تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

تفسير المفردات

المراد بحياة الأرض : إنباتها الزرع والشجر وإخراجها الثمر ، يسمعون : أي يسمعون سماع تدبر وفهم. قال الفراء والزجاج : النعم والأنعام واحد يذكر ويؤنث ، ولهذا تقول العرب هذه نعم وارد ، ورجحه ابن العربي فقال إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع والتأنيث إلى معنى الجماعة وقد جاء بالوجهين هنا وفى سورة المؤمنين ، والعبرة : الاعتبار والعظة ، والفرث : كثيف ما يبقى من المأكول فى الكرش والمعى ، خالصا : أي مصفّى من كل ما يصحبه من مواد أخرى ، سائغا : أي سهل المرور فى الحلق ، يقال ساغ الشراب فى الحلق وأساغه صاحبه قال تعالى : «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» والسكر : الخمر ، والرزق الحسن : الخل والرّبّ والتمر والزبيب ونحو ذلك ، وأوحى. ألهم وعلّم ، وبيوتا : أي أوكارا ؛ وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا فى الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه ، لما فيه من دقة الصنع وجميل الهندسة ، ويعرشون : أي يرفعون من الكروم والسقوف ، والسبل : الطرق واحدها سبيل ، والذلل واحدها ذلول : أي

١٠١

منقادة طائعة ، والشراب العسل ، مختلف ألوانه من أبيض إلى أصفر إلى أسود بحسب اختلاف المرعى.

المعنى الجملي

بعد أن وعد المؤمنين بجنات تجرى من تحتها الأنهار ، وأوعد الكافرين بنار تلظّى ، جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من الإشراك بربهم ونسبة البنات إليه وافترائهم عليه ما لم ينزل به سلطانا ـ عاد إلى ذكر دلائل التوحيد من قبل أنه قطب الرحى فى الدين الإسلامى وكل دين سماوى ، ويليه إثبات النبوات والبعث والجزاء ، فبين أنه أنزل المطر من السماء لتحيا به الأرض بعد موتها ، وثنىّ بإخراج اللبن من الأنعام ، وثلث باتخاذ الخمر والخل والدّبس من الأعناب والنخيل ، وربع بإخراج العسل من النحل وفيه شفاء للناس ، وقد بين أثناء ذلك كيف ألهم النحل بناء البيوت والبحث عن أرزاقها من كل فجّ.

الإيضاح

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) نبه سبحانه عباده إلى الحجج الدالة على توحيده ، وأنه لا تنبغى الألوهية إلا له ولا تصلح العبادة لشىء سواه ، فبين أن ذلك المعبود هو الذي أنزل من السماء مطرا ، فأنبت به أنواعا مختلفة من النبات فى أرض ميتة يابسة ، لا زرع فيها ولا عشب ، إن فى ذلك الإحياء بعد الموت لدليلا واضحا ، وحجة قاطعة على وحدانيته تعالى وعلمه وقدرته لمن يسمع هذا القول سماع تدبر وفهم لما يسمع ، إذ لا عبرة بسماع الآذان ، فهو أشبه بسماع الحيوان.

وبعد أن ذكر نزول الماء من السحاب ذكر خروج اللبن من الضّرع ، وفيه أكبر الأدلة على قدرة القادر فقال :

١٠٢

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي وإن لكم أيها الناس لعظة فى الأنعام دالة على باهر قدرتنا ، وبديع صنعنا ، وواسع فضلنا ، ورحمتنا بعبادنا ، فإننا نسقيكم مما فى بطونها من اللبن الخالص من شائبات المواد الغربية ، السهل التناول ، اللذيذ الطعم ، وهو متولد من بين فرث ودم.

فإن الله جلت قدرته جعل الحيوان يتغذى بما يأكل من نبات ولحوم ونحوهما حتى إذا هضم المأكول تحول بإذنه تعالى إلى عصارة نافعة للجسم وفضلات تطرد إلى الخارج ، ومن هذه العصارة يتكون الدم الذي يسرى فى عروق الجسم لحفظ الحياة ، وبعض هذا الدم يذهب إلى الغدد التي فى الضرع فتحولها إلى لبن ، فكأنّ الصانع الحكيم جعلها مصنعا ومعملا لتحويل الدم إلى لبن ، وهكذا فى الجسم غدد أخرى كالغدد الأنفية للمخاط والغدد الدمعية للعين ، والغدد المنويّة التي تحول الدم إلى مادة التلقيح.

وبعد أن ذكر اللبن وبين أنه جعله شرابا سائغا للناس ، ثلّث بذكر ما يتخذ من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب فقال :

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) أي ولكم أيضا عبرة فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب مما تتخذونه خمرا وخلا ودبا (عسل التمر) وتمرا.

روى عن ابن عباس أنه قال : السّكر ما حرّم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرتيهما كالخل والرّب (المربة) والتمر والزبيب ونحو ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك لآية باهرة لمن يستعملون عقولهم. بالنظر والتأمل فى الآيات ، ويعتبرون بما يستخلص من العبر.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي وألهم ربك النحل وألقى فى روعها ، وعلّمها أعمالا يتخيل منها أنها ذوات عقول.

١٠٣

وقد تتبع علماء المواليد أحوالها وكتبوا فيها المؤلفات بكل اللغات ، وخصصوا لها مجلات تنشر أطوارها وأحوالها ، وقد وصلوا من ذلك إلى أمور :

(١) إنها تعيش جماعات كبيرة قد يصل عدد بعضها نحو خمسين ألف نحلة ، وتسكن كل جماعة منها فى بيت خاص يسمى خلية.

(٢) إن كل خلية يكون فيها نحلة واحدة كبيرة تسمى الملكة أو اليعسوب ، وهى أكبرهم جثة وأمرها نافذ فيهم ، وعدد يتراوح بين أربعمائة نحلة وخمسمائة يسمى الذكور ، وعدد آخر من خمسة عشر ألفا إلى خمسين ألف نحلة ، ويسمى الشغالات أو العاملات.

(٣) تعيش هذه الفصائل الثلاث فى كل خلية عيشة تعاونية على أدق ما يكون نظاما ، فعلى الملكة وحدها وضع البيض الذي يخرج منه نحل الخلية كلها ، فهى أم النحل ، وعلى الذكور تلقيح الملكات وليس لها عمل آخر وعلى الشغالة خدمة الخلية وخدمة الملكات وخدمة الذكور ، فتنطلق فى المزارع طوال النهار لجمع رحيق الأزهار ثم تعود إلى الخلية فتفرز عسلا يتغذى به سكان الخلية صغارا وكبارا ، وتفرز الشمع الذي تبنى به بيوتا سداسية الشكل تخزن فى بعضها العسل ، وفى بعض آخر منها تربى صغار النحل ، ولا يمكن المهندس الحاذق أن يبنى مثل هذه البيوت حتى يستعين بالآلات كالمسطرة والفرجار (البرجل). قال الجوهري : ألهمها الله أن تبنى بيوتها على شكل سداسى حتى لا يحصل فيه خلل ولا فرجة ضائعة ، كما عليها أن تنظف الخليّة وتخفق بأجنحتها لتساعد على تهويتها ، وعليها أيضا الدفاع عن المملكة وحراستها من الأعداء كالنمل والزنابير وبعض الطيور.

ثم فسر سبحانه ما أوحى به إليها بقوله :

(أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي اجعلي لك بيوتا فى الجبال تأوين إليها ، أو فى الشجر أو فيما يعرش الناس ويبنون من البيوت والسقف والكروم ونحوها.

١٠٤

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ثم كلى أيتها النحل من كل ثمرة تشتهيها ، حلوة أو مزّة أو بين ذلك.

(فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) أي فاسلكى الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها ، وتدخلى فيها لطلب الثمار ، ولا تعسر عليك وإن توعّرت ، ولا تضلّى عن العودة منها وإن بعدت.

وبعد أن خاطب النحل أخبر الناس بفوائدها لأن النعمة لأجلهم فقال :

(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي يخرج من بطونها عسل مختلف الألوان ، فتارة يكون أبيض وأخرى أصفر ، وحينا أحمر بحسب اختلاف المرعى.

(فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) لأنه نافع لكثير من الأمراض ، وكثيرا ما يدخل فى تركيب العقاقير والأدوية.

روى البخاري ومسلم عن أبى سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه فقال : إن أخى استطلق بطنه فقال له رسول الله (اسقه عسلا) فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال يا رسول الله : سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا ، قال (اذهب فاسقه عسلا (فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا) فذهب فسقاه عسلا فبرئ.

وعلل هذا بعض الأطباء الماضين قال : كان لدى هذا الرجل فضلات فى المعدة ، فلما سقاه عسلا تحللت فأسرعت إلى الخروج فزاد إسهاله ، فاعتقد الأعرابى أن هذا يضره وهو فائدة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع ، وكلما سقاه حدث مثل هذا حتى اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، فاستمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، وزالت الآلام والأسقام بإرشاده عليه السلام.

وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :

١٠٥

«الشفاء فى ثلاثة فى شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كيّة بنار ، وانهى أمتى عن الكىّ».

وقد أثبت الطب الحديث ما للعسل من فوائد ، أدع الكلام فيها ليتولى شرحها النطاسي الكبير المرحوم عبد العزيز إسماعيل باشا قال فى كتابه : [الإسلام والطب الحديث].

ما أصدق الآية الكريمة! «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» إن التركيب الكيماوى للعسل كما يلى :

من ٢٥ ـ ٤٠ خ دكستروز (جلوكوز).

«٣٠ ـ ٤٥ خ ليفيلوز.

«١٥ ـ ٢٥ خ ماء.

والجلوكوز الموجود فيه بنسبة أكثر من أي غذاء آخر ، وهو سلاح الطبيب فى أغلب الأمراض ، واستعماله فى ازدياد مستمر بتقدم الطب ، فيعطى بالفم وبالحقن الشرجية وتحت الجلد وفى الوريد ، ويعطى بصفته مقويا ومغذيا ، وضد التسمم الناشئ من مواد خارجية كالزرنيخ والزئبق والذهب والكلوفرم والمورفين إلخ ، وضد التسمم الناشئ من أمراض أعضاء الجسم مثل التسمم البولى والناشئ من أمراض الكبد ، والاضطرابات المعدية والمعوية ، وضد التسمم فى الحميات ، مثل التيفويد والالتهاب الرئوي والسحائى المخى والحصبة ، وفى حالات ضعف القلب ، وحالات الذبحة الصدرية ، وبصفة خاصة فى الارتشاحات العمومية الناشئة من التهابات الكلى الحادة وفى احتقان المخ وفى الأورام المخية إلخ وقد يقال : وما أهمية هذه الآية مع أن كل أنواع الغذاء لها فوائد ، وقد ذكر العسل لأنه غذاء لذيذ الطعم وبطريق المصادفة.

فالحقيقة هى أن أنواع الغذاء الأخرى لا تستعمل كعلاج إلا فيما نذر من الأمراض ناشئة عن نقصها فى الغذاء فقط ، وهذه الفواكه التي تشبه العسل فى الطعم ؛ فإن

١٠٦

السكر الذي فيها هو سكر القصب أو أنواع أخرى ، وليس فيها إلا نسبة ضئيلة من (الجلوكوز) الذي هو أهم عناصر العسل.

وإذا علمنا أن الجلوكوز يستعمل مع الأنسولين حتى فى حالة التسمم الناشئ عن مرض البول السكرى ـ علمنا مقدار فوائده ، وأن القرآن الكريم لم يذكره بطريق المصادفة ، ولكنه تنزيل ممن خلق الإنسان والنحل ، وعلم كلا منهما علاقته بالآخر اه.

كيف يتكون العسل

تمتص الشغالة رحيق الأزهار ، فينزل ويجتمع فى كيس فى بطنها ، وهناك يمتزج بعصارة خاصة فيتحول إلى عسل ، ولله در أبى العلاء إذ يقول :

والنحل يجنى المرّ من زهر الرّبا

فيعود شهدا فى طريق رضابه

ثم تعود النحلة إلى الخلية فتفرز العسل من فمها فى البيوت الشمعية التي خصصت بتخزين العسل ، وكلما امتلأ بيت منها غطاه النحل بطبقة من الشمع وانتقل إلى بيت آخر.

شمع النحل

تفرز الشغالة صفحات رقيقة صلبة من الشمع تخرجها من بين حلقات بطنها ، ثم تمضغها بفيها حتى تلين ، ويسهل تشكلها بحسب ما تريد ، فتستعملها فى بناء بيوتها السداسية الشكل.

فوائد النحل

(١) نأخذ منها العسل الذي هو غذاء لذيذ الطعم يحوى مقدارا كبيرا من المواد المفيدة للجسم.

(٢) نأخذ منها الشمع الذي تصنع منه شموع الإضاءة.

١٠٧

(٣) تساعد على تلقيح الأزهار فتكون سببا فى زيادة الثمار وجودة نوعها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فى إخراج الله من بطون النحل الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس ـ لدلالة واضحة على أن من سخر النحل ، وهداها لأكل الثمرات التي تأكلها ، واتخاذها البيوت فى الجبال والشجر والعروش ، وأخرج من بطونها ما أخرج مما فيه شفاء للناس ، هو الواحد القهار الذي ليس كمثله شىء ، وأنه لا ينبغى أن يكون له شريك ، ولا تصح الألوهة إلا له.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢))

تفسير المفردات

أرذل العمر : أردؤه وأخسه ؛ يقال رذل الشيء يرذل رذالة وأرذله غيره قال تعالى حكاية عما قاله قوم شعيب له : «واتّبعك الأرذلون» والحفدة : أولاد الأولاد على ما روى عن الحسن والأزهرى وواحدهم حافد ككتبة وكاتب : من الحفد وهو الخفة فى الخدمة والعمل ؛ يقال منه حفد يحقد حفدا وحفودا وحفدانا : إذا أسرع كما جاء

١٠٨

فى القنوت (وإليك نسعى ونحفد) والطيبات : اللذائذ ، والمراد بالباطل : منفعة الأصنام وبركتها؟

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عجائب أحوال الحيوان ، وما فيها من نعمة للإنسان ؛ كالأنعام التي يتخذ من ضرعها اللبن ، والنحل التي يشتار منها العسل ، ويؤخذ منها الشمع للاضاءة ـ أردف ذلك بيان أحوال الناس ، فذكر مراتب أعمارهم ، وأن منهم من يموت وهو صغير ، ومنهم من يعمّر حتى يصل إلى أرذل العمر ، ويصير نسّاء لا يحفظ شيئا ، وفى ذلك دليل على كمال قدرة الله ووحدانيته ، ثم ثنّى بذكر أعمال أخرى لهم وهى تفضيل بعضهم على بعض فى الرزق ، فقد يرى أكيس الناس وأكثرهم عقلا وفهما يفنى عمره فى طلب القليل من الدنيا وقلّ أن يتيسر له ، بينا يرى أقلّ الناس علما وفهما تتفتح له أبواب السماء ، ويأتيه الرزق من كل صوب ، وذلك دليل على أن الأرزاق قد قسمها الخلاق العليم كما قال : «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وقال الشافعي رحمه الله :

ومن الدليل على القضاء وكونه

بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

ثم ثلث بذكر نعمة ثالثة عليهم ، إذ جعل لهم أزواجا من جنسهم ، وجعل لهم من هذه الأزواج بنين وحفدة ، ورزقهم المطعومات الطيبة من النبات كالثمار والحبوب والأشربة ، أو من الحيوان على اختلاف أنواعها.

الإيضاح

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي والله أوجدكم ولم تكونوا شيئا أنتم ولا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله ، ثم وقّت أعماركم بآجال مختلفة ، فمنكم من تعجّل وفاته ، ومنكم من يهرم ويصير إلى أرذل العمر وأخسه ، فتنقص قواه

١٠٩

وتفسد حواسه ويكون فى عقله وقوته كالطفل كما قال : «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ».

أخرج البخاري وابن مردويه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول فى دعائه : «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات» وثبت أنه صلى الله عليه وسلّم كان يتعوّذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر ، ونقل عن على كرم الله وجهه أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة ، وهذا ليس بالمطرد ولا بالكثير.

(لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي إنما رده إلى أرذل العمر ليعود جاهلا كما كان حين طفولته وصباه ، لا يعلم شيئا مما كان يعلمه فى شبابه ، لأن الكبر قد أضعف عقله وأنساه ، فلا يعلم شيئا مما كان يعلم ، وقد انسلخ من عقله بعد أن كان كامل العقل.

وخلاصة ذلك ـ إنه يكون نسّاء ، فإذا كسب علما فى شىء لم يلبث أن ينساه ويزول من ساعته ، فيقول لك من هذا؟ فتقول له هذا فلان ، فلا يمكث إلا هنيهة ثم يسألك عنه مرة أخرى.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إن الله عليم بكل شىء ، فيعلم وجه الحكمة فى الخلق والتوفى والرد إلى أرذل العمر ، ولا ينسى شيئا من ذلك ، وهو قدير على كل شىء فلا يعجزه شىء أراده.

ومجمل القول ـ إن ما يعرض فى الهرم من ضعف القوة والقدرة وانتفاء العلم يتنزه عن مثله المولى جل شأنه ، فهو كامل العلم تام القدرة ، لا يتغير شىء منهما بمرور الأزمنة كما يتغير علم البشر وقدرتهم.

ولما ذكر سبحانه تفاوت الناس فى الأعمار ذكر تفاوتهم فى الأرزاق فقال :

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أي والله تعالى جعلكم متفاوتين فى أرزاقكم ، فمنكم الغنى ومنكم الفقير ، ومنكم المملوك ومنكم المالك ، وأعطاكم من الرزق أكثر مما أعطى مماليككم ، ولم يجعل ذلك بحسن الحيلة وفضل العقل فحسب ، فكثيرا

١١٠

ما نرى الحوّل القلّب لا يحصل إلا على الكفاف من الرزق بعد الجهد الجهيد ، بينما نرى الأحمق يتقلب فى نعيم العيش وزخرف الدنيا ، ولله درّ سفيان بن عيينة إذ يقول :

كم من قوىّ قوىّ فى تقلبه

مهذّب الرأى عنه الرزق منحرف

ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط

كأنه من خليج البحر يغترف

(فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي فما الذين فضّلوا بالرزق وهم الموالى بجاعلى رزقهم من الأموال وغيرها ـ شركة بينهم وبين مماليكهم بحيث يساوونهم فى التصرف فيها ويشاركونهم فى تدبيرها.

والخلاصة ـ إن الله جعلكم متفاوتين فى الرزق ، فرزقكم أكثر مما رزق مماليككم ، وهم بشر مثلكم وإخوانكم ، فكان ينبغى أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم وتتساووا وإياهم فى الملبس والمطعم والمسكن ، لكنكم لم ترضوا بهذه المساواة مع أنهم أمثالكم فى البشرية والمخلوقية لله عزّ وجلّ ، فما بالكم تشركون بالله فيما يليق إلا به من الألوهية والمعبودية بعض عباده ، بل أخس مخلوقاته.

وهذا مثل ضربه الله سبحانه لبيان قبح ما فعله المشركون من عبادة الأصنام والأوثان تقريعا لهم.

ونحو الآية قوله : «هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ؟».

(أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ؟) إذا أضافوا بعض تلك النعم الفائضة عليهم من مولاهم إلى شركائهم ، وجعلوها أندادا ، وهى لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.

ثم ذكر ضروبه أخرى من ضروب نعمه على عباده تنبيها إلى جليل إنعامه بها إذ هى زينة الحياة فقال :

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) أي والله سبحانه جعل لكم أزواجا من جنسكم ، تأنسون بهن ، وتقوم بهن جميع مصالحكم

١١١

وعليهن تدبير معايشكم ، وجعل لكم مهن بنين وحفدة أي أولاد أولاد يكونون زهرة الحياة الدنيا وزينتها ، وبهم التفاخر والتناصر والمساعدة لدى البأساء والضراء.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقكم من لذيذ المطاعم والمشارب ، وجميل الملابس والمساكن ما تنتفعون به إلى أقصى الحدود وأبعد الغايات.

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي أفهم بعد هذا البيان الواضح ، والدليل الظاهر ، يوقنون بأن الأصنام شركاء لربهم ينفعونهم ويضرونهم ويشفعون لهم عنده ، وأن البحائر والسوائب والوصائل حرام عليهم كما حرمها لهم أولياء الشيطان؟.

وليس بعد هذا تأنيب وتوبيخ ، إذ ساقه مساق ما فيه الشك وطلب منهم الجواب عنه.

(وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ؟) أي وهم بهذه النعم المتظاهرة عليهم من ربهم يكفرون فيضيفونها إلى غير الخالق ، وينسبونها إلى غير موجدها من صنم أو وثن؟

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))

١١٢

تفسير المفردات

رزق السماء : المطر ، ورزق الأرض : النبات والثمار التي تخرج منها ، فلا تضربوا لله الأمثال : أي لا تجعلوا له الأنداد والنظراء فهو كقوله : «فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» وضرب المثل للشىء : ذكر الشبيه له ، ليوضح حاله المبهمة ويزيل ما عرض من الشك فى أمره ، والبكم : الخرس ، وهو إما ناشىء من صمم خلقى وإما لسبب عارض ولا علة فى أذنيه ، فهو يسمع لكن لسانه معتقل لا يطيق الكلام ، فكل من ولد غير سميع فهو أبكم ، لأن الكلام بعد السماع ، ولا سماع له ، وليس كل أبكم يكون أصم صمما طبيعيا ، فإن بعض البكم لا يكونون صمّا ، والكلّ : الغليظ الثقيل من قولهم كلّت السكين إذا غلظت شفرتها فلم تقطع ، وكلّ عن الأمر : ثقل عليه فلم يستطع عمله يوجهه : أي يرسله فى وجه معين من الطريق ، يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه ، على صراط مستقيم : أي طريق عادل غير جائر.

المعنى الجملي

بعد أن بين عزت قدرته دلائل التوحيد البيان الشافي فيما سلف ـ أردف ذلك الرد على عابدى الأوثان والأصنام ، فضرب لذلك مثلين يؤكد بهما إبطال عبادتها : أولهما العبد المملوك الذي لا يقدر على شىء ، والحر الكريم الغنى الكثير الإنفاق سرا وجهرا ، ولفت النظر إلى أنهما هل يكونان فى نظر العقل سواء مع تساويهما فى الخلق والصورة البشرية؟ وإذا امتنع ذلك فكيف ينبغى أن يسوى بين القادر على الرزق والإفضال ، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر.

والثاني مثل رجلين أحدهما أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير وهو عبء ثقيل على سيده ، وثانيهما حوّل قلّب ناطق كامل القدرة ، أيستويان لدى أرباب الفكر مع استوائهما فى البشرية؟ وإذا فكيف يدور بخلد عاقل مساواة الجماد برب العالمين فى الألوهية والعبادة؟.

١١٣

قال ابن عباس نزلت هذه الآية فى عثمان بن عفان ومولى له كافر يسمى أسيد ابن أبى العاص : كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة وكان المولى ينهاه عن الصدقة والمعروف.

الإيضاح

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه أوثانا لا تملك لهم رزقا من السموات ، فلا تقدر على إنزال القطر منها لإحياء الميت من الأرضين ، ولا تملك لهم رزقا منها ، فلا تقدر على إخراج شىء من نباتها ولا ثمارها ، ولا على شىء مما ذكر فى سالف الآيات مما أنعم الله به على عباده ، ولا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم.

وفائدة قوله (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أن من لا يملك شيئا قد يكون فى استطاعته أن يتملكه بوجه ، فبين بذلك أن هذه الأصنام لا تملك وليس فى استطاعتها تحصيل الملك.

وبعد أن بين ضعفها وعجزها رتب على ذلك ما هو كالنتيجة له فقال :

(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي فلا تجعلوا لله مثلا ولا تشبّهوه بخلقه ، فإنه لا مثل له ولا شبيه.

أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال فى الآية : أي لا تجعلوا معى إلها غيرى ، فإنه لا إله غيرى.

ثم هددهم على عظيم جرمهم ، وكبير ما اجترحوا من الكفر والمعاصي فقال :

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إن الله يعلم كنه ما تفعلون من الإجرام وعظيم الآثام ، وهو معاقبكم عليه أشد العقاب ، وأنتم لا تعلمون حقيقته ولا مقدار عقابه ؛ ومن ثم صدر ذلك منكم وتجاسرتم عليه ونسبتم إلى الأصنام ما لم يصدر منها ولا هى منه فى قليل ولا كثير.

١١٤

وبعد أن نهاهم سبحانه عن الإشراك أعقبه بمثل يكشف عن فسادما ارتكبوه من الحماقات والجهالات فقال :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) أي إن مثلكم فى إشراككم بالله الأوثان ، مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وحرّ مالك ما لا ينفق منه كيف يشاء ، ويتصرف فيه كما يريد ، والفطرة الأولى تشهد بأنهما ليسا سواء فى التجلة والاحترام ، مع استوائهما فى الخلق والصورة ـ فكذلك لا ينبغى لعاقل أن يسوّى بين الإله القادر على الرزق والإفضال والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شىء البتة.

ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي الحمد الكامل لله خالصا دون ما تدعون من دونه من الأوثان ، فإياه فاحمدوا دونها ، ما الأمر كما تفعلون ، ولا القول كما تقولون ، فليس للأوثان عندكم من يد ولا معروف فتحمد عليه ، إنما الحمد لله ، ولكن أكثر هؤلاء الكفار الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك ، فهم بجهلهم بما يأتون وما يذرون يجعلونها لله شركاء فى العبادة والحمد.

ثم ضرب مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح فقال :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي ضرب الله مثلا لنفسه والآلهة التي يعبدونها من دونه مثل رجلين أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم ، فلا يقدر على شىء مما يتعلق بنفسه أو بغيره ، وهو عيال على من يعوله ويلى أمره ، حيثما يرسله مولاه فى أمر لا يأت بنجح ولا كفاية مهمّ ـ وثانيهما

١١٥

رجل سليم الحواس عاقل ينفع نفسه وينفع غيره ، يأمر الناس بالعدل وهو على سيرة صالحة ودين قويم ـ هل يستويان؟

كذلك الصم لا يسمع شيئا ولا ينطق ، لأنه إما خشب منحوت وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع من خدمه ، ولا دفع ضر عنه ، وهو كلّ على من يعبده ، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه ، وهو لا يعقل ما يقال له فيأتمر بالأمر ، ولا ينطق فيأمر وينهى ، هل يستوى هو ومن يأمر بالحق ويدعو إليه ، وهو الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته! وهو مع أمره بالعدل على طريق مستقيم لا يعوجّ عن الحق ولا يزول عنه.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

تفسير المفردات

الساعة : الوقت الذي تقوم فيه القيامة ، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان فى ساعة ما فيموت الخلق بصيحة واحدة ، ولمح البصر : رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، والأفئدة واحدها فؤاد : وهى القلوب التي هيأها الله للفهم وإصلاح البدن ، والجو : الهواء بين الأرض والسماء.

١١٦

المعنى الجملي

بعد أن مثّل سبحانه نفسه بمن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، ومستحيل أن يكون كذلك إلا إذا كان كامل العلم والقدرة ـ أردف ذلك ما يدل على كمال علمه ، فأبان أن العلم بغيوب السموات والأرض ليس إلا له ، وما يدل على كمال قدرته ، فذكر أن قيام الساعة فى السرعة كلمح البصر أو أقرب ، ثم عاد إلى ذكر الدلائل على توحيده ، وأنه الفاعل المختار ، فذكر منها خلق الإنسان فى أطواره المختلفة ، ثم الطير المسخّر بين السماء والأرض ، وكيف جعله يطير بجناحين فى جو السماء ما يمسكه إلا هو بكامل قدرته.

الإيضاح

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله علم ما غاب عن أبصاركم فى السموات والأرض مما لا اطلاع لأحد عليه إلا أن يطلعه الله ، والمراد به جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين التي لا سبيل إلى إدراكها حسا ولا إلى فهمها عقلا.

(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أي وما شأنها فى سرعة المجيء إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، أو هو أقرب من هذا وأسرع ، لأنه إنما يكون بقول (كُنْ فَيَكُونُ).

ونحو الآية قوله «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» أي فيكون ما يريد كطرف العين.

وقريب من هذا قوله : «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ».

والخلاصة ـ إن قيام القيامة ومجىء الساعة التي ينتشر فيها الخلق للوقوف فى موقف الحساب ـ كنظرة من البصر ، وطرفة من العين فى السرعة.

وخص قيام الساعة من بين الغيوب ، لأنه قد كثرت فيه المماراة فى جميع

١١٧

الأزمنة والعصور ، ولدي كثير من الأمم ، فأنكره كثير من البشر وجعلوه مما لا يدخل فى باب الممكنات.

ثم ذكر ما هو كالبرهان على إمكان حدوثها وسرعة وقوعها فقال :

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله قادر على ما يشاء ، لا يمتنع عليه شىء أراده ، فهو قادر على إقامتها فى أقرب من لمح البصر.

ثم ذكر سبحانه مننه على عباده بإخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، ثم رزقهم السمع والأبصار والأفئدة فقال :

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله جعلكم تعلمون ما لا تعلمون بعد أن أخرجكم من بطون أمهاتكم ، فرزقكم عقولا تفقهون بها ، وتميزون الخير من الشر ، والهدى من الضلال ، والخطأ من الصواب ، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات ، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به فيما بينكم ، والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص فتتعارفون بها ، وتميزون بعضها من بعض ، والأشياء التي تحتاجون إليها فى هذه الحياة ، فتعرفون السبل ، وتسلكونها للسعى على الأرزاق والسلع لتختاروا الجيد وتتركوا الرديء ، وهكذا جميع مرافق الحياة ووجوهها.

لعلكم تشكرون : أي رجاء أن تشكروه باستعمال نعمه فيما خلقت لأجله ، وتتمكنوا بها من عبادته تعالى ، وتستعينوا بكل جارحة وعضو على طاعته.

روى البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تعالى : من عادى لى وليّا فقد بارزني بالحرب ، وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أفضل من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ، ولئن سألنى لأعطينه ، ولئن دعانى لأجبته ، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه ، وما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن ، يكره الموت

١١٨

وأكره مساءته ، ولا بد له منه» أي إن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عزّ وجلّ ، فلا يسمع إلا لله ، ولا يبصر إلا لله أي لما شرعه الله له ، ولا يبطش ولا يمشى إلا فى طاعته عزّ وجلّ ، مستعينا به فى ذلك كله.

ثم نبه عباده إلى دليل آخر على كمال قدرته فقال :

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) أي ألم ينظروا إلى الطير مذللات فى الهواء بين السماء والأرض ما يمسكهن فى الجو عن الوقوع إلا الله عزّ وجلّ بقدرته الواسعة ، وقد كان فى ثقل أجسادها ، ورقة الهواء ما يقتضى وقوعها ، إذ لا علاقة من فوقها ، ولا دعامة من تحتها ، ولو سلبها ما أعطاها من قوة الطيران لم تقدر على النهوض ارتفاعا.

وقد كان العلماء قديما يعلمون تخلخل الهواء فى الطبقات العالية فى الجو وهى نظرية لم تدرس فى العلوم الطبيعية إلا حديثا ، فقد أثر عن كعب الأحبار أنه قال : إن الطير يرتفع فى الجو اثنى عشر ميلا ولا يرتفع فوق ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلك التسخير فى الجو والإمساك فيه ـ لدلالات على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنه لا حظ للأوثان والأصنام فى الألوهية ـ لمن يؤمن بالله ، ويقر بوجدان ما تعاينه أبصارهم ، وتحسه حواسهم.

وخصص هذه الآيات بالمؤمنين ، لأنهم هم المنتفعون بها ، وإن كانت هى آيات لجميع العقلاء.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ

١١٩

وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

تفسير المفردات

سكنا : أي مسكنا ، والظعن (بالسكون والفتح) السير فى البادية لنجعة أو طلب ماء أو مرتع ، والأصواف : للضأن ، والأوبار : للإبل ، والأشعار : للمعز ، والأثاث : متاع البيت كالفرش والثياب وغيرها ، ولا واحد له من لفظه ، والمتاع : ما يتمتع وينتفع به فى المتجر والمعاش ، إلى حين : أي إلى انقضاء آجالكم ، والظلال : ما يستظل به من الغمام والشجر والجبال وغيرها ، والأكنان واحدها كنّ : وهو الغار ونحوه فى الجبل ، والسرابيل واحدها سربال : وهو القميص من القطن والكتّان والصوف وغيرها ، وسرابيل الحزب الجواشن والدروع ، والبأس : الشدة ، ويراد به هنا الحرب.

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه الأدلة على توحيده ، قفى على ذلك بذكر ما أنعم به على عباده فجعل لهم بيوتا يأوون إليها وتكون سكنا لهم ، وجعل لهم من جلود الأنعام بيوتا يستخفون حملها فى أسفارهم ، ويجعلونها خياما فى السفر والحضر ، وجعل لهم فى الجبال الحصون والمعاقل ، وجعل لهم الثياب التي تقيهم الحر ، والدروع والجواشن من الحديد لتقى بعضهم أذى بعض فى الحرب.

وقصارى هذا ـ إنه امتن على عباده ، فبدأ بما يخص المقيمين بقوله : وجعل لكم من بيوتكم سكنا ، ثم بما يخص المسافرين منهم ممن لهم قدرة على ضرب الخيام بقوله : وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ، ثم بمن لا قدرة لهم على ذلك ولا يأويهم

١٢٠