تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

ونحو الآية قوله : «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» وقد جاء «خلق آدم على أطوار مختلفة فكان أولا ترابا» كما قال : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» ثم كان طبنا كما قال : «إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ» ثم كان صلصالا من حمأ مسنون كما جاء فى هذه الآية وإنما خلقه على ذلك الوضع ، ليكون خلقه أعجب وأتم فى الدلالة على القدرة.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي وخلقنا هذا الجنس من قبل خلق آدم من نار الريح الحارة التي لها لفح وتقتل من أصابته.

وعن ابن مسعود : هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان ثم قرأ : (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) وقد ورد فى الصحيح «خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم».

وفى الآية إيماء إلى شرف آدم عليه السلام وطيب عنصره وطهارة محتده ، وعلينا أن نؤمن بأن الجن خلقت من النار ، ولكنا لا نعرف كنه ذلك ولا حقيقته ، فذلك ما لا سبيل إلى معرفته إلا من طريق الوحى.

وبعد أن ذكر سبحانه فى معرض الدليل على قدرته ـ خلق الإنسان الأول ، ذكر بعد مقاله للملائكة والجن بشأنه فقال :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين نوّه ربكم بذكر أبيكم آدم فى ملائكته قبل خلقه ، وتشريفه بأمر الملائكة بالسجود له ، وتخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة حسدا وعنادا واستكبارا بالباطل فقال : «لم أكن لأسجد» إلخ.

٢١

وحكى عنه فى آية أخرى أنه قال : «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ».

وتقدم هذا القصص فى سورة الأعراف وقلنا هناك : إن الأمر بالسجود أمر تكليفى ، وأنه قد وقع حوار بين إبليس وربه ، ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان ، إذ جعل الملائكة وهم المدبّرون لأمور الأرض بإذن ربهم مسخرون لآدم وذريته ، وجعل هذا النوع مستعدا للانتفاع بالأرض كلها لعله بسنن الله فيها وعمله بهذا السنن ، فانتفع بمائها وهوائها ومعادنها ونباتها وحيوانها وكهربائها ونورها ، وبذا أظهر حكمة الله فى خلقها ، واصطفى بعض أفراده وخصهم بوحيه ورسالته وجعلهم مبشرين ومنذرين ، وجعل الشيطان عاصيا متمردا على الإنسان وعدوّا له ، وجعل النفوس البشرية وسطا بين النفوس الملكية المفطورة على طاعة الله وإقامة سننه فى صلاح الخلق ، وبين أرواح الجن الذين يغلب على شرارهم ـ الشياطين ـ التمرد والعصيان.

وقد ذكر سبحانه حجاج إبليس وذكر سبب امتناعه عن السجود لآدم بأنه خير منه ، فإنه خلق من النار وآدم من الطين ، والنار خير من الطين وأشرف منه ، والشريف لا يعظّم من دونه ولو أمره ربه بذلك.

وفى هذا ضروب من الجهالة وأنواع من الفسق والعصيان فإنه :

(١) اعترض على خالقه بما تضمنه جوابه.

(٢) احتج عليه بما يؤيد به اعتراضه.

(٣) إنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه وموافقته لهواه ، وهذا رفض لطاعة الخالق وترفّع عن مرتبة العبودية.

(٤) استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين ، وخيرية المواد بعضها على بعض أمر اعتباري تختلف فيه الآراء ، إلى أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من النار ، والنور خير من النار ، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم.

٢٢

(٥) إنه قد جهل ما خصّ به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه ، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له ، فكان بذلك أفضل منهم وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة والطاعة لربهم.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أمره سبحانه أمرا كونيا لا يخالف بالخروج من المنزلة التي كانت فيها من الملا الأعلى ، ثم جعله مرجوما مطرودا وأتبعه لعنة لا تزال متواصلة لاحقة به متواترة عليه إلى يوم القيامة ، وهو يبعث الخلق من قبورهم ، فيحشرون لموقف الحساب وهو وقت النفخة الأولى ، فلما تحقق النّظرة.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي قال إبليس : رب بسبب إغوائك إياى وإضلالى لأزينن لذرية آدم واحببنّ إليهم المعاصي وأرغّبنّهم فيها ولأغوينّهم كما أغويتنى وقدّرت علىّ ذلك إلا من أخلص منهم لطاعتك ، ووفقته لهدايتك ، فإن ذلك ممن لا سلطان لى عليه ولا طاقة لى به.

ثم هدده سبحانه وأوعده بقوله :

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي قال هذا طريق مرجعه إلىّ ، فأجازى كل امرئ بعمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، كما يقول القائل لمن يتوعده ويتهدده : طريقك علىّ. وأنا على طريقك : أي لا مهرب لك منى ، ونظير الآية قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ».

وهذا رد لما جاء فى كلام إبليس حيث قال : «لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم. ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم» الآية.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أي إن عبادى

٢٣

لا سلطان لك على أحد منهم سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين ، لكن من اتبعك باختياره صار من أتباعك.

وقال سفيان بن عيينة : ليس لك عليهم قوة ولا قدرة على أن تلقيهم فى ذنب يضيق عنه عفوى.

والخلاصة ـ إن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطانا بقوله لأزينن لهم فى الأرض ولأغوينهم أجمعين ، فأكذبه الله بقوله إن عبادى إلخ.

ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس : «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» وقوله «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ».

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي وإن جهنم موعد جميع من اتبع إبليس وهى مقرهم وبئس المهاد جزاء ما اجترحوا من السيئات وكفاء ما دنّسوا به أنفسهم من قبيح المعاصي.

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أي لها سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم فى الغواية والضلالة.

أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها : جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهى أسفلها.

(لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي كتب لكل باب منها فريق معين من أتباع إبليس يدخلونه ولا محيد لهم عند بحسب أعمالهم واختلاف مراتبهم فى النار.

قال ابن جريج : النار سبع دركات وهى جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية ؛ فأعلاها للعصاة الموحدين ، والثانية لليهود ، والثالثة للنصارى ، والرابعة للصابئين ، والخامسة للمجوس ، والسادسة للمشركين ، والسابعة للمنافقين ، فجهنم أعلى الطبقات ثم ما بعدها تحتها وهكذا.

٢٤

وروى عن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام ، وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين العصاة ، وهؤلاء يرجى لهم ولا يرجى لغيرهم أبدا. وليس فى هذا أثر مرفوع يمكن أن يركن إليه ويجعل حجة فيه.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨))

تفسير المفردات

المتقون : هم الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب من الصغائر تكفرها الصلوات وغيرها ، جنات : أي بساتين ، وعيون : أي أنهار جارية ، بسلام : أي بسلامة من الآفات ، وأمن من المخافات ، والغل : الحقد الكامن فى القلب ، والسرر : واحدها سرير وهو مجلس رفيع مهيأ للسرور ، والنصب : الإعياء والتعب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الغواية ، وبين أنهم فى نار جهنم يخلّدون فيها أبدا ، وأنهم يكونون فى طبقات بعضها أسفل من بعض ، بمقدار ما اجترحوا من السيئات ، واقترفوا من المعاصي ـ أردفه ذكر حال أهل الجنة وما يتمتعون به من نعيم مقيم ، ووفاق بعضهم مع بعض ، لا ضغن بينهم ولا حقد ، وهم يتحدثون على سرر متقابلين ولا يجدون مس التعب والنصب ، ولا يخرجون منها أبدا.

٢٥

الإيضاح

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي إن الذين اتّقوا الله وخافوا عقابه ، فأطاعوا أوامره واجتنبوا نواهيه ـ يمتعون فى جنات تجرى من تحتها الأنهار كما قال : «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» الآية.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) أي ويقال لهم : ادخلوها وأنتم سالمون من الآفات والمنغصات ، آمنون من سلب تلك النعم التي أنعم بها ربكم عليكم وأكرمكم بها ، ولا تخافون إخراجا ولا فناء ولا زوالا.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي وأخرجنا ما فى صدور هؤلاء المتقين الذين ذكرت صفتهم ـ من الحقد والضغينة من بعضهم لبعض.

روى القاسم عن أبى أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما فى صدورهم فى الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما فى صدورهم فى الدنيا من غل ثم قرأ : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ).

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن على كرم الله وجهه أنه قال لابن طلحة : إنى لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ) الآية. فقال رجل من همدان : إن الله سبحانه أعدل من ذلك ، فصاح علىّ صيحة تداعى لها القصر ، وقال. فمن إذا إن لم نكن نحن أولئك.

والخلاصة ـ إن الله طهّر قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات فى الجنة ونزع منها كل غل وألقى فيها التوادّ والتحاب والتصافي.

والمراد بكونهم على سرر متقابلين أنهم فى رفعة وكرامة.

وقد روى أن الأسرّة تدوربهم حيثما داروا ، فهم فى جميع أحوالهم متقابلين ، لا ينظر بعضهم إلى أقفية بعض ، وهم يجتمعون ويتنادمون ويتزاورون ويتواصلون.

٢٦

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي لا يلحقهم فى تلك الجنات مشقة ولا أذى ، لأنهم ليسوا فى حاجة إلى ما يوجب ذلك من السعى فى تحصيل ما لا بدّ لهم منه ، لحصول كل ما يشتهون من غير مزاولة عمل.

روى الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله أمرنى أن أبشّر خديجة ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

(وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي وهم خالدون فيها أبدا لا يبرحونها ، يشعرون بلذة النعيم ودوامه ، فهم فى خلود بلا زوال ، وكمال بلا نقصان ، وفوز بلا حرمان.

والخلاصة ـ إن المسرة بالنعيم لا تتم إلا إذا توافرت فيه أمور :

(١) أن يكون مقرونا بالتعظيم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ).

(٢) أن يكون خالصا من شوائب الضرر ، روحانية كانت كالحقد والحسد والغضب ، وإلى ذلك الإشارة بقوله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) أو جسمانية كالإعياء والتعب ، وإلى ذلك الإشارة بقوله (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ).

(٣) أن يكون دائما غير قابل للزوال ، وإلى ذلك الإشارة بقوله (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ).

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ

٢٧

إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤))

٢٨

تفسير المفردات

تقول : أنبأت القوم إنباء ونبّأتهم تنبئة : إذا أخبرتهم ، والأفصح فى كلمة الضيف :

ألا تثنى ولا تجمع حين تستعمل للمثنى والجمع والمؤنث بل تستعمل بلفظ واحد لكل ذلك ، والوجل : اضطراب النفس لخوفها من توقع مكروه يصيبها ، عليم : أي ذى علم كثير ، بالحق : أي بالأمر المحقق الذي لا شك فى وقوعه ، وقنط من كذا :

أي يئس من حصوله والضالون : الكفار الذين لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته ، وخطبكم : أي أمركم وشأنكم الذي لأجله أرسلتم ، قدرنا : أي قضينا وكتبنا ؛ يقال قضى الله عليه كذا وقدّره عليه : أي جعله على مقدار الكفاية فى الخير والشر ، وقدر الله الأقوات : جعلها على مقدار الحاجة ، والغابرين : أي الباقين مع الكفار ليهلكوا معهم ، وأصله من الغبرة وهى بقية اللبن فى الضّرع ، منكرون : أي لا أعرفكم ولا أعرف من أىّ الأقوام أنتم؟ ولأى غرض دخلتم علىّ؟ ويمترون : أي يشكّون ويكذبون به ، فأسر بأهلك : أي اذهب بهم ليلا ، والقطع من الليل : الطائفة منه كما قال :

افتحي الباب وانظري فى النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

اتبع أدبارهم : أي كن على إثرهم لتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم ، وقضينا : أي أوحينا ، ودابر : آخر ، ومقطوع : أي مهلك مستأصل ، مصبحين : أي فى وقت الصباح ، والمدينة : هى سذوم (بالذال المعجمة) مدينة قوم لوط ، والاستبشار : إظهار السرور ، والفضيحة : إظهار ما يوجب العار ، والخزي : الذل والهوان ، والعمر والعمر (بالفتح والضم) : الحياة ، وهو حين القسم بالفتح لا غير ، سكرتهم : غوابتهم : يعمهون أي يتحيرون ، والصيحة : الصاعقة ، وكل شىء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة أخرجه ابن المنذر عن ابن جرير ، مشرقين : أي داخلين فى الشروق وهو بزوغ الشمس ، والسجيل : الطين المتحجر وهو معرّب لا عربى فى المشهور ، للمتوسمين.

٢٩

أي المتفرسين الذين يتثبتون فى نظرهم ليعرفوا سمة الشيء وعلامته ، يقال توسمت فى فلان خيرا : أي ظهرت لى منه علاماته ، قال عبد الله بن رواحة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :

إنى توسمت فيك الخير أعرفه

والله يعلم أنى ثابت البصر

لبسبيل مقيم : أي لبطريق واضح معلم ليس بخفي ولا زائل ، وأصحاب الأيكة : قوم شعيب عليه السلام ، والأيكة : الغيضة ، وهى الشجر الملتف بعضه على بعض وقد كانوا فى مكان كثير الأشجار كثيف الغبار ، لبإمام مبين : أي لبطريق واضح وأصل الإمام ما يؤتم به سمى به الطريق لأنه يؤتم ويتّبع ، وأصحاب الحجر : هم ثمود ، والحجر : واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه ، ويسمى كل مكان أحيط بالحجارة حجرا ومنه حجر الكعبة ، وآياتنا : هى الناقة وفيها آيات كثيرة كعظم خلقها ، وكثرة لبنها ، وكثرة شربها ، والإمام : ما يؤتم به ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما أوعد به أهل الغواية فى يوم القيامة من دخول جهنم ، وذكر أنها دركات لأولئك الغاوين بحسب اختلاف أحوالهم بمقدار ما دنّسوا به أنفسهم من اتخاذ الانداد والشركاء وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ثم أعقبه بذكر ما أعدّ لعباده المؤمنين من الجنات والعيون والنعيم المقيم والراحة التي لا نصب بعدها ولا تعب ، وجلوس بعضهم مع بعض ، يتنادمون ويتجاذبون أطراف الأحاديث ، وهم فى سرور وحبور على سرر متقابلين ـ أردف ذلك فذلكة وخلاصة لما سبق ، فأمر نبيه أن يبلغ عباده أنه غفار لذنوب من تابوا وأنابوا إلى ربهم ، وأن عذابه مؤلم لمن أصرّوا على المعاصي ولم يتوبوا منها ، ثم فصل ذلك الوعد والوعيد فذكر البشارة لإبراهيم بغلام عليم ، وذكر إهلاك قوم لوط بما اجترحوا من كبرى الموبقات ، وفظيع الجنايات ، بفعلهم فاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين ، حتى

٣٠

صاروا كأمس الدابر ، وأصبحوا أثرا بعد عين ، وإهلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب جزاء ظلمهم بشركهم بالله ونقصهم للمكاييل والموازين ، فانتقم الله منهم بعذاب يوم الظلة ، وإهلاك أصحاب الحجر وهم ثمود الذين كذبوا صالحا وكانوا ذوى حول وطول ، وغنى ومال ، وقوة وبطش ، فأعرضوا عن آيات ربهم حينما جاءتهم على يدى رسوله ، فأخذتهم الصيحة وقت الصباح ولم يغن عنهم مالهم من دون الله شيئا حين جاء أمره.

أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبى رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : «طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال : (ألا تراكم تضحكون) ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : إنى لما خرجت من الباب جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله يقول لك : لم تقنط عبادى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)».

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال فى قوله (نَبِّئْ عِبادِي) الآية : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع من حرام ، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه».

وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة ، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار».

الإيضاح

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي أخبر أيها الرسول عبادى أنى أنا الذي أيستر ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا ، بترك فضيحتهم بها وعقوبتهم عليها ، الرحيم بهم أن أعذبهم بعد توبتهم منها.

٣١

وفى قوله (نَبِّئْ عِبادِي) إيماء إلى أنه ينبىء كل من كان معترفا بعبوديته ، فيشمل ذلك المؤمن المطيع والعاصي ، وغير خاف ما فى ذلك من تغليب جانب الرحمة من قبله تعالى على جانب العقاب.

(وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي وأخبرهم أيضا بأن عذابى لمن أصر على معاصىّ وأقام عليها ولم يتب منها ـ هو العذاب المؤلم الموجع الذي لا يشبهه عذاب آخر ، وفى هذا تهديد شديد وتحذير لخلقه أن يقدموا على معاصيه ، ومن الأمر لهم بالإنابة والتوبة.

والخلاصة ـ إن الله جمع لعباده بين التبشير والتحذير ، ليكونوا على قدمى الرجاء والخوف ، وحال الأنس والهيبة.

ثم ذكر سبحانه قصصا تقدم مثله بأسلوب آخر فى سورة هود وبدأ بقصص إبراهيم عليه السلام فقال :

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي أخبر عبادى عن ضيوف إبراهيم خليل الرحمن وهم الملائكة الذين أرسلهم الله إلى قوم لوط ليستأصلوا شأفتهم ويبيدوهم على ظلمهم ، فقالوا حين دخلوا عليه سلاما : أي سلمت من الآفات والآلام سلاما.

(قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي قال إبراهيم للضيف : إنا خائفون منكم ، لأنهم دخلوا عليه بلا إذن وفى وقت لا يجىء فى مثله طارق ، أو لأنه حين قرّب إليهم العجل الحنيذ لم يأكلوا منه ، والضيف إذا لم يأكل مما يقدم له من الطعام يظنّ أنه لم يأت لخير ، ويؤيد هذا قوله فى سورة هود : «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً».

(قالُوا لا تَوْجَلْ) أي قال الضيف لإبراهيم : لا تخف ولا يحم حول ساحتك الخوف والهلع.

٣٢

ثم عللوا النهى عن الوجل بقولهم :

(إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي إنا جئناك بالبشرى بعلام ذى علم وفطنة وفهم لدين لله ، وسيكون له شأن ، لأنه سيصير نبيا.

ونحو الآية قوله «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا».

ثم قال إبراهيم متعجبا من مجىء ولد من شيخ وعجوز :

(أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ؟) أي أبشرتموني بذلك مع مس الكبر وتأثيره فىّ ، وتلك حال تنافى هذه البشرى.

(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي فبأى أعجوبة تبشرون؟ إذ لا سبيل فى العادة إلى مثل ذلك ، وكأنه عليه السلام أراد أن يعرف : أيعطى هذا الولد مع بقائه على حاله من الشيخوخة التامة ، أو يرجع شابا ثم يعطى الولد ، لما جرت به العادة من أن الولد لا يكون إلا حين الشباب.

فأجابوه مؤكدين ما بشروه به ، تحقيقا لما قالوا وليكون بشارة بعد بشارة :

(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أي قال ضيف إبراهيم له : بشرناك بما يكون حقا ، وإنا لنعلم أن الله قد وهب لك غلاما ، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسوا من خرق العادة ، بل أبشر بما بشرناك به واقبل البشرى.

والخلاصة ـ إنه عليه السلام استعظم نعمة الله عليه ، فاستفهم هذا الاستفهام التعجبي المبنى على السنن التي أجراها الله بين عباده ، لا أنه استبعد ذلك على قدرة الله ، فهو أجل من ذلك قدرا ، ويؤيد هذا جوابه عليه السلام.

(قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي قال إبراهيم للضيف : لا ييأس من رحمة الله إلا من أخطأ سبيل الصواب ، وغفل عن رجاء الله الذي لا يخيب من رجاه ، فضلّ بذلك عن الرأى القيّم ، وهذا كقول يعقوب : «لا ييأس من روح الله إلّا القوم الكافرون».

٣٣

وخلاصة مقاله ـ إنه نفى القنوط عن نفسه على أتم وجه ، فكأنه قال : ليس بي قنوط من رحمته تعالى ، لكن حالى تنافى فيض تلك النعم الجليلة التي غمرنى بها ، وتوالى المكرمات التي شملت آل هذا البيت.

وبعد أن تحقق عليه السلام مصداق هذه البشرى ورأى أنهم أتوا مختفين على غير ما عهد عليه ملك الوحى؟ سألهم عن أمرهم ليزول عنه الوجل.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي قال لهم : ما الأمر العظيم الذي جئتم لأجله سوى البشرى؟ وكأنه عليه السلام فهم من مجرى حديثهم فى أثناء الحوار أن ليست هذه البشرى هى المقصودة ، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا. لأنهم كانوا عددا والبشارة لا تحتاج إلى مثل هذا العدد ، ومن ثم اكتفى بالواحد فى بشارة زكريا ومريم عليهما السلام ؛ وأيضا لو كانت البشارة هى المقصودة لابتدءوا بها ، فأجابوه :

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين من قوم لوط ، واكتفوا بهذا القدر من الجواب ، لأن إبراهيم يعلم أن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لهلاكهم وإبادتهم. ومما يرشد إلى هذا الفهم قولهم :

(إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إلا أتباع لوط فى الدين فلن نهلكهم ، بل ننجيهم من العذاب الذي أمرنا أن نعذب به قوم لوط.

(إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي لا نهلك آل لوط وأتباعه إلا امرأته فقد قضى الله أنها من الباقين مع الكفرة ، ثم هى مهلكة بعد ذلك معهم ، وقد أضاف الملائكة هذا التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى ، بيانا لمزيد قربهم من ربهم ، واختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك : دبّرنا كذا وأمرنا بكذا ، والمدبر الآمر هو الملك.

وبعد أن بشّروا إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين ـ ذهبوا إلى لوط وآله كما قال سبحانه.

٣٤

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي فلما خرج المرسلون من عند إبراهيم وجاءوا قرية لوط أنكرهم لوط ولم يعرفهم وقال لهم : من أي الأقوام أنتم ، ولأى غرض جئتم؟ وإنى أخاف أن تمسونى بمكروه.

ونحو الآية قوله : «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» وإنما قال هذه المقالة ، لأنه لم يشاهد من المرسلين حين مقاساة الشدائد ومعاناة المكايد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ـ إعانة ولا مساعدة فيما يأتى وما يدرحين تجشم الأهوال فى تخليصهم ، فأنكر خذلانهم له ، وتركهم نصره حين المضايقة التي حلت به بسببهم حتى اضطر إلى أن يقول : «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» كما جاء فى سورة هود.

(بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي قال له الرسل : ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه ، بل بما فيه سرورك وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك فيه قبل مجيئه ، فأنّى لك بعد هذا أن تعتريك مساءة وضيق ذرع؟

وخلاصة ما أرادوا أن يقولوا ـ ما خذلناك ، وما خلّينا بينك وبينهم ، بل جئناك بما يدمّرهم ويهلكهم ، من العذاب الذي كنت تتوعدهم به وهم يكذبونك.

واختاروا هذا الأسلوب ولم يقولوا جئناك بعذابهم لإفادة ذلك شيئين : تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام بعد أن كابد منهم كثيرا من الإنكار والتكذيب.

(وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي وجئناك بالأمر المحقق المتيقن الذي لا محال فيه للامتراء والشك ، وهو العذاب الذي كتب وقدّر لقوم لوط ، وإنا لصادقون فيما أخبرناك به.

ثم شرعوا يرتبون له مبادئ النجاة قبل حلول العذاب بقومه فقالوا له :

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي فسر بأهلك ببقية من الليل ، وأهله على ما روى هما ابنتاه.

٣٥

(وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي وكن من وراء أهلك الذين تسرى بهم ، وعلى إثرهم لتذود عنهم ، وتسرع بهم ، وثراقب أحوالهم ، حتى لا يتخلّف منهم أحد لغرض ، فيصيبه العذاب.

(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) فيرى ما ينزل بقومه فيرق قلبه لهم ، وليوطن نفسه على الهجرة ، ويطيب نفسا بالانتقال إلى المسكن الجديد.

ثم أكدوا هذا النهى بقولهم (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي وامضوا حيث يأمركم ربكم غير ملتفتين إلى ماوراءكم كالذى يتحسر على مفارقة وطنه ، فلا يزال يلوى له أخادعه كما قال أبو تمام :

تلفت نحو الحىّ حتى وجدتني

وجعت من الإصغاء ليتا وأخذعا

والخلاصة ـ إنهم أمروا بمواصلة السير ونهوا عن التواني والتوقف ليكون ذلك أقطع للعوائق ، وأحق بالإسراع للوصول إلى المقصد الحقيقي وهو بلاد الشام.

ثم بين العلة فى الأمر بالإسراء السريع فقال :

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي وأوحينا إليه أن ذلك الأمر مقضى مبتوت فيه :

ثم فصّل ذلك الأمر فقال :

(أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي إن آخر قومك وأولهم مجذوذ مستأصل صباح ليلتهم ، ولا يبقى منهم أحد ونحو الآية قوله : «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا».

ثم شرع يذكر ما صدر من القوم حين علموا بقدوم الأضياف وما ترتب عليه بما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال فقال :

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) أي وجاء أهل سدوم حين سمعوا أن ضيفا قد ضاقوا لوطا ـ مستبشرين بنزولهم مدينتهم طمعا فى ركوب الفاحشة منهم.

وفى هذا إيماء إلى فظاعة فعلهم ، إذ هم خالفوا ما جرى به العرف ، وركب فى الأذواق السليمة ، من إكرام الغريب وحسن معاملته ، وقصدوا بهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.

٣٦

روى أن امرأة لوط أخبرتهم بأنه نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح منهم وجها ولا أحسن شكلا ، فذهبوا إلى دار لوطا طلبا لهم ، مظهرين اغتباطا وسرورا بهم.

ثم أخبر عن مقالة لوط لقومه حين رآهم يقصدون بهم السوء.

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) أي قال لوط لقومه : إن هؤلاء الذين جئتموهم تريدون منهم الفاحشة ضيفى ، وحقّ على الرجل إكرام ضيفه ، فلا تفضحونى فيهم ، وأكرمونى بترك التعرض لهم بمكروه.

ثم زاد النهى توكيدا بقوله :

(وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) أي وخافوا الله فىّ وفى أنفسكم أن يحل بكم عقابه ، ولا تهينوئى فيهم بالتعرض لهم بالسوء ، وهذه الجملة آكد فى الغرض من سابقتها ، إذ التعرض للجار بعد حمايته والذبّ عنه أجلب للعار ، ومن ثم عبر عن لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي ، وأمرهم بتقوى الله فى ذلك.

قأبانوا له أنه السبب فى الفضيحة وفى هذا الخزي :

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟) أي قال قومه له : أولم ننهك أن تضيف أحدا من العالمين أو تؤويه فى قريتنا؟ إذ هم كانوا يتعرضون لكل غريب بالسوء ، وكان لوط ينهاهم عن ذلك على قدر حوله وقوته ويحول بينهم وبين من يعرضون له ، وكانوا قد نهوه عن التعرض لهم فى مثل ذلك.

وخلاصة مقالهم ـ إن ما ذكرت من الخزي والفضيحة أنت مصدره ، والجالب له ، فلولا تعرضك لنا ، ما أصابك ما أصابك.

ولما رآهم متمادين فى غيهم ، لا يرعون عن غوايتهم ، ولا يقلعون عما هم عليه.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي قال لوط لقومه : تزوجوا النساء ولا تفعلوا ما قد حرم الله عليكم من إتيان الرجال إن كنتم فاعلين ما آمركم به ، منتهين إلى أمرى ، وقد سمى نساء قومه بناته ، لأن رسول الأمة كالأبّ لهم كما قال تعالى : «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ».

٣٧

ثم أبان له الرسول أنه لا أمل فى ارعوائهم عن غيهم فقالوا :

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي قالت الملائكة للوط : وحياتك أيها الرسول إن قومك لفى ضلالتهم التي جعلتهم حيارى لا يعرفون ما أحاط بهم من البلاء ، ولا ماذا يصيبهم من العذاب المنتظر ، لما أصابهم من عمى البصيرة ، فهم لا يميزون الخطأ من الصواب ، ولا الحسن من القبيح.

ثم ذكر سبحانه عاقبة أمرهم فقال :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أي فنزل بهم العذاب المنتظر ، وأخذتهم الصاعقة وقت الشروق ، وكان ابتداؤها من الصبح وانتهاؤها حين الشروق ، ومن ثم قال أوّلا مصبحين وقال هنا مشرقين ، وأخذ الصيحة قهرها لهم وتمكنها منهم ، ومن ثمّ يقال للأسير أخيذ.

ثم بيّن كيفية أخذها لهم ولقريتهم فقال :

(فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي فجعلنا عالى المدينة وهو ما على وجه الأرض سافلها فانقلبت عليهم وأمطرنا عليهم أثناء ذلك حجارة من طين متحجر ، وقد تقدم ذكر ذلك فى سورة هود.

وخلاصة ذلك ـ إنه تعالى أرسل عليهم ثلاثة ألوان من العذاب :

(١) الصيحة المنكرة الهائلة ، والصوت المفزع المخيف.

(٢) إنه قلب عليهم القرية ، فجعل عاليها سافلها.

(٣) إنه أمطر عليهم حجارة من سجيل.

ثم ذكر أن فى هذا القصص عبرة لمن اعتبر فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والعذاب لدلالات للمفكرين الذين يعتبرون بما يحدث فى الكون من عظات وعبر ، ويستدلون بذلك على ما يكون لأهل الكفر والمعاصي من عقاب بئيس بما كانوا يكسبون.

أخرج البخاري فى التاريخ والترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم وأبو نعيم

٣٨

وابن مردويه عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله تعالى ، ثم قرأ : إن فى ذلك لآيات للمتوسمين».

والفراسة على نوعين :

(١) ما يوقعه الله فى قلوب الصلحاء فيعلمون بذلك أحوال الناس بالحدس والظن

(٢) ما يحصل بدلائل التجارب والأخلاق.

وقد صنّف الناس فى القديم والحديث كتبا فى ذلك ، وبعض العلماء يجعلها دليلا يحكم به كما فعل إياس بن معاوية (كان قاضيا ذكيا فى عهد التابعين).

ثم لفت أنظار أهل مكة إلى الاعتبار بها لو أرادوا فقال :

(وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي وإن هذه المدينة ـ مدينة سدوم ـ التي أصابها ما أصابها من العذاب ـ لبطريق واضح لا تخفى على السالكين ، فآثارها باقية إلى اليوم لم تندثر ولم تخف ، فالذين يمرون عليها من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثارها كما قال فى الآية الأخرى : «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ».

ثم أيأس من اعتبارهم بها ، إذ هى لا يعتبر بها إلا المؤمنون فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله ـ لدلالة جلية للمؤمنين المصدقين بالله ورسله ، إذ هم يعرفون أن ذلك إنما كان انتقاما من الله لأنبيائه من أولئك الجهال الذين عصوا أمر ربهم ، وكفروا برسله ولم يرعوا عن غيّهم وضلالهم بعد إنذارهم ونصحهم.

أما الذين لا يؤمنون بالله فيجعلون ذلك حوادث كونية ، لأسباب فلكية ، وشؤون أرضية ، جعلت الأرض تنهار لحدوث فراغ فى بعض أجزائها. كما يشاهد اليوم فى البلاد ذات البراكين من اختفاء بلاد فى باطن الأرض وابتلاع الأرض لها كما حدث فى مدينة مسينا بإيطاليا سنة ١٩٠٩ ، وظهور جزائر فى وسط المحيطات لم تكن من قبل.

٣٩

وبعد أن ذكر قصص قوم لوط أتبعه بقصص قوم شعيب عليه السلام فقال :

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) أي وإن أصحاب الأيكة كانوا بجبلّتهم ظالمين كفارا ، ليس لديهم استعداد للإيمان بالله ورسله ، أرسل الله إليهم وإلى أهل مدين شعيبا فكذبوه.

أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا».

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الكفر والمعاصي.

فسلطّ على أصحاب الأيكة الحر سبعة أيام لا يظل منه ظلّ ، ولا يمنعهم منه شىء ، ثم أرسلت عليهم سحابة فحلّوا تحتها يلتمسون الرّوح منها ، فبعثت عليهم منها نار فاضطرمت عليهم فأكلتهم ، فذلك عذاب يوم الظلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم.

وأما أهل مدين فقد أخذتهم الصيحة ثم ذكر عز اسمه أنه قد كان من حق قريش أن يعتبروا بهما فقال :

(وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي وإن مدينة أصحاب الأيكة ومدينة قوم لوط لبطريق واضح يأتمون به فى سفرهم ويهتدون به فى مسيرهم.

ثم ذكر سبحانه قصة صالح فقال :

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد كذبت ثمود نبيهم صالحا عليه السلام ومن كذب رسولا من رسل الله فكأنما كذب الجميع ، لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول العامة التي لا تختلف باختلاف الأمم والأزمان.

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وأريناهم حججنا الدالة على نبوة صالح عليه السلام من الناقة وغيرها ، فأعرضوا عنها ولم يعتبروا بها.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من هدمها ونقب اللصوص لها أو تخريب الأعداء لقوة أسرها وبديع إحكامها ، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأعراف.

٤٠