تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : ما وجبت؟ قال : هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ، أنتم شهداء الله فى الأرض».

وقال ابن عباس ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.

(وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وستردّون يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم ، ومن لا يخفى عليه شىء من بواطن أموركم وظواهرها فيعرفكم أعمالكم ثم يجازيكم عليها بحسن الثواب أو سوء العذاب.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

تفسير المفردات

مرجون ومرجئون وبهما قرىء : أي مؤخرون ، يقال أرجأت الأمر وأرجيته : أي أخرته.

المعنى الجملي

كان المتخلفون عن الجهاد فى غزوة تبوك أقساما ثلاثة :

(١) المنافقون الذين مردوا على النفاق ، وهم أكثر المتخلفين.

(٢) المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا وزكّوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول واستغفاره فتاب الله عليهم.

(٣) المؤمنون الذين حاروا فى أمرهم ولم يعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم لا عذر لهم ، وأرجئوا توبتهم فأرجأ الله الحكم القاطع فى أمرهم لأسباب ستذكر بعد.

٢١

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة ، وهم مرارة ابن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك فى جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والتمتع بطيب الثمار ، والتفيؤ بالظلال لا شكّا ونفاقا ، وكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، فنزلت توبة الأولين قبل توبة هؤلاء وأرجئت توبة هؤلاء حتى نزلت آية التوبة «لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ» إلخ.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أي ومن المتخلفين ناس آخرون مؤخرون لحكم الله فى أمرهم ، وهم أولئك النفر الذين سبق ذكرهم وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الهمّ باللحاق به ولم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم كما فعل أبو لبابة وأصحابه من الذين ربطوا أنفسهم فى سوارى المسجد فنزل فيهم قوله تعالى.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) الآية فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن إلى أن نزل قوله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآية.

(إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي إن أمرهم دائر بين هذين : التعذيب والتوبة وقد أبهم الأمر عليهم وعلى الناس فلا يدرون ماذا ينزل بهم؟ هل تنفع توبتهم فيتوب الله عليهم كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم ، أو يحكم بعذابهم فى الدنيا والآخرة كما حكم على الخالفين من المنافقين؟

وحكمة إبهام الأمر إثارة الغم والحزن فى قلوبهم لتصحّ توبتهم.

وحكمة إبهامه على الرسول والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخالطتهم ، تربية للفريقين على ما يجب أن يعامل به أمثالهم ممن يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله

٢٢

والجهاد لاعلاء كلمة الحق ودفع عدوان أهل الباطل عن المؤمنين.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بما يصلح حال عباده ويربّيهم ويزكيهم أفرادا وجماعات ، حكيم فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح إذا عملوا بها :

ومن هذه الحكمة إرجاء النص على توبتهم فى كتابه ، كما أن تكرار تلاوتها فى مختلف الأوقات مما يوقع فى قلوب المؤمنين الرهبة والخوف ويفيدهم عظة وتهذيبا.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

تفسير المفردات

الضرار والمضارّة : محاولة إيقاع الضرر ، والإرصاد : الانتظار والترقب مع العداوة يقال رصدته : أي قعدت له على طريقه أترقبه ، وأرصدت هذا الجيش للقتال ، وهذا الفرس للطراد ، ولا تقم أي لا تصلّ ، والتأسيس : وضع الأساس للبناء ليقوم عليه ويرفع ، والتقوى : اسم لما يرضى الله ويقى من سخطه ، وشفا أي حرف والجرف

٢٣

(بضمتين) : جانب الوادي ونحوه ، والهار والهائر ؛ كالشاك والشائك : الضعيف المتداعى للسقوط ، وانهار : سقط ، والريبة : من الرّيب ، وهو اضطراب النفس وتردد الوهم والحيرة ، وتقطع : أي تفرق أجزاء.

المعنى الجملي

هذه الآيات نزلت فى بيان مكيدة من مكايد المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، وذكرت هنا لما فيها من العبرة والعظة والذكرى بإيهام عطفها على من أرجا الله الحكم فى أمرهم ليتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ولو بصلاتهم معهم فى مسجدهم.

روى فى سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، كان قد تنصّر وقرأ علم أهل الكتاب وكان له منزلة كبيرة فيهم ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا واجتمع عليه المسلمون وعلت كلمة الإسلام وأظهره الله على أهل الشرك خرج فارّا إلى مكة وألبّ المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم فى وقعة أحد وخاطب قومه الأنصار ليستميلهم إلى نصره فسبوه وردوه أقبح رد ، ولما فرغ الناس من الموقعة فر إلى هرقل ملك الروم يستنصره فوعده وحباه وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يأوى إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا فى بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموا بناءه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوه أن يصلى فى مسجدهم ليكون ذلك ذريعة إلى تقريره لإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة فى الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : «إنا على جناح سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله».

٢٤

ولما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين فى مسجدهم (مسجد قباء) الذي أسس من أول يوم على التقوى ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من يهدمه قبل مقدمه المدينة وأمر أن يتّخذ كناسة تلقى فيها القمامة إهانة لأهله.

الإيضاح

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ).

روى أن الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثنى عشر رجلا من منافقى الأوس والخزرج ، وقد بين الله الأغراض التي لأجلها بنى ، وهى :

(١) مضارة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه من مكة مهاجرا قبل وصوله إلى المدينة.

(٢) تقوية الكفر وتسهيل أعماله من فعل وترك ، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هناك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم فى مسجد واحد ، والتشاور فيما بينهم فى الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيه إلى نحو أولئك من مقاصد المنافقين.

(٣) التفريق بين المؤمنين المقيمين هنالك ، فإنهم كانوا يصلون جميعا فى مسجد قباء ، وفى ذلك حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة وهى أهم مقاصد الإسلام الاجتماعية ، ومن ثم كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لأغراض الدين ومراميه ، ومن الواجب أن يصلى المسلمون الجمعة فى مسجد واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، فإن تفرقوا عمدا كانوا آثمين.

ومن هذا يعلم أن بناء المساجد لا يكون قربة يتقبلها الله إلا إذا دعت الحاجة

٢٥

إلى ذلك ، ولم يكن سببا لتفريق جماعتهم ، فكثير من المساجد المتقاربة فى القاهرة وغيرها من الأمصار الأخرى لم تبن لوجه الله بل كان الباعث على ينائها الرياء واتباع الأهواء من جهلة الأفراد والأثرياء وعدم نصح العلماء لهم.

(٤) الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجىء محاربا فيجد مكانا مرصدا له ، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه ، وهم أولئك المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك.

(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الخصلة التي تفوق غيرها فى الحسن ، وهى الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولى العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم ، ليصدقهم الرسول صلى الله عليه وسلم وليصلى معهم ، والله يعلم إنهم لكاذبون فى إيمانهم لأنهم ما بنوه إلا للسوءى وضرار مسجد قباء.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي لا تقم فى هذا المسجد للصلاة أبدا.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي إن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه فى أول يوم تقوى الله بإخلاص العبادة له وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى ـ هو أحق من غيره أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين.

والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء ، ولكن روى أحمد ومسلم والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي فى المدينة ، والآية لا تمنع إرادة كل من المسجدين ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بنى كلا من المسجدين ووضع أساسه على التقوى من أول يوم شرع فيه ببنائه.

(فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي فيه رجال يعمرونه بإقامة الصلاة وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال ، ويحبون أن يتطهروا بذلك مما يعلق بأنفسهم من أوضار الذنوب والآثام ، كما تطهر المتخلفون منهم من غزوة تبوك بالتوبة والصدقات ، ويتبع

٢٦

العمارة المعنوية بالعكوف فيه للصلاة وغيرها ـ الطهارة الحسية للثوب والبدن ، وطهارة الوضوء والاغتسال.

والخلاصة ـ إن التطهر يشمل الطهارتين النفسية والبدنية ، والروايات وردت بكل منهما ، والأولى إرادتهما معا.

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي الذين يبالغون فى طهارة الروح والجسد لحبهم إياهما ، لأنهم يرون فيهما الكمال الإنسانى ، فمن ثم يبغضون نجاسة البدن والثوب ، وأشد منهما بغضا لهم نجاسة النفس وخبثها بالإصرار على فعل المعاصي والتخلق بذميم الأخلاق كالرياء فى الأعمال إذ هو فعل المنافقين ، والشح بالأموال أو بالأنفس فى سبيل الله ابتغاء لمرضاته.

وحب الله إياهم من صفات كماله ، إذ العالم بتفاوت الأشياء فى الحسن والقبح والكمال والنقص يكون من صفاته حب الكمال والحق والخير وبغض أضدادها.

وحبه تعالى منزه عن مشابهته حبنا كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا ، ويظهر أثر حبه لعباده فى أخلاقهم وأعمالهم ومعارفهم وآدابهم كما أشار إليه الحديث القدسي الذي رواه البخاري «ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به» الحديث.

وفى معنى الآية ما جاء فى عظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهن باتباع أوامره ونواهيه بما يليق بما لهن من مكانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم ذلك بقوله : «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) هذا بيان مستأنف للفرق بين مقاصد أهل مسجد التقوى وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره ، ومقاصد أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم.

٢٧

والأساس على شفا الجرف الهارى ، مثل يضرب لما يكون فى منتهى الوهي والانحلال والإشراف على الزوال ، أي أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه موطنا لراحته وهناء معيشته ويتقى به العوامل الجوية ، وعدوان الكائنات الحية على أمتن الأسس وأقواها على مصابرة العواصف والسيول وصد الهوامّ والوحوش ـ خير بنيانا ، أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا فكانت عرضة للانهيار فى كل حين من ليل أو نهار؟.

وقد ضرب الله مثل البنيان على تينك الصفتين لبيان حال الفريقين المتقدمين من صدق الإيمان ، والنفاق والارتياب ، أي أفمن كان مؤمنا صادقا يتقى الله فى جميع أحواله ويبتغى مرضاته فى جميع أعماله ، قاصدا تزكية نفسه وإصلاح سريرته ـ خير أم من هو منافق مرتاب ، يبتغى بأعماله الضرر والضرار وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار وتفريق جماعة المؤمنين والإرصاد لمساعدة من حارب الله ورسوله مع ما يكون لعمله فى الدنيا من العار والفضيحة والخزي والبوار ، وفى الآخرة من الانهيار فى النار.

وخلاصة المثل ـ بيان ثبات الإسلام وقوته وسعادة أهله به وثمرته فى أعمالهم وجزائهم عليه برضوان الله عنهم ، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ووهيه وقرب زواله وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله ، وبيان أن شر أعمال أهله المنافقين ، ما اتخذوه من مسجد الضرار لمفاسده الأربع المتقدمة.

فالإيمان وما يلزمه من صالح العمل هو الثابت ، والنفاق وما يستلزمه من فاسد العمل هو الباطل الزاهق بحكم ناموس الاجتماع وبقاء الأصلح فى الوجود ، وقد صدق الله وعده وثبّت المؤمنين بالقول الثابت ، وهداهم إلى العمل الصالح ففتحوا البلاد وأقاموا سبل الحق والعدل ، وأهلك المنافقين ، وقد جرت سنته فى كل زمان ومكان أن يكون الفوز حليف أهل الحق ، والخيبة لأهل الباطل ما استمسكوا به ، ولم يقلعوا عنه.

٢٨

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي مضت سنته تعالى ألا يكون الظالم مهتديا فى أعماله إلى الحق والعدل ولا إلى الرحمة والفضل :

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي لا يزال بنيانهم سبب ريبة وشك فى الدين ، لأنهم يظهرون فيه حال قيامه ما فى قلوبهم من آثار الكفر والنفاق ويدبرون أمورهم ويتشاورون فى ذلك ويلقى بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكا فى الدين ، وحين أمر صلى الله عليه وسلم بتخريبه وهدمه ثقل ذلك عليهم وعظم خوفهم وارتابوا فى أمرهم : أيتركون على حالهم أم يؤمر بهم فيقتلون وتنهب أموالهم ، إلى أنهم اعقدوا أنهم كانوا محسنين فى البناء ، فلما أمر بتخريبه أصبحوا شاكين فى أمره ، ولأى سبب كان ذلك.

ولا يزال هذا شأنهم فى جميع الأحوال إلا حال تقطع القلوب أفلاذا وصيرورتها جذاذا ، فتكون غير قابلة للإدراك.

وفى هذا إيماء إلى أن تمكن الريبة فى قلوبهم وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ماداموا أحياء.

والخلاصة ـ إنه لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق واضطراب النفس وإن ذلك لا يزول ما دامت القلوب سالمة ـ أما إذا تفرقت قطعا وتقطعت أجزاء بقتلهم فحينئذ يسلون عنه.

وقد يكون المراد : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بكل شىء ، حكيم فى أفعاله ، ومن حكمته أن بيّن حال المنافقين وأظهر ما خفى من أمرهم لتعرفوا كنه الحقيقة فى ذلك.

٢٩

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وأصناف المقصّرين من المؤمنين ، أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين فى إيمانهم البالغين فيه حد الكمال ، وبذا تمّ معرفة جميع أحوال المؤمنين.

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) هذا ترغيب فى الجهاد على أبلغ وجه وأحسن صورة. فقد مثل الله إثابة المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم فى سببله بتمليكهم الجنة التي هى دار النعيم والرضوان الدائم السرمدي تفضلا منه تعالى وكرما ـ بصورة من باع شيئا هو له لآخر ـ وعاقد عقد البيع هو رب العزة والمبيع هو بذل الأنفس والأموال ، والثمن هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وجعل هذا العقد مسجلا فى الكتب السماوية ، وناهيك به من صكّ لا يقبل التحلل والفسخ ، وفى هذا منتهى الربح والفوز العظيم ، وكل هذا لطف منه تعالى وتكريم لعباده المؤمنين ، فهو المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها ، ولأموالهم إذ هو الذي رزقها ، ولهذا قال الحسن : اشترى أنفسا هو خلقها ، وأموالا هو رزقها ، إلا أنه تعالى غنى عن أنفسهم وأموالهم والمبيع والثمن له وقد جعله بفضله وكرمه لهم.

روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر قال : نزلت هذه الآية على رسول الله

٣٠

صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد فكبّر الناس فى المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفى ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله أنزلت فينا هذه الآية ، قال «نعم» فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وأخرج ابن جرير أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة اشترط لنفسك ولربك فقال : «أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ، قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة ، قال ربح البيع لا نقيل ولا نستقبل ، فنزلت الآية».

وأخرج ابن سعد فى طبقاته عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، أن سعد ابن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال : يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة. فقالوا نحن حرب لمن حارب ، وسلم لمن سالم. فقال يا رسول الله اشترط علىّ. فقال : «تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، ولا تنازعوا الأمر أهله ، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم» قالوا نعم. قال قائل الأنصار : نعم هذا لك يا رسول الله ، فما لنا؟ قال «الجنة والنصر».

وأخرج ابن سعد عن الشّعبى قال : «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس ابن عبد المطلب وكان ذا رأى إلى السبعين من الأنصار عند العقبة ، فقال العباس ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة ، فإن عليكم للمشركين عينا ، وإن يعلموا بكم يفضحوكم فقال قائلهم : يا محمد سل لربك ما شئت ، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت ، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك؟ ، فقال : أسألكم لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأسألكم لنفسى وأصحابى أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم ، قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال : الجنة» فكان الشعبي إذا حدّث هذا الحديث قال : ما سمع الشّيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.

٣١

وروى ابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا «من سل سيفا فى سبيل الله فقد بايع الله» وروى ابن أبى حاتم عن الحسن قال : «ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل فى هذه البيعة» وفى رواية «اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن. إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم».

ثم بين صفة تسليم البيع فقال :

(يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي إنهم يقاتلون فى سبيل الحق والعدل التي توصل إلى مرضاة الله تعالى ببذل أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله ، وإما مقتولين شهداء فى هذه السبيل ، ولا فرق بين القاتل والمقتول فى الفضل والمثوبة عند الله ، فكل منهما كان فى سبيله ولم يكن رغبة فى سفك الدماء ، ولا حبّا للأموال ولا توسلا إلى ظلم العباد كما يفعل الذين يقاتلون لأغراض الدنيا من الملوك والأمراء.

(وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي وعدهم وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا وأثبته فى التوراة والإنجيل ، وضياعه منهما فى النسخ التي بين يدى أهل الكتاب لا يضير فى ذلك ؛ لأنه قد ضاع منهما كثير وحرّف بعضهما لفظا ومعنى ، ويكفى إثبات القرآن لذلك وهو المهيمن عليهما.

(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ؟) أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق فى إنجاز وعده من الله ، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء ولا يعرض له تردد ولا رجوع عما يريد إمضاءه من شأنه.

(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي فإذا كان الأمر على هذه الحال فأظهروا السرور على ما فزتم به من الجنة.

(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وذلك الفوز الذي لا فوز أعظم منه ، وما يتقدمه من النصر والسيادة والملك لا يعد فوزا إلا بكونه وسيلة لإقامة الحق والعدل.

٣٢

وفى هذا الأسلوب من التأكيد واستحقاق المجاهدين للثواب ما لا يخفى ، إذ جعلهم مالكين معه ومبايعين له ومستحقين الثمن الذي بايعهم به ، وأكد لهم أمر الوفاء وإنجاز وعده.

وعن جعفر الصادق أنه قال : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.

يريد أن الذي يقتل أو يموت فى سبيل الله بذل بدنه الفاني ، لا روحه الباقي.

ثم وصف الله هؤلاء المكملة من المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم بجنته بصفات هى :

(١) (التَّائِبُونَ) أي هم الراجعون إلى الله بتركهم كل ما يبعد عن مرضاته ، وتوبة الكفار هى رجوعهم عن الكفر الذي كانوا عليه كما قال : «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ» وتوبة المنافق تكون بترك نفاقه ، وتوبة العاصي من معصيته تكون بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله كتوبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين ، وتوبة المقصّر فى شىء من البر وعمل الخير تكون بالاستزادة منه ، وتوبة من يغفل عن ربه تكون بالإكثار من ذكره وشكره.

(٢) (الْعابِدُونَ) لله المخلصون فى جميع عباداتهم ، فلا يتوجهون إلى سواه بدعاء ولا استغاثة ولا يتقربون إلى غيره بعمل قربان ولا طلب مثوبة فى الآخرة.

(٣) (الْحامِدُونَ) لله فى السراء والضراء ، روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه الأمر يسرّه قال «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» وإذا أتاه الأمر يكرهه قال : «الحمد لله على كل حال».

(٤) (السَّائِحُونَ) فى الأرض لغرض صحيح كعلم نافع للسائح فى دينه أو دنياه ، أو نافع لقومه وأمته ، أو النظر فى خلق الله وأحوال الأمم والشعوب للاعتبار والاستبصار وقد حث الله كثيرا على السير فى الأرض والضرب فيها كما قال «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ».

٣٣

وعلى السفر والسياحة لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها.

والإسلام الذي يجيز سفر النساء فى الغزوات ـ وهن غير مكلّفات ـ بالقتال للمساعدة عليه بتهيئة الطعام والشراب وتضميد الجراح فهو بالأولى يجيز صحبتهن فى سائر الأسفار ، وفى ذلك إحصان لكل من الزوجين ومنع لهما عن التطلع إلى الأجنبى.

وفسر بعضهم السياحة بالصيام لما روى عن عائشة : «سياحة هذه الأمة الصيام» لأن الصوم يعوق عن اللذات كما أن السياحة كذلك غالبا.

(٥ ، ٦) (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) فى صلواتهم المفروضة ، وخصا بالذكر لما فيهما من الدلالة على التواضع والعبودية والتذلل لله سبحانه.

(٧ ، ٨) (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الداعون إلى الإيمان وما يتبعه من أعمال البر والخير ، والناهون عن الشرك وما بسبيله من المعاصي والسيئات.

(٩) (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بيّن فيها ما يجب على المؤمنين اتباعه وما يحظر عليهم فعله منها ، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين وأولى الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل فى أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلّوا بما يجب عليهم حفظه منها.

ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال :

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين المتصفين بهذه الصفات بخيرى الدنيا والآخرة.

وخصت تلك الخلال بالذكر لأن بها تكون المحافظة على حدود الله.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ

٣٤

هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

تفسير المفردات

الأوّاه : الكثير التأوّه والتحسر ، أو الخاشع الكثير الدعاء والتضرع إلى ربه ، وقيل إنها كلمة حبشية الأصل ، ومعناها المؤمن أو الموقن ، وأصل التأوه : قول أوه أو آه أو نحوهما مما يقوله الحزين أو أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها ، وآه بالكسر منونا وغير منون ، والحليم : الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش ولا يستخفه هوى النفس ، ومن لوازم ذلك الصبر والثبات والصفح والتأنى فى الأمور واتقاء العجلة فى الرغبة والرهبة

المعنى الجملي

كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين فى جميع الأحوال ، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم ، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ» فلما أصرّ على كفره تبرأ منه ، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شىء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه.

أخرج أحمد وابن أبى شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية ، فقال : «أي عمّ قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال

٣٥

رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وأنزل الله فى أبى طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقد كان موت أبى طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات ، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت فى أبى طالب ، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين :

(١) إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.

(٢) إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له ، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبى طالب ، فإن التشديد على الكفار ، والبراءة منهم إنما جاء فى هذه السورة وفى الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة ، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان ، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبى هريرة قال : «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، ثم قال : استأذنت ربى أن أستغفر لها فلم يأذن لى ، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت».

الإيضاح

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) أي ما كان من شأن النبي ولا مما ينبغى أن يصدر منه من حيث هو نبىّ ، ولا من شأن المؤمنين ، ولا مما يجوز أن يقع منهم أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين.

(وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي ولو كان لهم حق البر وصلة الرحم ، وكانت عاطفة القرابة تقتضى الحدب والإشفاق عليهم.

٣٦

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار ، بأن ماتوا على الكفر ، أو بأن نزل وحي يسجل عليهم ذلك كإخباره تعالى عن بعض الجاحدين المعاندين بنحو قوله : «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»؟.

وخلاصة ذلك ـ إن النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين فى كل حال ، حتى ولو كانوا أولى قربى إذا ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب الجحيم.

ثم أجاب عن سؤال قد يختلج بالخاطر مما تقدم ، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه فقال :

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي وما استغفر إبراهيم لأبيه آزر بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي وفّقه للإيمان واهده إلى سبيله ـ إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله : «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي» أي لا أملك لك هداية ولا نجاة ، وإنما أملك أن أدعو الله لك.

وقد وفّى إبراهيم بما وعد ، ولم يكن إلا وفيا كما شهد الله له بقوله : «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى».

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه ، قال ابن عباس ، وقيل تبين له ذلك بوحي من الله فتبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له ، إذ هذا مقتضى الإيمان كما قال تعالى : «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ» الآية.

ثم بين السبب الذي حمل إبراهيم على الوعد بالاستغفار لأبيه مع شكاسته له وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله : «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» فقال :

٣٧

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) أي إن إبراهيم لكثير المبالغة فى خشية الله والخضوع له ، صبور على الأذى والصفح عن زلّات غيره عليه.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) أي وما كان من سنن الله فى خلقه ولا من رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال ويجرى عليهم أحكامه بالذم والعقاب بعد إذ هداهم إلى الإيمان ، وشرح صدورهم للإسلام ـ بقول يصدر منهم عن غير قصد أو عمل يحدث منهم باجتهاد خاطئ.

(حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) من الأقوال والأفعال بيانا واضحا بوحي صراحة أو دلالة.

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بجميع الأشياء ، ومن جملتها حاجة الناس إلى البيان ، فهو يبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع ، حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء أنفسهم ، ومن أجل هذا لم يؤاخذ إبراهيم فى استغفاره لأبيه قبل أن تتبين له حاله ، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولى القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله تعالى.

ولما منعهم من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولى قربى ، وذلك يستدعى التبرؤ منهم وعدم انتظار النصرة من أحد ـ بين أن النصر لا يكون إلا من جهته تعالى فقال :

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي إنه تعالى مالك كل موجود ، ومتولى أمره فى السموات والأرض ، وهو الذي يهب الحياة بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه فى التكوين ، ويميت من يشاء حين انقضاء أجله ، وليس لكم أيها المؤمنون من يتولى أموركم ، ولا من ينصركم على عدوكم غير الله تعالى ، فلا تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولى القربى الذين هم أهل الولاية والنصرة من ذوى الأرحام ، ولا فى غير ذلك من أوامره ونواهيه.

٣٨

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

تفسير المفردات

العسرة : الشدة والضيق ، وزاغ : مال ، الرّحب : السعة ، ولجأ إلى الحصن وغيره : لاذ إليه واعتصم به ، الرأفة : العناية بالضعيف والرفق به ، والرحمة : السعى فى إيصال المنفعة.

المعنى الجملي

بعد أن استقصى سبحانه أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف ـ عاد مرة أخرى إلى الكلام فى توبتهم جيا على سنة القرآن الكريم فى تفريق الآيات فى الموضوع الواحد ، لأنه أفعل فى النفس وأشد تأثيرا فى القلب وأجدى فى تجديد الذكرى وأدنى ألا يسأم التالي لها فى الصلاة وغيرها. إلى أنه مناسب لما قبله من النهى عن الاستغفار للمشركين ، إذا كلّ مما يتاب منه ، وكلّ عثرة يطلب منها الصفح والعفو.

الإيضاح

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أي لقد تفضل سبحانه وعطف على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار فتجاوز عن هفوات صدرت

٣٩

منهم فى هذه الغزوة وغيرها لبلائهم الحسن فيها ، ولأنهم لم يصروا على شىء منها.

وقد كانت هفواتهم على سنن الطباع البشرية واجتهاد الرأى فيما لم يبينه الله بيانا قطعيا بحيث يعد مخالفه عاصيا ، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله فى سياق هذه الغزوة «عفا الله عنك ـ لم أذنت لهم؟» أي إن التوبة كانت من اجتهاد لم يقره الله عليه إذ غيره كان خيرا منه ، وتوبة المهاجرين والأنصار ، وهم خلّص المؤمنين كانت من تثاقلهم فى الخروج حتى ورد الأمر الحتم والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض ، ومنهم من كان ذنبه السماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين.

وتوبة الله على عباده توفيقهم للتوبة وقبولها منهم ، وإنما يتوبون من ذنب ، وما كل ذنب معصية لله عز وجل.

(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي الذين اتبعوه ولم يتخلفوا عنه وقت الشدة والضيق ، وكانت عسرة فى الزاد إذ كان الوقت نهاية فصل الصيف الذي نفدت فيه مئونتهم من التمر ، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد ، ولا يمكن حمل شىء منه ، فكان يكتفى الواحد منهم أو الاثنان بالتمرة الواحدة من التمر القديم ومنه المدوّد واليابس ، ومنهم من تزوّد بالشعير المسوس والإهالة (الشحم المذاب) الزنخة المتغيرة الرائحة ـ وعسرة فى الماء حتى كانوا ينحرون البعير على قلة الرواحل ليعتصروا الفرث الذي فى كرشه ويبلّوا به ألسنتهم ـ وعسرة فى الظهر (فى الإبل) حتى كان العشرة يتعقبون بعيرا واحدا ـ وعسرة فى الزمن إذ كان فى حرارة القيظ (شدة الحر).

قال جابر بن عبد الله رضى الله عنه فى ساعة العسرة : عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء ، وقال ابن عباس لعمر رضى الله عنهم : حدّثنا من شأن ساعة العسرة ، فقال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فى قيظ شديد فنزلنا منزلا

٤٠