تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) آلاء الله ونعمه فيشكرونه على ما أنعم ، ويخبتون إليه على ما تفضل به وأحسن.

وبعد أن ذكر أنواع النعم فى البر شرع يفصّل نعمه فى البحر فقال :

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) أي وهو الذي سخر لكم البحر ـ الماء الملح والعذب ـ لتأكلوا منه سمكا تصطادونه.

وفى وصفه بالطراوة تنبيه إلى أنه ينبغى المسارعة إلى أكله ، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير ، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ، فسبحان الخبير بخلقه ، ومعرفة ما يضر استعماله وما ينفع ، وفيه أيضا إيماء إلى كمال قدرته تعالى فى خلقه الحلو الطري فى الماء الذي لا يشرب.

وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء ، وهو الذي يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه ، لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلّم : «ما نضب عنه الماء فكلوا ، وما لفظه فكلوا ، وماطفا فلا تأكلوا» فالمراد من ميتة البحر فى الحديث «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه لا مامات فيه من غير آفة.

(وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كاللؤلؤ المخلوق فى صدفه العائش فى البحار ولا سيما المحيط الهندي ، والمرجان الذي ينبت فى قيعانها ، وتوجد حقول من المرجان فى البحر الأبيض المتوسط أمام تونس والجزائر ، متى تم ينعها حصدتها الدولة الفرنسية وباعتها للمسلمين وهم لا يعلمون شيئا من أمرها ، وكأنهم لم يقرءوا القرآن وكأنهم لم يخلقوا فى هذه الأرض ، وكأنهم يقولون : ربنا لا نستخرج ، بل نشترى من المستخرجين من الأرض ، وكأنهم ليسوا مخاطبين بالاستخراج المباح ، وبذا حرّموا على أنفسهم ما أباحه الله لهم ، وقد بلغ ما استخرج من المرجان سنة ١٨٨٦ م ٧٧٨ ألف كيلو جرام ثمنها خمسة ملايين وسبعمائة وخمسون ألف فرنك.

(وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) أي وترى السفن جوارى فيه ، تشقّه بحيزومها ومقّدمها. مقبلة مدبرة من قطر إلى قطر ومن بلد إلى آخر ، ومن إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك إلى هنا ، وما هنا إلى هناك ومن ثم قال :

٦١

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتطلبوا فضل الله ورزقه بركوبه للتجارة.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم ، إذ جعل ركوب البحر مع كونه مظنة للهلاك سببا للانتفاع وحصول المعاش مع عدم الحاجة إلى الحل والترحال والاستراحة والسكون ، ولله در القائل :

وإنا لفى الدنيا كركب سفينة

نظنّ وقوفا والزمان بنا يسرى

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وألقى فى الأرض جبالا ثوابت لتقرّ ولا تضطرب بما عليها من الحيوان ، فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك كما قال : «وَالْجِبالَ أَرْساها» وما الأرض إلا كسفينة على وجه الماء ، فإذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى الأسباب ، وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة استقرت على حال واحدة ، فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت ، وقد تقدم إيضاح هذا وسيأتى بعد.

(وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا تجرى من مكان إلى آخر رزقا للعباد ، فهى تنبع فى مواضع وهى رزق لأهل مواضع أخرى ، فهى تقطع البقاع والبراري وتخترق الجبال والآكام حتى تصل إلى البلاد التي سخّر لأهلها أن تنتفع بها كما يشاهد فى نهر النيل ، إذ ينبع من أواسط إفريقيّة ، ويمر بجبال ووهاد فى السودان ، ويستفيد منه الفائدة الكبرى أهل مصر دون سواها ، وكل ذلك بتقدير اللطيف الخبير.

(وَسُبُلاً) أي وكذلك جعل فيها سبلا أي طرقا نسلك فيها من بلاد إلى أخرى ، وقد تحدت ثلمة فى الجبل لتكون ممرا طريقا وكما قال تعالى فى وصف الجبال : «وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً» الآية.

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون.

(وَعَلاماتٍ) أي وجعل فيها علامات أي دلائل يهتدى بها الساري من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك ، حتى إذا ضل الطريق كانت عونا له ، وهدته إلى السبيل السوي فى البر والبحر.

٦٢

(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) بالليل فى البراري أو فى البحار.

وفى الآية إيماء إلى أن مراعاة النجوم أصل فى معرفة الأوقات والطرق والقبلة ، ويحسن أن نتعلم من علم الفلك ما يفيد تلك المعرفة.

قال قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء : لتكون زينة للسماء ، ومعالم للطرق ، ورجوما للشياطين ، فمن قال غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

تفسير المفردات

المراد بمن يخلق : الله سبحانه وتعالى ، ومن لا يخلق : الملائكة وعيسى والأصنام ، وما يشعرون : أي لا يعلمون ، وأيان : كمتى كلمتان تدلان على الزمن ، لا جرم : أي حقا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الدلائل على وجود الإله القادر الحكيم على أحسن ترتيب وأكمل نظام ، وكان فى ذلك تفصيل وإيضاح لأنواع النعم ووجوه الإحسان ـ قفىّ على ذلك بتبكيت الكفار وإبطال شركهم وعبادتهم غير الله من الأصنام والأوثان ،

٦٣

لما يلزم ذلك من المشابهة بينه تعالى وبينها ، ثم أردف ذلك بيان أن لهذا الخالق نعما لا تحصى على عباده ، وأنهم مهما بالغوا فى الشكر ، واجتهدوا فى العبادة ، فليسوا ببالغين شيئا مما يجب عليهم نحوه ، ولكنه يستر عليهم ما فرط من كفرانها ، ويرحمهم بفيض النعم عليهم مع عدم استحقاقهم لها ، ثم أعقب هذا بذكر خواص الألوهية وهى علم السر والنجوى والخلق وهذه الأصنام ليس لها شىء من ذلك ، فهى مخلوقة لا خالقة ، ولا شعور لها بحشر ولا نشر ، ومن هذا كله يعلم أن الإله واحد لا شريك له ، ثم ذكر الأسباب الداعية إلى الإشراك ، وهى تحجّر القلوب وإنكار التوحيد ، فهى لا ترغب فى الثواب ، ولا ترهب العقاب ، وتستكبر عن عبادة الواحد الديان ـ لا جرم بقيت مصرّة على ما كانت عليه من الجهل والضلال.

الإيضاح

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي أفمن يخلق هذه الخلائق العجيبة التي عددناها عليكم وينعم هذه النعم العظيمة ـ كمن لا يخلق شيئا ولا ينعم نعما صغيرة ولا كبيرة ، أفلا تذكرون هذه النعم وهذا السلطان العظيم والقدرة على ما شاء من الحكمة ، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها ، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعا ، ولا تدفع ضرا ، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه من عبادتها ، وإقراركم لها بالألوهية.

وخلاصة هذا ـ الإنكار عليهم ورميهم بالجهل وسوء التقدير وقلة الشكر لمن أنعم عليهم بما لا يحصى من النعم ، مع وضوح ذلك وقلة احتياجه إلى تدبر وتفكر وإطالة نظر ، بل يكفى فيه تنبه العقل ، ليعلم أن العبادة لا تليق إلا للنعم بكل هذه النعم ، أما هذه الأصنام التي لا فهم لها ولا قدرة ولا اختيار ، فلا تنبغى عبادتها ولا الاشتغال بطاعتها.

قال قتادة فى الآية : الله هو الخالق الرازق ، لا هذه الأوثان التي تعبد من دون الله ، لا تخلق شيئا ولا تملك لأهلها ضرا ولا نفعا اه.

٦٤

وبعد أن نبههم سبحانه إلى عظمته ذكّرهم بنعمه عليهم وإحسانه إليهم فقال :

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي وإن تعدوا نعم الله لا تضبطوا عددها فضلا عن أن تستطيعوا القيام بشكرها ، فإن العبد مهما أتعب نفسه فى طاعته ، وبالغ فى شكران نعمه ، فإنه يكون مقصرا ، فنعم الله كثيرة ، وعقل المخلوق قاصر عن الإحاطة بها ، ومن ثم فهو يتجاوز عن ذلك التقصير ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) فيستر عليكم تقصيركم فى القيام بشكرها.

(رَحِيمٌ) بكم فيقيض عليكم نعمه مع استحقاقكم للقطع والحرمان ، بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان ، ومن أفظع ذلك وأعظمه جرما المساواة بين الخالق والمخلوق.

قال بعض الحكماء : إن أىّ جزء من البدن إذا اعتراه الألم نغّص على الإنسان النعم ، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت فى ملكه حتى يزول عنه ذلك الألم ، وهو سبحانه يدبّر جسم الإنسان على الوجه الملائم له ، مع أنه لا علم له بوجود ذلك ، فكيف يطيق حصر نعمه عليه أو يقدر على إحصائها ، أو يتمكن من شكر أدناها؟.

ربنا هذه نواصينا بيدك ، خاضعة لعظم نعمك ، معترفة بالعجز عن تأدية الشكر لشىء منها ، لا نحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ، ولا نطيق التعبير بالشكر لك ، فتجاوز عنا ، واغفر لنا ، وأسبل ذيول سترك على عوراتنا ، فإنك إلا تفعل نهلك ، لتقصيرنا فى شكر نعمك ، فكيف بما فرط منا من التساهل فى الائتمار بأوامرك ، والانتهاء عن مناهيك؟

العفو يرجى من بنى آدم

فكيف لا يرجى من الربّ اه

وبعد أن أبطل عبادة لأصنام ، من قبل أنها لا قدرة لها على الخلق والإنعام ، أبطل عبادتها بوجه آخر وهو أن الإله يجب أن يكون عليما بالسر والعلانية ، وهذه الأصنام جماد لا معرفة لها بشىء فكيف تجمل عبادتها؟ وإلى ذلك أشار بقوله :

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي والله يعلم ما تسرونه فى ضمائركم ، وتخفونه عن غيركم ، وما تبدونه بألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم ، وهو محص ذلك كله عليكم

٦٥

فيجازيكم به يوم القيامة ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء منكم بإساءته ، وهو سائلكم عما كان منكم من الشكر فى الدنيا على النعم التي أنعمها عليكم فيها ، ما أحصيتم منها وما لم تحصوا.

ثم وصف سبحانه هذه الأصنام بصفات تجعلها بمعزل عن استحقاق العبادة تنبيها إلى كمال حماقة المشركين وأنهم لا يفهمون ذلك إلا بالتصريح دون التلويح فقال :

(١) (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي والأوثان التي تعبدونها من دون الله لا تخلق شيئا بل هى مخلوقة ، فكيف يكون إلها ما يكون مصنوعا ، وغيره هو الذي دبّر وجوده ؛ ونحو الآية قوله : «أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ».

(٢) (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي هى أموات ولا تعتريها الحياة بوجه ، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ، وفائدة قوله غير أحياء بيان أن بعض ما لا حياة فيه قد تدركه الحياة بعد كالنطفة التي ينشئها الله تعالى حيوانا ، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها ، أما هذه الأصنام من الحجارة والأشجار فلا يعقب موتها حياة وذلك أتم فى نقصها.

(٣) (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما تدرى هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله متى تبعث عبدتها.

ولا يخفى ما فى ذلك من التهكم بها ، لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة لدى كل أحد ، فكيف بما لا يعلمه إلا العيم الخبير ؛ كما أن فيه تهكما بالمشركين من قبل أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم ، وفيه تنبيه إلى أن البعث من لوازم التكليف ، لأنه جزاء على العمل من خير أو شر ، وأن معرفة وقته لا بد منه فى الألوهية.

ولما أبطل طريق عبدة الأصنام وبين فساد مذهبهم صرح بالمدّعى ولخص النتيجة بعد إقامة الحجة فقال :

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي معبودكم الذي يستحق العبادة وإفراد الطاعة له دون

٦٦

سائر الأشياء ـ معبود واحد لا تصلح العبادة إلا له ، فأفردوا له الطاعة ، وأخلصوا له العبادة ، ولا تجعلوا معه شريكا سواه.

ثم ذكر الأسباب التي لأجلها أصر الكفار على الشرك وإنكار التوحيد فقال :

(فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي فالذين لا يصدقون بوعد الله ولا وعيده ، ولا يقرون بالمعاد إليه بعد الممات ـ قلوبهم جاحدة لما قصصناه عليكم ، من قدرة الله وعظمته ، وجزيل نعمه عليهم ، وأن العبادة لا تصلح إلا له ، والألوهية ليست لشىء سواه ، فلا يؤثر فيها وعظ ، ولا ينجع فيها تذكير ؛ وهم مستكبرون عن قبول الحق ، متعظّمون عن الإذعان للصواب ، مستمرون على الجحد ، تقليدا لما مضى عليه آباؤهم من الشرك به كما حكى سبحانه عنهم قولهم : «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وقولهم : «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» وقال : «وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ».

ثم ذكر وعيدهم على أعمالهم فقال :

(لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي حقا إن الله يعلم ما يسر هؤلاء لمشركون من إنكارهم لما قصصته عليك واستكبارهم على الله ، ويعلم ما يعلنون من كفرهم به ، وافترائهم عليه.

ثم علل سوء صنيعهم بشدة استكبارهم فقال :

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) أي إن الله لا يحب المستكبرين عن توحيده ، والاستجابة لأنبيائه ورسله ، بل يبغضهم أشد البغض ، وينتقم منهم أعظم الانتقام.

أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل

٦٧

النار من كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فقال رجل : يا رسول الله ، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر من بطر الحق ، وغمص الناس».

وفى الصحيح «إن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة ، تطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم».

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

تفسير المفردات

الأساطير : واحدها أسطورة كأرجوحة وأراجيح ، وهى الترّهات والأباطيل ، والأوزار : الآثام واحدها وزر ، ساء ما يزرون : أي بئس شيئا يحملونه ، والمكر : صرف غيرك مما يريده بحيلة ، ويراد به هنا مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات ، فأتى الله بنيانهم من القواعد : أي أهلكه وأفناه كما يقال أتى عليه الدهر ، والقواعد :

٦٨

الدعائم والعمد : واحدها قاعدة ، خرّ : سقط ، يخزيهم : يذلهم ويهينهم ، وتشاقون : أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء وأتباعهم فى شأنهم ، وأصله أن كلا من المتخاصمين فى شقّ وجانب غير شق الآخر ، والذين أوتوا العلم : هم الأنبياء ، والسلم : الاستسلام والخضوع ، بلى بمعنى نعم ، والمثوى : مكان الثواء والإقامة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر دلائل التوحيد ونصب البراهين الواضحة على بطلان عبادة الأصنام ، أردف ذلك بذكر شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها ، وبين أنهم ليسوا ببدع فى هذه المقالة ، فقد سبقتهم أمم قبلهم فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، فأهلكهم فى الدنيا ، وسيخزيهم يوم القيامة بما فعلوا ، ثم ذكر أنهم حين يشاهدون العذاب يستسلمون ، ويقولون ما كنا نعمل من سوء ، ولكن الله عليم بهم وبما فعلوا ، ولا مثوى لأمثال هؤلاء المتكبرين إلا جهنم وبئس المثوى هى :

الإيضاح

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين : أي شىء أنزله ربكم؟ قالوا لم ينزل شيئا ، انما الذي يتلى علينا أساطير الأولين أي هو مأخوذ من كتب المتقدمين.

ونحو الآية قوله : حكاية عنهم : «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» وكانوا يفترون على الرسول صلى الله عليه وسلّم أقوالا مختلفة ؛ فتارة يقولون إنه ساحر ، وأخرى إنه شاعر أو كاهن ، وثالثة إنه مجنون ، ثم قر قرارهم على ما اختلقه زعيمهم الوليد بن المغيرة المخزومي كما حكى عنه الكتاب الكريم : «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» أي ينقل ويحكى ، فتفرقوا معتقدين

٦٩

صحة قوله ، وصدق رأيه ، قبّحهم الله ، وكان المشركون يقتسمون مداخل مكة ينفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سألهم وفود الحاج ، ويقولون هذه المقالة.

ثم بين عاقبة أمرهم فقال :

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي وإنما قدّرنا عليهم أن يقولوا ذلك ، لتكون عاقبتهم أنهم يتحملون آثامهم وآثام الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم فى أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم وإضلالهم لغيرهم واقتدائهم بهم كما جاء فى الحديث «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».

ونحو الآية قوله تعالى «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» والمراد من قوله (كاملة) أنه لا ينقص منها شىء ولا يكفّر بنحو نكبة تصيبهم فى الدنيا ، ولا طاعة مقبولة تكفّر بعض تلك الأوزار كما هو حال المؤمنين.

وفائدة قوله بغير علم ـ بيان أنهم يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال وأنهم على الباطل ، وفى ذلك تنبيه إلى أن كيدهم لا يروج على ذى لب ، وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء ، وزيادة تعيير وذم لهم ، إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم.

وقصارى القول ـ إن هؤلاء قد دنّسوا أنفسهم ، واختاروا لها الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وللمسليمن ، فكانوا السبب فيما احتملوه من الأوزار والآصار ، كما كانوا واسطة فى تحمل من اتّبعوهم هذه الأوزار أيضا ، والله تعالى لم يظلهم فيما جازاهم به ، بل هم الذين قسطوا وجاروا على أنفسهم ، فاستحقوا هذا الجزاء.

ثم هددهم وتوعدهم فقال :

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي بئس شيئا يرتكبونه من الإثم والذنب ما يفعلون.

٧٠

ثم بين لهم أن غائلة مكرهم عائدة إليهم ، ووبال ذلك لاحق بهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم من العذاب ما أصابهم بتكذيبهم لرسلهم فقال :

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي إن حال من قبلهم وقد دبروا الحيل ونصبوا الحبائل ليمكروا بها رسل الله فأبطلها الله وجعلها سبيلا لهلاكهم ، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين ، فضعضعت أساطينه ، وسقط عليهم السقف ، فهلكوا تحته من حيث لا يشعرون بسقوطه ـ فما نصبوه من الأساطين وظنوه سبب القوّة والتحصين فى البنيان صار سبب الهلاك ، كذلك هؤلاء كانت عاقبة مكرهم وبالا عليهم. ونحو الآية قولهم فى المثل : من حفر لأخيه جبّا ، وقع فيه منكبّا.

وخلاصة ذلك ـ إن الله أحبط أعمالهم وجعلها وبالا عليهم ونقمة لهم.

وبعد أن بين سبحانه ما حل بأصحاب المكر فى الدنيا من العذاب والهلاك ، بين حالهم فى الآخرة فقال :

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي ثم إن ربك يوم القيامة يخزيهم بعذاب أليم ، ويقول لهم حين ورودهم عليه على سبيل الاستهزاء والسخرية : أين الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم شركائى ، وهلا تحضرونهم اليوم ليدفعوا عنكم ما يحل بكم من العذاب ، فقد كنتم تعبدونهم فى الدنيا وتتولّونهم ، والولىّ ينصر وليّه.

والمراد من المشاقة فيهم مخاصمة الأنبياء وأتباعهم فى شأنهم وزعمهم أنهم شركاء حقا حين بيّنوا لهم ذلك ، والمراد بالاستفهام عن ذلك الاستهزاء والتبكيت والاحتقار لشأنهم ، إذ كانوا يقولون : إن صح ما تدعون إليه من عذابنا فالأصنام تشفع لنا.

والخلاصة ـ إنه لا شركاء ولا أماكن لهم.

ثم ذكر مقال الأنبياء والمرسلين فى شأنهم يوم القيامة.

(قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قال الذين

٧١

أوتوا العلم بدلائل التوحيد وهم الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنون الذين كانوا يدعونهم فى الدنيا إلى دينهم ، فيجادلون وينكرون عليهم : إن الذل والهوان والعذاب يوم الفصل على الكافرين بالله وآياته ورسله ـ ومرادهم بهذه المقالة الشماتة وزيادة الإهانة للكافرين ثم بين أن الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب هم الذين استمر كفرهم إلى أن تتوفاهم الملائكة وهم ظالموا أنفسهم فقال :

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي الكافرين الذين تقبض ملائكة الموت أرواحهم وهم ظالموا أنفسهم ومعرّضوها للعذاب المخلّد بكفرهم ، وأي ظلم للنفس أشد من الكفر؟

ثم ذكر حالهم حينئذ من الخضوع والمذلة فقال :

(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي فاستسلموا وانقادوا حين عاينوا العذاب قائلين : ما كنا نشرك بربنا أحدا ، وهم قد كذبوا على ربهم واعتصموا بالباطل رجاء النجاة.

ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم : «وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ».

ثم أكذبهم سبحانه فيما قالوا فقال :

(بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بل كنتم تعملون أعظم السوء وأقبح الآثام والله عليم بذلك ، فلا فائدة لكم فى الإنكار والله مجازيكم بأفعالكم.

ثم بين ما يترتب على قبيح أفعالهم فقال :

(فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فادخلوا طبقات جهنم ، وذوقوا ألوانا من العذاب ، بما دنستم به أنفسكم من الإشراك بربكم ، واجتراحكم عظيم الموبقات والمعاصي ـ خالدين فيها أبدا ، وبئس المقيل والمقام دار الذل والهوان لمن كان متكبرا عن اتباع الرسل والاهتداء بالآيات التي أنزلت عليهم ، وما أفظعها من دار ، وصفها ربنا بقوله : «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها»

٧٢

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أحوال المكذبين بالله ورسوله الذين ينكرون وحيه ويقولون إن محمدا قد لفق أساطير الأولين وترّهاتهم ونقلها للناس ، وادّعى أنها من رب الأرض والسموات ، وذكر ما سينالهم من النكال والوبال ، إذ يدخلون جهنم خالدين فيها كفاء ما اجترحت أيديهم من الآثام وكسبته من المعاصي ـ أردف ذلك وصف المؤمنين الذين إذا سئلوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ، وذكر ما أعدّه لهم من الخير والسعادة فى جنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما أحسنوا من العمل وأتوا به من جميل الصنع.

الإيضاح

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا خَيْراً) أي وقيل للذين خافوا عقاب ربهم : أىّ شىء أنزله ربكم؟ قالوا أنزل خيرا وبركة ورحمة لمن اتبع دينه وآمن برسوله.

روى ابن أبى حاتم عن السّدّى قال : اجتمعت قريش فقالوا إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله ، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم ، فابعثوهم فى كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين ، فمن جاء يريده فردوه عنه ، فخرج ناس فى كل طريق ، فكان إذا أقبل

٧٣

الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد ، ووصل إليهم قال أحدهم أنا فلان بن فلان فيعرّفه نسبه ويقول له : أنا أخبرك عن محمد. إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيهم ، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له ، فيرجع الوافد ، فذلك قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد فقالوا له مثل ذلك ، قال : بئس الوافد لقومى إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول ، وآتى قومى ببيان أمره ، فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد؟ فيقولون خيرا.

ثم فضلوا هذا الخير فقالوا :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي للذين آمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فى هذه الدنيا ، ودعوا عباده إلى الإيمان والعمل بما أمر به ـ مثوبة حسنة من عند ربهم ، كفاء ما قدموا من عمل صالح وخير عميم.

ونحو الآية قوله : «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».

ثم ذكر جزاءهم فى الآخرة وما أعدّ لهم من جزيل النعم فقال :

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتمّ من الجزاء فى تلك.

ونحو الآية قوله : «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» الآية ، قوله : «وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» وقوله لرسوله :

«وللآخرة خير لك من الأولى».

وفصل هذا الجزاء بقوله :

(وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي ولنعمت

٧٤

الدار للمتقين جنات إقامة تجرى من بين قصورها وأشجارها الأنهار ، حسنت مستقرا ومقاما.

ثم بين أن نعمها غير ممنوعة ولا مقطوعة فقال :

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي للذين أحسنوا فى هذه الدنيا فى جنات عدن ما يشاءون مما تشتهى أنفسهم وتقرّ به أعينهم كما قال : «وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ».

ثم ذكر أن هذا جزاء لهم على أعمال البر والتقوى فقال :

(كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي مثل ذلك الجزاء الأوفى يجزى الله الذين اتقوا الشرك والمعاصي.

وفى هذا حث للمؤمنين على الاستمرار على التقوى ، وحث لغيرهم على تحصيلها.

ثم وصف الله المتقين بقوله :

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) قال الراغب : الطيب من الناس من تعرّى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الخصال ، وتحلّى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال ، وهذا إيضاح لقول مجاهد : الطيب من تزكو أقواله وأفعاله.

وقوله (طَيِّبِينَ) كلمة مختصرة جامعة لكثير من المعاني ، يدخل فيها إتيانهم بكل ما أمروا به ، واجتنابهم كل ما نهوا عنه ، واتصافهم بفضائل الأخلاق وجميل السجايا ، وبراءتهم من ذميم الرذائل ، وتوجههم إلى حضرة القدس ، وعدم اشتغالهم بعالم الشهوات واللذات الجسمانية ، ويتبع ذلك أنه يطيب لهم قبض أرواحهم ، لأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى كأنهم مشاهدوها ، ومن هذه حاله لا يألم بالموت كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ».

٧٥

ثم حكى ما تقوله الملائكة بشرى لهم فقال :

(يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تقول لهم الملائكة :

سلام عليكم ، لا يحيق بكم مكروه بعد ، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم ، ووعد كموها بما قدمتم من عمل ، وبما دأبتم على تقواه وطاعته ، والمراد من قوله (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) البشارة بالدخول فيها بعد البعث إذا أريد الدخول بالأرواح والأبدان ، فإن أريد الدخول بالأرواح فحسب كان ذلك حين التوفى كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلّم «القبر إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار».

أخرج ابن جرير والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال : إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال : السلام عليك يا ولىّ الله ، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة» اه.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

تفسير المفردات

ينظرون : ينتظرون ، وأمر ربك : هو الهلاك وعذاب الاستئصال ، وحاق بهم أي أحاط بهم ، وخص استعمالا بإحاطة الشر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر طعن المشركين فى القرآن بنحو قولهم : إنه أساطير الأولين ، وإنه قول شاعر ، ثم هددهم بضروب من التهديد والوعيد ، ثم أتبعه بالوعد بالثواب لمن صدق به ـ قفّى على ذلك ببيان أن الكفار لا يزدجرون عن أباطيلهم إلا إذا جاءتهم

٧٦

الملائكة قابضة أرواحهم ، أو يأتيهم عذاب الاستئصال ، فلا يبى منهم أحدا ، ثم أتبعه ببيان أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الأمم ، فقد فعل من قبلهم مثل فعلهم فأصابهم الهلاك جزاء ما فعلوا ، وما ظلمهم الله ولكن هم قد ظلموا أنفسهم : «إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم».

الإيضاح

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي ما ينتظر كفار مكة الذين قالوا إن القرآن أساطير الأولين ، إلا أن تأتيهم الملائكة تقبض أرواحهم.

(أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالعذاب فى الدنيا كما فعل بأسلافهم من الكفار ، فيرسل عليهم الصواعق ، أو يخسف بهم الأرض ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وهذا تهديد لهم على تماديهم فى الباطل واغترارهم بالدنيا.

وخلاصة هذا ـ حثهم على الإيمان بالله ورسوله ، والرجوع إلى الحق قبل أن بنزل بهم ما نزل بمن قبلهم من السالفين المكذبين لرسلهم.

ثم ذكر أنهم ليسوا بأول من كذب الرسل فقال :

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي هكذا تمادى أسلافهم فى شركهم حتى ذاقوا بأسنا ، وحل بهم عذابنا ونكالنا.

ثم ذكر أن ما يصيبهم جزاء لما كسبت أيديهم فقال :

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمهم الله بإنزال العذاب بهم ، لأنه أعذر إليهم ، وأقام حججه عليهم ، بإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، ولكن ظلموا أنفسهم بمخالفة الرسل وتكذيبهم ما جاءوا به.

ثم أعقبه بذكر ما ترتب على أعمالهم فقال :

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلهذا أصابتهم

٧٧

عقوبة الله على ما فعلوا ، وأحاط بهم عذابه الأليم ، جزاء ما كانوا يسخرون من الرسل حين توعدوهم بعقابه.

ونحو الآية قوله : «هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ».

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

تفسير المفردات

الطاغوت : كل معبود دون الله ، من شيطان وكاهن وصنم وكل من دعا إلى ضلال ، ويقع على الواحد كقوله «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» وعلى الجمع كقوله : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» حقت : وجبت وثبتت بالقضاء السابق فى الأزل ، لإصراره على الكفر والعناد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن هؤلاء المشركين لا يزدجرون إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد والوعيد ، أو أتاهم عذاب الاستئصال ، كما حدث لمن قبلهم من الأمم جزاء استهزائهم برسل الله ـ قفى على ذلك ببيان أنهم طعنوا فى إرسال الأنبياء جملة وقالوا

٧٨

إنا مجبورون على أعمالنا ، فلا فائدة من إرسالهم ، فلو شاء الله أن نؤمن به ولا نشرك به شيئا ونحل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا لكان الأمر كما أراد ، لكنه لم يشأ إلا ما نحن عليه ، فما يقوله الرسل إنما هو من تلقاء أنفسهم لا من عند الله.

وقد رد الله عليهم مقالهم بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم السالفة ، وما على الرسل إلا التبليغ وليس عليهم الهداية ، ولم يترك الله أمة دون أن يرسل إليها هاديا يأمر بعبادته ، وينهاهم عن الضلال والشرك ، فمنهم من استجاب دعوته ، ومنهم من أضله الله على علم ، فحقت عليهم كلمة ربك ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، ثم أمرهم بالضرب فى الأرض ليروا آثار أولئك المكذبين الذين أخذوا بذنوبهم ، ثم ذكّر رسوله بأن الحرص على إيمانهم لا ينفعك شيئا ، فإن الله لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يختار الضلالة لنفسه ، كما لا يجد أحدا يدفع عنه بأس الله ونقمته.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأصنام والأوثان من دونه تعالى معتذرين عما هم عليه من الشرك محتجين بالقدر : ما نعبد هذه الأصنام إلا لأنه قد رضى عبادتنا لها ، ولا حرّمنا ما حرمنا من البحائر والسوائب والوصائل ونحو ذلك إلا لأنه قد رضى ذلك منا ، ولو كان كارها لما فعلنا لهدانا إلى سواء السبيل ، أو لعجّل لنا العقوبة وما مكننا من عبادتها.

وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله :

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ومثل ذلك الفعل الشنيع فعل الذين من قبلهم من الأمم ، واستن هؤلاء سنتهم وسلكوا سبيلهم فى تكذيب الرسول واتباع أفعال آبائهم الضلّال.

ثم بين خطأهم فيما يقولون ويفعلون فقال :

٧٩

(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فهل على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم من أمره ونهيه إلا إبلاغ الرسالة وإيضاح طريق الحق وإظهار أحكام الوحى التي منها أن مشيئته تعالى تتعلق بهداية من وجّه همته إلى تحصيل الحق كما قال «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» وليس من وظيفتهم إلجاء الناس إلى الإيمان شاءوا أو أبوا ، فإن ذلك ليس من شأنهم ، ولا من الحكمة التي عليها مدار التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثارها على عدم حقية الرسل أو على عدم تعلق مشيئة الله بذلك وقصارى هذا ـ إن الثواب والعقاب لا بد فيهما من أمرين : تعلق مشيئته تعالى بوقوع أحدهما ، وتوجيه همة العبد إلى تحصيل أسبابه وصرف اختياره إلى الدأب على إيجاده ، وإلا كان كل من الثواب والعقاب اضطراريا لا اختياريا ، والرسل ليس من شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي ، أما العمل بها إلجاء وقسرا فليس من وظيفتهم لا فى كثير ولا قليل.

ثم بين سبحانه أن بعثة الرسل أمر جرت به السنة الإلهية فى الأمم كلها وجعلت سببا لهدى من أراد الله هدايته ، وزيادة ضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السرىّ ويقويّه ، ويضر المزاج المنحرف ويفنيه فقال :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي ولقد أرسلنا فى كل أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم رسولا ، فقال لهم : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، واحذروا أن يغويكم الشيطان ويصدكم عن سبيل الله فتضلوا.

ونحو الآية قوله : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» وقوله : «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟».

وإجمال القول ـ إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية ، لأنه تعالى نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله ، والمشيئة الكونية وهى تمكين عباده من الكفر وتقديره لهم

٨٠