تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

تفسير المفردات

التبديل : رفع شىء ووضع غيره مكانه ، وتبديل الآية : نسخها بآية أخرى ، وروح القدس : جبريل عليه السلام ؛ سمى بذلك لأنه ينزل بالقدس أي بما يطهر النفوس :

من القرآن والحكمة والفيض الإلهى ، بالحق : أي بالحكمة المقتضية له ، بشر : هو جبر الرومي غلام ابن الحضرمي كان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة ، والإلحاد : الميل يقال لحد وألحد :

إذا مال عن القصد ، ومنه سمى العادل عن الحق ملحدا ، لسان : أي كلام ؛ ويقال رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان عن مرادهما ، والأعجمى والأعجم : الذي فى لسانه عجمة ، من العجم كان أو من العرب ، ومن ذلك زياد الأعجم كان عربيا فى لسانه لكنة.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بالاستعاذة من وسوسة الشيطان الرجيم حين قراءة القرآن ، أردف ذلك ذكر باب من أبواب فتنته ووسوسته ، بإلقاء الشبهات والشكوك لدى منكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقد ذكر منها شبهتين :

(١) إنه قد تنزل آية من آيات الكتاب تنسخ شريعة ماضية فيعيّرون محمدا بذلك.

١٤١

(٢) إنهم قالوا إن ما جاء به إنما هو تعليم من البشر من بعض أهل الكتاب لا من الله ، فأبطل هذه الشبهة بأنه كلام عربى مبين ، وما نسبتم إليه تعليمه أعجمى ، فكيف به يعلمه الكلام العربي الفصيح الذي أعجز العرب قاطبة أن يأتوا بمثله؟.

الإيضاح

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى ، والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل من أحكامه ـ قال المشركون المكذبون لرسوله : إنما أنت متقوّل على الله تأمر بشىء ثم تنهى عنه ، وأكثرهم لا يعلمون ما فى التبديل من حكم بالغة.

وقليل منهم يعلمون ذلك وينكرون الفائدة عنادا واستكبارا.

وفى قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) توبيخ لهم وإيماء إلى أن التبديل لم يكن للهوى ، بل كان لحكمة اقتضته ودعت إليه من تغير الأحوال والأزمان ، ألا ترى أن الطبيب يأمر المريض بدواء بعينه ، ثم إذا عاده مرة أخرى نهاه عن ذلك الدواء وأمره بضده أو بما لا يقرب منه بحسب ما يرى من حال المريض؟.

وهكذا الشرائع إنما توضع مشاكلة للزمان والمكان والأحوال الملابسة لها ، وقد يطرأ ما يغيّرها ويستدعى وضع تشريع آخر يكون أصلح للأحوال المفاجئة ، والمشاهدة تدل على صدق هذا ، فإنا نرى القوانين الوضعية تغيّر آنا بعد آن إذا جدما يستدعى ذلك ، وقد تقدم بسط هذا فى سورة البقرة.

ثم بين لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله ، وأن رسوله صلى الله عليه وسلّم قد افتراه فقال :

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي قل لهم : قد جاء جبريل من عند ربى بما أتلوه عليكم ، واقتضته الحكمة البالغة ، من تثبيت المؤمنين وتقوية إيمانهم بما فيه من أدلة قاطعة وبراهين ساطعة ، على

١٤٢

وحدانية خالق الكون وباهر قدرته وواسع علمه ، وحث على النظر فى ملكوت السموات والأرض ، وتشريع يرقى بالأمم فى أخلاقها وآدابها ومعارفها ، إلى مستوى لا تدانيها فيه أمة أخرى.

والخلاصة ـ إنه نافع كل النفع لهم فى دينهم ودنياهم ، فإذاهم رأوا ذلك رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم ، كما أنّ فيه هداية لهم من الزيغ والضلالات ، ففيه ما يهذّب النفوس ويكبح جماح الطغيان ، ويرد الظالم عن ظلمه ، ويدفع عدوان الناس بعضهم على بعض ، وفيه بشرى للمسلمين بما سيلقونه من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار جزاء أعمالهم وكدهم ونصبهم إرضاء لربهم.

وفى هذا إيماء إلى أن هؤلاء المشركين لهم من الصفات ضد هذا ، فهم متزلزلون ضالون لهم خزى ونكال فى الدنيا والآخرة.

ثم حكى عنهم شبهة ثانية فقال :

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) أي وإنا لنعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا : إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بنى آدم وليس بالوحى من عند الله.

فرد الله عليهم وكذبهم فى قيلهم فقال :

(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي إن لسان الذي تميلون إليه بأنه يعلم محمدا ـ أعجمى فهو عبد رومى فيما تزعمون ، والقرآن لسان عربى مبين ، فكيف يتعلّم من جاء بهذا القرآن فى فصاحته وبلاغته ومعانيه الشاملة من رجل أعجمى؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من عقل.

وخلاصة هذا ـ إن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمى لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن كلام عربى تفهمونه بأدنى تأمل ، فكيف يكون هو ما تلقفه منه؟ هبه تعلم منه المعنى باستماع كلامه ، فهو لم يلقف منه اللفظ ، لأن ذلك أعجمى وهذا عربى ، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى هو معجز من حيث اللفظ ـ إلى أن العلوم الكثيرة

١٤٣

التي فى القرآن لا يمكن تعلمها إلا بالدرس والتلقين من أخصائيين مع الاختلاف إليهم مددا متطاولة ، فليس من الميسور ولا مما يجد العقل اطمئنانا إليه أن يتعلم مثل هذا من غلام سوقى سمع منه أخبارا بلغة أعجمية لعله لم يكن يعرف معناها.

وعلى نحو آخر كأنه قيل لهم : أنتم أفصح الناس بيانا ، وأقواهم حجة وبرهانا ، وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا ، وقد عجزتم وعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله ، فكيف تنسبونه إلى أعجمى ألكن؟.

وفى التشبث بأمثال هذه المطاعن الركيكة ، والخرافات الساذجة ، أبلغ دليل على أنهم بلغوا غاية العجز ، ونهاية السّخف.

فدعهم يزعمون الصبح ليلا

أيعمى الناظرون عن الضياء

ثم توعدهم على ما قالوا بالعقاب فى الدنيا والآخرة فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين لا يصدّقون بأن هذه الآيات من عند الله ، بل يقولون فيها ما يقولون ، فيقولون تارة إنها مفتريات ، ويقولون أخرى إنها من أساطير الأولين ـ لا يهديهم الله إلى معرفة الحق الذي ينجيهم من عذاب النار ، لما يعلم من سوء استعدادهم بما اجترحوا من السيئات ، ودنّسوا به أنفسهم من ارتكاب الموبقات ولهم فى الآخرة إذا وردوا إلى ربهم عذاب مؤلم موجع ، كفاء ما نصبوا له أنفسهم من العداء لرسوله : والتكذيب لآيات الكتاب.

ولما نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الافتراء رد الله عليهم بقوله :

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي إنما يتخرّص الكذب ويتقوّل الباطل ، الذين لا يصدقون بحجج الله وآياته التي نصبها فى الكون ، وأقامها أدلة على وجوده ووحدانيته ، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا ، ولا يخشون على الكذب عقابا ، وهذه صفاتكم أيها المشركون لا صفات النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين ، ومن ثم حكم عليهم بالكذب حكما صريحا فقال :

١٤٤

(وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي وأولئك الذين كفروا من رجال قريش القائلين لك أيها الرسول : إنما أنت مفترهم الكاذبون لا أنت.

وهذا تصريح بنسبة الكذب إليهم بعد التعريض ، ليكون ميسم خزى وعار لهم.

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))

تفسير المفردات

أكره : أي على التلفظ بكلمة الكفر ، والاطمئنان : سكون النفس بعد انزعاجها والمراد الثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه ، شرح بالكفر صدرا : أي اعتقده وطاب به نفسا ، استحبوا الحياة الدنيا : أي آثروها وقدّموها ، لا جرم : أي حقا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة أن قريشا كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم وتقوّلوا عليه الأقاويل فوصفوه بأنه مفتر وأن الكتاب الذي جاء به هو من كلام البشر لا من عند الله ، ثم هددهم على ذلك أعظم تهديد ـ قفى على ذلك ببيان حال من يكفر بلسانه وقلبه ملىء بالإيمان.

١٤٥

أخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي فى الدلائل «أن المشركين أخذوا عمّار ابن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ، فلما أتى رسول الله قال له ما وراءك؟ قال شر ما تركت ، نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، قال كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالإيمان ، قال إن عادوا فعد فنزلت : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)» ، وروى «أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسميّة على الارتداد فأبوا ، فربطوا سمية بين بعيرين ووجئت بحربة فى موضع عفتها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين فى الإسلام ، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه ، فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يبكى فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمسح عينيه وقال : مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت».

الإيضاح

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي إن من كفر بالله بعد الإيمان والتبصر فعليه غضب من الله إلا إذا أكره على ذلك وقلبه ملىء بالإيمان بالله والتصديق برسوله ، فلا تثريب عليه كما فعل عمار بن ياسر.

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولكن غضب الله وشديد عقابه لمن طابت أنفسهم بالكفر ، واعتقدوه طائعين مختارين ، لعظيم جرمهم ، وكبير إثمهم.

ثم بين سبب هذا الغضب فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي ذلك الغضب من الله ، والعذاب العظيم من أجل أنهم آثروا الحياة الدنيا وزينتها على نعيم الآخرة.

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي وأن الله لا يوفق من يجحد آياته

١٤٦

ويصرّ على إنكارها ، لأنه قد فقد الاستعداد لسبل الخير بما زينت له نفسه ، وسولت له ، من عظيم الجرم وكبير الإثم ، فأصبح قلبه مليئا بما يشغله عن دواعى الإيمان ، بما يمليه عليه الشيطان.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي أولئك الذين اتصفوا بما تقدم ذكره ـ هم الذين طبع الله على قلوبهم ، فلا يؤمنون ولا يهتدون ، وأصم أسماعهم فلا يسمعون داعى الله إلى الهدى ، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر متعظ ، وأولئك هم الساهون عما أعدّ لأمثالهم من أهل الكفر ، وقد تقدم ذكر (الطبع) فى آي كثيرة.

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي حقا إنهم فى الآخرة هم الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها ، وصرفوا أعمارهم فيما لا يفضى بهم إلا إلى العذاب المخلّد ولله در من قال :

إذا كان رأس المال عمرك فاحترس

عليه من الإنفاق فى غير واجب

فما المرء فى هذه الحياة إلا كالتاجر ، يشتر بطاعة ربه سعادة الآخرة ، فإذا لم يفعل من ذلك شيئا خسرت تجارته ، وعاد ذلك عليه بالوبال والنكال فى جهنم وبئس القرار.

وقد حكم الله على هؤلاء الكافرين بستة أشياء :

(١) إنهم استوجبوا غضب الله.

(٢) إنهم استحقوا عقابه العظيم.

(٣) إنهم استحبوا الحياة الدنيا.

(٤) إن الله حرمهم من الهداية للطريق القويم.

(٥) إنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

(٦) إنه جعلهم سبحانه من الغافلين.

قال مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأبو بكر وخبّاب وصهيب وبلال وعمار وسمية.

١٤٧

أما الرسول فحماه أبو طالب ، وأما أبو بكر فحماه قومه ، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ، ثم أجلسوا فى الشمس ، فبلغ منهم الجهد بحرّ الحديد والشمس ، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبّخهم ويشتم سمية ثم طعنها بحربة فى ملمس العفة ، وقال الآخرون ما نالوا به منهم ، إلا بلالا فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول : أحد أحد حتى ملّوا ، فكتفّوه وجعلوا فى عنقه حبلا من ليف ، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به ، حتى ملّوه فتركوه.

وقال عمار : كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال فإن نفسه هانت عليه فتركوه ، وقال خبّاب : لقد أوقدوا لى نارا ما أطفأها إلا ودك (دهن) ظهرى.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

تفسير المفردات

أصل الفتن : إدخال الذهب فى النار لتظهر جودته من رداءته ، ثم استعمل فى المحنة والابتلاء يصيب الإنسان ، تجادل : أي تدفع وتسعى فى خلاصها ، والنفس الأولى الجثة والبدن ، والنفس الثانية عينها وذاتها ، وتوفى : تعطى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف حال من كفر بالله من بعد إيمانه ، وحكم بأنه استحق غضب الله وعذابه الأليم يوم القيامة ، ثم ذكر حال من أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه وقلبه ملىء بالإيمان ـ أردف ذلك بذكر طائفة من المسلمين كانوا مستضعفين بمكة مهانين فى قومهم فوافقوا المشركين على الفتنة فى الدين والرجوع إلى دين آبائهم وأجدادهم ثم فرّوا وتركوا بلادهم وأهليهم ابتغاء رضوان الله وطلب

١٤٨

غفرانه ، وانتظموا فى سلك المسلمين وجاهدوا معهم الكافرين ، فحكم ربهم بقبول توبتهم ، ودخولهم فى زمرة الصالحين ، وتمتعهم بجنات النعيم يوم العرض والحساب.

أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضى الله عنه (وكان أخا أبى جهل من الرضاعة) وأبا جندل بن سهل وسلمة بن هشام وعبد الله بن سلمة الثقفي ، فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا فنزلت فيهم الآية.

الإيضاح

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربك أيها الرسول للذين هاجروا من ديارهم وتركوا مساكنهم وعشائرهم من أهل الشرك ، وانتقلوا عنهم إلى ديار الإسلام من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين ظهرانيهم قبل هجرتهم ، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف ، وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله ، وصبروا على جهادهم ـ إن ربك من بعد أفعالهم هذه لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم ، وهم لغيرها مضمرون ، وللإيمان معتقدون ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إليه ، وجميل صنعهم من بعد.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي إن ربك لغفور رحيم بهؤلاء يوم تأتى كل نفس تخاصم عن نفسها ، وتحاجّ عنها ، وتسعى فى خلاصها ، بما أسلفت فى الدنيا من عمل ، ولا يهمها شأن غيرها من ولد ووالد وقريب.

(وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت فى الدنيا من طاعة أو معصية ، فيجزى المحسن بما قدم من إحسان ، والمسيء بما أسلف من إساءة ، ولا يعاقب محسن ولا يثاب مسىء.

١٤٩

والخلاصة ـ إن كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كما قال : «لكلّ امرى منهم يومئذ شأن يغنيه».

وجاء فى بعض الآثار : «إن جهنم لتزفر زفرة ، لا يبقى ملك مقرب ، ولا نبى مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول : رب نفسى نفسى حتى إن إبراهيم الخليل ليفعل ذلك».

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

المعنى الجملي

بعد أن هدد سبحانه الكافرين بالعذاب الشديد فى الآخرة ـ أردف ذلك الوعيد بآفات الدنيا من جوع وفقر وخوف شديد بعد أمن واطمئنان وعيش رغد.

الإيضاح

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) أي بين الله صفة لقرية كان أهلها آمنين من العدو والقتال والجوع والسبي ، يأتيها الرزق الكثير من سائر البلدان ، فكفروا بنعم الله ، فعمهم الجوع والخوف ، وذاقوا مرارتهما بعد سعة العيش والطمأنينة ، وقد جاءهم رسول من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه ، فكذبوه فيما أخبرهم به من

١٥٠

وجوب الشكر على النعمة ، فأخذهم العذاب واستأصل شأفتهم لا لتباسهم بالظلم ، وهو الكفر وتكذيب الرسول.

وفى هذا إيماء إلى تماديهم فى الكفر والعناد ، وإلى أن ترتيب العذاب على تكذيب الرسول جاء على سنة الله فى أنه لا يعذب أمة إلا إذا أنذرها ، وبعث إليها رسولا يعظها ويرشدها كما يدل على ذلك قوله : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» وهكذا حال أهل مكة ، فإنهم كانوا فى حرم آمن يتخطّف الناس من حولهم ، ولا يمرّ بهم طيف من الخوف ، ولا يزعج قلوبهم مزعج ، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شىء ، وقد جاءهم رسول من أنفسهم فأنذرهم وحذّرهم ، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، وأذاقهم لباس الجوع والخوف بدعاء رسوله إذا قال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة ، وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وغيرهم وقوافلهم ، ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب ، وقد جعل الله الجوع والخوف اللذين خالط أذاهما أجسامهم ـ لباسا لهم لأن أثرهما وضررهما قد أحاط بهم من كل جانب ، فأشبها اللباس الذي يغطّى الجسم ويحيط به ، وجعل إصابتهم بهما إذاقة دلالة على شدة تأثيرهما الشديد الذي حدث فيهم كما يكون ذلك حين ذوق شىء مرّ بشع كريه ، إذ يجد الذائق تقززا واشمئزازا.

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ

١٥١

غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

تفسير المفردات

يقولون : له وجه يصف الجمال ، وعين تصف السحر ، يريدون أنه جميل وأن عينه تفتن من رآها ، لأنه لما كان وجهه منشأ للجمال وعينه منبعا للفتنة والسحر كان كل منهما كأنه إنسان عالم بكنههما محيط بحقيقتهما يصفهما للناس أجمل وصف ويعرفهما أتم تعريف وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ، إذ جعل الكذب كأنه حقيقة مجهولة ، وكلامهم الكذب يشرح تلك الحقيقة ويوضحها ، كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب هى حقيقته ومنبعه الذي يعرف منه ، وعليه قول أبى العلاء المعرّى :

سرى برق المعرّة بعد وهن

فبات برامة يصف الكلالا

أي إن سرى ذلك البرق يصف الكلال والإعياء.

لتفتروا : أي لتكون العاقبة ذلك ، والجهالة هنا : الطيش وعدم التدبر فى العواقب.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حال من كفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله وأنه قد حل بهم العذاب من جوع وخوف بسبب ظلمهم لأنفسهم وصدهم عن سبيل الله ـ قفّى على

١٥٢

ذلك بأمر المؤمنين بأكلهم من الحلال الطيب وشكرهم لنعمة الله عليهم وطاعتهم للرسول فيما به أمر وعنه نهى كيلا يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم ، ثم ببيان ما حرمه من المآكل ، وأن التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص من الدين لا بالهوى والتشهي ، لأن ذلك افتراء على الله ، ومن يفتر عليه لا يفلح. وأن ما حرّم على اليهود قد ذكره فيما نزل عليه من قبل فى سورة الأنعام ، وأن من يعمل السوء لعدم تدبره فى العواقب كغلبة الشهوة عليه ثم يتوب من بعد ذلك ويصلح أعماله ، فإن الله غفور لزلاته ، رحيم له ، فيثيبه على طاعته.

الإيضاح

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم ، وذروا الخبائث وهى الميتة والدم ، واشكروه على ما أنعم به عليكم ، بتحليله ما أحل لكم ، وبسائر نعمه المتظاهرة عليكم ، إن كنتم تعبدونه ، فتطيعونه فيما يأمركم به ، وتنتهون عما ينهاكم عنه ، والمراد بذلك الحث على اتباع أوامره والمداومة عليها.

وبعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات بين لهم ما حرّم عليهم فقال :

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي إنما حرم عليكم ربكم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح للأنصاب فسمى عليه بغير اسمه تعالى ، فإن ذلك من ذبائح من لا يحل أكل ذبيحته.

والخلاصة ـ إن ما سمى عليه غير الله عند الذبح سواء كان صنما أو وثنا أو روحا خبيثا من جن أو روحا طيبا من إنس كالنبى والولي حيا أو ميتا ، فأكله حرام لما جاء فى الحديث «ملعون من ذبح لغير الله» سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم ، لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى غيره تعالى ، فمن ذبح للسيد البدوي أو لإبراهيم الدسوقى أو للسيدة زينب لا يجوز أكل هذا الذبيح.

١٥٣

ثم ذكر الحال التي يسوغ فيها تناول شىء من هذه المحرمات فقال :

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى تناول شىء من هذه المحرمات لمجاعة حلت به ، وضرورة دعته إلى أخذ شىء منها ، غير باغ على مضطر آخر ولا متعدّ قدر الضرورة وسد الرمق ـ فالله لا يؤاخذه على ذلك وهو الذي يستر ما يصدر منهم من الهفوات ، وهو الرحيم بهم أن يعاقبهم على مثل ذلك ، أما ما حرموه غير ذلك من البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما تقدم فى سورة الأنعام فهو محض افتراء على الله ، وقد تقدم مثل هذه الآية فى سور البقرة والمائدة والأنعام وفيها حصر المحرمات فى هذه الأربع فحسب.

ثم أكد حصر المحرمات فى هذه الأربع ونهى عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال :

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بالرأى والهوى ، فلا تقولوا ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، ولا تحللوا الميتة والدم ولحم الخنزير إلخ.

وخلاصة ذلك ـ لا تحللوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له دون استناد إلى دليل ، وكأنّ ألسنتكم لأنها منشأ الكذب وينبوعه شخص عالم بحقيقته ، ومحيط بكنهه ، يصفه للناس ويوضحه لهم أتم إيضاح.

(لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي لتكون عاقبة أمركم إسناد التحريم والتحليل إلى الله كذبا من غير أن يكون ذلك منه ، فالله لم يحرم من ذلك ما تحرمون ولا أحل كثيرا مما تحللون.

وإجمال ذلك ـ لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله ورسوله حلالا وحراما فتكونوا كاذبين عليه ، لأن مدار الحل والحرمة عليه ليس إلا حكمة تعالى.

عن أبى نضرة قال : قرأت هذه الآية فى سورة النحل فلم أزل أخاف الفتيا إلى

١٥٤

يومى هذا ـ وقد صدق فكل من أفتى بخلاف ما فى كتاب الله وسنة رسوله لجهله بما فيهما فقد ضل وأضل من يفتيهم ، ولله در القائل :

كبهيمة عمياء قاد زمامها

أعمى على عوج الطريق الحائر

أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : «عسى رجل يقول إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا فيقول الله عزّ وجلّ كذبت ، أو يقول إن الله حرم كذا أو أحل كذا فيقول الله له كذبت».

ثم أوعد المفترين وهددهم أشد التهديد فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي إن الذين يتخرّصون الكذب على الله فى أمورهم صغيرها وكبيرها لا يفوزون بخير فى المطالب التي لأجلها كذبوا على ربهم ، إذ هم متى عرفوا بالكذب مجّهم الناس وانصرفوا عنهم وعاشوا أذلة بينهم ممقوتين ، ويكونون مضرب الأمثال فى الهوان والصغار ـ إلى ما يصيبهم من الخزي والوبال يوم القيامة.

ثم بين أن ما يحصل لهم من المنافع بالافتراء على الله ليس شيئا مذكورا إذا قيس بالمضارّ التي تنجم منه فقال :

(مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن المنافع التي قد تحصل لهم على ذلك فى الدنيا لا يعتدّ بها فى نظر العقلاء إذا ووزن بينها وبين المضارّ التي فى الآخرة ، فما متاع الدنيا إلا ظل زائل ثم يفنى ويبقى لهم العذاب الأليم حين مصيرهم إلى ربهم بما اجترحوا من السيئات ، ودنّسوا به أنفسهم من أو ضار الإثم والفجور والكذب على بارئهم الذي خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم.

ونحو الآية قوله : «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ».

وبعد أن بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خص به اليهود من المحرمات فقال :

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي وحرمنا من قبلك

١٥٥

أيها الرسول على اليهود ما أنبأناك به من قبل فى سورة الأنعام : «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ».

ثم بين السبب فى ذلك التحريم عليهم فقال :

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمناهم بتحريم ذلك عليهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لربهم وتجاوزهم حدوده التي حدها لهم وانتهاك حرماته ، فعوقبوا بهذا التحريم كما قال فى آية أخرى : «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» الآية.

وفى هذا إيماء لى أن ذلك التحريم إنما كان للظلم والبغي عقوبة وتشديدا ، وبه يعلم الفرق فى التحريم بينهم وبين غيرهم ، فإنه لهم عقوبة ، ولنا للمضرّة فحسب.

ثم بيّن أن الافتراء على الله وانتهاك حرماته لا يمنع من التوبة التي يتقبّلها الله منهم ، ويغفر لهم زلاتهم رحمة منه وفضلا فقال :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربك للذين افتروا عليه وأشركوا به سواه وركبوا مالا يليق من المعاصي بسبب الجهالة التي تحملهم على انتهاك حرمات الدين كالقتل للغيرة أو للعصبية كما

جاء فى الخبر «اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل علىّ».

وقال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

إنه لغفور رحيم لهم إذ هم تابوا وندموا على ما فرط منهم ، وأصلحوا أعمالهم ففعلوا ما يحب الله ورسوله.

وفى قوله : بجهالة ، إيماء إلى أن من يأتى الذنوب قلّما يفكر فى العاقبة ، لغلبة الشهوة عليه أو لجهالة الشباب والطيش.

١٥٦

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

تفسير المفردات

الأمة : الجماعة الكثيرة ، وسمى إبراهيم أمة لأنه قد جمع من الفضائل والكمالات ما لو تفرّق لكفى أمة ، ألا ترى أبا نواس إذ يقول لهرون الرشيد مادحا :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم فى واحد

والقانت : المطيع لله القائم بأمره ، والحنيف : المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق ، واجتباه : اختاره واصطفاه ، والحسنة : هى محبة أهل الأديان جميعا له إجابة لدعوته لربه «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين» وجعل السبت لليهود : فرض تعظيمه والتخلي فيه للعبادة وترك الصيد ، والحكمة : المقالة المحكمة المصحوبة بالداليا

١٥٧

الموضّح للحق المزيل للشبهة ، والموعظة الحسنة : الدلائل الظنية المقنعة للعامة ، والجدل : الحوار والمناظرة لإقناع المعاند ، والعقاب فى أصل اللغة : المجازاة على أذى سابق ثم استعمل فى مطلق العقاب ، والضيق (بفتح الضاد وكسرها) الغم وانقباض الصدر.

المعنى الجملي

بعد أن زيّف سبحانه مذاهب المشركين فى إثبات الشركاء والأنداد لله ، وفى طعنهم فى نبوة الأنبياء والرسل بنحو قولهم : لو أرسل الله رسلا لأرسل ملائكة. وفى تحليلهم أشياء حرمها الله ، وتحريم أشياء أحلها الله ، وبالغ فى رد هذه المعتقدات. ختم السورة بذكر إبراهيم رئيس الموحدين الذي كان المشركون يفتخرون به ، ويقرّون بوجوب الاقتداء به ، ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك ، ثم بأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم باتباعه ، ثم يجعل الأسس التي يبنى عليها دعوته هى الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى ، ثم بأمره باللين فى العقاب إن أراده ، أو بترك العقاب ، وهو أفضل للصابرين ، ثم بأمره بجعل الصبر رائده فى جميع أعماله ، ونهيه عن الحزن على كفر قومه ، وأنهم لم يجيبوا دعوته ، وأنهم يمكرون به ، فالله ينصره عليهم ويكفيه أذاهم ، فقد جرت سنته بأن العاقبة للمتقين ، والخذلان للعاصين الخائنين.

الإيضاح

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) مدح الله عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ، ووالد الأنبياء بجملة صفات من صفات الكمال :

(١) إنه وحده كان أمّة ، قال ابن عباس رضى الله عنهما : إنه كان عنده عليه الصلاة

١٥٨

والسلام من الخير ما كان عند أمة ، فهو رئيس الموحّدين ، كسر الأصنام ، وجادل الكفار ، ونظر فى النجوم ، ودرس الطبيعة الكونية ، ليطمئن قلبه بالإسلام.

(٢) إنه كان قانتا أي مطيعا لله قائما بأمره.

(٣) إنه كان حنيفا أي مائلا عن الباطل ، متّبعا للحق ، لا يفارقه ولا يحيد عنه.

(٤) إنه ما كان من المشركين فى أمر من أمور دينهم ، بل كان من الموحّدين فى الصغر والكبر ، فهو الذي قال للملك فى عصره «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» وهو الذي أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله : «لا أحبّ الآفلين» وكسر الأصنام حتى ألقوه لأجلها فى النار فكانت عليه بردا وسلاما.

وعلى الجملة فقد كان غارقا فى بحار التوحيد مستغرقا فى حب الإله المعبود ، وفى ذلك ردّ على كفار قريش إذ قالوا نحن على ملة إبراهيم ، وعلى اليهود الذين أشركوا وقالوا عزيز ابن الله ، مع زعمهم أن إبراهيم كان على مثل ما هم عليه.

ونحو الآية قوله : «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

(٥) إنه كان شاكرا لأنعم الله عليه كما قال : «وإبراهيم الّذى وفّى» أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به ، وفى هذا تعريض بكفار قريش الذين جحدوا بأنعم الله فأصابهم الجوع والخوف كما تقدم ذكره فى المثل السابق.

(٦) إنه اجتباه ربه واختاره للنبوة كما قال : «ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين».

(٧) إنه هداه إلى صراط مستقيم ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، مع إرشاد الخلق إلى ذلك والدعوة إليه.

(٨) إن الله حبّبه إلى جميع الخلق ، فجميع أهل الأديان ، مسلميهم ونصاراهم ويهودهم يعترفون به ، وكفار قريش لا فخر لهم إلا به ، وقد أجاب الله دعاءه فى قوله «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين».

١٥٩

(٩) إنه فى الآخرة فى زمرة الصالحين ، وهو معهم فى الدرجات العلى من الجنة ، إجابة لدعوته قال : «ربّ هب لى حكما وألحقنى بالصّالحين».

وبعد أن وصف إبراهيم بهذه الصفات الشريفة التي بلغت الغاية فى علوّ المرتبة أخبر أنه أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم باتباعه فقال :

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ثم أوحينا إليك أيها الرسول وقلنا لك : اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة البريئة من عبادة الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك ، كما تبرأ إبراهيم من مثلها من قبل ، فأنت متبع له وسائر على طريقه ، وقومك ليسوا كذلك ، لأنهم يحللون ويحرمون من عند أنفسهم.

ونحو الآية قوله فى سورة الأنعام : «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

وخلاصة ذلك ـ إنه عليه الصلاة والسلام أمر باتباع ملة إبراهيم بنفي الشرك وإثبات التوحيد ، وإن كان قد ثبت ذلك بالدليل العقلي ، ليظاهر الدليل النقلى الدليل العقلي.

وقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تكرير لزيادة التوكيد وتقرير لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما هم عليه من عقيدة وعمل.

ثم نعى على اليهود ما اختلفوا فيه وهو يوم السبت فقال :

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إنما جعل وبال يوم السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، فأحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى ، وكان من الحتم عليهم أن يتفقوا فيه على كلمة واحدة بعد أن أمروا بالكف عن الصيد فيه. كما أن وبال التحريم والتحليل من المشركين من عند أنفسهم واقع عليهم لا محالة.

وإن ربك ليفصل بين الفريقين فى الخصومة والاختلاف ، ويجازى كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب.

١٦٠