تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

بحسب اختيارهم وصرف همتهم إلى تحصيل أسبابه ، لا حجة لهم فيها ، لأنه تعالى خلق النار وجعل أهلها من الشياطين وأهل الكفر ، وهو لا يرضى لعباده الكفر ، وله فى ذلك حجة ناصعة وحكمة بالغة.

ثم بين سبحانه أنه أنكر على عباده المكذبين كفرهم بإنزال العقوبة بهم فى الدنيا بعد إنذار الرسل فقال :

(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي فممن بعثنا فيهم رسلنا من هداه الله ووفقه لتصديقهم وقبول إرشادهم والعمل بما جاءوا به ، ففازوا وأفلحوا ونجوا من عذابه ، ومنهم من جاروا عن قصد السبيل ، فكفروا بالله وكذبوا رسله واتبعوا الطاغوت ، فأهلكهم بعقابه ، وأنزل بهم شديد بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين.

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا فى الأرض التي كان يسكنها القوم الظالمون ، والبلاد التي كانوا يعمرونها كديار عاد وثمود ومن سار سيرتهم ممن حقت عليه الضلالة ، وانظروا إلى آثار سخطنا عليهم ، لعلكم تعتبرون بما حل بهم.

ثم خاطب سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلّم مسلّيا له على ما يراه من جحود قومه وشديد إعراضهم ومبالغتهم فى عنادهم ، مع حدبه عليهم وعظيم رغبته فى إيمانهم ، ومبينا له أن الأمر بيد الله وليس له من الأمر شىء فقال :

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أي إن تحرص أيها الرسول على هداية قومك ـ لا ينفعهم حرصك إذا كان الله يريد إضلالهم بسوء اختيارهم وتوجيه عزائمهم ، إلى عمل المعاصي والإشراك بربهم.

ونحو الآية قوله : «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله حكاية عن مقالة نوح لقومه : «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ» وقوله : «مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

٨١

ومجمل القول ـ إن من اختار الضلالة ووجّه همته إلى تحصيل أسبابها فالله سبحانه لا يخلق فيه الهداية قسرا وإلجاء ، لأن مدار الإيمان والكفر الاختيار لا الإلجاء والاضطرار.

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وما لهم ناصر ينصرهم من الله إن أراد عقوبتهم كما قال : «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ».

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

تفسير المفردات

الجهد ، بفتح الجيم : المشقة : وبضمها. الطاقة ، وجهد أيمانهم : أي غاية اجتهادهم فيها ، وبلى : كلمة جواب كنعم لكنها لا تقع إلا بعد النفي فتثبت ما بعده ، وعدا عليه حقا : أي وعد ذلك وعدا عليه حقا ، أي ثابتا متحققا لا شك فيه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه حجتهم وقولهم إنه لا حاجة إلى الأنبياء جميعا ، لأنا مجبورون فيما نفعل ، وأنه لو شاء الله أن نهتدى لكان ، دون حاجة إلى إرسال الأنبياء ، وردّه عليهم بأن الحاجة إليهم إنما هى فى تبليغ ما أمر به وترك ما نهى عنه ولا يلزمون أحدا بإيمان ولا كفر ـ أردف هذا بشبهة أخرى لهم ، إذ قالوا إنما نحتاج إلى الأنبياء لو كان لنا عودة إلى حياة جديدة بعد الموت فيها ثواب وعقاب ، ولكن

٨٢

العودة إلى حياة أخرى غير ممكنة ولا معقولة ـ ذاك أن الجسم إذا تفرق وذهبت أجزاؤه كل مذهب امتنع أن يعود بعينه ليحاسب ويعاقب ، فرد الله عليهم ما قالوا بأن هذا ممكن ، وقد وعد عليه وعدا حقا ، وأنه فعل ذلك ليميز الخبيث من الطيب والعاصي من المطيع ، وأيضا فإيجاده تعالى للأشياء لا يتوقف على سبق مادة ولا آلة ، بل يقع ذلك بمحض قدرته ومشيئته ، وليس لقدرته دافع ولا مانع.

أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن أبى العالية قال : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به ، والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا ، فقال له المشرك : إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت ، وأقسم جهد يمينه لا يبعث الله من يموت ، فأنزل الله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية.

وأخرج هؤلاء عن أبى هريرة قال : «قال الله : سبّنى ابن آدم ولم يكن ينبغى له أن يسبنى ، وكذّبنى ولم يكن ينبغى له أن يكذبنى ، فأما تكذيبه إياى فقال (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) وقلت : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) وأما سبه إياى فقال : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وقلت : (هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)».

الإيضاح

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) أي إنهم اجتهدوا فى الحلف ، وأغلظوا فى الأيمان ، أنه لا يقع بعث بعد الموت ، وهذا استبعاد منهم لحصوله ، من جراء أن الميت يفنى ويعدم ، والبعث إعادة له ، وإعادة المعدوم مستحيلة.

وقد رد الله عليهم وكذبهم بقوله :

(بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي بلى سيبعثه الله بعد مماته ، وقد وعد بذلك وعدا حقا لا بد منه ، ولكن أكثر الناس لجهلهم بشئون الله وصفات كماله من علم وقدرة وحكمة ونحوها ، لا يعلمون أن وعد الله لا بد من نفاذه

٨٣

وأنه باعثهم بعد مماتهم يوم القيامة أحياء ، ومن قبل هذا جرءوا على مخالفة الرسل ، ووقعوا فى الكفر والمعاصي.

ثم ذكر سبحانه الحكمة فى المعاد ، وقيام الأجساد يوم التناد فقال :

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي بل يبعثهم ليبين لهم وجه الحق فيما جاء به الرسل وخالفتهم فيه أممهم ، فيمتاز الخبيث من الطيب ، والمطيع من العاصي ، والظالم من المظلوم ، إلى نحو أولئك مما كان مدار دعوة أولئك الرسل وأنكرته الأمم الذين أرسلوا إليهم ، ويجزى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) أي وليعلم الذين جحدوا وقوع البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين فى قولهم : لا يبعث الله من يموت ، وسيدعون إلى نار جهنم دعّا ، وتقول لهم الزبانية : «هذه النّار الّتى كنتم بها تكذّبون. أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. أصلها فاصبروا أولا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون».

ثم أخبر سبحانه عن كامل قدرته ، وأنه لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء فقال :

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب فى إحيائه ولا بعثه ، لأنا إذا أردنا ذلك فإنما نقول له : كن فيكون ، لا معاناة فيه ، ولا كلفة علينا.

ونحو الآية قوله : «فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقوله : «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» وقوله : «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ».

وخلاصة هذا ـ إنه تعالى مثّل حصول المقدورات وفق مشيئته ، وسرعة حدوثها حين إرادته ، بسرعة حصول المأمور حين أمر الآمر وقوله ، دون هوادة ولا تراخ.

٨٤

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه أن الكفار أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة ، وتمادوا فى الغىّ والضلالة ، (ومن هذه حاله فليس بالعسير عليه أن يقدم على إيذاء المؤمنين بألوان من الإيذاء ، حتى يضطروهم إلى الهجرة عن الديار ومفارقة الأهل والأوطان) ـ ذكر هنا حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من حسنات فى الدنيا وأجر فى الآخرة ، من جراء أنهم فارقوا أوطانهم وصبروا وتوكلوا على الله.

وفى هذا ترغيب لغيرهم فى الهجرة واحتمال كل أذى فى سبيل الله احتسابا للأجر.

أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة فى هذه الآية قال : هؤلاء أصحاب محمد ، ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.

الإيضاح

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم ، وذهبوا إلى بلاد أخرى احتسابا لأجر الله ونيلا لمرضاته ، من بعد ما نالهم من الكفار من أذى فى أنفسهم وأموالهم ـ لنسكننّهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها ، إذ هم لما تركوا مساكنهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله عوضهم الله خيرا منها فى الدنيا ، فمكّن لهم فى البلاد ، وحكّمهم فى رقاب العباد ، وصاروا أمراء وحكاما ، وكان كل منهم للمتقين إماما.

٨٥

ثم أخبر سبحانه أن ثوابه لهم فى الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم فى الدنيا فقال :

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي ولثواب الله إياهم على هجرتهم من أجله فى الآخرة أكبر ، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي لا يفنى نعيمها ، ولا يزول خيرها.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه ؛ هذا ما وعدك الله فى الدنيا ، وما ذخره لك فى الآخرة أفضل ثم تلا هذه الآية.

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي هؤلاء هم الذين صبروا على ما نالهم من أذى قومهم ولم يرجعوا القهقرى ، وعلى مفارقة الوطن المحبوب ، وعلى احتمال الغربة بين ناس لم تجمعهم بهم ألفة نسب ولا جوار فى دار ، وقد فوّضوا أمرهم إلى ربهم الذي أحسن لهم العاقبة فى الدنيا والآخرة ، وأعرضوا عن كل ما سواه.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ

٨٦

وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

تفسير المفردات

أهل الذكر : أهل الكتاب كما قال : «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» أي التوراة ، والبينة : هى المعجزات الدالة على صدق الرسول ، والزبر : واحدها زبور ، وهى كتب الشرائع والتكاليف التي يبلغها الرسل إلى العباد ، والذكر : القرآن ، لتبين للناس : أي لتوضح لهم ما خفى عليهم من أسرار التشريع ، والمكر : السعى بالفساد خفية ، والسيئات : أي الأعمال التي تسوءهم عاقبتها ، يخسف بهم الأرض : أي يزيلها من الوجود وهم على سطحها ، فى تقلبهم : أي فى أسفارهم وسيرهم فى البلاد البعيدة للسعى فى أرزاقهم كما قال : «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ» بمعجزين : أي بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار ، والتخوف : التنقص من قولهم تخوّفت الشيء وتخيفّته إذا تنقصته ، والمراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلا قليلا حتى يأتى عليها الفناء جميعا ، ويتفيأ : من الفيء يقال فاء الظل يفىء فيئا إذا رجع وعاد بعد ما أزاله ضياء الشمس ، والظلال : واحدها ظل وهو ما يكون أول النهار قبل أن تناله الشمس ، قال رؤبة : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فىء ، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل ، واليمين والشمائل : جانبا الشيء الكثيف من الجبال والأشجار وغيرها ، والسجود : الانقياد والخضوع من قولهم سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ، ومنه قوله : «واسجد لقرد السوء فى زمانه» أي اخضع له ، داخرون : أي صاغرون منقادون واحدهم داخر وهو الذي يفعل ما تأمره به شاء أو أبى ، يخافون ربهم : أي يخافون عقابه ، من فوقهم : أي بالقهر والغلبة كما قال : «وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ».

٨٧

المعنى الجملي

بعد أن ذكر جلت قدرته ما قاله المشركون من أنهم لا حاجة بهم إلى الأنبياء ، لأن الحاجة إليهم إنما تدعو لو كانت هناك حياة أخرى يحاسبون فيها ، وهم لا يصدقون بها ، وليس من المعقول أن تكون ـ أردف ذلك بشبهة أخرى لهم إذ قالوا هب الله أرسل رسولا فليس من الجائز أن يكون بشرا فالله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر ، فلو بعث إلينا رسولا لبعثه ملكا ، ثم أجاب عن هذه الشبهة بأن سنة الله أن يبعث رسله من البشر ، وإن كنتم فى شك من ذلك فاسألوا أهل الكتاب عن ذلك ؛ ثم هددهم أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون ، أو يأتيهم بعذاب من السماء فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط ، أو يأخذهم وهم يتقلبون فى أسفارهم ومعايشهم ، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى ؛ ثم أعقب هذا بما يدل على كمال قدرته فى تدبير أحوال العالم العلوي والسفلى على أتم نظام وأحكم تقدير.

الإيضاح

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي وما أرسلنا من قبلك رسلا إلى أممهم للدعوة إلى توحيدنا والانتهاء إلى أمرنا ـ إلا رجالا من بنى آدم نوحى إليهم لا ملائكة.

ومجمل القول ـ إنا لم نرسل إلى قومك إلا مثل الذين كنا نرسلهم إلى من قبلهم من الأمم أي رسلا من جنسهم وعلى منهاجهم.

روى الضحاك عن ابن عباس أن الله لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلّم أنكر العرب ذلك وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فأنزل الله : «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» الآية.

ونحو الآية قوله : «وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» وقوله : «ما هذا

٨٨

إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ؟ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» وقوله : «لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً».

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فاسألوا أهل الكتب السابقة من اليهود والنصارى : أبشرا كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلّم رسولا.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) تقول العرب زبرت الكتاب : أي كتبته كما قال تعالى «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» أي وما أرسلنا رسلا إلا رجالا بالأدلة والحجج التي تشهد لهم بصدق نبوتهم ، والكتب التي تشمل التكاليف والشرائع التي يبلغونها من الله إلى العباد.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي وأنزلنا إليك القرآن تذكيرا وعظة للناس ، لتعرفهم ما أنزل إليهم من الأحكام والشرائع وأحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب جزاء عنادهم مع أنبيائهم ، وتبين لهم ما أشكل عليهم من الأحكام وتفصل لهم ما أجمل بحسب مراتبهم فى الاستعداد والفهم لأسرار التشريع.

(وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وتوقعا منك ، وانتظارا لتفكرهم فى هاتيك الأسرار والعبر ، وإبعادا لهم عن سلوك سبيل الغابرين من المكذبين حتى لا يصيبهم مثل ما أصابهم.

ثم حذّرهم وخوّفهم مغبّة ما هم فيه من العصيان والكفر فقال :

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي أفأمن الذين مكروا برسول الله من أهل مكة ، وراموا صد أصحابه عن الإيمان بالله أن يصيبهم بعقوبة من عنده :

(١) إما بأن يخسف بهم الأرض ويبيدهم من صفحة الوجود كما فعل بقارون من قبل.

٨٩

(٢) وإما بأن يأتيهم بعذاب من السماء فجأة من حيث لا يشعرون كما صنع بقوم لوط.

(٣) وإما بأن يأخذهم بعقوبة وهم فى أسفارهم يكدحون فى الأرض ابتغاء الرزق ، وما هم بممتنعين عليه فائتين له بالهرب والفرار كما قال : «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» وقال صلى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».

(٤) وإما بأن يخيفهم أولا ثم يعذبهم بعد ذلك ، بأن يهلك طائفة فتخاف التي تليها حتى يأتى عليهم جميعا ، ويكون هذا أشد عليهم إيلاما ووحشة.

وختم الآية بما ختم به ، لبيان أنه لم يأخذهم بعذاب معجّل ، بل آخذهم بحالات يخاف منها كالرياح الشديدة ، والصواعق والزلازل ، وفى ذلك امتداد وقت ، ومهلة يمكن فبها تلافى التقصير ، وهذا من آثار رحمته بعباده.

ثم ذكر آثار قدرته على خلقه فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) أي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من الأجسام القائمة ، كالأشجار والجبال التي تتفيأ ظلالها ، وترجع من موضع إلى موضع عن اليمين والشمائل ، فهى فى أول النهار على حال ثم تتقلص ، ثم تعود إلى حال أخرى فى آخر النهار ، مائلة من جانب إلى جانب ومن ناحية إلى أخرى ، صاغرة منقادة لربها ، خاضعة لقدرته.

ثم ذكر ما هو كالدليل لما سلف فقال :

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ولله يخضع ما فى السموات وما فى الأرض مما يدب عليها ، وكذلك ملائكته الذين فى السماء وهم لا يستكبرون عن التذلل والخضوع له.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي يخاف هؤلاء الملائكة

٩٠

والدواب التي فى الأرض ربهم الذي هو من فوقهم بالقوة والقهر ـ أن يعذبهم إن عصوه ، ويفعلون ما أمرهم به ، فيؤدون حقوقه ويجتنبون سخطه.

ونحو الآية قوله : «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» ومجمل القول ـ إنه تعالى نبه إلى أنه لعظمته وكبريائه ، تدين له المخلوقات بأسرها ، جمادها ونباتها وحيوانها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))

تفسير المفردات

الرهبة : الخوف ، والدين : الطاعة ، والواصب : الدائم كما قال : «لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» وتجأرون : أي تتضرعون لكشفه. وأصل الجؤار : صياح الوحش ثم استعمل فى رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.

المعنى الجملي

لما بين سبحانه فى الآيات السالفة أن كل ما سواه من جماد وحيوان وإنس وجن وملك ـ منقاد به وخاضع لسلطانه ـ أتبع ذلك بالنهى عن الشرك به ، وبين أن كل ما سواه فهو ملكه ، وأنه مصدر النعم كلها ، وأن الإنسان يتضرع إليه إذا مسه

٩١

الضر ، فإذا كشفه عنه رجع إلى كفره ، وأن الحياة الدنيا قصيرة الأمد ، ثم يعلم الكفار بعدئذ ما يحل بهم من النكال والوبال جزاء لهم على سيىء أعمالهم وقبيح أفعالهم.

الإيضاح

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي وقال الله لعباده : لا تتخذوا لى شريكا ولا تعبدوا سواى ، فإنكم إذا عبدتم معى غيرى جعلتموه لى شريكا ، ولا شريك لى ، إنما هو إله واحد ، ومعبود واحد ، وأنا ذاك ، فاتقونى وخافوا عقابى ، بمعصيتكم إياى ، بإشراككم بي غيرى ، أو عبادتكم سواى.

وإنما ذكر العدد مع أن صيغة التثنية مغنية عنه ، للدلالة على أن المنهي عنه هى الاثنينية وأنها منافية للألوهية ، كما أن وصف الإله بالوحدة فى قوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية وأنها من لوازم الألوهية ، أما الألوهية فغير منكرة ولا متنازع فيها.

والخلاصة ـ إنه تعالى أخبر أنه لا إله إلا هو ، وأنه لا تنبغى العبادة إلا له وحده (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي ولله ملك ما فى السموات والأرض من شىء ، لا شريك له فى شىء من ذلك ، وهو الذي خلقهم ، وهو الذي يرزقهم ، وبيده حياتهم وموتهم ، وله الطاعة والإخلاص على طريق الدوام والثبات.

ثم ذكر ما هو كالنتيجة لذلك فقال :

(أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) أي أفبعد أن علمتم هذا ترهبون غير الله ، وتحذرون أن يسلبكم نعمة ، أو يجلب لكم أذى ، أو ينزل بكم نقمة إذا أنتم أخلصتم العبادة لربكم ، وأفردتم الطاعة له ، وما لكم نافع سواه.

وإجمال ذلك ـ إنكم بعد أن عرفتم أن إله العالم واحد ، وعرفتم أن كل

٩٢

ما سواه فهو فى حاجة إليه فى وجوده وبقائه ، كيف يعقل أن يكون لامرئ رغبة أو رهبة من غيره؟

ولما بين أن الواجب ألا يتقى غير الله ـ ذكر أنه يجب ألا يشكر إلا هو فقال :

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) أي وما بكم من نعمة فى أبدانكم من عافية وصحة وسلامة ، وفى أموالكم من نماء وزيادة ، فالله هو المنعم بها عليكم ، والمتفضّل بها لا سواه ، فبيده الخير وهو على كل شىء قدير ، فيجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم المتواصلة ، وإحسانه الدائم الذي لا ينقطع.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

(ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي ثم إذا أصابكم فى أبدانكم سقم ومرض أو حاجة عارضة ، أو شدة وجهد فى العيش ووسائل الحياة ، فإليه تصرخون بالدعاء وتستغيثون به ليكشف ذلك عنكم ، علما منكم أنه لا يقدر على إزالة ذلك إلا هو.

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا وهب لكم ربكم العافية ، ورفع عنكم ما أصابكم من مرض فى أبدانكم ، أو شدة فى معاشكم ، بتفريج البلاء عنكم ، إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكا فى العبادة ، فيعبدون الأوثان ، ويذبحون لها الذبائح ، شكرا لغير من أنعم بالفرج ، وأزال من الضر.

ونحو الآية قوله : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً).

قال السيد الآلوسى فى تفسيره : وفى الآية ما يدل على أن صنيع العوام اليوم من الجؤار إلى غير الله تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا ـ عند إصابة الضر بهم وإعراضهم عن دعائه تعالى بالكلية ـ سفه عظيم وضلال جديد

٩٣

لكنه أشد من الضلال القديم ، ومما تقشعرّ منه الجلود ، لحصوله ممن يؤمن باليوم الموعود.

إن بعض المتشيخين قال لى وأنا صغير : إياك ثم إياك أن تستغيث بالله إذا خطب دهاك ، فإن الله تعالى لا يعجّل فى إغاثتك ، ولا يهمه سوء حالتك ، وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين ، فإنهم يعجّلون فى تفريج كربك ، ويهمهم سوء ما حل بك ، فمجّ ذلك سمعى ، وهمي دمعى ، وسألت الله تعالى أن يعصمى والمسلمين من أمثال هذا الضلال المبين ، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك اه.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي قيضنا لهم ذلك لتكون عاقبة أمرهم أن يجحدوا نعم الله عليهم ، وأنه هو المسدى لها ، وأنه هو الكاشف للنقم عنهم. وقد فعلوا ذلك لسوء استعدادهم وخبث طويتهم ، وبما ران على قلوبهم من الكفر والعصيان ، فجحدوا فضل الملك الديان ، وإحسان صاحب الطّول والإحسان.

ثم توعدهم على سوء صنيعهم وأبان لهم عاقبة أمرهم فقال.

(فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي فتمتعوا فى هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم ، وتبلغوا الميقات الذي وقّت لحياتكم وتمتعكم فيها ، وبعدئذ ستصيرون إلى ربكم ، فتعلمون عند لقائه وبال ما كسبت أيديكم ، وسوء مغبة أعمالكم ، وتندمون حين لا ينفع الندم.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ

٩٤

فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

تفسير المفردات

تفترون : أي تكذبون ، سبحانه : أي تنزيها له عن النقائص ؛ والبشارة فى أصل اللغة إلقاء الخبر الذي يؤثّر فى تغير بشرة الوجه ، ويكون فى السرور والحزن فهو حقيقة فى كل منهما ، وعلى هذا جاءت الآية ، ثم خص فى عرف اللغة بالخبر السارّ ، ويقال لمن لقى مكروها قد اسودّ وجهه غما وحزنا ، ولمن ناله الفرح والسرور استنار وجهه وأشرق ، والكظيم : الممتلئ غما وحزنا ؛ والكظم مخرج النفس يقال أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه ، ومنه كظم غيظه أي حبسه عن الوصول إلى مخرج النفس ، ويتوارى : أي يستخفى ؛ وقد كان من عادتهم فى الجاهلية أن يتوارى الرجل حين ظهور آثار الطلق بامرأته ، فإن أخبر بذكر ابتهج ، وإن أخبر بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبّر فيها ما يصنع ، ويمسكه : أي يحبسه كقوله (أمسك عليك زوجك) والهون : الهوان والذل ، ويدسّه : أي يخفيه ، ومثل السوء : أي الصفة السوء ، وهى احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للبنات خوف الفقر والعار ، ولله المثل الأعلى : أي الصفة العليا وهى أنه لا إله إلا هو ، وأن له جميع صفات الجلال والكمال.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه سخف أقوال أهل الشرك ، أردف ذلك بذكر قبائح أفعالهم التي تمجها الأذواق السليمة.

الإيضاح

حكى سبحانه بعض قبائح المشركين الذين عبدوا الأوثان والأصنام وعدّ. منها :

(١) (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي ويجعل هؤلاء المشركون

٩٥

للأصنام التي لا يعلمون منها ضرا ولا نفعا نصيبا مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرهما مما خلق الله يتقربون به إليها ، وهذا إشراك منهم لما لا يعلمون منه الفائدة بالذي يعلمون أنه الذي هو خلقهم وهو الذي رزقهم وهو الذي ينفعهم وهو الذي يضرهم دون غيره ، وقد سبق تفصيل ذلك فيما حكى الله عنهم فى سورة الأنعام بقوله : «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ».

ثم توعدهم على ما فعلوا فقال :

(تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي أقسم لأسألنّكم عما افتر يتموه واختلقتموه من الباطل ، ولأعاقبنكم على ذلك عقوبة تكون كفاء كفرانكم نعمى ، وافترائكم علىّ.

ونحو الآية قوله : «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ».

وهذا السؤال سؤال تأنيب وتقريع لهم على ما اجترحوا من أقوال وأفعال.

(٢) (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي ولقد بلغ من جهل هؤلاء المشركين وعظيم أباطيلهم أنهم يجهلون خلقهم ، ودبّر شؤونهم ، واستحق شكرهم على جزيل نعمائه ـ البنات ، إذ قالت خزاعة : الملائكة بنات الله كما قال عز اسمه : «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» وعبدوها مع الله وقد أخطئوا فى ذلك خطأ كبيرا ، وضلوّا ضلالا بعيدا ، إذ نسبوا إليه الأولاد ولا أولاد له ، وأعطوه منها أخسها وهى البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم ، بل لا يرضون إلا البنين كما قال تعالى : «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» وقال : «أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

والمراد من قوله ولهم ما يشتهون : انهم يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

٩٦

قال ابن عباس يقول : تجعلون لى البنات ، ترتضونهن لى ولا ترتضونهنّ لأنفسكم. ثم أكد ما سلف بقوله :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي وإذا بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى ظل وجهه مسودا كئيبا من الهم ممتلئا غيظا وحنقا من شدة ما هو فيه من الحزن ، يتوارى من الناس حجلا واستحياء : ولا يود أن يراه أحد من مساءته بما بشر بها ، ويدور بخلده أحد أمرين : إما أن يمسكها ويبقيها بقاء ذلة وهوان فلا يورّثها ولا يعنى بها ، بل يفضّل الذكور عليها ، وإما أن يدسها فى التراب ويدفنها وهى حية ، وذلك هو الوأد المذكور فى قوله تعالى «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ».

ومعنى قوله (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بئس ما قالوا ، وبئس ما قسموا ، وبئس ما نسبوه إليه ، فإنهم بالغوا فى الاستنكاف من البنت من وجوه :

(١) اسوداد الوجه.

(٢) الاختفاء من القوم من شدة نقرتهم منها.

(٣) إنهم يقدمون على قتلها ووأدها ، خشية العار أو خوف الجوع والفقر.

ثم جعل تذييلا لما تقدم قوله :

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين ، صفة السوء التي هى كالمثل فى القبح ، من حاجتهم إلى الولد ، ليقوم مقامهم بعد موتهم ، وتفضيلهم للذكور للاستظهار بهم ، ووأدهم للبنات خشية العار أو الفقر ، وذلك يومىء إلى العجز والقصور والشح البالغ أقصى غاية.

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي وله تعالى الصفة العليا ، وهى أنه الواحد المنزه عن الولد وأنه لا إله إلا هو ، وله صفات الكمال والجلال من القدرة والعلم والإرادة ونحو ذلك.

٩٧

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو المنيع تكبرا وجلالا ، لا يغلبه غالب ، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

تفسير المفردات

المراد من الناس : العصاة ، والأجل المسمى : يوم القيامة ، ويجعلون : يثبتون وينسبون إليه ، وما يكرهون : هى البنات ، وتصف ألسنتهم الكذب : أي يكذبون ؛ كما يقال عينها تصف السحر أي هى ساحرة ، وقدّها يصف الهيف أي هى هيفاء ، لا جرم : أي حقا ، مفرطون : أي مقدّمون معجّل بهم إليها من أفرطته إلى كذا أي قدّمته ، ويقال لمن تقدم إلى الماء لإصلاح الدلاء والأرسان فارط وفرط ، وليهم : ناصرهم ومساعدهم ، اليوم : أي فى الدنيا.

المعنى الجملي

لما حكى سبحانه عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح أفعالهم ـ بين هنا حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه يمهلهم بالعقوبة إظهارا لفضله ورحمته ، ولو آخذهم بما كسبت

٩٨

أيديهم ما ترك على ظهر الأرض دابة ، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤمه كما قال سبحانه : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» لكنه سبحانه يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى ، ثم سلّى رسوله صلى الله عليه وسلّم على ما كان يناله من أذى عشيرته بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم ، فقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فكذبوهم فلك بهم أسوة ، فلا يحزننّك تكذيبهم ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة.

الإيضاح

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) أي ولو يؤاخذ الله عصاة بنى آدم بمعاصيهم ما ترك على ظهر الأرض دابة.

أخرج البيهقي وغيره عن أبى هريرة أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه ، فقال لا والله ، بل إن الحبارى فى وكرها لتموت من ظلم الظالم.

وعن ابن مسعود رضى الله عنه كاد الجعل (الجعران) يهلك فى جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية.

وأخرج أحمد عن أبى هريرة أنه قال : ذنوب ابن آدم قتلت الجعل فى جحره ، ثم قال إي والله زمن غرق قوم نوح عليه السلام.

(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي ولكن بحمله يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يعاجلهم بالعقوبة إلى أجل سماه الله لعذابهم ، فإذا جاء الوقت الذي وقت لهلاكهم لا يستأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون ولا يستقدمون قبله حتى يستوفوا أعمارهم ، وقد تقدم نظير هذا.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي وينسب هؤلاء المشركون إلى الله سبحانه ما يكرهون لأنفسهم من البنات والشركاء فى الرياسة.

(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي ويكذبون فيما يدعون إذ يزعمون

٩٩

أن لهم العاقبة الحسنى عند الله وهى الجنة على تقدير وجودها ، فقد روى أنهم قالوا : إن كان محمد صادقا فى البعث فلنا الجنة بما نحن عليه ، فرد الله عليهم مقالهم بقوله :

(لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي حقا أن لهم النار وليس بعد عذابها عذاب ، وأنه معجل بها إليهم وهم مقدمون لها.

ثم بين سبحانه أن هذا الصنيع الذي صدر من قريش قد حدث مثله من الأمم السالفة فى حق أنبيائهم فقال مسليا رسوله على ما كان يناله من الغم بسبب جهالانهم (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والله لقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممهم بمثل ما أرسلناك به إلى أمتك ، من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، وخلع الأنداد والأوثان ، فحسّن لهم الشيطان ما كانوا عليه مقيمين من الكفر به وعبادة الأوثان ، فكذبوا رسلهم وردوا عليهم ما جاءوا به من عند ربهم ، وما كان ناصرهم فيما اختاروا إلا الشيطان ، وبئس الناصر والمعين ، ولهم فى الآخرة عذاب أليم حين ورودهم إلى ربهم ، إذ لا تنفعهم إذ ذاك ولاية الشيطان كما لم تنفعهم فى الدنيا.

ثم ذكر سبحانه أنه ما أهلك من أهلك ، إلا بعد أن أقام الحجة ، وأزاح العلة فقال :

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي وما أنزلنا عليك كتابنا ، وما بعثناك به إلى عبادنا ، إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من دين الله ، فيعرفوا الحق من الباطل ، وتقيم عليهم حجة الله التي بعثك بها ، وهو هدى للقلوب الضالة ، ورحمة لقوم يؤمنون به فيصدقون بما فيه ، ويقرّون بما تضمنه من أمر الله ونهيه ويعملون به.

وخلاصة ذلك ـ إن هذا الكتاب هو الفاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه وأنه الهادي لهم إلى سبيل الرشاد.

١٠٠