تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

المعنى الجملي

بعد أن بين فى الآيات السالفة أنهم طلبوا منه أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله ؛ لأن فيه نبذا لآلهتهم وطعنا فيها وتسفيها لآرائهم فى عبادتها ـ نعى عليهم هنا عبادة الأصنام وبين لهم حقارة شأنها إذ لا تستطيع نفعا ولا ضرا ، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها من دون الله ، ويجعل لها الشفاعة عنده وليس لديهم برهان على ما يدّعون ، سبحانه وتعالى عما يشركون.

الإيضاح

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي ويعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا من الأصنام وغيرها حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته تعالى وحده فهم يعبدونه ويعبدون معه غيره كما قال تعالى «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ».

وفى الآية إيماء إلى أن سبب عبادتها وضلالهم فيما يدّعون هو اعتقادهم فيها القدرة على الضر والنفع ، فرد عليهم خطأهم بأنه وحده هو القادر على نفع من يعبده وضر من يشرك بعبادته غيره فى الدنيا والآخرة.

وقد دل تاريخ البشر فى كل طور من أطواره على أن كل ما عبده من دون الله من صنم أو وثن فإنما عبده لاعتقاده فيه القدرة على النفع والضر بسلطان له فوق الأسباب المعروفة كعبادته للأوثان المتخذة من الحجارة أو الخشب والأصنام المصنوعة من المعادن والحجارة أو غير المصنوعة كاللات ، وهى صخرة كانت بالطائف يلتّ عليها السويق عظّمت حتى عبدت ، أو الأشجار كالعزّى معبودة قريش.

(وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) أي ويقولون فى سبب عبادتهم لهم مع اعتقادهم أنهم لا يملكون الضر والنفع بأنفسهم إيمانهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى ، وهؤلاء شفعاء عنده ونحن إنما نعبدهم ونعظم هيا كلهم ونطيّبها بالعطر ونقدم لهم النذور

٨١

ونهلّ لهم عند ذبح القرابين بذكر أسمائهم وبدعائهم والاستغاثة بهم ، لأنهم يشفعون لنا عند الله ويقربوننا إليه زلفى ويدفعون بجاههم عنا البلاء ويعطوننا ما نطلب من النعماء.

وقد روى عكرمة أن النضر بن الحارث قال : إذا كان يوم القيامة شفعت لى اللات والعزّى.

فأساس عقيدة الشرك أن جميع ما يطلب من الله لا بد أن يكون بوساطة المقربين عنده ، إذ هم لا يمكنهم التقرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم لأنها مدنّسة بالمعاصي ـ أما الموحدون فيعتقدون أنه يجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده تائبا إليه طالبا مغفرته ورحمته.

(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي قل لهم أيها الرسول مبينا لهم كذبهم ومنكرا عليهم افتراءهم على ربهم : أتخبرون الله بشىء لا يعلمه من أمر هؤلاء الشفعاء فى السموات من ملائكته وفى الأرض من خواص خلقه ، ولو كان له شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم بهم منكم ، إذ لا يخفى عليه شى فى الأرض ولا فى السماء ، فإذا هؤلاء لا وجود لهم عنده ، وأنكم قد اتخذتم ذلك قياسا على ما ترونه من الوساطة عند الملوك الجاهلين بأمور رعيتهم والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم ، بدون وساطة الوزراء وذوى المكانة فيهم.

وبهذا ثبت بطلان الشرك فى الألوهية وهو عبادة غير الله مهما يكن المعبود ، وبطلان الشرك فى الربوبية بادعاء وساطة المعبود فى الخلق والتدبير ، أو الشفاعة عند الله إذ ليس لمعبود بذاته ولا بتأثير خاص له عند خالقه يحمله على نفع من شاء ولا ضر من شاء أو كشف ضر عنه كما يعتقده عباد الأولياء من البشر إلى اليوم ، فكل ذلك للرب وحده ولا يعلم إلا بوحيه ، فادعاء ذلك لغيره كذب لا مستند له.

وفى هذا حجة أيّما حجة على زوار الأضرحة والقبور الذين يقولون : إن هؤلاء

٨٢

الأولياء أحياء عند ربهم كالشهداء ، فهم يضرون وينفعون لا كالأصنام ، وقد جهلوا أن الله يقول للنصارى إن المسيح لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعبادتهم له مع ما آتاه من المعجزات ، وأظن أن الأمر لا يبلغ بهم أن يجعلوا السيد البدوي وسيدنا الحسين والسيدة زينب أفضل عند الله ولا أقرب منه.

وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ».

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا وعلا علوا كبيرا عما يشركون به من الشفاعة والوسطاء وما يفترونه عليه من أنّ لأحد من خلقه وساطة عنده وشفاعة لديه تقرب إليه زلفى ، ففى هذا تحقير لمقام الربوبية والألوهية وتشبيه الرب بعبيده من الملوك الجاهلين.

وفى هذا إيماء إلى أن شئون الرب وسائر ما فى عالم الغيب لا يعلم إلا بخبر الوحى ومن ذلك اتخاذ الشفعاء والوسطاء عنده ، فيكون كفرا صراحا.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩))

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على فساد عبادة الأصنام ، وبين سبب هذه العبادة ـ ذكر هنا بيان ما كان عليه الناس من الوحدة فى الدين وما صاروا إليه من الاختلاف والفرقة فيه.

الإيضاح

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) أي إن الناس جميعا كانوا أمة واحدة على فطرة الإسلام والتوحيد ثم اختلفوا فى الأديان ، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

٨٣

فبعث الله فيهم النبيين والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف بكتاب الله ووحيه ، ثم اختلفوا فى الكتاب أيضا بغيا بينهم واتباعا لأهوائهم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي ولو لا كلمة حق سبقت من ربك فى جعل الجزاء العام فى الآخرة لعجّله لهم فى الدنيا بإهلاك المبطلين المعتدين.

وفى الآية وعيد شديد على احتلاف الناس المؤدى إلى العدوان والشقاق ، ولا سيما الاختلاف فى الكتاب الذي أنزل لإزالة الشقاق.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه عن المشركين إنكارهم للوحى إلى بشر مثلهم ورد عليهم مقالتهم بالحجج التي تثبت بطلان شركهم وإنكارهم للبعث ، ثم حكى عنهم مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا الذي يدل فى نظمه وأسلوبه وعلومه وهدايته على أنه وحي من كلام الله ـ حكى عنهم فى هذه الآية الاحتجاج على إنكار نبوته بعدم إنزال آية كونية غير القرآن مع ما فيه من الآيات العلمية والعقلية الدالة على النبوة والرسالة ثم رد على ذلك.

الإيضاح

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي قالوا مرارا وتكرارا ولا يزالون يقولون : هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية كونية كآيات الأنبياء الذين يحدثنا عنهم كنوح وشعيب وهود ، وقد جاء هذا الاقتراح هنا مجملا وأجاب عنه جوابا مجملا

٨٤

لأن كلا منهما سبق مفصلا فى سور أخرى كقوله فى سورة الفرقان : «وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» وحكى عنهم أنهم طالبوه بواحدة من بضع آيات وعلّقوا إيمانهم على إجابة مطلبهم فقال : «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ».

فلقنه الله الرد عليهم بقوله : «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» أي وما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحوها إلا تكذيب الأولين كعاد وثمود بها ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال كما مضت بذلك سنتنا ، وقد قضينا ألا نستأصلهم لأنهم أمة خاتم النبيين الباقية وأنه هو رحمته العامة الشاملة ، وفيهم من يؤمن أو يولد له من يؤمن ، وقد آتى الله رسوله صلى الله عليه وسلم آيات علمية وكونية ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته ولا أمره بالتحدي بها ، بل كانت لضرورات استدعتها كاستجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم كشفاء المرضى وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل فى غزوة بدر وغزوة تبوك ، وتسخير الله السحاب لإسقاء المسلمين ، وتثبيت أقدامهم التي كانت تسيخ فى الرمل ببدر.

وعلى الجملة فحجة النبي صلى الله عليه وسلم على نبوته هى كتابه المعجز بهدايته وعلومه.

روى الشيخان والترمذي عن أبى هريرة مرفوعا «ما من نبى إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»

٨٥

(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلّقتم إيمانكم بنزوله من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ولا علم لى به ، فإن كان قدّر إنزال آية علىّ فهو يعلم وقتها وينزلها فيه ، ولا أعلم إلا ما أوحاه إلىّ.

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعله الله بي وبكم ، فقد اجترأتم على جحود الآيات واقتراح غيرها ، والآية بمعنى قوله : «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» وقد جاء تفسير ما ينتظره وينتظرونه منه فى قوله فى آخر هذه السورة «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ».

وفى الآية إنذار بما سيحل بهم من العذاب بخذلانهم ونصر الرسل عليهم فى الدنيا وما وراءها من عذاب الآخرة.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

٨٦

تفسير المفردات

أصل الذوق : إدراك الطعم بالفم ، ويستعمل فى إدراك الأشياء المعنوية كالرحمة والنعمة والعذاب والنقمة ، والمكر : التدبير الخفىّ الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه ومكره تعالى تدبيره الذي يخفى على الناس بإقامة سننه وإتمام حكمه فى نظام العالم ، وكله عدل وحق ، فإن ساء الناس سمّوه شرا ، وإن كان جزاء عدلا ، والرسل هنا : الكرام الكاتبون من الملائكة ، والتسيير : جعل الشيء أو الشخص يسير بتسخيره تعالى أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو سفينة ، والفلك : السفينة أو السفن واحد وجمع ، والطيب : من كل شىء ما يوافق الغرض والمنفعة ، يقال رزق طيب ونفس طيبة وشجرة طيبة ، والعاصف : الذي يعصف الأشياء ويكسرها ، يقال ريح عاصف وعاصفة ، وأحيط به هلك كما يحيط العدو بعدوه فيسدّ عليه سبل النجاة ، والبغي : مازاد على القصد والاعتدال ، من بغى الجرح إذا زاد حتى ترامى إلى الفساد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه أن القوم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم آية أخرى سوى القرآن ، وذكر جوابا عن هذا بأنه مما لا يملك ذلك لأن هذا من الغيب الذي استأثر بعلمه ، قفّى على ذلك بجواب آخر ، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم ، بل يكابرون حسّهم ولا يؤمنون ، إذ من عاداتهم اللجاج والعناد فكثيرا ما جاءتهم الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله فى أفعاله ، ثم هم يمكرون فيها ولا تزيدهم إلا ضلالا.

٨٧

الإيضاح

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي وإذا رزقنا المشركين بالله فرجا بعد كرب ورخاء بعد شدة أصابتهم ، بادروا إلى المكر وأسرعوا بالمفاجأة به فى مقام الشكر ، فإذا كانت الرحمة مطرا أحيا الأرض وأنبت الزرع ودرّ به اللبن بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل ، نسبوا ذلك إلى الكواكب أو الأصنام ، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزهم معرفة عللها وأسبابها علّلوها بالمصادفات ، وإذا كان سببها دعاء نبىّ أنكروا إكرام الله له ، وتأييده بها كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى ، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفع عنهم بدعائه عليه الصلاة والسلام فما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه «أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى سيدنا يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله تعالى «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم ، فدعا لهم فكشف الله عنهم العذاب ومطروا فعادوا الى حالهم ومكرهم الأول يطعنون فى آيات الله ويعادون رسوله صلى الله عليه وسلم ويكذّبونه».

(قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي قل لهم : إن الله أسرع منكم مكرا ، فهو قد دبّر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبّروا كيف تعملون فى إطفاء نور الإسلام ، وقد سبق فى تدبيره لأمور العالم وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم فى الدنيا قبل الآخرة ، وهو عليم بما تفعلون لا تخفى عليه خافية.

٨٨

(إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي إن الحفظة من الملائكة الذين وكلهم الله بإحصاء أعمال الناس وكتبها للحساب عليها فى الآخرة يكتبون ما تمكرون به.

وفى ذلك تنبيه إلى أن ما دبّروا ليس بخاف عليه تعالى ، وإلى أن انتقامه واقع بهم لا محالة.

وعلينا أن نعتقد بأن الملائكة تكتب الأعمال كتابة غيبية لم يكلفنا الله تعالى بمعرفة صفتها ، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظاما حكيما فى إحصاء أعمالنا لأجل أن نراقبه فيها فنلتزم الحق والعدل والخير ونجتنب أضدادها.

ثم ضرب مثلا من أبلغ أمثال القرآن ليظهر لهم ويتضح به ما هم عليه فقال :

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي أنه تعالى هو الذي وهبكم القدرة على السير فى البر وسخر لكم الإبل والدواب ، وفى البحر بما سخر لكم من السفن التي تجرى فى البحر والقطر التجارية والسيارات ، وفى الهواء بالطائرات التي تسير فى الجوّ.

(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي حتى إذا كنتم فى الفلك التي سخرناها لكم وجرت بمن فيها بسبب ريح مواتية لهم فى جهة سيرهم ، وفرحوا بما هم فيه من راحة وانتعاش وتمتع بمنظره الجميل وهوائه العليل ـ جاءت ريح شديدة قوية فاضطرب البحر وتموّج سطحه كله فتلقاهم من جميع الجوانب والنواحي بتأثير الريح ، واعتقدوا أنهم هالكون لا محالة بإحاطة الموج بهم ، فبيما يهبط الريح العاصف بهم فى الحج البحر حتى كأنهم سقطوا فى هاوية إذا به يثب بهم إلى أعلى كأنهم فى قمّة الجبل الشاهق ـ فإذا ما نزلت بهم نذر العذاب ، وتقطعت بهم الأسباب ، دعوا الله مخلصين له الدين ليكشف عنهم ما حل بهم ولا يتوجهون معه إلى ولىّ ولا شفيع ممن كانوا يتوسلون بهم إليه حال الرخاء. وقد صمموا العزيمة على طاعته وقالوا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة

٨٩

لنكونن من جماعة الشاكرين ، ولا نتوجه فى تفريج كروبنا وقضاء حاجتنا إلى وثن ولا صنم ، ولا إلى ولىّ ولا نبىّ.

وفى الآية إيماء إلى أن الناس جبلوا على الرجوع إلى الله حين الشدائد ، ولكن من لا يحصى عددهم من المسلمين فى هذا العصر لا يدعون حين أشد الأوقات حرجا إلا الميتين من الأولياء والصالحين ، كالسيد البدوي والرفاعي والدسوقى والمتولى وأبى سريع وغيرهم ويتأول ذلك لهم بعض العلماء ويسمونه توسلا أو نحو ذلك.

قال السيد حسن صديق الهندي فى تفسيره [فتح الرحمن] : فيا عجبا لما حدث فى الإسلام من طوائف يعتقدون فى الأموات ، فإذا عرضت لهم فى البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع. فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية ، وأين وصل بها أهلها ، وإلى أين رمى بهم الشيطان؟ وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمع فى مثله ولا فى بعضه من عباد الأصنام «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» اه.

وقال الآلوسى فى تفسيره : وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم فى برّ أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ، ولا يرى ولا يسمع ، فمنهم من يستغيث بأحد الأئمة. ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ، ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه بتضرعه ودعاه ، ولا يكاد يمرّ له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال ، فبالله تعالى عليك قل لى : أىّ الفريقين أهدى سبيلا ، وأىّ الداعيين أقوم قيلا ، وإلى الله المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة ، وتلاطمت أمواج الضلالة ، واتّخذت الاستعانة بغير الله للنجاة ذريعة ، وخرقت سفينة الشريعة اه.

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي فلما نجاهم مما نزل بهم من الشدة والكربة فاجئوا الناس فى الأرض التي يعيشون فيها بالبغي عليهم والظلم لهم مع الإمعان فى ذلك والإصرار عليه.

٩٠

وفى قوله : بغير الحق ـ تأكيد للواقع وتذكير بقبحه وسوء حال أهله ، أو لبيان أنه بغير حق عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى على أحد قبحه كما جاء فى قوله : «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ».

وبعد أن حكى المثل خاطب البغاة فى أي مكان كانوا وفى أي زمان وجدوا منبها واعظا فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي يا أيها الغافلون عن أنفسكم ، أما كفا كم بغيا على المستضعفين منكم اغترارا بقوتكم وكبريائكم ، إنما بغيكم فى الحقيقة على أنفسكم ، لأن عاقبة وباله عائدة إليكم ، وإنما تتمتعون ببغيكم متاع الحياة الدنيا الزائلة وهى تنقضى سراعا ، والعقاب باق ، وأقله توبيخ الضمير والوجدان.

(ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم إنكم ترجعون إلينا بعد هذا التمتع القليل فننبئكم بما كنتم تعملون من البغي والظلم والتمتع بالباطل ونجازيكم به.

وفى الآية إيماء إلى أن البغي مجزىّ عليه فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فلقوله : إنما بغيكم على أنفسكم ، ولما جاء فى الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدّخر له فى الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» ، والذي رواه أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث هن رواجع على أهلها : المكر والنّكث والبغي ، ثم تلا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) ـ (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ـ و (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ).

وأما فى الآخرة فكفى دلالة على ذلك ما أفادته الآية من التهديد والوعيد.

والخلاصة ـ إن البغي وهو أشنع أنواع الظلم يرجع على صاحبه ـ لما يولّد من العداوة والبغضاء بين الأفراد ولما يوقد من نيران الفتن والثورات فى الشعوب ، انظر إلى من يبغى على مثله تجده قد خلق له عدوا أو أعداء ممن يبغى عليهم.

ولا شك أن وجود الأعداء ضرب من العقوبة ، فهم يقتصون لأنفسهم منه بكل

٩١

الوسائل التي يقدرون عليها ـ وإن هم لم يفعلوا ذلك فإنه يرى فى أعينهم من أنواع الحنق والغضب ما لا يخفى عليه فيتأجج قلبه حسرة وندامة على ما فعل ، ويود أن لو لم يكن قد خلق لنفسه هذه الحزازات والضغائن المتغلغلة فى النفوس.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤))

المعنى الجملي

لما كان سبب بغى الناس فى هذه الدنيا هو إفراطهم فى حبها والتمتع بزينتها ـ ضرب بذلك مثلا يصرف العاقل عن الغرور بها ، ويرشده إلى الاعتدال فى طلبها والكفّ عن التوسل فى الحصول على لذّاتها بالبغي والظلم والفساد فى الأرض ـ فشبه حال الدنيا وقد أقبلت بنعيمها وزينتها وافتتن الناس بها بعد أن تمكّنوا من الاستمتاع بها ، ثم أسرع ذلك النعيم فى التقضي وانصرم غبّ إقباله واغترار الناس به ، بحال ما على الأرض من أنواع النبات يسوق الله إليها المطر ، فيلتفّ بعضها على بعض وتصبح بهجة للناظرين ، ثم لا تلبث أن تنزل بها فجأة جائحة تستأصلها وتجعلها حطاما كأن لم تكن بالأمس.

الإيضاح

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) أي إنما صفة الحياة فى صورتها ومآلها كصفة ماء نزل من السماء

٩٢

فأنبتت به الأرض أزواجا شتى من النبات تشابكت واختلط بعضها على كثرتها واختلاف ألوانها وأنواعها من أصناف شتى تكفى الناس فى أقواتهم ومراعى أنعامهم.

(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي حتى إذا كانت الأرض بها فى خضرتها السندسية وألوان أزهارها المختلفة (كعروس حلّيت بالذهب والجواهر والحلل المختلفة الألوان ذات البهاء والبهجة ، وازينت بها فى ليلة زفافها) وظن أهلها أنهم قادرون على التمتع بثمراتها متمكنون من ادّخار غلاتها.

(أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي نزل بها فى تلك الحال أمرنا المقدر لهلاكها فجاءتها جائحة وضرب زرعها بعاهة كجراد أو صقيع شديد أو ريح سموم ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم غافلون فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها ولم يبق منه شى ، أو كأنها لم تنبت ولم تكن زروعها نضرة بالأمس.

وجاء هذا المعنى فى قوله : «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ».

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي كهذا المثل الواضح الذي يمثل حال الدنيا وغرور الناس مع سرعة زوالها وتعلق الآمال بها ـ نفصل الآيات الدالة على حقيقة التوحيد وأصول التشريع والآداب والمواعظ وتهذيب الأخلاق. وكل ما فيه صلاح للناس فى معاشهم ومعادهم لمن يستعمل عقله ويزن أعماله بموازين الحكمة.

وقد غفل الناس عن الهداية بهذه الآيات وأمثالها. واهتدى بها الشعب العربي فخرج من خرافة شركه إلى نور التوحيد والعلم والحضارة. ثم اهتدى بدعوته الملايين من الشعوب الأخرى فشار كوه فى السعادة والنعيم ، ولم يكن للمسلمين الآن حظ منها إلا التمتع بحسن ترتيلها فى بعض المواسم والمآتم ولم يخطر لهم ببال أن يتدبروا معانيها وأن يهتدوا بهديها ـ وهم لو فعلوا ذلك لعلموا أن كل ما يشكو منه الناس من العداوات

٩٣

القومية والحروب الدولية والرذائل النفسية. والشقاء الذي عمت جرثومته البشر ، إنما سببه التنافس فى متاع هذه الحياة ، ولو التزموا القصد والاعتدال فى مطالبهم منها وصرفوا همهم فى قوة الدولة وإعلاء كلمة الله والاستعداد للآخرة لسعدوا فى الدارين ونالوا رضاء الله فى الحالتين.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))

تفسير المفردات

دار السلام : هى الجنة ، والسلام : السلامة من جميع الشوائب والنقائص والأكدار ، ورهقه : غشيه وغلب عليه حتى غطّاه وحجبه ، وقوله : «ولا ترهقنى من أمرى عسرا» أي لا تكلفنى ما يشق علىّ ويعسر ، والقتر : الدخان الساطع من الشّواء والحطب ، وكذا كل غبرة فيها سواد ، والعاصم : المانع.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه غرور المشركين الجاهلين بمتاع الدنيا وضرب لهم الأمثال على ذلك ـ قفى على هذا بالترغيب فى الآخرة ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها فقال :

٩٤

الإيضاح

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) أي ذلك الإيثار لمتاع الدنيا والغرور بها هو ما يدعو إليه الشيطان ، فيوقع متّبعيه فى جهنم دار النكال والوبال والله يدعو عباده إلى دار السلام ، إذ يأمرهم بما يوصّل إليها.

(وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ويهدى من يشاء إلى الطريق الموصّل إليها بلا تعويق ، لأنه طريق مستقيم لا عوج فيه وهو الإسلام : عقائده وفضائله وأحكامه.

وأصل الهداية الدلالة بلطف ، وهى إما بالتشريع ببيانه وتفصيله للناس عامة ، وإما بالتوفيق للسير على سنن الدين والاستقامة عليه ، وهى خاصة بالمستعدين للعمل به ، ومن ثم قيدها بالمشيئة.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) أي للذين أحسنوا أعمالهم فى الدنيا المثوبة الحسنى أي التي تزيد فى الحسن على إحسانهم وهى مضاعفتها بعشرة أمثالها أو أكثر ، وجاء هذا المعنى فى قوله : «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» أي ولهم زيادة على هذه الحسنى فوق ما يستحقون على أعمالهم بعد مضاعفتها.

وقد ورد من طرق عدة أن هذه الزيادة هى النظر إلى وجه الله الكريم وذلك هو أعلى مراتب الكمال الروحي الذي لا يصل إليه إلا المحسنون العارفون فى الآخرة.

(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) أي ولا يغشى وجوههم شىء مما يغشى الكفرة من الغبرة التي فيها سواد ، ولا أثر هوان ولا كسوف بال.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الذين هذه صفتهم هم أصحاب الجنة وسكانها وهم ساكنون فيها أبدا ، فهى لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم ، ولا هم بمحرجين منها ، فتنغّص عليهم لذاتهم.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) أي والذين عملوا السيئات فى الدنيا

٩٥

فعصوا الله فيها وكفروا به وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، جزاء سيئة من عملهم السيء الذي عملوه فى الدنيا بمثلها من عقاب الله فى الآخرة جزاء وفاقا ، ولا يزادون على ما يستحقونه من العذاب شيئا.

(وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي وتغشاهم ذلة الفضيحة وكسوف الخزي بما يظهره حسابهم من شرك وظلم وزور وفجور.

(ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ما لهم من الله من مانع يمنعه إذا هو عاقبهم أو يحول بينه وبينهم ، كالذين اتخذوهم فى الدنيا شركاء وزعموهم شفعاء ، فذلك هو اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب التي كانت تفيد فى الدنيا «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ».

(كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي كأنما ألبست وجوههم قطعا من أديم الليل حال كونه حالكا مظلما لابصيص فيه من نور القمر الطالع ولا النجم الثاقب ، فتشقها قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الذين لهم تلك الصفات هم أصحاب النار هم فيها خالدون لا يبرحونها لأنه ليس لهم مأوى سواها.

وقد جاء فى معنى هذه الآيات فى وصف الفريقين قوله : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» وقوله : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ».

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

٩٦

تفسير المفردات

الحشر : الجمع من كل جانب إلى موقف واحد ، ومكانكم : كلمة يراد بها التهديد والوعيد ، أي الزموا مكانكم ، وزيلنا : فرقنا وميزنا ، وتبلو : تختبر ، وأسلفت : قدّمت وضل : ضاع وذهب.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه وتعالى جزاء الذين كسبوا السيئات وما يكون لهم من الذلة والهوان ـ قفّى على ذلك بذكر اليوم الذي يحصل فيه هذا الجزاء.

الإيضاح

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي واذكر أيها الرسول الكريم لكلام الفريقين الذين أحسنوا الحسنى ، والذين كسبوا السيئات ـ يوم نحشرهم جميعا بلا تخلف أحد فى موقف الحساب.

(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي ثم نقول لمن أشرك منهم بعد طول مكث لا يكلّمون بشىء ـ الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم لا تبرحوه حتى تنظروا ما يفعل بكم ويفصل بينكم فيما كان من سبب عبادتكم إياهم والحجة التي يدلى بها كل فريق منكم.

وفى هذا وعيد شديد ، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد ، وتقريع بكون هذا معظم سيئاتهم.

(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ففرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله سبحانه وتعالى

٩٧

وميزّنا بعضهم من بعض ، كما يميز بين الخصوم عند الحساب ويراد بهذا التفريق تقطيع ما كان بينهم فى الدنيا من صلات وروابط وبيان خيبة ما كان للمشركين فى الشركاء من آمال.

(وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) أي وقال شركاؤهم : ما كنتم تخصوننا بالعبادة ، وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم التي كانت تقوّيكم ، وتتخذون تماثيلنا هياكل لمنافعكم وأغراضكم ، والمعبود الحق هو الذي يعبد ، لأنه صاحب السلطان الأعلى على الخلق وبيده النفع والضر.

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي فكفى الله شهيدا وحكما بيننا وبينكم ، فهو العليم بحالنا وحالكم.

(إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) أي إننا كنا فى غفلة عن عبادتكم لا ننظر إليها ولا تفكّر فيها.

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي فى موقف الحساب تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة ، ومؤمنة وجاحدة ، ما قدمت فى حياتها الدنيا من عمل ، وما كان لكسبها فى صفاتها من أثر ، خير أو شر ، بما ترى من الجزاء عليه ، فهو ثمرة طبيعية له ، لا شأن فيه لولىّ ولا شفيع ، ولا معبود ولا شريك.

(وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي وأرجعوا إلى الله الذي هو مولاهم الحق ، دون ما اتخذوا من دونه بالباطل من الأولياء والشفعاء ، والأنداد والشركاء.

وقد جاء هذا المعنى فى آيات كثيرة كقوله : «إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ» وقوله : «إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» وقوله : «وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ».

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وضاع عنهم ما كانوا يفترون عليه من الشفعاء والأولياء ، فلم يجدوا أحدا ينصرهم ولا ينقذهم من هول ذلك الموقف كما قال : «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» وقد تكرر هذا المعنى فى آيات

٩٨

كثيرة ، منها ما جاء مجملا ، ومنها ما جاء مفصلا ، فمنها ما يسأل الله فيه العابدين ، ومنها ما يسأل فيه المعبودين ، ومنها ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

المعنى الجملي

بعد أن بين جنايات المشركين على أنفسهم ، وبين فساد معتقداتهم وما سيلقونه من الجزاء على ما فعلوا ـ قفى على ذلك بإقامة الحجج على المشركين فى إثبات التوحيد والبعث ، ثم أردفه بإثبات النبوة والرسالة والقرآن :

الإيضاح

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المعاندين من أهل مكة : من يرزقكم من السماء بما ينزله عليكم من الأمطار ، ومن الأرض بما ينبته من شتى النباتات من نجم وشجر تأكلون منه وتأكل أنعامكم؟

(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي وقل لهم من يملك ما تتمتعون به من حاستى السمع والبصر؟ وأنتم بدونهما لا تدرون شيئا من أمور العالم ، وتكون الأنعام والهوامّ بل الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها.

وخص هاتين الحاستين بالذكر لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال الحياة الإنسانية ، إذ بهما تحصيل العلوم الأولية

٩٩

وخلاصة ذلك ـ من خلق هذه الحواس ووهبها للناس وحفظها مما يعتريها من الآفات؟ ولا شك أن الجواب عن ذلك السؤال لا حاجة فيه إلى الفكر ، فإن هم تأملوا فى ذلك ازدادوا علما وإعجابا بإنعام الله بهما ، وإيمانا بأنه لا يقدر غيره على إيجادهما.

(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي ومن ذا الذي بيده أمر الموت والحياة فيخرج الحي من الميت والميت من الحي فيما تعرفون من المخلوقات وما لا تعرفون ، فالله هو الذي يخرج النبات من الأرض الميتة بعد إحيائه إياها بماء المطر النازل عليها من السماء كما قال تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ».

وعلامة الحياة فى النبات النموّ ، وفى الحيوان النمو والإحساس والحركة بالإرادة ، ولم يكونوا يصفون أصول الإحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه ، ومن ثم مثلوا إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة والطائر من البيضة وعكسهما ، وهو تفسير صحيح عند علماء اللغة ، غير صحيح عند علماء المواليد الثلاثة ، وبه تحصل الدلالة على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته لدى المخاطبين.

وإذا كان أرباب الفنون أثبتوا أن فى أصول النبات كالبذور والنوى والبيض والمنىّ حياة ، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء فى الأرض كلها خرجت من مادة ميتة ، فقد قالوا إن الأرض كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس ثم صارت ماء ، ثم نبتت اليابسة فى الماء ثم تكوّن من الماء النبات والحيوان فى أطوار شتى وقالوا ، أيضا إن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار ويتولد منه الدم ، ومن هذا الدم يكون البيض والمنى المشتملان على مادة الحياة ، وقالوا أيضا : إن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن ، وتتجدد فيه مواد جديدة تحل محل ما خرج منها وفنى.

والخلاصة ـ إن علماء المواليد قالوا : الحىّ لا يخرج إلا من حى ، ولكن الحياة الأولى هى من خلق الله الحي بذاته المحيي لغيره.

١٠٠