تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

ثم ذكر ميقات هلاكهم فقال :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي فأخذتهم صيحة الهلاك حين كانوا فى ضحوة اليوم الرابع من اليوم الذي أوعدوا فيه بالعذاب كما جاء فى قوله : «فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ».

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فما دفع عنهم ما نزل بهم ما كانوا يكسبون من تحت البيوت وجمع الأموال وكثرة العدد وجمع العدد ، بل خرّوا حاثمين هلكى حين حل بهم قضاء الله.

وروى البخاري وغيره عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلّم مرّ بالحجر وهو ذاهب إلى تبوك ، فقنّع رأسه ، وأسرع براحلته ، وقال لأصحابه : لا تدخلوا بيوت القوم المعذّبين إلا أن تكونوا باكين : فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم».

وأخرج ابن مردويه عنه قال : «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود ، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم ، فأمرهم بإهراق القدور وعلف العجين للإبل : ثم ارتحل عن البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذّبوا وقال : إنى أخشى عليكم أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم».

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

تفسير المفردات

بالحق : أي بالحكمة والمصلحة ، والساعة يوم القيامة ، والصفح : ترك التثريب واللوم ، والصفح الجميل : ما خلا من العتب.

٤١

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى القصص السالف إهلاك الأمم المكذبة لرسلها ، وعذابها بشتى أنواع العذاب ، كفاء ما دنسوا به أنفسهم من فظائع الشرك ، وأنواع المعاصي التي تقوّض دعائم الإخلاص لبارئ النسم ، وتهدّ أركان نظم المجتمع ؛ بعبادة الأصنام والأوثان ، وتطفيف الكيل والميزان ، وإتيان الفاحشة التي تشمئز منها النفوس ، وتنقر منها الأذواق السليمة ـ أرشد هنا إلى أنهم بعملهم هذا قد تركوا ما قضت به الحكمة والمصلحة ، من خلق السموات والأرض لعبادة خالقها وطاعته واستقرار نظم المجتمع على وجه صالح صحيح ، ودأبوا على عبادة غيره من الأصنام والأوثان ، فكان من العدل تطهير الأرض منهم ، دفعا لشرورهم وإصلاحا لمن يأتى بعدهم.

الإيضاح

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي وما خلقنا الخلائق ، مما فى الأرض والسماء وما بينهما ، إلا بالعدل والإنصاف لا بالظلم والجور ، فإهلاكنا للأمم التي كذبت رسلها وقصصنا عليك قصصها ، وتعجيل النقمة لهم لم يكن ظلما بل كان عدلا وحكمة.

وفى هذا إيماء إلى أن ما يصيب غيرهم من المكذبين لك من العذاب فى الآخرة فيه عدل ومصلحة للبشر.

ثم هدد العصاة وتوعدهم فقال :

(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي وإن يوم القيامة لآت لا ريب فيه ، وحينئذ ينتقم الله ممن يستحق العذاب ، ويحسن إلى من يستحق الإحسان ، فارض بما يكون لهم من شديد العقاب.

(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا ، واحتمل أذاهم ، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم.

٤٢

وخلاصة ذلك ـ خالقهم بخلق حسن ، وتأنّ عليهم واحلم عنهم ، وأنذرهم ، وادعهم إلى ربك قبل أن تقاتلهم.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك هو الذي خلقهم وخلق كل شىء ، وهو العليم بهم ومما يألفون وما يذرون ، وهو المدبّر لأمورهم ، والمقدّر لها على وجه الحكمة والمصلحة وقصارى ذلك ـ إنه خالقك وخالقهم ، وعليم بأحوالك وأحوالهم ، ولا يخفى عليه شىء مما جرى بينك وبينهم ، فخليق بك أن تكل الأمور إليه ، ليحكم بينك وبينهم ، وقد علم أن الصفح الجميل أولا أولى بهم إلى أن يحكم السيف بينك وبينهم.

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

تفسير المفردات

المثاني : واحدها مثنى من التثنية وهو التكرير والإعادة ، ومد عينيه إلى حال فلان : اشتهاه وتمناه ، والأزواج : واحدها زوج وهو الصّنف ، وخفض الجناح :

٤٣

إذ به التواضع واللين ، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحه له ، والجناحان من الإنسان : جانباه ، والنذير : المخوّف بعقاب الله من لم يؤمن به ، وعضين : أي أجزاء واحدها غضة من عضيت الشاة جعلتها أعضاء وأقساما ، فاصدع بما تؤمر : أي اجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا ، يضيق صدرك : أي ينقبض من الحسرة والحزن ، والساجدين : أي للمصلّين ، واليقين : الموت وسمى به لأنه أمر متيقن لا شك فيه.

المعنى الجملي

بعد أن أمر رسوله أن يصبر على أذى قومه ، وأن يصفح عنهم الصفح الجميل ـ أردف ذلك ذكر ما أولاه من النعم ، وما أغدق عليه من الإحسان ، ليسهل عليه الصفح ويكون فيه سلوة له على احتمال الأذى ، فذكر أنه آتاه السبع المثاني ـ الفاتحة ـ والقرآن العظيم الجامع لما فيه هدى البشر وصلاحهم فى دنياهم وآخرتهم.

وبعد أن ذكر له تظاهر نعمه عليه ، نهاه عن الرغبة فى الدنيا ، ومد العينين إليها ، يتمنى ما فيها من متاع ؛ ونهاه عن الحسرة على الكفار أن لم يؤمنوا بالقرآن وبما جاء به وأمره بالتواضع لفقراء المسلمين ، وبإنذار قومه المشركين بتبليغهم ما أمر به الدين وما نهى عنه ، بالبيان الكافي ، والإعذار الشافي ، وبيان عاقبة أمرهم بتحذيرهم أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين «اليهود والنصارى» الذين جعلوا القرآن أقساما ، فآمنوا بما وافق التوراة وكفروا بما عدا ذلك ، ويبين لهم أن ربهم سيسألهم عن جريرة أعمالهم.

ثم أمره أن يعلن ما أمر به من الشرائع ، ولا يلتفت إلى لوم المشركين وتثريبهم له ، ولا يبال بما سيكون منهم ، فالله تعالى كفاه أمر المستهزئين به وأزال كيدهم ، وإذا ساوره ضيق الصدر من سماع سفههم واستهزائهم كما هو دأب البشر ، فليسبح ربه

٤٤

وليحمده وليكثر الطاعة له ، فالعبد إذا حزبه أمر نزع إلى طاعة ربه ، وقد كفل سبحانه أن يكشف عنه ما أهمه.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) أي ولقد أكرمناك بسبع آيات هى الفاتحة التي تثنى وتكرر فى كل صلاة ، وهذا قول عمر وعلى وابن مسعود لما روى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «أم القرآن السبع المثاني التي أعطيتها» أو لأنها قسمت قسمين : ثناء ودعاء ، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» وأكرمناك أيضا بالقرآن العظيم.

وتخصيص الفاتحة بالذكر من بين القرآن الكريم لمزيد فضلها على نحو ما جاء فى قوله تعالى : «وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ».

وبعد أن عرّف سبحانه رسوله عظيم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين ـ نهاه عن الرغبة فى الدنيا فقال :

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي لا تتمنّين أيها الرسول ما جعلنا من زينة الدنيا متاعا للأغنياء من اليهود والنصارى والمشركين ، فإن من وراء ذلك عقابا غليظا.

والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ـ تعليم لأمته كما تقدم مثله كثيرا ، يؤيد هذا ما روى أنه أنت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنّضير فى يوم واحد فيها أنواع من البزّ (الأقمشة) والطيب والجواهر ، فقال المسلمون : لو كانت لنا لتقوينا بها ، ولأنفقناها فى سبيل الله.

وخلاصة ذلك ـ لقد أوتيت النعمة العظمى التي إذا قيست بها كل النعم كانت حقيرة ، فقد أوتيت سبع آيات هى خير من السبع القوافل.

٤٥

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إذ لم يؤمنوا ، ليقوى بمكانهم الإسلام ، وينتعش بهم المؤمنون : وقد كان صلى الله عليه وسلّم يود أن يؤمن به كل من بعث إليه ، ويتمنى لمزيد شفقته عدم إصرار الكفار على كفرهم.

وبعد أن نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال :

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي وألن جانبك ، وارفق بمن آمن بك واتبعك ، ولا تجف بهم ، ولا تغلظ عليهم.

ونحو الآية قوله تعالى : «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» وقوله فى صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم : «أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم» ثم بين وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال :

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي أنا النذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تماديهم فى غيهم ، كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها ، فانتقم الله منهم بإنزال العذاب بهم.

وفى الصحيحين عن أبى موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «إنما مثلى ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم : إنى رأيت الجيش بعيني وإنى أنا النذير العريان ، فالنّجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به ، ومثل من عصانى وكذب ما جئت به من الحق».

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي ولقد آتيناك سبعا من المثاني كما آتينا من قبلك من اليهود والنصارى التوراة والإنجيل ، وهم الذين اقتسموا القرآن وجزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه الذي وافق كتابيهما ، وكفروا ببعضه

٤٦

وهو ما خالقهما ـ أخرج ذلك البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس من طرق عدة.

وبعد أن بين وظيفة الرسول ذكر أن الحساب على الأعمال موكول إلى الله لا إليه فقال :

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلنسألن الكفار جميعا سؤال تأنيب وتوبيخ لهم على ما كانوا يقولون ويفعلون فيما بعثناك به إليهم وفيما دعوناهم إليه من الإقرار بي وبتوحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان ، روى أبو جعفر عن الربيع عن أبى العالية فى تفسير الآية قال : يسأل الله العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون ، وعماذا أجابوا المرسلين.

وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه ، وعن فتات الطينة بأصبعه ، فلا ألفينّك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك».

وبعد أن ذكر أن وظيفته التبليغ شدّد عليه فى الجهر به جهد المستطاع فقال :

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي فاجهر بإبلاغ ما أمرت به من الشرائع وواجه به المشركين ، ولا تلتفت إلى ما يقولون ، ولا تبال بهم ولا تخفهم. فإن الله كافيكهم ، وحافظك منهم.

ولما كان هذا الصدع شديدا عليه لكثرة ما يلاقيه من أذى المشركين ذكر أنه حارسه وكالئه منهم فلا يخشى بأسهم فقال :

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي إنا كفيناك شر المستهزئين الذين كانوا يسخرون منك ومن القرآن ، وهم طائفة من المشركين لهم قوة وشوكة ، كانوا كثيرى السفاهة والأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حين يرونه أو يمر بهم ، أفناهم الله وأبادهم وأزال كيدهم ؛ وقد اختلف فى عدتهم ، فقوم يقولون هم خمسة : الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل وعدي بن قيس والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب ، وقد ماتوا

٤٧

جميعا بأهون الأسباب ، فتعلق بثوب الوليد سهم فتكبر أن يبعده عنه فأصاب عرقا فى عقبه فمات ، ومات العاص بشوكة فى أخمص قدمه ، وأصاب عدى بن قيس مرض فى أنفه فمات ، وأصيب الأسود بن عبد يغوث بداء وهو قاعد فى أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات (هذه أعراض حمى التيفوس فيغلب أن يكون قد أصيب بها) وعمى الأسود بن عبد المطلب.

وقوم يقولون هم سبعة من أشراف قريش ومشركيها.

ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال :

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي هم الذين اتخذوا إلها آخر مع الله يعبدونه.

وفى وصفهم بهذا الوصف تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وتهوين للخطب عليه ، إذ أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء بمقام النبوة ، بل تعدوه إلى الإشراك بربهم ، المدبر لأمورهم والمحسن إليهم.

تم توعدهم على ما كانوا يصنعون فقال :

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم حين يحل بهم عذاب ربهم ، يوم تجزى كل نفس بما عملت ، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

وبعد أن سلاه بكفاية شرهم ودفع مكرهم ذكر تسلية أخرى له فقال :

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من كلمات الشرك والاستهزاء ، كما هو دأب الطبيعة البشرية حين ينوب الإنسان ما يؤلمه ويحزنه ، أن يرى فى نفسه انقباضا وضيقا فى الصدر وأسى وحسرة على ما حل به.

تم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله وحمده فقال :

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي إذا نزل بك الضيق ووجمت نفسك فافزع إلى ربك ، ونزّهه عما يقولون ، حامدا له

٤٨

على توفيقك للحق ، وهدايتك إلى سبيل الرشاد ، وصلّ آناء الليل وأطراف النهار ، فإن فى مناجاة ربك ما يقرّبك إلى حضرة القدس ، ويسمو بنفسك إلى الملإ الأعلى كما ورد فى الحديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ودم على ما أنت عليه طالبا المزيد من فضله ، حتى يأتيك الموت ، فهناك الجزاء بلا عمل ، وهنا العمل ولا جزاء.

وقصارى ذلك ـ إنه تعالى أرشده إلى كشف ما يجده فى نفسه من الغم بفعل الطاعات ، والإكثار من العبادات ، وقد كان صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر ، واشتد عليه خطب ، فزع إلى الصلاة ، روى أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره».

وقد حكى الله عن أهل النار أنهم يقولون : «لم نك من المصلّين. ولم نك نطعم المسكين. وكنّا نخوض مع الخائضين. وكنّا نكذّب بيوم الدّين. حتّى أتانا اليقين».

وفى هذا دلالة على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على المرء ما دام ثابت العقل ، روى البخاري عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب».

اللهم وفقنا لطاعتك ، واهدنا لعبادتك ، واجعلنا من المتقين الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

٤٩

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة

من الحكم والأحكام

(١) وصف القرآن الكريم.

(٢) الإعراض عن المشركين حتى يحل بهم ريب المنون.

(٣) استهزاء المشركين وإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وتكذيبهم لما يرونه من الآيات.

(٤) إقامة الأدلة على وجود الله بما يرونه من الآيات فى خلق السموات والأرض وفى خلق الإنسان.

(٥) عصيان إبليس أمر ربه فى السجود لآدم وذكر الحوار بينه وبين ربه ، وطلبه الإنظار إلى يوم الدين.

(٦) بيان حالى أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة.

(٧) قصص بعض الأنبياء وذكر ما أهلك الله به كل أمة من الأمم المكذبة لرسلها.

(٨) بيان أن الحكمة فى خلق السموات والأرض هى عبادة الله وحده وإقامة العدل والنظام فى المجتمع.

(٩) ذكر ما أنعم الله به على نبيه من السبع المثاني والقرآن العظيم (١٠) نهى نبيه والمؤمنين عن تمنى زخرف الدنيا وزينتها.

(١١) أمره صلى الله عليه وسلّم بخفض الجناح والرفق بمن اتبعه من المؤمنين.

(١٢) التذكير بنعمة الله عليه بإهلاك أعدائه المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين.

(١٣) الأمر بالدعوة للدين جهرا والصدع بها وعدم المبالاة بالمشركين.

(١٤) أمره صلى الله عليه وسلّم بالتسبيح والعبادة إذا ضاق صدره باستهزاء المشركين والطعن فيه وفى كتابه الكريم.

٥٠

سورة النحل

هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أحد.

وآيها ثمان وعشرون ومائة.

ووجه ارتباطها بما قبلها أنه لما قال فى السورة السالفة : «فو ربّك لنسألنهم أجمعين» كان ذلك تنبيها إلى حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه فى الدنيا ، فقيل : «أتى أمر الله» وأيضا فإن قوله فى آخرها : «واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين» شديد الالتئام بقوله أتى أمر الله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

تفسير المفردات

أتى أمر الله : أي قرب ودنا ، ويقال فى مجرى العادة لما يجب وقوعه قد أتى وقد وقع ، فيقال لمن طلب مساعدة حان مجيئها ، جاءك الغوث ، وأمر الله عذابه للكافرين ، والروح : الوحى وهو قائم فى الدين مقام الروح من الجسد ، فهو محيى القلوب التي أماتها الجهل ، من أمره : أي بأمره ومن أجله ، أنذروا : أي خوّفوا ، فاتقون : أي خافوا عقابى ، لمخالفة أمرى وعبادة غيرى.

٥١

المعنى الجملي

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوّف المشركين تارة بعذاب الدنيا من قتل وأسركما حدث يوم بدر ، وتارة بعذاب الآخرة ، ثم إنهم لما لم يشاهدوا شيئا من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب روى أنه لما نزل قوله تعالى : «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» قال الكافرون حين خلوا إلى شياطينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون ، حتى ينظر ما هو كائن ، فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئا مما تخوّفنا به ، فنزل قوله تعالى : «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» فأشفقوا وانتظروا ، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورفع الناس رءوسهم فنزل قوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

الإيضاح

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي قرب عذاب المشركين وهلاكهم ، أما إتيانه بالفعل وتحققه فمنوط بحكم الله النافذ ، وقضائه الغالب على كل شىء ، فهو يأتى فى الحين الذي قدّره وقضاه.

ونظم سبحانه المتوقع فى صورة المحقق إيذانا بأنه واجب الوقوع ، والشيء إذا كان بهذه المثابة يسوغ فى عرف التخاطب أن يعدّ واقعا ، ومعنى قوله فلا تستعجلوه لا تطلبوا حصوله قبل حضور الوقت المقدّر في علمه تعالى.

وفى هذا تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله ، وإعلام منه لهم ، بقرب عذابهم وهلاكهم الذي لا بد منه.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تبرأ الله تعالى عن الشريك والشفيع الذي يدفع الضر عنكم ، وفى هذا رد لمقالهم حين قالوا : لئن حكم الله علينا بإنزال العذاب فى الدنيا أو فى الآخرة ـ لتشفعنّ لنا هذه الأصنام التي نعبدها من دونه.

٥٢

وخلاصة هذا ـ إن تلك الجمادات الخسيسة التي جعلتموها شركاء لله وعبدتموها ، هى أحقر الموجودات ، وأضعف المخلوقات ، فكيف تجعلونها شريكة لله فى التدبير والشفاعة فى الأرض والسموات؟.

ثم أجاب عن شبهة لهم إذ قالوا : هب الله قضى على بعض عباده بالشر وعلى آخرين بالخير ، فمن يعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا هو؟ فقال :

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أي ينزل سبحانه ملائكته بالوحى إلى من يريد من عباده المصطفين الأخيار ، أن أنذروا عبادى أن إله الخلق واحد لا إله إلا هو ، وأنه لا تنبغى الألوهية إلا له ، ولا يصلح أن يعبد شىء سواه ، فاحذروه وأخلصوا له العبادة ، فإن فى ذلك نجاتكم من الهلكة ، وقد جاء ذكر الروح بمعنى الوحى فى قوله : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» وفى قوله : «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ».

والمراد بقوله من أمره ـ بيان أن ذلك التنزيل والنزول لا يكونان إلا بأمره تعالى كما قال حكاية عن الملائكة : «وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك» وقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)» وقال : «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» وقال : «لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» ففى كل ذلك دليل على أن الملائكة لا يقدمون على عمل إلا بأمره تعالى وإذنه.

وفى الآية إيماء إلى أن الوحى من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بوساطة الملائكة ، ويؤيد ذلك قوله : «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» فقد بدأ بذكر الملائكة ، لأنهم هم الذين يتلقّون الوحى من الله بلا وساطة ، وذلك الوحى هو الكتب ، وهم يوصلون هذا الوحى إلى الأنبياء ـ لاجرم جاء الترتيب على هذا الوضع

٥٣

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

٥٤

تفسير المفردات

أصل النطفة : الماء الصافي ويراد بها هنا مادة التلقيح ، والخصيم : بمعنى المخاصم كالخليط بمعنى المخالط ، والعشير : بمعنى المعاشر والمراد به المنطيق المجادل عن نفسه ، المنازع للخصوم ، والمبين : المظهر للحجة ، والدفء : ما يستدفأ به من الأكسية ، والمنافع : هى درّها وركوبها والحرث بها وحملها للماء ونحو ذلك ، جمال : أي زينة فى أعين الناس وعظمة لديهم ، تريحون : أي تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها يقال أراح الماشية إذا ردها إلى المراح ، تسرحون : أي تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها ، والأثقال : واحدها ثقل وهو متاع المسافر ، وشق الأنفس : مشقتها وتعبها ، القصد : الاستقامة ، يقال سبيل قصد وقاصد إذا أدّاك إلى مطلوبك ، وجائر : أي مائل عن المحجة ، منحرف عن الحق ، وتسيمون : أي ترعون يقال أسام الماشية وسوّمها جعلها ترعى ، وذرأ : خلق ، ألوانه : أي أصنافه ، مواخر واحدها ماخرة : أي جارية من مخر الماء الأرض أي شقها ، والميد : الحركة والاضطراب يمينا وشمالا ، وعلامات : أي معالم يستدلّ بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه منزّه عن الشريك والولد ، وأنه لا إله إلا هو ، وأمر بتقواه وإخلاص العبادة له ـ ذكر هنا أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام بأسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ، ونبّه بذلك إلى أن كل واحد من هذا كاف فى صرف المشركين عما هم عليه من الشرك ، وكلما بصّرهم طائفة مما يرون ويشاهدون بكّتهم على ما يقولون ويفعلون ، وبين لهم كفرانهم نعمتى الرعاية والهداية ، فاحتج على وجوده بخلق الأجرام الفلكية ،

٥٥

ثم ثنى بذكر أحوال الإنسان ، ثم ثلّث بذكر أحوال الحيوان ، ثم ربّع بذكر أحوال النبات ، ثم اختتم القول بذكر أحوال العناصر الأربعة.

الإيضاح

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي خلق سبحانه العالم العلوي وهو السموات والعالم السفلى وهو الأرض بما حوت ـ بالحق أي على نهج تقتضيه الحكمة ولم يخلقهما عبثا ، منفردا بخلقهما لم يشركه فى إنشائهما وإحداثهما شريك ، ولم يعنه على ذلك معين ، تعالى الله عن ذلك ، إذ ليس فى قدرة أحد سواه أن ينشى السموات والأرض ، فلا تليق العبادة إلا له.

وبعد أن ذكر أدلة الأكوان ، ذكر خلق الإنسان ، فقال :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي خلق الإنسان من نطفة أي من ماء مهين ـ خلقا عجيبا فى أطوار مختلفة ، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ماتم خلقه ، ونفخ فيه الروح ، فغذاه ونماه ورزقه القوت ، حتى إذا استقل ودرج نسى الذي خلقه خلقا سويا من ماء مهين ، بل خاصمه فقال : «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» وعبد ما لا يضر ولا ينفع : «ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم وكان الكافر على ربّه ظهيرا».

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) امتن سبحانه على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهى الإبل والبقر والغنم كما تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأنعام ، إذ عدها ثمانية أزواج ، وبما جعل لهم فيها من المنافع من الأصواف والأوبار والأشعار ، لباسا وفراشا ، ومن الألبان شرابا ، ومن الأولاد أكلا.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي ولكم فى هذه الأنعام زينة حين تردّونها بالعشي من مسارحها إلى منازلها التي تأوى إليها ، وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها ، وخصص هذين الوقتين بالذكر ، لأن الأفنية تتزين بها

٥٦

ويتجاوب ثغاؤها ورغاؤها حين الذهاب والإياب ، فيعظم أربابها فى أعين الناظرين إليها ، وقدم الإراحة على السرح مع تأخرها فى الوجود ، لأن الجمال فيها أظهر ، وجلب السرور فيها أكمل ، ففيها حضور بعد غيبة ، وإقبال بعد إدبار ، على أحسن ما يكون ، إذ تكون ملأى البطون ، حافلة الضروع.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي وهى أيضا تحمل أمتعتكم وأحمالكم من بلد إلى آخر لم تكونوا بالغيه بدونها إلا بكلفة ومشقة وجهد شديد.

ونحو الآية قوله : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» وقوله : «اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ومن ثم أسبغ عليكم نعمه الجليلة ، ويسّر لكم الأمور الشاقة العسيرة ، ومن رأفته ورحمته بكم أن خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم كما قال : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ؟».

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) أي وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا لتركبوها ، وجعلها لكم زينة تتزينون بها ـ إلى مالكم فيها من منافع أخرى.

(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) غير هذه الدواب مما يهدى إليه العلم وتستنبطه العقول كالقطر البرية والبحرية والطائرات التي تحمل أمتعتكم وتركبونها من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر ، والمطاود الهوائية التي تسير فى الجو والغواصات التي تجرى تحت الماء إلى نحو أولئك مما تعجبون منه ، ويقوم مقام الخليل والبغال والحمير فى الركوب والزينة.

٥٧

وبعد أن شرح سبحانه دلائل وحدانيته أرشد إلى أنه كفيل ببيان الطريق السوي لمن أراده فقال :

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي وعلى الله بيان الطريق المستقيم الموصّل من ملكه إلى الحق ، بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضلّ عليها.

ونحو الآية قوله : «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» وقوله «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ».

(وَمِنْها جائِرٌ) أي ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة ، معوج زائغ عن الحق ؛ فالسبيل القاصد هو الإسلام ، والجائر منها هو غيره من الأديان الأخرى ، سماوية كانت أو أرضية.

وخلاصة هذا ـ إن ثمة طرقا تسلك للوصول إلى الله ، وليس يصل إليه منها إلا الطريق الحق ، وهى الطريق التي شرعها ورضيها وأمر بها ، وهى طريق الإسلام له والإخبات إليه وحده كما أرشد إلى ذلك بقوله : «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» وما عداها فهو جائر ، وعلى الله بيان ذلك ، ليهتدى إليه الناس ، ويبتعدوا عن سواه.

ثم أخبر سبحانه بأن الهداية والضلال بقدرته ومشيئته فقال :

(وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي ولو شاء سبحانه لجعلكم كالنمل والنحل فى حياتكم الاجتماعية ، أو جعلكم كالملائكة مفطورين على العبادة وتقوى الله ، فلا تتجه نفوسكم إلى المعصية ، ولا تسعى إلى الشر ، ولكنه شاء أن يجعلكم تعملون أعمالكم باختياركم وتسعون إليها بعد بحثها وفحصها من سائر وجوهها ، ثم ترجّحون منها ما تميل إليه نفوسكم ، وما ترون فيه الفائدة لكم كما قال عزمن قائل : «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ

٥٨

طريقى الخير والشر ـ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» وقد تقدم إيضاح هذا عند قوله : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» وعند قوله : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

وبعد أن ذكر نعمته عليهم بتسخير الدواب والأنعام ـ شرع يذكر نعمته عليهم فى إنزال المطر فقال :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) أي إن الذي خلق لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم ومصالحكم ـ هو الذي أنزل المطر من السماء عذبا زلالا تشربون منه وتسقون أشجاركم ونباتكم التي تسيمون فيها أنعامكم وفيها ترعى.

(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ينبت لكم بالماء الذي أنزله من السماء زرعكم وزيتونكم ونخيلكم وأعنابكم ومن كل الثمرات غير ذلك ـ أرزاقا لكم وأقواتا نعمة منه عليكم وحجة على من كفر به.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر من إنزال الماء وغيره. لأدلة وحججا على أنه لا إله إلا هو ، لقوم يعتبرون مواعظ الله ويتفكرون فيها حتى تطمئن قلوبهم بها ، وينبلج نور الإيمان فيها ، فيضيء أفئدتهم ويزكّى نفوسهم ، فمن فكّر فى أن الحبة والنواة تقع فى الأرض وتصل إليها نداوة منها تنفذ فيها ، فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط فى الأرض ويخرج منها ساق ينمو وتخرج فيه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطباع ـ علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شىء فى صفات كماله فضلا عن أن يشاركه فى أخص صفاته وهى الألوهية واستحقاق العبادة.

٥٩

ولله در القائل :

تأمّل فى رياض الورد وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات

على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأنّ الله ليس له شريك

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) أي ومن نعمه تعالى عليكم مضافة إلى النعم التي سلف ذكرها ـ أن سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان ، خلفة لمنامكم واستراحتكم ، وتصرفكم فى معايشكم وسعيكم فى مصالحكم وسخر لكم الشمس والقمر يدأبان فى سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة ، وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزرع وإنضاج الثمرات وتلوينها إلى نحو ذلك من الآثار والمنافع التي ربطها سبحانه بوجودهما ، وبهما يعرف عدد السنين والشهور ، وفى ذلك صلاح معايشكم ، وسخر لكم النجوم بأمره تجرى فى أفلاكها بحركة مقدّرة لا تزيد ولا تنقص لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك التسخير لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله ويفهمون ما نبههم إليه بها.

وعبر هنا بالعقل وفى خاتمة الآية السالفة بالتفكر ، من قبل أن الآثار العلوية متعددة ، ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية ظاهرة لا تحتاج إلا إلى العقل من غير تفكر ولا تأمل ، بل تدرك بالبديهة ، بخلاف الآثار السفلية من الزرع والنخيل والأعناب فهى تحتاج فى دلالتها على وجود الصانع إلى فكر وتدبر ونظر شديد.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي وما خلق لكم فى الأرض من عجائب الأمور ومختلف الأشياء ، من معادن ونبات وحيوان على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها وخواصها.

٦٠