تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

وإيراد هذه العبارة بين سابق الكلام ولاحقه ـ إنذار للمشركين وتهديد لهم بما فى مخالفة الأنبياء من عظيم الوبال والنكال ، كما ذكر مثل القرية فيما سلف ، إلى أن فيه حثا على إجابة الدعوة التي تضمنها سابق الكلام وأمروا بها فى لا حقه ، ثم فصل سبحانه ما أمر باتباع إبراهيم فيه فقال :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادع أيها الرسول من أرسلك إليهم ربك بالدعاء إلى شريعته التي شرعها لخلقه بوحي الله الذي يوحيه إليك ، وبالعبر والمواعظ التي جعلها فى كتابه حجة عليهم ، وذكرهم بها فى تنزيله كالذى عدده فى هذه السورة. وخاصمهم بالخصومة التي هى أحسن من غيرها بأن تصفح عما نالوا به عرضك من أذى ، وترفّق بهم بحسن الخطاب ، كما قال فى آية أخرى «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» الآية ، وقال آمرا موسى وهرون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون «فقولا له قولا ليّنا لعلّه يتذكّر أو يخشى».

ثم توعد سبحانه ووعد فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك أيها الرسول هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين فى السبت وغيره ، وأعلم بمن كان منهم سالكا قصد السبيل ومحجة الحق ، وهو مجازيهم جميعا حين ورودهم إليه بحسب ما يستحقون.

وخلاصة ذلك ـ اسلك فى الدعوة والمناظرة الطريق المثلى ، وهى الدعوة بالتي هى أحسن ، وليس عليك غيرها.

أما الهداية والضلال والمجازاة عليهما فإلى الله سبحانه لا إلى غيره ، إذ هو أعلم بحال من لا يرعوى عن الضلال لسوء اختياره ، وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء ، لما ينطوى بين جنبيه من الخير ، فما شرعه لك فى الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة ، وهو كاف فى هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين.

١٦١

ولما أمر الله رسوله بالدعوة وبين طريقها وكانت تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يحمل أكثرهم على إيذاء الداعي إما بقتله أو بضر به أو بشتمه ، كما أن الداعي يدعوه طبعه إلى تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وأخرى بالضرب ، لا جرم أمر سبحانه المحقين برعاية العدل والإنصاف فى العقاب وترك الزيادة فيه فقال :

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) أي وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم فلكم فى العقاب إحدى طريقين :

(١) أن تعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة.

(٢) أن تصبروا وتتجاوزوا عما صدر منه من الذنب ، وتصفحوا عنه ، وتحتسبوا عند الله ما نالكم به من الظلم ، وتكلوا أمركم إليه ، والله يتولى عقوبته ، والصبر خير للصابرين من الانتقام ، لأن الله ينتقم من الظالم بأشد مما كان ينتقم منه لنفسه.

والخلاصة ـ إنكم إن رغبتم فى القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ، فإن الزيادة ظلم ، والظلم لا يحبه الله ولا يرضى به ، وإن تجاوزتم عن العقوبة وصفحتم فذلك خير وأبقى ، والله هو الذي يتولى عقاب الظالم ويأخذ بناصر المظلوم.

ثم أمر رسوله بالصبر صراحة بعد أن ندب إليه غيره تعريضا ، لأنه أولى الناس بعزائم الأمور ، لزيادة علمه بشئونه تعلى فقال :

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي واصبر على ما أصابك منهم من أذى فى الله ، ومن إعراض عن الدعوة ، وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله وحسن توفيقه ، ومشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تنتهى إلى عواقب حميدة.

وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلّم وتهوين لمشاقّ الصبر عليه وتشريف له بما لا مزيد عليه.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي ولا تحزن على إعراض المشركين الذين يكذّبونك وينكرون ما جئتهم به.

١٦٢

(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل بنسبتك إلى السحر والكهانة والشعر احتيالا وخديعة لمن أراد الإيمان بك ، وصدّا عن سبيل الله.

وقصارى ذلك ـ إنه نهى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغهم وحي الله وتنزيله كما قال : «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ» وقال : «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ».

فالله كافيك أذاهم ، وناصرك عليهم ، ومؤيدك ومظهرك عليهم ، فمهما حاولوا إيصال الأذى بك ، فإن الله مبعده عنك ، ومحبط ما صنعوا وهم لا يشعرون.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أي إن الله مع الذين اتقوا محارمه فاجتنبوها خوفا من عقابه ، والذين يحسنون رعاية فرائضه ، والقيام بحقوقه ، ولزوم طاعته فيما أمرهم به ، وفى ترك ما نهاهم عنه.

ونحو الآية قوله لموسى وهرون : «لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» وقول النبي صلى الله عليه وسلّم للصدّيق وهما فى الغار فيما حكى الله عنه : «لا تحزن إنّ الله معنا».

وقصارى ذلك ـ إن الله تعالى ولىّ الذين تبتّلوا إليه ، وأبعدوا الشواغل عن أنفسهم ، فلم يحزنوا لفوت مطلوب ، ولم يفرحوا لنيل محبوب ، والذين هم محسنون أعمالهم برعاية فرائضه وأداء حقوقه على النحو اللائق بجلاله وكماله ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان فقال : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

والله نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل ، وأن يوفقنا للفقه فى دينه ، ويفتح لنا خزائن أسراره ، بحرمة كتابه ، وكنوز شريعته التي أنزلها على رسوله النبي الأمى ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين :

١٦٣

مجمل ما حوته السورة الكريمة من الآداب والأحكام

(١) استعجال المشركين للساعة.

(٢) ذكر الأدلة على التوحيد بخلق العالم العلوي والسفلى وخلق الإنسان.

(٣) الامتنان على عباده بخلق الأنعام وما فيها من المنافع من أكل وحمل أثقال إلى البلاد البعيدة.

(٤) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان.

(٥) إنذار المشركين بأن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات وبما آتاهم من العذاب من حيث لا يشعرون.

(٦) احتجاج المشركين بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل بأن ما هم فيه من كفر وضلال مقدر مكتوب عليهم ، فلا فائدة فى إرسالهم ، وقد ردّ الله عليهم بأن وظيفة الرسل البلاغ والإنذار لا خلق الهداية والإيمان.

(٧) إجمال دعوة الأنبياء بأنها عبادة الله واجتناب الطاغوت ، ومن الناس من استجاب لدعوتهم ومنهم من حقت عليه الضلالة.

(٨) إنكار المشركين للبعث والنشور وحلفهم على ذلك ، وتكذيب الله لهم فيما يقولون.

(٩) إنكارهم بعث محمد صلى الله عليه وسلّم بأنه رجل لا ملك ، فكذبهم الله بأن الأنبياء جميعا كانوا رجالا لا ملائكة.

(١٠) إنذار المشركين بعذاب الخسف.

(١١) جعلهم الملائكة بنات مع حزنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى.

(١٢) رحمة الله بعباده وعدم مؤاخذتهم بذنوبهم ، وأنه لو آخذهم ما ترك على ظهر الأرض دابة.

(١٣) ذكر نعمه على عباده بإنزال اللبن من بين الفرث والدم ، وأخذ الثمرات من النخيل والأعناب والعسل من النحل.

١٦٤

(١٤) تفاضل الناس فى الأعمار والأرزاق.

(١٥) ضرب الأمثال لدحض الشركاء والأنداد من دون الله.

(١٦) الامتنان على عباده بخلق السمع والبصر وتسخير الطير فى جو السماء وجعل البيوت سكنا ، وجعله لنا سرابيل تقى الحر وسرابيل تقى بأس العدو.

(١٧) جعل الأنبياء شهداء على أممهم وعدم الإذن للكافرين فى الكلام وعدم قبول معذرتهم.

(١٨) الأمر بالعدل والإحسان وصلة الأرحام ، والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، والأمر بالوفاء بالعهود والوعود وضرب الأمثال لذلك.

(١٩) الأمر بالاستعاذة من الشيطان وبيان أن سلطانه على المشركين.

(٢٠) تكذيبهم للرسول إذا جاءهم بحكم لم يكن فى شريعة من قبله من الأنبياء وادعاؤهم بأن هذا القرآن إنما هو تعليم من عبد رومى ورد الله عليهم ذلك.

(٢١) إنه لا ضير على من كفر بالله وقلبه مطمئن بالإيمان دون من شرح بالكفر صدرا.

(٢٢) دفاع كل نفس عن نفسها يوم القيامة وجزاء كل نفس بما عملت.

(٢٣) ذكر ما حرمه الله من المطاعم والنهى عن تقوّلهم على الله بغير علم.

(٢٤) ذكر ما حرمه على اليهود بسبب ظلمهم.

(٢٥) مدح إبراهيم عليه السلام ووصفه بصفات لم يوصف بها نبى غيره ، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلّم باتباعه وسلوك طريقته فى العقاب والصبر على الأذى.

وقد انتهى تصنيف. هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة عصر يوم الأربعاء الثلاثين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من هجرة سيد ولد عدنان.

١٦٥

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

صلح أول هذه الأمة بالزهد واليقين يهلك آخرها بالبخل والأمل...................... ٦

اتهامهم الرسول بالجنون........................................................... ٧

الله نزل كتابه وتكفل بحفظه....................................................... ٩

ما أرسل رسول إلا استهزأ به قومه............................................... ١٠

أراد الشياطين أن يختطفوا شيئا من أخبار الغيب فأحرقتهم الشهب المشتعلة........... ١٢

الأدلة الكونية على وحدانية الله.................................................. ١٤

إرسال الرياح لواقح لم يعرف إلا حديثا.......................................... ١٧

حجاج إبليس عن امتناعه عن السجود ، وفيه ضروب من الجهالة.................... ٢٢

تهديده سبحانه لإبليس.......................................................... ٢٣

ما أعد للمتقين من جنات النعيم................................................. ٢٥

ضيف إبراهيم................................................................. ٢٧

بشارة إبراهيم بإسحاق......................................................... ٣٣

مقالة لوط لقومه............................................................... ٣٧

أرسل الله على قوم لوط ثلاثة ألوان من العذاب.................................... ٣٨

ضروب الفراسة................................................................ ٣٩

نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن تمنى زينة الحياة الدنيا.......................... ٤٥

أمره صلى الله عليه وسلّم بالجهر بالدعوة.......................................... ٤٧

المستهزءون بالرسول والقرآن.................................................... ٤٨

١٦٦

دلالة المصنوع على الصانع...................................................... ٥٥

فوائد الأنعام................................................................... ٥٦

لله نعم فى البحر كما له نعم فى البر............................................... ٦١

فوائد النجوم................................................................... ٦٣

فى عبادة الأصنام ضروب من الحماقة............................................. ٦٦

ذكر شبهات من أنكروا النبوات................................................. ٦٩

من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبا................................................ ٧١

المشركون ليسوا ببدع فى الأمم.................................................. ٧٧

الرسول مبلغ وليس بمسيطر...................................................... ٨٠

قالوا هب الله أرسل رسولا فلن يكون بشرا....................................... ٨٨

آثار قدرته سبحانه............................................................. ٩٠

العوام يفعلون اليوم ما تقشعر منه الأبدان.......................................... ٩٣

قالت خزاعة : الملائكة بنات الله................................................. ٩٦

وأد البنات خوف الفقر والعار................................................... ٩٧

كيف يتكون اللبن فى الضرع.................................................. ١٠٣

معيشة النحل فى الخلايا........................................................ ١٠٤

ما أثبته الطب الحديث من الفوائد للعسل........................................ ١٠٦

الأعمار والأرزاق............................................................. ١٠٨

ضرب الأمثال وفوائده........................................................ ١١٣

منن الله على عباده............................................................ ١٢١

الرسل شهداء على أممهم...................................................... ١٢٥

الأصنام تتبرأ من عبدتها يوم القيامة.............................................. ١٢٦

١٦٧

الهداية والضلال على مقدار استعداد النفوس للصلاح والغواية...................... ١٣٠

ليس من خلق حسن إلا أمر به الله.............................................. ١٣١

الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك........................................... ١٣٢

الوفاء بالعهد................................................................. ١٣٣

ناقضة الغزل من بعد قوة...................................................... ١٣٤

المؤمن يحيا حياة طيبة تصحبها القناعة........................................... ١٣٨

قالوا ما جاء به محمد هو من تعليم البشر........................................ ١٤٣

من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان....................................... ١٤٥

أول من أظهر الإسلام......................................................... ١٤٧

من هاجر وتاب من بعد ما فتن................................................. ١٤٩

مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة.............................................. ١٥٠

ما حرم من المآكل............................................................ ١٥٣

ما مدح به إبراهيم من صفات الكمال.......................................... ١٥٨

أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم............................... ١٦٠

شرع الدين إحدى طريقين فى العقاب.......................................... ١٦٢

مجمل ما حوته سورة النحل من الحكم والآداب.................................. ١٦٤

١٦٨