «قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ».

ثم أشار إلى اختصاصه بعلم ما لبثوا دون غيره فقال :

(لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله علم ما غاب فيهما ، وخفى من أحوال أهلهما ، لا يعزب عنه علم شىء منه ، فسلّموا له علم ما لبثت الفتية فى الكهف ، وإذا علم الخفي فيهما فهو بعلم غيره أدرى.

ومن ذلك العلم الغائب على كثير من العقول حساب السنة الشمسية والقمرية ، فقد غيّبه الله عن بعض الناس ، ولم يطلع عليه إلا العارفين بحساب الأفلاك ، ومن ثم يعجبون من أمر نبيهم ، ويعلمون أن هذا مبدأ زينة الأرض وزخرفها.

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هذا أسلوب فى اللغة يدل على التعجب والمبالغة فى الأمر الذي تتحدث بشأنه ، أي ما أبصر الله تعالى بكل موجود ، وأسمعه بكل مسموع ، فهو لا يخفى عليه شىء من ذلك ، وهذا أمر عظيم من شأنه أن يتعجّب منه.

وقد ورد مثل هذا فى الحديث : «ما أحلمك عمن عصاك ، وأقربك ممن دعاك ، وأعطفك على من سألك».

(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ) أي ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم ـ ولىّ يلى تدبير أمورهم وتصريفهم فيما هم فيه مصرّفون.

١٣٩

(وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) اى إنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، لا معقّب لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ، تعالى الله وتقدست أسماؤه.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

تفسير المفردات

لا مبدل : أي لا مغيّر ، لكلماته أي لأحكامها ، فلا يستطيع أحد نسخ أحكام ما جاء فى كتابه ، ملتحدا : أي ملجأ تعدل إليه إذا ألمّت بك ملمّة ، واصبر نفسك : أي احبسها وثبّتها ، بالغداة والعشى : أي فى طرفى النهار ، وخصهما بالذكر ، لأنهما محل الغفلة ، وفيهما يشتغل الناس بأمور دنياهم ، وجهه : أي رضاه وطاعته لأن من رضى

١٤٠