تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

إلا الظلال بقوله ، وجعل لكم مما خلق ظلالا ، ثم بما لا بد منه لكل أحد بقوله :

وجعل لكم سرابيل إلخ ، ثم بما لا غنى عنه فى الحروب بقوله : وسرابيل تقيكم بأسكم.

الإيضاح

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) أي والله الذي جعل لكم من بيوتكم التي هى من الحجر والمدر مسكنا تقيمون فيه وأنتم فى الحضر.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) أي وجعل لكم قبابا وفساطيط من شعر الأنعام وأصوافها وأوبارها ، تستخفون حملها يوم ترحالكم من دوركم وبلادكم وحين إقامتكم بها.

(وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أثاثا لبيوتكم تكتسون به وتستعملونه فى الغطاء والفراش ، ومتاعا من مال وتجارة إلى أجل مسمى ، وهو حين نقضاء آجالكم.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) أي ومن نعمه تعالى عليكم أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالا تستظلون بها من شديد الحر.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أي وجعل لكم من الجبال مواضع تستكنون فيها كالمغارات والكهوف ونحوها.

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي وجعل لكم ثيابا من القطن والكتان والصوف ونحوها ، تقيكم الحر الشديد الذي فى بلادكم وهو مما يذيب دماغ الضبّ حين حمارّة القيظ.

(وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي وجعل لكم دروعا وجواشن تقيكم بأس السلاح وأذاه حين الحرب وحين يتقدم القرن إلى قرنه للمصاولة والطعن والضرب والرمي بالنبال.

١٢١

تنبيه ـ لما كانت بلاد العرب شديدة الحر وحاجتهم إلى الظل ألزم ، ذكر هذا فى معرض النعم العظيمة ، إلى أن ما يقى من الحريقى من البرد أيضا فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر.

قال الشهاب الخفاجي فى الريحانة : فى الآية نكتة لطيفة لم ينبّهوا عليها ، وهى أنه إنما اقتصر على الحر لأنه أهم هنا لما عرف من غلبة الحر على ديار العرب ، ثم إن ما يقى الحر يحصل به برودة فى الهواء فى الجملة ، فوقاية الحر إنما هى لتحصيل البرد ، وهذا فيه من اللطف ما هو ألطف من النسيم ، فلله در التنزيل فكم فيه من أسرار لا تتناهى ا ه.

(كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي كما خلق هذه الأشياء لكم ، وأنعم بها عليكم ، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم ، ويجعلكم ملوكا وأمراء فيما تفتحون من البلاد والأصقاع ، ويجعل رائدكم فيما تعملون وجه الله وإصلاح الأمم والشعوب كما قال : «وعد الله الّذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم فى الأرض».

(لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أي توقعا للنظر فيما أسبغ عليكم من النعم ، فتعرفون حق المنعم بها ، فتؤمنون به وحده ، وتذرون ما أنتم به مشركون ، فتسلمون من عذابه ، فإن العاقل إذا أسدى إليه المعروف شكر من أنعم به عليه كما قال المتنبي :

وقيّدت نفسى فى دراك محبّة

ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا

وبعد أن عدد ما أنعم به عليهم من النعم ذكر ما يتّبع معهم إذا هم أصروا على عنادهم واستكبارهم ولم تنفعهم الذكرى فقال :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فان استمروا على إعراضهم ، ولم يقبلوا ما ألقى إليهم من البينات فلا يضيرك ذلك ، ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة ، فإنك قد أديت رسالتك كاملة غير منقوصة ، وما هى إلا البلاغ الموضّح لمقاصد الدين وبيان أسراره وحكمه ، وقد فعلته بما لا مزيد عليه.

وجملة القول ـ إنهم إن أعرضوا وتولوا فلست بقادر على خلق الإيمان فى قلوبهم ، فإنما عليك البلاغ فحسب.

١٢٢

ثم بين أن سبب هذا التولي والإعراض لم يكن الجهل بهذه النعم بل كان العتوّ والاستكبار والإنكار لها فقال :

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي إنهم يعرفون أن هذه النعم كلها من الله ، ثم هم ينكرونها بأفعالهم ، إذ لم يخصّوا المنعم بها بالعبادة والشكر ، بل شكروا غيره معه ، إذ قالوا إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام.

(وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أي إن أكثرهم جاحد معاند يعلم صدق الرسول ولا يؤمن به عتوا واستكبارا ، وقليل منهم كان يجهل صدقه ولم يظهر له كونه نبيا حقا من عند الله ، لأنه لم ينظر فى الأدلة النظر الصحيح الذي يؤدى إلى الغاية ، أولم يعرف الحق لنقص فى العقل فهو لا يسلك سبيله ، أو لم يصل إلى حد التكليف ، فلا تقوم عليه حجة.

وهذا من صادق أحكام القرآن على الأمم والشعوب ، فهو لا يرسل القول إرسالا ، بل يزنه بميزان الحقيقة الواقعة التي لا تجانف الصواب ، وليس فيها جور ولا ظلم.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً

١٢٣

عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

تفسير المفردات

الأمة : الجيل من الناس ، وشهيد كل أمة نبيها ، ثم لا يؤذن للذين كفروا : أي إنهم يستأذنون فلا يؤذن لهم ، ويقال استعتبه وأعتبه : إذا رضى عنه ، قال الخليل : العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة ؛ وعاتبه معاتبة وعتابا وأعتبه : سره بعد ما ساءه ، ينظرون : أي يمهلون ويؤخرون ، والشركاء : الأصنام والأوثان والشياطين والملائكة ، وندعو : نعبد ، والسلم : الاستسلام والانقياد ، وضل : ضاع وبطل والمراد بهؤلاء أمته الحاضر منهم عصر التنزيل ومن بعدهم إلى يوم القيامة ، وتبيانا : أي بيانا لأمور الدين إما نصافيها أو ببيان الرسول واستنباط العلماء المجتهدين فى كل عصر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال هؤلاء المشركين وأنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها ـ قفّى على ذلك بوعيدهم ، فذكر حالهم يوم القيامة ، وأنهم يكونون أذلاء لا يؤذن لهم فى الكلام لتبرئة أنفسهم ولا يمهلون ، بل يؤخذون إلى العذاب بلا تأخير ، وإذا رأوا معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين قالوا هؤلاء معبوداتنا ، فكذبتهم تلك المعبودات ، واستسلموا لربهم ، وانقادوا له ، وبطل ما كانوا يفترونه ، ثم ذكر ذلك اليوم وهوله وما منح نبيه من الشرف العظيم وأنه أنزل عليه الكتاب ، ليبين للناس ما أشكل عليهم من مصالح دينهم ودنياهم ، ويهديهم سواء السبيل ، وفيه البشرى للمؤمنين بجنات النعيم.

١٢٤

الإيضاح

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وخوّف أيها الرسول هؤلاء المشركين يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليها بما أجابت داعى الله وهو رسولها الذي أرسل إليها ، إما بالإيمان وطاعة الله ، وإما بالكفر والعصيان.

(ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي ثم لا يسمع كلام الكافرين بعد شهادة أنبيائهم ولا يلتفت إليه ، إذ فى تلك الشهادة ما يكفى للفصل فى أمرهم والقضاء عليهم ، والله عليم بما كانوا يفعلون ، ولكن فى تلك الشهادة تأنيب لهم وتوبيخ على ما اجترحوا من الفسوق والعصيان والكفر بربهم الذي أنعم عليهم.

ونحو الآية قوله : «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ».

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة وصالح العمل ، فالآخرة دار جزاء لا دار عمل ، والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون بحال.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي وإذا عاين هؤلاء الذين كذّبوا وجحدوا نبوّة الأنبياء وهم من كانوا على نهج قومك من المشركين ـ عذاب الله ، فلا ينجيهم منه شىء ، إذ لا يؤذن لهم بالاعتذار فيعتذرون ، فيخفف عنهم بهذا العذر الذي يدّعون ، ولا يرجئون بالعقاب ، لأن وقت التوبة والإنابة قد فات ، وإنما ذاك وقت الجزاء على الأعمال : «فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره».

ونحو الآية قوله : «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» وقوله : «إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» ، الثبور : الهلاك.

١٢٥

ثم أخبر عن إلقاء المشركين تبعة أعمالهم على معبوداتهم فقال :

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي وإذا رأى هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دونه من الأوثان والآلهة التي عبدوها ـ قالوا هؤلاء شركاؤنا فى الكفر بك ، والذين كنا ندعوهم آلهة من دونك ، وربما يكونون قد قالوا هذه المقالة طمعا فى توزيع العذاب بينهم ، أو إحالة الذنب عليهم تعللا بذلك واسترواحا ، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة. ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه.

ثم ذكر تبرأ آلهتهم منهم ، وهم أحوج ما يكونون إلى نصرتهم لو كانوا ينصرون.

(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي قالت لهم الآلهة : كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا ، ونحو الآية قوله : «ومن أضلّ ممّن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ، وإذا حشر النّاس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين» وقوله : «واتّخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّا ، كلّا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّا».

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي واستسلم العابد والمعبود لله ، فلا أحد إلا وهو سامع مطيع ، ونحو الآية قوله : «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا» أي ما أسمعهم وأبصرهم حينئذ ، وقوله : «ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا وسمعنا» وقوله : «وعنت الوجوه للحىّ القيّوم» أي خضعت واستسلمت.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وذهب عنهم ما كانوا يعبدونه افتراء على الله ، فلا ناصر لهم ولا معين ولا شفيع ولا ولىّ مما كانوا يزعمونه فى الدنيا كما قال تعالى حكاية عنهم : «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ».

وبعد أن ذكر عذاب المضادين بيّن عذاب الضالين المضلين فقال :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا

١٢٦

يُفْسِدُونَ) أي الذين جحدوا نبوّتك وكذبوك فيما جئتهم به من عند ربك ، وصدوا عن الإيمان بالله ورسوله من أراده ، زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بكفرهم ، بسبب استمرارهم على الإفساد بالصد عن سبيل الله.

وخلاصة ذلك ـ إنهم يعذبون عذابين : عذابا على الكفر ، وعذابا على الإضلال وصد الناس عن اتباع الحق.

ونحو الآية قوله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي وهم ينهون الناس عن اتباعه ، وهم يبتعدون منه أيضا ، روى الحاكم والبيهقي وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح فى النار فإذا أتوه تلقّاهم عقارب كأنهم البغال الدهم ، وأفاع كأنهن البخاتىّ (ضخام الإبل) تضربهم فذلك الزيادة».

وفى الآية دليل على تفاوت الكفّار فى عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون فى منازلهم فى الجنة ودرجاتهم فيها.

ثم خاطب سبحانه عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلّم فقال :

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي واذكر أيها الرسول ذلك اليوم وهوله يوم يبعث الله نبى كل أمة شاهدا عليهم ، فيكون أقطع للمعذرة ، وأظهر فى إتمام الحجة عليهم ، وجئنا بك شهيدا على أمتك ، بما أجابوك ، وبما عملوا فيما أرسلتك به إليهم.

وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم صدر سورة النساء ، فلما وصل إلى قوله «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «حسبك» فقال ابن مسعود : فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان.

ثم ذكر ما تفضل به من الوحى على رسوله فقال :

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي ونزلنا عليك أيها الرسول هذا القرآن تبيانا لكل ما بالناس إليه حاجة من معرفة

١٢٧

الحلال والحرام والثواب والعقاب ، وهدى من الضلالة ، رحمة لمن صدق به ، وعمل بما فيه من حدود الله وأمره ونهيه ، فأحل حلاله وحرم حرامه ، وبشرى لمن أطاع الله وأناب إليه ، بجزيل الثواب فى الآخرة وعظيم الكرامة.

ووجه ارتباط هذا بما قبله ، بيان أن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك ، سائلك يوم القيامة عن ذلك كما قال : «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» وقال : «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» وقال : «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ، وسائلك عن أداء ما فرض عليك.

وتبيان القرآن لأمور الدين إما مباشرة وإما ببيان الرسول ، وقد أمرنا سبحانه باتباع هذا البيان فى قوله «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» وقوله «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» ولقوله صلى الله عليه وسلّم : «إنى أوتيت القرآن ومثله معه» وإما ببيان الصحابة والعلماء المجتهدين له ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ» وقد كان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلّم فاجتهد الأئمة ووطّئوا طرق البحث فى أمور الدين لمن بعدهم ، واستنبطوا من الكتاب والسنة مذاهب وآراء فى العبادات ومعاملات الناس بعضهم مع بعض ، ودوّنوا تشريعا ينهل منه المسلمون فى كل جيل ، ويرجع إليه القضاة ليحكموا بين الناس بالعدل ، وكان أجلّ تشريع أخرج للناس كما اعترف بذلك أرباب الديانات الأخرى وكذلك من لم يتدين منهم بدين.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ

١٢٨

عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))

تفسير المفردات

العدل لغة : المساواة فى كل شىء بلا زيادة ولا نقصان فيه ، والمراد به هنا المكافأة فى الخير والشر. والإحسان : مقابلة الخير بأكثر منه ، والشر بالعفو عنه ، وإيتاء ذى القربى : أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر. والفحشاء : ما قبح من القول والفعل ، فيدخل فيه الزنا وشرب الخمر والحرص والطمع والسرقة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال المذمومة ، والمنكر : ما تنكره العقول من دواعى القوة الغضبية كالضرب الشديد والقتل والتطاول على الناس ، والبغي : الاستعلاء على الناس والتجبر عليهم بالظلم والعدوان ، والوعظ : التنبيه إلى الخير بالنصح والإرشاد ، والعهد : كل ما يلتزمه الإنسان باختياره ، ويدخل فيه الوعد ، ونقض اليمين : الحنث فيها وأصله فك أجزاء الجسم بعضها من بعض ، وتوكيدها : توثيقها والتشديد فيها ، كفيلا : أي شاهدا ورقيبا ، والغزل : ما غزل من صوف ونحوه ، والقوة : الإبرام والإحكام ، والأنكاث ، واحدها نكث وهو ما ينكث فتله وينقض بعد غزله ، والدخل : المكر والخديعة. وقال أبو عبيدة : كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل ، ويراد به أن يظهر المرء الوفاء بالعهد ويبطن النقض ، أربى : أي أكثر وأوفر عددا.

١٢٩

المعنى الجملي

بعد أن بالغ سبحانه فى الوعد للمتقين والوعيد للكافرين ، وعاد وكرر فى الترغيب والترهيب إلى أقصى الغاية ، أردف ذلك ذكر هذه الأوامر التي جمعت فضائل الأخلاق والآداب وضروب التكاليف التي رسمها الدين وحث عليها لما فيها من إصلاح حال النفوس ، وصلاح حال الأمم والشعوب ، ثم ضرب الأمثال لمن يحيد عنها وينفر من فعلها.

ثم أبان أن أمر الهداية والإضلال بيده وأنه قد قدّره بحسب استعداد النفوس للصلاح والغواية ، وأنه سيجازى يوم القيامة كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم ، إنه سريع الحساب.

أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال : «أعظم آية فى كتاب الله تعالى : «اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» وأجمع آية فى كتاب الله للخير والشر الآية التي فى النحل «إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان» وأكثر آية فى كتاب الله تفويضا «ومن يتّق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» وأشد آية فى كتاب الله رجاء «يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذّنوب جميعا» وعن عكرمة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له يا ابن أخى أعد علىّ ، فأعادها عليه ، فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر.

وأخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن الحسن رضى الله عنه «أنه قرأ هذه الآية «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» الآية ثم قال إن الله عزّ وجلّ جمع لكم الخير كله ، والشر كله فى آية واحدة ، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا إلا جمعه وأمر به ، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه.

١٣٠

قال الحافظ أبو يعلى فى كتاب معرفة الصحابة عن على بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال : «بلغ أكثم بن صيفى مخرج النبي صلى الله عليه وسلّم فأراد أن يأتيه فأتى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا ، لم تكن لتخفّ إليه ، قال فليأته من يبلّغه عنى ويبلغنى عنه ، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلّم فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفى وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما من أنا؟ فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله ، قال ثم تلا عليهم : «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» الآية. قالوا ردّد علينا القول فردده عليهم حتى حفظوه ، فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه ، فوجدناه زاكى النسب وسطا فى مضر ، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إنى أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا فى هذا الأمر رءوسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا ، وكونوا فيه أوّلا ، ولا تكونوا فيه آخرا».

وقال سعيد بن جبير عن قتادة فى قوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسونه إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيىء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه ، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها.

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) أي إن الله يأمر فى هذا الكتاب الذي أنزله إليك أيها الرسول بالعدل والإنصاف ، ولا نصفة أجمل من الاعتراف بمن أنعم علينا بنعمه ، والشكر له على إفضاله وحمده وهو أهل للحمد ، ومنع ذلك عمن ليس له بأهل ، فالأوثان والأصنام لا تستحق شيئا منه ، فمن الجهل عبادتها وحمدها

١٣١

وهى لا تنعم فتبشكر ، ولا تنفع فتعبد ، ومن ثم وجب أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده.

أخرج ابن أبى حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : دعانى عمر بن عبد العزيز فقال : صف لى العدل ، فقلت بخ سألت عن أمر جسيم ، كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا ، وللمثل منهم أخا ، وللنساء كذلك ، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسامهم ، ولا تضربنّ لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين.

وأخرج البخاري فى تاريخه أن على بن أبى طالب مرّ بقوم يتحدثون ، فقال : فيم أنتم؟ فقالوا نتذاكر المروءة فقال : أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذاك فى كتابه إذ يقول : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» فالعدل الإنصاف ، والإحسان : التفضل ، فما بقي بعد هذا؟

وأعلى مراتب الإحسان الإحسان إلى المسيء ، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم ، وروى عن الشعبي أنه قال : قال عيسى بن مريم عليه السلام إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. وقد صح من حديث ابن عمر فى الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي وإعطائهم ما تدعو إليه الحاجة ، وفى الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام وترغيب فى التصدق عليهم ، وهذا وإن دخل فيما سلف من الإحسان ـ فقد خصص للاهتمام به والعناية بشأنه.

وبعد أن ذكر الثلاثة التي أمر بها أتبعها بالثلاثة التي نهى عنها فقال :

(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) وهى الغلو فى الميل إلى القوة الشهوانية كالزنا وشرب الخمر والسرقة والطمع فى مال الناس.

(وَالْمُنْكَرِ) وهو ما تنكره العقول من المساوى الناشئة من الغضب كالضرب والقتل والتطاول على الناس.

(وَالْبَغْيِ) وهو ظلم الناس والتعدي على حقوقهم.

١٣٢

وخلاصة ما سلف ـ إن الله يأمر بالعدل ، وهو أداء القدر الواجب من الخير ، وبالإحسان ، وهو الزيادة فى الطاعة والتعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه ، ومن أشرف ذلك صلة الرحم.

وينهى عن التغالى فى تحصيل اللذات الشهوانية التي يأباها الشرع والعقل ، وعن الإفراط فى اتباع دواعى الغضب بإيصال الشر إلى الناس وإيذائهم وتوجيه البلاء إليهم ، وعن التكبر على الناس والترفع عليهم وتصعير الخدّ لهم.

(يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي أمركم بثلاث ونهاكم عن ثلاث ، كى تتعظوا فتعملوا بما فيه رضاه سبحانه وتعالى ، وما فيه صلاحكم فى دنياكم وآخرتكم.

وبعد أن ذكر المأمورات والمنهيات بطريق الإجمال فى الآية الأولى ـ ذكر بعضها على سبيل التخصيص فقال :

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) أي وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه ، وعقده إذا عاقدتموه ، فأوجبتم به على أنفسكم حقا لمن عاقدتموه وواثقتموه عليه ، ويدخل فى ذلك كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره ، والوعد من العهد ، ومن ثم قال ميمون بن مهران : من عاهدته وفّ بعهده ، مسلما كان أو كافرا ، فإنما العهد لله تعالى.

(وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي ولا تخالفوا ما عاقدتم فيه الأيمان وشدّدتم فيه على أنفسكم ، فتحنثوا فيه وتكذبوا وتنقضوه بعد إبرامه ، وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه راعيا يرعى الموفى منكم بالعهد والناقض له بالجزاء عليه.

ثم وعد وأوعد فقال :

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فى العهود التي تعاهدون الله الوفاء بها ، والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم ، أتبرّون فيها أم تنقضونها؟ وهو محص ذلك كله عليكم وسائلكم عنه وعما عملتم فيه ، فاحذروا أن تلقوه وقد خالفتم أمره ونهيه ، فتستوجبوا منه ما لا قبل لكم به من أليم عقابه.

١٣٣

أخرج ابن جرير عن مزيدة بن جابر أن الآية نزلت فى بيعة النبي صلى الله عليه وسلّم كان من أسلم يبايع على الإسلام ، فقال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام ، وإن كان فى المسلمين قلة وفى المشركين كثرة.

ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض مع ضرب المثل فقال :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) أي ولا تكونوا أيها القوم فى نقضكم أيمانكم بعد توكيدها ، وإعطائكم ربكم العهود والمواثيق كمن تنقض غزلها بعد إبرامه ، وتنفشه بعد أن جعلته طاقات ، حماقة منها وجهلا.

قال السّدّى : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت غزلا نقضته بعد إبرامه.

والخلاصة ـ إنه تعالى شبه حال الناقض للعهد بحال من تنقض غزلها بعد قتله وإبرامه ، تحذيرا للمخاطبين ، وتنبيها إلى أن هذا ليس من فعل العقلاء ، وصاحبه فى زمرة الحمق من النساء.

(تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم ـ خديعة وغرورا ليطمئنوا إليكم ، وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد ، والنّقلة إلى غيرهم من أجل أنهم أكثر منهم عددا وعددا وأعز نفرا ، بل عليكم بالوفاء بالعهود والمحافظة عليها فى كل حال.

قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز نفرا فينقضون. حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز نفرا فنهوا عن ذلك ، وقيل هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبي صلى الله عليه وسلّم.

(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي إنما يعاملكم الله معاملة المختبر ، بأمره إياكم بالوفاء بعهده

١٣٤

إذا عاهدتم ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهده وبيعة رسوله ، أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم ، وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال؟

ثم أنذر وحذر من خالف الحق وركن إلى الباطل فقال :

(وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي وليبيننّ لكم ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه ، لمجازاة كل فريق منكم على عمله فى الدنيا ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ـ ما كنتم تختلفون فيه من إقرار المؤمن بوحدانية ربه ، ونبوة نبيه ، والوحى إلى أنبيائه ، والكافر بكذبه بذلك كله.

وبعد أن أبان أنه كلفهم الوفاء بالعهد ، وتحريم نقضه أتبعه ببيان أنه قادر على جمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الإيمان فقال :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي ولو شاء الله لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة ولم يجعل لهم اختيارا فيما يفعلون ، فكانوا فى حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل ، وفى حياتهم الروحية أشبه بالملائكة ، مفطورين على طاعة الله واعتقاد الحق ، وعدم الميل إلى الزّيغ والجور ، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين ، وعاملين بالاختيار لا مفطورين ، وجعلهم متفاوتين فى الاستعداد وكسب العلم ، فللإنسان اختيار أوتيه بحسب استعداده الأزلى وهو مجبور فيه ، والثواب والعقاب يترتبان على هذا الاختيار الذي يشاهد ، وتكون عاقبته الجنة أو النار.

(وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ولتسألن يوم القيامة جميعا سؤال محاسبة ومجازاة ، لا سؤال استفهام واستفسار ، وقد تكرر ذكر هذا المعنى فى سور كثيرة.

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)

١٣٥

وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

تفسير المفردات

زلة القدم بعد ثبوتها : مثل يقال لمن وقع فى محنة بعد نعمة ، وبلاء بعد عافية ، والحياة الطيبة : هى القناعة وعدم الحرص على لذات الدنيا ، لما فى ذلك من الكدّ والعناء.

المعنى الجملي

بعد أن حذر سبحانه من نقض العهود والأيمان على الإطلاق ـ حذّر فى هذه الآية من نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها وهى نقض عهد رسول الله على الإيمان به ، واتباع شرائعه جريا وراء خيرات الدنيا وزخارفها ، وأبان لهم أن كل ذلك زائل ، وما عند الله باق لا ينفد ، ثم هو بعد يجزيهم الجزاء الأوفى.

الإيضاح

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي ولا تجعلوا أيمانكم خديعة تغرون بها الناس ، والمراد بذلك نهى المخاطبين بذلك الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها.

ذلك أنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام ، وحلفوا على ذلك أوكد الأيمان ، ثم نقضوا ما فعلوا ، لقلة أهله وكثرة أهل الشرك ، فنهوا عن ذلك.

١٣٦

(فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إنكم بعملكم هذا تكونون قد وقعتم فى محظورات ثلاثة.

(١) إنكم تضلّون وتبعدون عن محجة الحق والهدى بعد أن رسخت أقدامكم فيها (٢) إنكم تكونون قدوة لسواكم وتستنّون سنة لغيركم ، فيها صدّ عن سبيل الحق ، ويكون لكم بها سوء العذاب فى الدنيا ، بالقتل والأسر وسلب الأموال والجلاء عن الديار.

(٣) إنكم ستعاقبون فى الآخرة أشد العقاب جزاء ما اجترحتم من مجانفة الحق والإعراض عن أهله ، والدخول فى زمرة أهل الشقاء والضلال.

ثم أكد هذا التحذير بقوله :

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي ولا تأخذوا فى مقابلة نقض العهد عوضا يسيرا من الدنيا ، وقد كان هذا حال قوم ممن أسلموا بمكة ، زين لهم الشيطان أن ينقضوا ما بايعوا رسول الله عليه ، جزعا مما رأوا من غلبة قريش ، واستضعافهم للمؤمنين ، وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم به من البذل والعطاء إن هم رجعوا إلى دينهم ، فنبههم الله بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا الخير العميم والنعيم المقيم فى الآخرة بما وعدوهم به من عرض الدنيا وزينتها.

ثم بين سبحانه قلة ما أخذوا ، وعظيم ما تركوا بقوله :

(إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن ما خبأه الله لكم ، وادّخره من جزيل الأجر والثواب ، هو خير لكم من ذلك العرض القليل فى الدنيا ، إن كنتم من دوى العقول الراجحة ، والأفكار الثاقبة التي تزن الأمور بميزان الفائدة وتقدّر الفرق بين العوضين.

ثم بين وجه خيريته ورجاحة شأنه بقوله :

(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) أي إن ما تتمتعون به من نعيم الدنيا ، بل

١٣٧

الدنيا وما فيها ، تنفد وتنقضى ، وإن طال الأمد وجلّ العدد ، وما فى خزائن الله باق لا نفاد له ، فلما عنده فاعملوا ، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا.

ثم رغب سبحانه المؤمنين فى الصبر على ما التزموه من شرائع الإسلام فقال :

(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولنثيبن الذين صبروا على أذية المشركين وعلى مشاقّ الإسلام التي تتضمن الوفاء بالعهود والمواثيق ، الثواب العظيم الذي هم له أهل ، كفاء صبرهم وهو أحسن أعمالهم ، إذ كل التكاليف محتاجة إليه وهو أسّ الأعمال الصالحة.

وفى الآية عدة جميلة باغتفار ما عسى أن يكون قد فرط منهم أثناء ذلك من جزع يعتريهم بحسب الطبيعة البشرية.

ثم رغّبهم فى المثابرة على أداء الطاعات وعمل الواجبات الدينية فقال :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي من عمل صالح الأعمال ، وأدى فرائض الله التي أوجبها عليه ، وهو مصدّق بثوابه الذي وعد به أهل طاعته ، وبعقاب أهل المعصية على عصيانهم ، فلنحيينه حياة طيبة ، تصحبها القناعة بما قسم الله له ، والرضا بما قدّره وقضاه ، إذ هو يعلم أن رزقه إنما حصل بتدبيره ، والله محسن كريم لا يفعل إلا ما فيه المصلحة ، ويعلم أن خيرات الدنيا سريعة الزوال ، فلا يقيم لها فى نفسه وزنا ، فلا يعظم فرحه بوجدانها ، ولا غمه بفقدانها.

ثم هو بعد ذلك يجزى فى الآخرة أحسن الجزاء ، ويثاب أجمل الثواب ، جزاء ما قدّم من عمل صالح ، وتحلى به من إيمان صادق.

أما من أعرض عن ذكر الله ، فلم يؤمن ولم يعمل صالحا ، فهو فى عناء ونكد ، إذ يكون شديد الحرص والطمع فى الحصول على لذات الدنيا ، فإن أصابته محنة أو بلاء استعظم أمره ، وعظمت أحزانه ، وكثر غمه وكدره ، وإذا فاته شىء من خيراتها عبس وبسر ، وامتلأ قلبه أسى وحسرة ، لأنه يظن أن السعادة كل السعادة

١٣٨

فى الحصول على زخرف هذه الحياة والتمتع بمتاعها. فإذا هو لم ينل منه ما يريد ، فقد حرم كل ما يحلم به ، ويقدره من وافر السعادة وعظيم الخير ، والإنسان بطبعه جزوع هلوع منوع «إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا إلّا المصلّين».

وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعو فيقول «اللهم قنّعنى بما رزقتنى ، وبارك لى فيه ، والخلف علىّ كل غائبة لى بخير» ، وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : «قد أفلح من هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به».

وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه».

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

تفسير المفردات

قرأت القرآن : أي أردت قراءته كما تقول إذا أكلت فقل باسم الله ، وإذا سافرت فتأهب ، والرجيم : المرجوم المبعد من رحمة الله ، والسلطان : التسلط والاستيلاء ، والتولي : الطاعة يقال توليته أي أطعته ، وتوليت عنه أي أعرضت.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه يجزى المؤمنين بأحسن أعمالهم ، أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعمالهم من وساوس الشيطان.

١٣٩

الإيضاح

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي إذا شرعت تقرأ القرآن فاسأل الله سبحانه أن يعيذك من وساوس الشيطان الرجيم ، لئلا يلبس عليك قراءتك ، ويمنعك من التدبر والتفكر كما قال «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلّم مع عصمته منه فما بالك بسائر أمته ثم بين أن الناس فريقان فريق لا تسلط له عليهم وهم الذين وصفهم الله بقوله :

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي إنه لا تسلط للشيطان على الذين يصدقون بلقاء الله ويفوضون أمورهم إليه ، وبه يعوذون وإليه يلتجئون ، فلا يقبلون ما يوسوس به ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته.

وعن سفيان الثوري أنه قال : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم ـ يريد أنهم أمروا بالاستعاذة منه ، ليحفظهم الله من وساوسه التي ربما جرّتهم إلى الوقوع فى صغائر الآثام إذا وقعت على سبيل الندرة أو الغفلة.

والفريق الثاني الذين عناهم بقوله :

(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي إنما تسلطه بالغواية والضلالة على الذين يجعلونه نصيرا لهم فيحبونه ويطيعونه ، ويستجيبون دعوته ، والذين هم بسبب إغوائه يشركون بربهم.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ

١٤٠