تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

إبراهيم باتخاذه خليلا ، وموسى بالتكليم ، ومحمدا بالقرآن الذي أعجز البشر والإسراء والمعراج.

ونحو الآية قوله : «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» ولا خلاف فى أن أولى العزم منهم وهم الخمسة الذين ذكروا فى سورة الشورى فى قوله «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» أفضل من بقيتهم ، ولا خلاف فى أن محمدا صلى الله عليه وسلّم أفضلهم ، ثم إبراهيم فموسى فعيسى عليهم السلام.

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) أي إن تفضيل داود لم يكن بالملك ، بل كان بما آتاه الله من الكتاب ، وأفرده بالذكر ، لأنه كتب فى الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء ، وأن أمته خير الأمم كما قال تعالى : «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» وهم محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)

٦١

وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

تفسير المفردات

الزعم : (بتثليث الزاى) القول المشكوك فى صدقه ، وقد يستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس : كل موضع فى كتاب الله ورد فيه (زعم) فهو كذب ، لا يملكون :

أي لا يستطيعون ، كشف الضر : إزالته أو تحويله عنكم إلى غيركم ، يدعون : أي ينادون ، الوسيلة : القرب بالطاعة والعبادة ، محذورا : أي يحذره ويحترس منه كل أحد ، فى الكتاب : أي فى اللوح المحفوظ ، والآيات : هى ما اقترحته قريش من جعل الصفا ذهبا ، ومبصرة : أي ذات بصيرة لمن يتأملها ويتفكر فيها ، فظلموا بها : أي فكفروا بها وجحدوا ، أحاط بالناس : أي أحاطت بهم قدرته فلا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا ، والرؤيا هى ما عاينه صلى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به من العجائب ، والشجرة : هى شجرة الزقوم ، والطغيان : تجاوز الحد فى الفجور والضلال.

المعنى الجملي

هذه الآيات عود على بدء فى تسفيه آراء المشركين الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا ، إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ، ويخافون عذابه ، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فادعونى وحدي ، لأنى أنا المالك لنفعكم وضرهم دونهم ؛ ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال ، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي

٦٢

واغتنام الأموال وأخذ الجزية ؛ ثم أردف ذلك ببيان أنه ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم : «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» إلخ إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم ، أولم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة ، ثم قفى على ذلك بأن الله حافظه من قومه ، وأنه سينضره ويؤيده ، ثم أتبع ذلك بأن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم ، كما كان ذكر شجرة الزقوم فى قوله : «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» ثم تلا هذا بذكر تماديهم فى العناد ، وأنه كلما خوّفهم وأنذرهم ازدادوا تماديا وطغيانا ، فلو أنزل عليهم الآيات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ، ومن ثم أجّل عذابهم إلى يوم الوقت المعلوم.

الإيضاح

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه : ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه حين ينزل الضر بكم من فقر ومرض ونحوهما ، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم؟ إنهم لا يقدرون على دفع شىء من ذلك ولا يملكونه ، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. روى أنه لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنزل الله هذه الآية.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) أي هؤلاء الذين يدعوهم المشركون أربابا ، وينادونهم لكشف الضر عنهم ـ يطلبون مجتهدين إلى ربهم ومالك أمرهم القرب إليه بالطاعة والقربة. أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «سلوا الله لى الوسيلة ، قالوا وما الوسيلة؟ قال القرب من الله؟ ثم قرأ هذه الآية».

٦٣

(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أي إن أقرب أولئك المعبودين إلى الله يدعوه يبتغى إليه الوسيلة والقرب منه ، وإذا كان العجز عن كشف الضر عنكم ، والافتقار إلى ربكم ، شأن أعلاهم وأدناهم ، فكيف تعبدونهم؟.

(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي ويرجون بفعلهم للطاعة رحمته ، ويخافون بمخالفة أمره عذابه.

ثم ذكر العلة فى خوفهم من العذاب فقال :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي إن عذابه حقيق بأن يحذره كل أحد من الملائكة والأنبياء فضلا عن سواهما.

ثم ذكر مآل الدنيا وأهلها فقال :

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) أي وما من قرية من القرى التي ظلم أهلها بالكفر والمعاصي إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء ومبيدوهم بالاستئصال قبل يوم القيامة ، أو معذبوها ببلاء من قتل بالسيف أو غير ذلك من صنوف العذاب ، بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال سبحانه عن الأمم الماضية : «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وقال : «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» وقال : «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ» الآية.

(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي كان ذلك مثبتا فى علم الله أو فى اللوح المحفوظ. عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : «إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له اكتب ، فقال ما أكتب؟ قال اكتب المقدر وما هو كائن إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي :

وكان كفار قريش يقولون يا محمد : إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخّرت له الريح ، ومنهم من كان يحيى الموتى ، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ، فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله :

٦٤

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي إنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم لاستحقوا عذاب الاستئصال كما هى سنتنا فى الأمم السالفة ، لكن هذا العذاب على هذه الأمة لا يكون ، لأن الله يعلم أن فيهم من سيؤمنون أو يؤمن أولادهم ، فلم يجبهم إلى ما طلبوا ولم يظهر لهم تلك المعجزات.

والخلاصة ـ إنه ما ما منعنا من إرسال الآية التي سألوها إلا تكذيب الأولين بمثلها ، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله فى عباده.

روى أحمد عن ابن عباس قال : «سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحّى الجبال عنهم فيزرعوا ، فقيل له إن شئت أن نستأنى بهم ، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم ، قال بل نستأنى بهم وأنزل الله (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) الآية».

وأخرج البيهقي فى الدلائل عن الربيع بن أنس قال : قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلّم «لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم ، فإن عصيتم هلكتم فقالوا لا نريدها».

ثم بين أن الآيات التي التمسوها هى مثل آية ثمود وقد أوتوها واضحة بينة فكفروا بها فاستحقوا العذاب ، فكيف يتمنى مثلها هؤلاء على سبيل الاقتراح كما قال :

(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) أي وقد سألت ثمود من قبل قومك الآيات فآتيناها ما سألت ، وجعلنا لها الناقة حجة واضحة دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها ، فكفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها ، فأبادهم الله ، وانتقم منهم ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) أي إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات ، لعلهم يعتبرون ويذّكّرون فيرجعوا.

٦٥

ذكر المؤرخون أن الكوفة رجفت (زلزلت) فى عهد ابن مسعود فقال : أيها الناس ، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه ، وروى أن المدينة زلزلت فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه مرات فقال عمر : أحدثتم والله ، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ ، وفى الحديث الصحيح «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله يخوف بهما عباده ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ـ ثم قال : يا أمة محمد ، والله ما أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته ، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا».

ثم قال سبحانه محرّضا رسوله على إبلاغ رسالته ، ومخبرا له بأنه قد عصمه من الناس.

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك هو القادر على عباده ، وهم فى قبضته ، وتحت قهره وغلبته ، فلا يقدرون على أمر إلا بقضائه وقدره ، وقد عصمك من أعدائك ، فلا يقدرون على إيصال الأذى إليك كما قال : «وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».

وخلاصة ذلك ـ إن الله ناصرك ومؤيدك حتى تبلّغ رسالته ، وتظهر دينه. قال الحسن : حال بينهم وبين أن يقتلوه ، ويؤيد هذا قوله تعالى : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ».

(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي وما جعلنا الرؤيا التي أريتها ليلة الإسراء إلا امتحانا واختبارا للناس ، فأنكرها قوم وكذبوا بها ، وكفر كثير ممن كان قد آمن به ، وازداد المخلصون إيمانا.

روى البخاري فى التفسير عن ابن عباس إنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله الله عليه وسلّم ليلة الإسراء ، وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وقتادة ، والعرب تقول رأيته بعيني رؤية ورؤيا.

(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) أي وما جعلنا الشجرة الملعونة فى القرآن إلا فتنة للناس ، فإنهم حين سمعوا : «إنّ شجرة الزّقوم ، طعام الأثيم» اختلفوا ، فقوم ازدادوا

٦٦

إيمانا ، وقوم ازدادوا كفرا كأبى جهل إذ قال : إن ابن أبى كبشة (يعنى النبي صلى الله الله عليه وسلّم) توعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يزعم أنها تنبت شجرة وتعلمون أن النار نحرق الشجر ، وقال عبد الله بن الزّبعرى : إن محمدا يخوّفنا بالزقوم ، وما الزقوم إلا التمر والزبد ، فتزقموا منه ، وجعل يأكل من هذا بهذا.

وقد فات هؤلاء أن فى الدنيا أشياء كثيرة لا تحرقها النار ، فهناك نوع من الحرير يسمى بالحرير الصخرى لا تؤثر فيه النار ، بل هو يزداد إذا لا مسها نظافة ، ومن ثم يلبسه جال المطافى فى الدول المتدينة.

وكم فى الأرض من عجائب ، وكم فى العوالم الأخرى من مثلها ، فالأرض مملوءة نارا ، وما خلص من النار إلا قشرتها التي نعيش عليها ، وما من شجر أو حجر إلا وفيه نار ، والماء نفسه مادة نارية فنحو ٨ منه اكسوجين وهو مادة تشتعل سريعا ، والتسع أدروجين ، فأرضنا نار ، وماؤنا نار ، وأشجارنا وأحجارنا مليئة بالنار ، وهذا العالم لذى نسكنه تتخلله النار.

والخلاصة ـ إن هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا ، وفتنوا بالشجرة.

وقد وصفت هذه الشجرة بكونها ملعونة ولا ذنب لها ، للعن الكفار الذين يأكلونها ، توسعا فى الاستعمال وهو كثير فى كلام العرب.

(وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي ونخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة ، فما يزيدهم التخويف إلا تماديا فى الطغيان والضلال ، فلو أننا أنزلنا عليهم الآيات التي اقترحوها ، لم يزدادوا بها إلا تمردا وعنادا واستكبارا فى الأرض وفعل بهم ما فعل بأمثالهم من الأمم الغابرة من عذاب الاستئصال ، لكن قد سبقت كلمتنا بتأخير العذاب عنهم إلى حلول الطامة الكبرى.

والكلام مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلّم على ما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة ، من الحزن لطعن الكفار ، إذ ربما يقولون لو كنت رسولا حقا لأتيت بمثل هذه المعجزات التي أتى بها من قبلك من الأنبياء.

٦٧

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

تفسير المفردات

أرأيتك : أي أخبرنى ، هذا الذي كرّمت على : أي أهذا الذي كرمته علىّ قاله احتقارا واستصغارا لشأنه ، لأحتنكنّ ، من قولهم حنك الدابة واحتنكها : إذا جعل فى حنكها الأسفل حبلا يقودها به ، كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه ، اذهب : أي امص لشأنك فقد خلّيتك وما سوّلت لك نفسك ، وموفورا : أي مكملا لا يدّخر منه شىء من قولهم فر لصاحبك عرضه فرة : أي أكمله له قال :

ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم

ويقال أفزّه الخوف واستفزه : أي أزعجه واستخفه ، بصوتك : أي بدعائك إلى معصية الله ، وأجلب عليهم : أي صح عليهم من الجلبة وهى الصياح ، ويقال أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول (والخيل هنا الفرسان) كما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلّم فى بعض غزواته لأصحابه «يا خيل الله اركبي» والرّجل : واحده راجل كركب وراكب ، والغرور : تزيين الباطل بما يظن أنه حق ، والوكيل : الحافظ والرقيب

٦٨

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان فى محنة من قومه إذ كذبوه وتوعدوه حين حدثهم بالإسراء وشجرة الزقوم ، وأنهم نازعوه وعاندوه واقترحوا عليه الآيات حسدا على ما آتاه الله من النبوة ، وكبرا عن أن ينقادوا إلى الحق ـ بين أن هذا ليس ببدع من قومك ، فقد لاقى كثير من الأنبياء من أهل زمانهم مثل ما لاقيت ؛ ألا ترى أن آدم عليه السلام كان فى محنة شديدة من إبليس ، وأن الكبر والحسد هما اللذان حملاه على الخروج من الإيمان والدخول فى الكفر ؛ والحسد بليّة قديمة ، ومحنة عظيمة للخلق

الإيضاح

ذكر سبحانه قصص آدم فى سبع سور : البقرة. الأعراف. الحجر. الإسراء. الكهف ، طه. ص. وقد تقدم الكلام فيها فيما سلف من تلك السور ؛ وها نحن أولاء نفسرها فى هذه السورة.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك عداوة إبليس لآدم وذريته ، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم ، فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخارا عليه واحتقارا له ، وقال أأسجد لمن خلقته من الطين ، وأنا مخلوق من النار كما جاء فى الآية الأخرى : «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» فكفر بنسبة ربه إلى الجور بتخيله أنه أفضل من آدم من قبل أن الفروع ترجع إلى الأصول ، وأن النار التي هى أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم ، وقد فاته أن الطين أنفع من النار ؛ ولئن سلم غير هذا فالأجسام كلها من جنس واحد ، والله هو الذي أوجدها من العدم ، ويفضّل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض.

٦٩

وقال أيضا لربه جرأة وكفرا ، والرب يحلم وينظر :

(أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؟) أي أخبرنى أهذا الذي كرّمته علىّ؟ وهل يوجد ما يدعو إلى تفضيله علىّ ، وهذا كلام قاله على وجه التعجب والإنكار.

(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) أي لئن أنظرتنى لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم ، وهذا القليل هم الذين عناهم الله بقوله : «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ».

ولعل إبليس حكم هذا الحكم على ذرية آدم إما بالسماع من الملائكة حين قالوا «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك» أو بالقياس على ما رأى من آدم حين وسوس إليه ، فلم يجد له عزما.

ثم ذكر سبحانه أنه أجابه إلى النّظرة ، وأخره إلى يوم الوقت المعلوم.

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) أي قال له سبحانه : امض لشأنك الذي اخترته ، ولما سوّلته لك نفسك ، وقد أخرتك ، وهذا كما تقول لمن يخالفك : افعل ما تريد.

فمن أطاعك من ذرية آدم وضلّ عن الحق ، فإن جزاءك على دعائك إياهم ، وجزاءهم على اتباعهم لك وخلافهم أمرى جزاء موفور ، لا ينقص لكم منه شىء ، بما تستحقون من سيىء الأعمال ، وما دنستم به أنفسكم من قبيح الأفعال.

ونحو الآية قوله : «(فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ».

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي قال تعالى مهددا له : استخفّ وأزعج بدعائك إلى معصية الله ووسوستك من استطعت من ذرية آدم.

(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أي واجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من تجلب بالدعاء إلى طاعتك والصرف عن طاعتى ، ومثل هذا الأسلوب يراد به التشمير فى الأمر والجد فيه ، والتسلط على من يغويه ، وكأن فارسا مغوارا وقع

٧٠

على قوم ، فصوت بهم صوتا مزعجا من أماكنهم ، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى استأصلهم.

قال مجاهد : ما كان من راكب يقاتل فى معصية الله فهو من خيل إبليس ، وما كان من راجل فى معصية الله فهو من رجّالة إبليس. وقال آخرون : ليس للشيطان خيل ولا رجالة ، وإنما يراد بهما الأتباع والأعوان من غير ملاحظة لكون بعضهم ما شيا وبعضهم راكبا.

(وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) بحثهم على كسبها من غير السبل المشروعة ، وإنفاقها فى غير الطرق التي أباحها الدين ، ويشمل ذلك الربا والغصب والسرقة وسائر المعاملات الفاسدة.

وقال الحسن : مرهم أن يكسبوها من خبيث ، وينفقوها فى حرام.

(وَالْأَوْلادِ) بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضى الله.

وإجمال القول فيه ـ إن كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه ، بإدخاله فى غير الدين الذي ارتضاه ، أو بالزنا بأمه ، أو بوأده ، أو بقتله ، أو غير ذلك فقد شارك إبليس فيه من ولد له أو منه.

(وَعِدْهُمْ) بما يستخفهم ويغرّهم من المواعيد الباطلة ، كوعدهم بأن لا جنة ولا نار ، أو بأن الآلهة تشفع لهم ، أو بالكرامة على الله بالأنساب الشريفة ، مع ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلّم «يا فاطمة بنت محمد سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا» أو بالتسويف فى التوبة ، أو بإيثار العاجل على الآجل أو نحو ذلك.

وخلاصة ذلك ـ إنه يغويهم بأن لا ضرر من فعل هذه المعاصي ، فإنه لا جنة ولا نار ، ولا حياة بعد هذه الحياة ، وإنها سبيل اللذة والسرور ، ولا حياة للإنسان إلا بها فتفويتها غبن وخسران.

خذوا بنصيب من سرور ولذة

فكلّ وإن طال المدى يتصرّم

٧١

وينفّرهم من الطاعة بأن لا فائدة فيها ، إذ لا رجعة بعد هذه الحياة ، فهى عبث محض ، فهذه بعض تلبيسات الشيطان وهذه خدعة.

(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) لأنه لا يغنى عنهم من عقاب الله شيئا إذا نزل بهم ، فمواعيده خدعة يزينها لهم ويلبسها ثوب الحق ، كما قال إبليس إذ حصحص الحق يوم يقضى ربك بالحق : «إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلّا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم».

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي إن عبادى الذين أطاعونى فاتبعوا أمرى وعصوك ، ليس لك عليهم تسلط ، فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر ، فإنى قد وفقتهم بالتوكل علىّ ، فكفيتهم أمرك.

(وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) فهم يتوكلون عليه ، ويستمدون منه العون فى الخلاص من إغوائك ووسوستك.

وفى الآية إيماء إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه من مواقع الضلال ، وإنما المعصوم من عصمه الله.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا

٧٢

لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

تفسير المفردات

يزجى : أي يسوق حينا بعد حين ؛ والمراد أنه يجريه ، وفضله : هو رزقه ، والمراد بالضر : خوف الغرق بتقاذف الأمواج ، وضل : غاب عن ذكركم ، والخسف والخسوف :

دخول الشيء فى الشيء ؛ يقال عين خاسفة إذا غابت حدقتها فى الرأس ، وعين من الماء خاسفة : أي غائرة الماء وخسفت الشمس : أي احتجبت ، وكأنها غارت فى السحاب ، والحاصب : الريح التي ترمى بالحصباء والحجارة ، والقاصف : الريح تقصف الشجر وتكسره ، والتبيع : النصير والمعين ، وحملته على فرس : أي أعطيته إياها ليركبها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى الآية السالفة أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس ، وأنه لا يستطيع أن يمسه بسوء ـ قفى على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى على الإنسان التي كان يجب عليه أن يقابلها بالشكران لا بالكفران ، وهو الذي يرى دلائل قدرته فى البر والبحر ، فهو الذي يزجى له الفلك فى البحر لتنقل له أرزاقه وأقواته من بعيد المسافات ، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة إذا مسه الضر دعا ربه ، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان ، فهل يأمن أن يخسف به الأرض ، أو يرسل عليه حاصبا من الريح فى البر ، أو قاصفا من الريح فى البحر فيغرقه بكفره ، وهل نسى أنه ضله على جميع الخلق ، وبسط له الرزق ، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم طاهرة عليه؟

٧٣

الإيضاح

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي إن ربكم أيها القوم هو القادر الحكيم الذي يجرى لكم لنفعكم السفن فى البحر بالريح اللينة أو بالآلات البخارية أو الكهربائية ، لتسهيل نقل أقواتكم وحاجكم من إقليم إلى آخر من أقصى المعمورة إلى أدناها ، والعكس بالعكس ، ونقل أشخاصكم من قطر إلى قطر ابتغاء للرزق أو للسياحة ورؤية مظاهر الكون على اختلاف الأصقاع مما يرشد إلى باهر القدرة ، ووافر النعمة عليكم ، إنه كان بكم رحيما ، إذ سهل ما فيه الفوائد المرجوة لكم فى هذه الحياة.

ثم خاطب الكفار بقوله :

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي وإذا نالتكم شدة جهد فى البحر ذهب عن خواطركم كل من تدعونه وترجون نفعه ، من صنم أو جن أو ملك أو بشر أو حجر ، فلا تذكرون إلا الله ، ولا يخطر على بالكم سواه لكشف ما حل بكم.

وخلاصة ذلك ـ إنكم إذا مسكم الضر دعوتم الله منيبين إليه مخلصين له الدين.

(فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) أي ومن عجيب أمركم أنكم حين دعوتموه وأغاثكم وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه فى البحر أعرضتم عن الإخلاص ورجعتم إلى الإشراك به كفرا منكم بنعمته.

ثم علل هذا الإعراض بقوله :

(وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) أي وكانت سجية الإنسان وطبيعته أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.

وخلاصة ما سلف ـ إنكم حين الشدائد تجأرون طالبين رحمته ، وحين الرخاء تعرضون عنه.

٧٤

ثم حذر من كفران نعمته فقال :

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً؟) أي أفحسبتم أنكم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقام الله وعذابه ، فهو إن شاء خسف بكم جانب البر وغيّبه فى أعماق الأرض وأنتم عليها ، وإن شاء أمطر عليكم حجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط ، ثم لا تجدون من تكلون إليه أموركم ، فيحفظكم من ذلك ، أو يصرفه عنكم غيره ، جل وعلا.

وخلاصة ذلك ـ إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم من فوقكم بريح يرسلها عليكم ، فيها الحصباء يرجمكم بها ، فيكون أشد عليكم من الغرق فى البحر.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا بعد ما اعترفتم بتوحيدنا فى البحر حتى خرجتم إلى البر ـ أن يعيدكم فيه مرة أخرى فيرسل عليكم ريحا تقصف السواري ، وتغرق المراكب بسبب كفركم وإعراضكم عن الله ، ثم لا تجدوا لكم نصيرا يعينكم ويأخذ بثأركم.

قال قتادة : فى تفسيرها أي لا نخاف أحدا يتبعنا بشىء مما فعلنا. يريد : إنكم لا تجدون ثائرا يطلبنا بما فعلنا ، انتصارا منا ، أو دركا للثأر من جهتنا.

وفى معنى الآية قوله : «فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها».

وفى الآية وعيد أيما وعيد فكأنه قيل : ننتقم منكم من غير أن يكون لكم نصير يدفع عنكم شديد بأسنا.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) أي ولقد كرمنا بنى آدم بحسن الصورة واعتدال القامة والعقل ، فاهتدى إلى الصناعات ومعرفة اللغات ، وحسن التفكير فى وسائل المعاش ، والتسلط على ما فى الأرض ، وتسخير ما فى العالم العلوي والسفلى ، وحملناهم على الدواب والقطر والطائرات والمطاود (واحدها منطاد) والسفن ، ورزقناهم من الأغذية النباتية والحيوانية ، وفضلناهم على كثير من الخلق بالغلبة والشرف والكرامة ، فعليهم

٧٥

ألا يشركوا بربهم شيئا ، ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره من الأصنام والأوثان.

والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام.

والخلاصة ـ إن فى الآية حثا للإنسان على الشكر ، وألا يشرك بربه أحدا ، لأنه سخّر له ما فى البر والبحر ، وكلأه بحسن رعايته ، وهداه إلى صنعة الفلك لتجرى فى البحر ، ورزقه من الطيبات ، وفضله على كثير من المخلوقات.

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

تفسير المفردات

إمامهم : هو كتابهم فهو كقوله «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» والفتيل : الخيط المستطيل فى شقّ النواة ، وبه يضرب المثل فى الشيء الحقير التافه ، ومثله النقير والقطمير ، أعمى : أي أعمى البصيرة عن حجة الله وبيناته ، والركون إلى الشيء : الميل إلى ركن منه ، ضعف الحياة : أي عذابا مضاعفا فى الحياة الدنيا ، وضعف الممات : أي

٧٦

عذابا مضاعفا فى الممات فى القبر وبعد البعث ، ونصيرا : أي معينا يدفع عنك العذاب ، لا يلبثون : أي لا يبقون ، خلافك : أي بعدك ، سنة من قد أرسلنا : أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك ، تحويلا : أي تغييرا

المعنى الجملي

بعد أن ذكر جل ثناؤه أحوال بنى آدم فى الدنيا ، وذكر أنه أكرمهم على كثير من خلقه ، وفضلهم عليهم تفضيلا ـ فصّل فى هذه الآيات تفاوت أحوالهم فى الآخرة مع شرح أحوال السعداء ، ثم أردفه ما يجرى مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال ، والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبيس ، ثم قفى على ذلك ببيان أن سنته قد جرت بأن الأمم التي تلجىء رسلها إلى الخروج من أرضها لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.

الإيضاح

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي اذكر لهم ذلك اليوم ، يوم ندعو كل أناس بكتابهم الذي فيه أعمالهم التي قدّموها ، ولا ذكر للأنساب حينئذ لأنها مقطوعة ، فلا يقال يا ابن فلان ، وإنما يقال يا صاحب كذا كما قال تعالى «فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون».

والخلاصة : إن المعوّل عليه يومئذ الأعمال والأخلاق ، والآراء والعقائد النفسية التي تغرس فى النفوس لا الأنساب ، لأن الأولى باقية والثانية فانية.

(فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي فمن أعطى كتاب عمله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم مبتهجين فرحين بما فيه من العمل الصالح.

ونحو الآية قوله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ».

(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا ينقصون شيئا من أجور أعمالهم ، وقد ثبت

٧٧

فى علم الكيمياء أن وزن الذرات التي تدخل فى كل جسم بنسب معينة ، فلو أن ذرة واحدة فى عنصر من العناصر الداخلة فى تركيب أي جسم من النبات أو الحيوان أو الجماد نقصت عن النسبة المقدرة لتكوينه لم يتكون ذلك المخلوق.

وخالق الدنيا هو خالق الآخرة ، فالظلم مستحيل هناك كما استحال هنا فى نظم الطبيعة ، فما أجلّ قدرة الله وما أعظم حكمته فى خلقه!.

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي ومن كان فى دار الدنيا أعمى القلب لا يبصر سبل الرشد ، ولا يتأمل حجج الله وبيناته التي وضعها فى صحيفة الكون وأمر بالتأمل فيها ـ فهو فى الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة ، وأضل سبيلا منه فى الدنيا ، لأن الروح الباقي بعد الموت هو الروح الذي كان فى هذه الحياة الدنيا ، وقد خرج من الجسم وكأنه ولد منه كما تلد المرأة الصبى ، وكما يثمر النخل الثمر ، والأشجار الفواكه ، وما الثمر والفواكه إلا ما كان من طباع الشجرة ، فهكذا الروح الباقي هو هذا الروح نفسه قد خرج بجميع صفاته وأخلاقه وأعماله ، فهو ينظر إلى نفسه وينفر أو ينشرح بحسب ما يرى ، وما الثمر إلا بحسب الشجر ، فإذا كان هنا ساهيا لا هيا فهناك يكون أكثر سهوا ولهوا وأبعد مدى فى الضلال ، لأن آلات العلم والعمل قد عطّلت ، وبقي فيه مناقبه ومثالبه ، ولا قدرة على الزيادة فى الأولى ولا النقص فى الثانية.

وبعد أن ذكر سبحانه درجات الخلق فى الآخرة وشرح أحوال السعداء ، أردفه بتحذيرهم من وساوس أرباب الضلال والخديعة بمكرهم فقال :

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي وإن المشركين قاربوا بخداعهم أن يوقعوك فى الفتنة بصرفك عما أوحيناه إليك من الأحكام ، لتتقوّل علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك.

أخرج ابن اسحق وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس «أن أمية بن حنف وأبا جهل ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا تعال فتمسّح بآلهتنا ، وندخا

٧٨

معك فى دينك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشتد عليه فراق قومه ، ويجب إسلامهم ، فرقّ لهم ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله نصيرا.

وعن سعيد بن جبير قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلّم يستلم الحجر الأسود فى طوافه ، فمنعته قريش وقالوا : لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا فحدّث نفسه وقال : ما على أن ألمّ بها بعد أن يدعونى أستلم الحجر والله يعلم إنى لها كاره ، فأبى الله ذلك ، وأنزل عليه هذه الآية».

(وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي ولو اتبعت ما يريدون لا تخذوك خليلا ووليّا لهم ، وخرجت من ولايتي.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) أي ولولا تثبيتنا إياك ، وعصمتك عما دعوك إليه لقاربت أن تميل إلى ما يرومون.

وخلاصة ذلك ـ إنك كنت على أهبة الركون إليهم ، لا لضعف منك ، بل لشدة مبالغتهم فى التحيل والخداع ، ولكن عنايتنا بك منعتك أن تقرب من الركون ، فضلا عن أن تركن إليهم.

وفى هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلّم لم يهمّ بإجابتهم ولم يقرب من ذلك.

ثم توعده على ذلك أشد الوعيد فقال :

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي ولو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات : أي ضاعفنا لك العذاب فى الدنيا والآخرة ، فهو صلى الله عليه وسلّم لو ركن إليهم يكون عذابه ضعف عذاب غيره ، لأن الذنب من العظيم يكون عقابه أعظم ، ومن ثم يعاقب العلماء على زلاتهم أشد من عقاب العامة لأنهم يتبعونهم.

ونظير ذلك من وجه ما جاء فى نسائه صلى الله عليه وسلّم من قوله «يا نساء النبىّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينّة يضاعف لها العذاب ضعفين».

وخلاصة ذلك ـ إنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك ، وعقدت على

٧٩

الركون همّك ، لا ستحققت تضعيف العذاب عليك فى الدنيا والآخرة ، ولصار عذابك مثلى عذاب المشرك فى الدنيا ومثلى عذابه فى الآخرة.

وقد ذكروا فى حكمة هذا ـ أن الخطير إذا ارتكب جرما وخطا خطيئة يكون سببا فى ارتكاب غيره مثله والاحتجاج به ، فكأنه سن ذلك ، وقد جاء فى الأثر ـ «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) أي ثم لا تجد من يدفع العذاب أو يرفعه عنك.

روى عن قتادة أنه قال : «لما نزل قوله : وإن كادوا ليفتنونك إلخ قال صلى الله عليه وسلّم : اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» فينبغى للمؤمن أن يتدبّرها حين تلاوتها ، ويستشعر الخشية ، ويستمسك بأهداب دينه ، ويقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم «اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين».

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) أي ولقد كاد أهل مكة يزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم من الأرض التي أنت فيها ليخرجوك منها ، بما فعلوه من حصرك والتضييق عليك وقد وقع ذلك بعد نزول الآية وصار ذلك سببا لخروجه صلى الله عليه وسلّم.

(وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ولو استفزوك فخرجت لا يبقون بعدك إلا زمانا قليلا.

وفى هذا وعيد لهم بإهلاكهم بعد خروجه بقليل ، وقد تحقق ذلك بإفناء صناديد قريش فى وقعة بدر لثمانية عشر شهرا من ذلك التاريخ.

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) أي هكذا عادتنا فى الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم أن يأتيهم العذاب ، ولو لا أنه صلى الله عليه وسلّم رسول الرحمة لجاءهم من النقم ما لا قبل لهم به ، ومن ثم قال تعالى : «وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم» الآية.

٨٠