تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

فأصابنا فيه عطش شديد ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل لينحر بعيره ليعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه : يا رسول الله إن الله قد عودك فى الدعاء خيرا فادفع لنا ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي إنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان وهم الذين تخلفوا لغير علة النفاق ، وهم الذين وصفهم الله بأنهم عملوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم ، فقبل الله توبتهم كما ذكر فيما سلف.

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) هذا تكرير للتوكيد كما يقال عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه ، فيدل ذلك على أنه عفو متأكد بلغ الغاية القصوى من القدرة والكمال.

ثم علل قبول توبتهم بقوله :

(إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن ربهم رءوف رحيم بهم ، فلا يهملهم بأن ينزع الإيمان منهم بعد ما أبلوا فى الله وأبلوا مع رسوله وصبروا فى البأساء والضراء.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلّفوا عن الخروج إلى تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم المرجون لأمر الله ، وتقدم أنهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع.

(حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا خوفا من العاقبة وجزعا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنهم ، وهجرهم إياهم فى المجالسة والمحادثة.

وهذا مثل للحيرة فى الأمر ، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقّرون فيه قلقا وجزعا مما هم فيه ، قال قائلهم :

كأنّ فجاج الأرض وهى فسيحة

على الخائف المطلوب كفّة حابل

ثم ترقى وانتقل من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم فى أنفسهم فقال :

٤١

(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم ، لما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلائها بالهمّ والغم حتى لا متسع فيها لشىء من البسط والسرور ، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به.

(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي واعتقدوا أنه لا ملجأ من غضب الله ورسوله ، إلا إليه تعالى بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته ، وقد أعرض عنهم رسوله البرّ الرحيم بأصحابه ، فلم يكونوا يستطيعون أن يطلبوا دعاءه واستغفاره ـ إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع فى الدنيا ، ولا فى الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم.

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي ثم عطف عليهم وأنزل قبول توبتهم.

(لِيَتُوبُوا) ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته ، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

(إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين ، الواسع الرحمة للمحسنين ، المتفضل عليهم بضروب النعم مع استحقاقهم لأعظم أنواع العقاب.

وكان من حديث هؤلاء الثلاثة ما حدثه كعب قال : «لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّمت عليه فرد علىّ كالمغضب بعد ما ذكرنى وقال : «ليت شعرى ما خلّف كعبا» فقيل له ما خلّفه إلا حسن برديه والنظر فى عطفيه فقال :

«معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما» ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب أو بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع (جبل بالمدينة) أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا ، وكنت كما وصفني ربى و (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وتتابعت البشارة ، فلبست ثوبى وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس فى المسجد وحوله المسلمون فقام إلىّ طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحنى وقال : لتهنك توبة الله ، فلن أنساها لطلحة ،

٤٢

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر ، أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية».

وفى هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم وتفيض لها عبراتهم ، وقد كان لإمام أحمد لا يبكيه شىء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات.

انظر إلى هذا وتأمل قسوة قلوب الجاهلين المغرورين ، الذين يقترفون الفواحش والمنكرات ، ويتركون الفرائض ويصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ولا يتوبون إلى الله ولا هم يذّكرون ، وإذا وعظهم الواعظ وجدهم بين جازم بالمغفرة والعفو عنه ، ومتكل على شفاعة الشافعين له ، ومنهم من يحفظ من أخبار مكفرات الذنوب مما لا أصل له فى الدين ، أو له أصل يراد به تكفير الصغائر بشرط اجتناب الكبائر ، كما قال تعالى : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه ، وكونوا فى الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا فى الآخرة مع الصادقين فى الجنة ، ولا تكونوا مع المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤيدونه بالحلف.

أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له ، اقرءوا إن شئتم : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» وأخرج البيهقي مرفوعا «إن الصدق يهدى إلى البرّ ، وإن البر يهدى إلى الجنة ، وإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار ، إنه يقال للصادق : صدق وبرّ ، ويقال للكاذب : كذب وفجر ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا ، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا».

ولا رخصة فى الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب ، أو إصلاح بين اثنين ، أو رجل يحدّت امرأته ليرضيها ، أي فى التحبب إليها بوصف محاسنها ورضاه عنها ، لا فى مصالح الدار والعيال وغيرها.

٤٣

أخرج ابن أبى شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب فى خديعة حرب أو صلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها».

ولا شك أن فى المعاريض ما يغنى العاقل عن الكذب كما جاء فى الحديث «إن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب»

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

تفسير المفردات

رغب فى الشيء : أحبه وآثره ، ورغب عنه : كرهه ، وقد جمع بينهما فى الآية.

والظمأ : شدة العطش ، والنصب : الإعياء والتعب ، والمخمصة : الجوع الشديد ، والغيظ : الغضب ، ونيلا : أي أسرا وقتلا وهزيمة ، والوادي : كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه توبته على المتخلفين الذين حسنت نياتهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ـ أكد هنا وجوب متابعة الرسول والغزو معه لما فيه من الأجر العظيم ، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه.

٤٤

الإيضاح

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي لا ينبغى لأهل المدينة حاضرة الإسلام ومقر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا من حولهم من الأعراب كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم ـ أن يتخلفوا عن رسول الله ، فى غزو فى سبيل الله كما فعل بعضهم فى غزوة تبوك ، ولا فى غيره من شئون الأمة ومصالح الملة ، ولا أن يفضّلوا أنفسهم على نفسه فيرغبوا فى الراحة والسلامة ولا يبذلوها فيما يبذل فيها نفسه الشريفة ، بل عليهم أن يصحبوه فى البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط ، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها ، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض فى شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ، ويضنّوا بها على ما سمح بنفسه عليه.

والخلاصة ـ إن المتخلّف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه.

وفى ذلك نهى شديد عن عملهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهيج لمتابعته صلى الله عليه وسلم بأنفة وحمّية.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) أي لم يكن لهم حق التخلف ، بل يجب عليهم الاتباع بسبب أن كل ما يصيبهم فى جهادهم من أذى وإن كان قليلا كظمأ لقلة الماء ، أو نصب لبعد الشّقة ، أو لقلة الظهر ، أو مجاعة لقلة الزاد ، ومن إيذاء للعدو وإن صغر كوطء أرضه الذي يعده استهانة بقوته فيغيظه أن تمسّه أقدام المؤمنين أو حوافر خيولهم ، أو النيل منه بجرح أو قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة ـ إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يجزى عليه بالثواب العظيم ، وما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تشمل كل حركة من بطشة يد أو وطأة قدم أو عروض جوع أو عطش أو نحو ذلك.

٤٥

وفى الآية إيماء إلى أن من قصد خيرا كان سعيه فيه من قيام أو قعود أو مشى أو كلام أو نحو ذلك مشكورا مثابا عليه ، وإلى أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش فى الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم ، ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لا بنى عامر وقد قدما بعد تقضّى الحرب.

ثم علل هذا الأجر العظيم بقوله :

(إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن الله لا يدع محسنا أحسن فى عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه ـ أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله ، ومن ثم كتب لمن أطاعه من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الثواب على كل ما فعلوا فلم يضع لهم أجرا على عمل عملوه.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أي كذلك شأنهم فيما ينفقون فى سبيل الله صغر أو كبر ، قلّ أو كثر ، وفى كل واد يقطعونه فى سيرهم غادين أو رائحين ـ إلا كتب لهم أجرهم على ذلك جزاء لهم على عملهم ولا يترك شىء منه أو ينسى.

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ليجزيهم بكتابته فى صحف أعمالهم كأحسن ما يجزيهم على خير أعمالهم التي كانوا يعملونها ، وهم مقيمون فى منازلهم.

وخلاصة ذلك ـ إنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر جزاء أحسن من جزائهم على أعمالهم الجليلة فى غير الجهاد بالمال والنفس ، بأن تكون النفقة الصغيرة فيه كالنفقة الكبيرة فى غيره من أنواع المبرات ، والمشقة القليلة فيه كالمشقة الكبيرة فما عداه من الأعمال الصالحات.

٤٦

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

تفسير المفردات

نفر : خرج للقتال ، ولو لا : كلمة تفيد الحضّ والحث على ما يدخل عليها إذا كان مستقبلا ، واللوم على تركه إذا كان ماضيا ، فإن كان مما يمكن تلافيه فربما أفاد الأمر به ، والفرقة : الجماعة الكثيرة ، والطائفة : الجماعة القليلة ، وتفقه : تكلف الفقاهة والفهم وتجشم مشاق تحصيلها ، وأنذره : خوّفه ، وحذره : تحرز منه.

المعنى الجملي

هذه الآية جاءت متممة لأحكام الجهاد مع بيان حكم العلم والتفقه فى الدين من قبل أنه وسيلة للجهاد بالحجة والبرهان ، وهو الركن الركين فى الدعوة إلى الإيمان وإقامة دعائم الإسلام ، ولم يشرع جهاد السيف إلا ليكون حماية وسياجا لتلك الدعوة من أن تلعب بها أيدى المعتدين من الكافرين والمنافقين.

روى الكلبي عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : لما شدّد الله على المتخلفين قالوا لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فنزل (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) الآية.

الإيضاح

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي وما كان شأن المؤمنين ولا مما يطلب منهم أن ينفروا جميعا فى كل سرية تخرج للجهاد ، فإنه فرض كفاية متى قام به بعض سقا

٤٧

عن الباقين ، لا فرض عين على كل شخص ، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للجهاد.

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة منهم ، كأهل بلد أو قبيلة طائفة وجماعة ليتسنى لهم : أي للمؤمنين فى جملتهم التفقه فى الدين ، بأن يتكلف الباقون فى المدينة الفقاهة فى الدين بما يتجدد نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات وما يكون منه صلى الله عليه وسلم من بيانها بالقول والعمل ، فيعرف الحكم مع حكمته ، ويوضح المجمل بالعمل به ، ولينذروا قومهم الذين نفروا للقاء العدو إذا رجعوا إليهم : أي ليجعلوا أهمّ قصد لهم من الفقاهة إرشاد هؤلاء وتعليمهم ، وإنذارهم عاقبة الجهل وترك العمل بما علموا ، رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبة عصيانه ، وأن يكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته والحجاج عنه وبيان أسراره للناس ، لا أن يوجهوا أنظارهم إلى الرياسات والمناصب العالية والترفع عن سواد الناس وكسب المال والتشبه بالظلمة والجبارين فى ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا.

وفى الآية إشارة إلى وجوب التفقه فى الدين والاستعداد لتعليمه فى مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها ، والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد لهم عند الله من سامى المراتب ما لا يقل فى الدرجة عن المجاهد بالمال والنفس فى سبيل إعلاء كلمة الله والذود عن الدين والملة ، بل هم أفضل منهم فى غير الحال التي يكون فيها الدفاع واجبا عينيا على كل شخص.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣))

٤٨

المعنى الجملي

لما أمر سبحانه فيما سبق بقتال المشركين كافة ـ أرشدهم فى هذه الآية إلى طريق السداد فى هذا الباب ، وهو أن يبدءوا بقتال من يليهم ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد وهكذا ، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كذلك ، فقد حارب قومه ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم إلى غزو الشام ، ولما فرغ صحابته من الشام دخلوا العراق ؛ وكذلك فى أمر الدعوة فقد قال تعالى : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ثم أمر بالدعوة العامة وقتال من يقف فى طريقها من المشركين فقال : «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي قاتلوا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ، ذاك أن القتال إنما شرع لتأمين الدعوة إلى الدين والدفاع عن أهله ، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله : «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها».

وهذا الترتيب أولى لوجوه كثيرة : منها قلة النفقات ، والحاجة فيه إلى الدواب والآلات ، وسهولة معرفة حال الأقرب من الأسلحة والعسكر ، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بالأبعد لا يؤمن معه من هجوم العدو على الذراري والضعفاء ، ومن ثم كان هذا هو الطريق المتبع فى الدعوة والنفقات والصدقات وما يدار فى المجالس من شراب ونحوه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين ثم الذي يليه ثم الذي يليه ، وقال للأعرابى الذي كان يمديده إلى الجوانب البعيدة من المائدة «كل مما يليك».

(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) الغلظة ـ مثلثة ـ : الشدة والخشونة ، أي وليجدوا فيكم

٤٩

جرأة وصبروا على القتال وعنفا فى القتل والأسر ونحو ذلك كما قال : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ».

والغلظة فى زمن الحرب مما تقتضيه الطبيعة والمصلحة ، لما فيها من شدة الزجر والمنع عن القبيح.

وفى الآية إيماء إلى أنه قد يحتاج حينا إلى الرفق واللين ، وأخرى إلى العنف والشدة ، لا أن يقتصر على الغلظة فحسب فإن ذلك مما ينفّر ويوجب تفرق الناس عنهم ، وإنما أمروا بذلك فى القتال وما يتصل بالدعوة إلى الإسلام ، للإرشاد إلى أنه يجب أن تكون حالهم فى الأمور العامة مبنية على الرفق والعدل والتؤدة فى المعاملة ومن ثم صار ذلك من أخصّ صفات المسلمين.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي واعلموا أن الله معكم بالمعونة والنصر إذا اتقيتموه وراعيتم أحكامه وسننه ، وابتعدتم عن التقصير فى أسباب النصر والغلب من إعداد العدة المناسبة للزمان والمكان التي عناها الله بقوله «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» ومن الثبات والصبر ، والطاعة وحسن النظام ، وترك التنازع والاختلاف ، وكثرة ذكر الله والتوكل عليه فيما وراء الأسباب والسنن المعروفة

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

٥٠

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ضروبا من مخازى المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة ـ ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لو إذا حين سماعه ، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفى المؤمنين.

الإيضاح

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) أي وإذا أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من سور كتابه الكريم ، فمن المنافقين من يقول لإخوانه على سبيل الاستهزاء هذه المقالة ليثبتوا على النفاق ، أو يقول لمن يلقاه من المؤمنين مشكّكا لهم : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) أي يقينا بحقية القرآن والإسلام وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، أي أيكم زادته تصديقا جازما مقترنا بإذعان النفس وخضوعها ، وأشعرته بلزوم العمل بها لتيقنه بصدق الرسول الذي أنزلت عليه.

والإيمان على هذا النحو يزيد بنزول القرآن فى عهد الرسول ولا سيما من يحضر نزوله ويسمعه منه ، وكذا يزيد بسماعه من غيره فى قلب المؤمن قوة إذعان ورغبة فى العمل والقرب من الله.

قال تعالى مجيبا عن هذا السؤال مبينا حالهم وحال المؤمنين فقال :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن زيادة اليقين واطمئنان القلب ، ويزيدهم قوة فى العمل به والتقرب إلى ربهم ، وهم يستبشرون بنزولها لما يرجون من خير هذه الزيادة ، بتزكية أنفسهم وسعادتهم فى الدنيا والآخرة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي وأما الذين فى قلوبهم شك وارتياب دعاهم إلى النفاق بإسرار الكفر وإظهار

٥١

الإسلام ، فزادتهم كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق ، واستحوذ ذلك عليهم واستحكم فيهم إلى أن ماتوا على الكفر والنفاق على مقتضى سننه تعالى فى تأثير الأعمال فى صفات النفس وتغيير هواجس الفكر.

ثم عجّب من حالهم وقد كان لهم زاجر فيما يرون فقال :

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟) أي أيجهلون هذا ويغفلون عن حالهم فيما يعرض لهم عاما بعد عام من ضروب الابتلاء والاختبار التي تظهر استعداد النفوس للإيمان والكفر والتفرقة بين الحق والباطل ، وينظرون إلى الآيات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل ما أخبر به من نصر الله لمن اتبعه وخذلان أعدائه ووقوع ما أنذرهم به ، ومن إنباء الله بما فى قلوبهم وفضيحتهم بما يكتمون من أعمالهم.

(ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ثم هم مع كل هذا تمر عليهم الأعوام تلو الأعوام ولا يتوبون من نفاقهم ولا يتعظون بما يحلّ بهم من العذاب ، أفبعد هذا برهان على قلة الاستعداد للإيمان وانطفاء نور الفطرة ، ولله در القائل :

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفمّ طعم الماء من سقم

وبعد أن بين حال تأثير إنزال السورة فى المنافقين وهم غائبون عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ـ بيّن حالهم وهم فى مجلسه صلى الله عليه وسلم حين نزولها واستماع تلاوته لها فقال :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي وإذا أنزلت سورة وهم فى المجلس تسارقوا النظر وتغامزوا بالعيون ، على حين تخشع أبصار المؤمنين وتنحنى رءوسهم ، وتشاوروا فى الانسلال من المجلس خفية ، لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من سخرية وإنكار قائلا بعضهم لبعض :

(هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) أي هل يراكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو المؤمنون إذا قمتم من المجلس.

٥٢

(ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي ثم انصرفوا جميعا عن مجلس الوحى متسللين لواذا كراهة منهم لسماعه وانتظارا لسنوح فرصة الغفلة عنهم ، فكلما لمح أحد منهم غفلة عنه انصرف.

(صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي صرف الله قلوبهم عن الإيمان الصادق والاسترشاد بآيات كتابه إلى ما فى ملكوت السموات والأرض من دلائل قدرته.

وهذه الجملة : إما إخبار بذلك ، أو دعاء عليهم به ، والمآل فى هذه واحد فى كلامه تعالى.

(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الصرف بسبب أنهم قوم فقدوا فهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال ، فلا يفقهون ما يسمعون من الآيات لعدم تدبرها والتأمل فى معانيها مع موافقتها للعقل وهدايتها إلى الحق والعدل. لأنهم وطّنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل ، أحق هو أم باطل ، أخير هو أم شر؟ وأنى لمثل هؤلاء ـ وتلك حالهم ـ أن يهتدوا بنزول الآيات والسور؟.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

تفسير المفردات

من أنفسكم : أي من جنسكم ، وعزيز : أي شاقّ ، والعنت : المشقة ولقاء المكروه الشديد ، والحرص : شدة الرغبة فى الحصول على مفقود ، وشدة عناية بموجود ، والرأفة : الشفقة ، والرحمة : الإحسان.

٥٣

المعنى الجملي

لما أمر الله رسوله فى هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خصّ بوجوه التوفيق والكرامة ـ ختمها بما يوجب تحملهم تلك ، التكاليف فبيّن أن هذا الرسول منهم ، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم ، إلى أنه يشقّ عليه ضررهم ، وتعظم رغبته فى إيصال خيرى الدنيا والآخرة إليهم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم عليهم ، والطبيب الحاذق ربما أقدم على علاج يصعب تحمله ، والأب الرحيم ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها كما قال :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

قال أبىّ بن كعب رضى الله عنه : إن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن ، لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب أنه قال : آخر آية نزلت «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» وآخر سورة نزلت براءة ، وعن ابن عباس : آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوما.

الإيضاح

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم ، والآية بمعنى قوله «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ».

ذاك أن منّته على قومه أعظم ، وحجته بكتابه أنهض ، وأولى قومه به قبيلته قريش ثم عشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب ، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم ، وقد وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب ، فآمن العرب بدعوته مباشرة ، وآمن العجم بدعوة العرب ، والعرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه له صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والعمل وبما شاهدوا من آيات الله فى شخصه.

٥٤

وقد امتنّ الله عليه وعلى قومه بالقرآن المجيد فقال «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» أي وإنه لشرف لك ولهم تذكرون به فى العالم ويدوّن لكم فى بطون الكتب والدفاتر :

وإنما قاومه أكابر قومه أنفه واستكبارا عن اتباعه ، إذ هم يرونه دونهم ـ إلى أن فى اتباعه إقرارا بكفرهم وكفر آبائهم الذين يفاخرون بهم ، إلى أنهم لم يكونوا على ثقة من فوزه ونيلهم باتباعه مجد الدنيا وسعادة الآخرة.

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه لأنه منكم ، فليس من الهين عليه أن تكونوا فى الدنيا أمة ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها والتحكم فيها ، ولا أن تكونوا فى الآخرة من أصحاب النار التي وقودها الناس والحجارة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على اهتدائكم وصلاح شأنكم كما قال الله تعالى «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ».

(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين ، فكل ما يدعو إليه من العمل بشرائع الله فهو دليل على ثبوت هذه الصفات له ، وكل شاق منها كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه.

وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال فى قوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريّها وربيعيها ويمانيها ـ يريد أن نسبه تشعب فى جميع قبائل العرب وبطونها.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به ، فقل حسبى الله فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله ، وقد بلّغت وما قصرت.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة ، وهو الكافي والمعين.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه وحده توكلت فلا أكل أمرى فيما أعجز عنه إلى غيره.

٥٥

(وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) العرش مركز تدبير أمور الخلق كما قال تعالى «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» وعظمته بعظمة الرب الذي استوى عليه ، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره ، وعظمة العرش والملك فى الملأ الأعلى وفيما دونه هى مظهر عظمة الله سبحانه وتعالى ، ودليل على أنه وحده الإله الحق الذي لا ينبغى أن يعبد غيره ولا يتوكل على سواه ، وهو المالك للعالم كله والمدبر لهم.

روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت فى جمع القرآن وكتابته فى عهد أبى بكر أنه قال : حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها ـ يريد أنه لم يجدهما مكتوبتين عند ما جمع المكتوب فى الرقاع والأكتاف والعسب إلا عنده ، وقد كانتا محفوظتين معروفتين للكثير كما صرح بذلك فى الروايات الأخرى ؛ فقد أخرج ابن أبى داود فى المصاحف عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ـ إلى قوله وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إلى عمر فقال : من معك على هذا؟ فقال : لا أدرى والله إلا أنى أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما وحفظتهما ، فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو كانت ثلاث آيات لجعلتهما سورة على حدة ، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها بها ، فألحقت فى آخر براءة.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر ، فقال عمر لا أسألك عليها بينة أبدا ، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها.

ومن هذه الروايات يعلم أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين ، إلا أنهم اختلفوا فى موضعهما ففى بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وفى بعضها أنهما وضعتا بالرأى والاجتهاد ، ولكن المعتمد هو الأول ، لأن من حفظ التوقيف حجة على من لم يحفظ.

٥٦

قال الحافظ بن حجر فى شرح البخاري : إن زيدا لم يكن يعتمد فى جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه ، واكتفاؤه بخزيمة وحده إنما كان لأنه لم يجدهما مكتوبتين عند غيره ، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره ، وحسبك دليلا على ذلك قوله : إنهم كانوا يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، فهو صريح فى أن البحث عمن كتبها فقط اه.

فجملة القول إن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة وإنما اختلفوا حين الجمع فى موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعهما فى آخر سورة براءة ، وفاقا لقول أبىّ بن كعب وهو أحد الذين تلقّوا القرآن كله مرتبا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا زيد بن ثابت وكان عدد المختلفين فى موضعهما قليلا ، فلما كتبتا فى المصاحف وافق الجميع على وضعهما هذا ، ولم يروا أىّ اعتراض على ذلك ممن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم كابن مسعود رضى الله عنه.

٥٧

سورة يونس

مكية إلا الآيات ٤٠ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٦ نزلت بعد سورة الإسراء وقبل سورة هود ، وعدد آيها تسع ومائة ، وموضوعها يدور على إثبات أصول التوحيد وهدم الشرك وإثبات الرسالة والبعث والجزاء وما يتعلق بذلك من مقاصد الدين وأصوله ، وهى موضوعات السور المكية.

ووجه مناسبتها لما قبلها أن السابقة ختمت بذكر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم واختتمت بها هذه ، وأن جلّ تلك فى أحوال المنافقين وما كانوا يقولونه وما كانوا يفعلونه حين نزول القرآن ، وهذه فى أحوال الكفار وما كانوا يقولونه فى القرآن.

وليس التناسب بين السور سببا فى هذا الترتيب الذي بينهما ، فكثيرا ما نرى سورتين بينهما أقوى تناسب فى موضوع الآيات ، وقد فصل بينهما كما فعل بسورتى الهمزة واللهب وموضوعهما واحد ، وقد يجمع بينهما تارة أخرى كما فعل بين سور الطواسين ، وسور آل حاميم ، وسورتى المرسلات والنبأ.

ومن الحكمة فى الفصل بين القوية التناسب فى المعاني ـ أنه أدنى إلى تنشيط تالى القرآن وأبعد به عن الملل وأدعى له إلى التدبر ، ولهذه الحكمة عينها تفرّق مقاصد القرآن فى السورة الواحدة كالعقائد والأحكام العملية والحكم الأدبية والترغيب والترهيب والأمثال والقصص ، والعمدة فى كل ذلك التوقيف والسماع.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

٥٨

تفسير المفردات

الكتاب : هو القرآن العظيم ، والحكيم : ذو الحكمة ، لاشتمال الكتاب عليها ، والوحى : الإعلام الخفىّ لامرىء بما يخفى على غيره ، والإنذار : الإخبار بما فيه تخويف ، والتبشير : الإعلام المقترن بالبشارة بحسن الجزاء ، والصدق : يكون فى الأقوال ويستعمل فى الأفعال ، فيقال صدق فى القتال إذا وفّاه حقه ، وكذب فيه إذا لم يفعل ذلك ، ويطلق على الإيمان والوفاء وسائر الفضائل ، وجاء فى التنزيل : مقعد صدق ، ومدخل صدق ، ومخرج صدق ، وقدم صدق ، ويراد بالقدم هنا السابقة والتقدم والمنزلة الرفيعة ، سحر : أي يؤثّر فى القلوب ويجذب النفوس فهو جار مجرى السحر ، ومبين : ظاهر.

الإيضاح

(الر) هذه الحروف تقرأ ساكنة غير معربة هكذا : ألف. لام ، راء. والأخير منها غير مهموز ، والحكمة فى مجيئها أول السورة تنبيه السامع إلى ما يتلى عليه بعدها لأجل العناية بفهمه حتى لا يفوته شىء مما يسمع ، فهى من وادي حروف التنبيه نحو (ألا) و (ها) الداخلة على اسم الإشارة.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي تلك آيات الكتاب المحكم الذي أحكمه الله وبينه لعباده كما قال جل شأنه : «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» ذاك أنه كتاب أحكمت معانيه ومبانيه ، وهو هاد لمتدبّره وواعيه.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي عجيب من أمرهم أن ينكروا إنزال الوحى على رجل من جنسهم ويتخذوه أعجوبة بينهم يتفكهون بها ويستغربون شأنها ، كأن مشاركتهم له فى البشرية يمنع اختصاص الله إياه بما شاء من العلم ، وهو بمعنى قوله تعالى حكاية عنهم «أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً» وقوله : «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً».

٥٩

وهذه الشبهة التي تمسكوا بأذيالها قد سبق إليها أقوام الأنبياء قبلهم كما جاء فى قصة نوح وهود من سورة الأعراف «أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟».

وقد يكون وجه العجب كونه من أفنائهم من جهة المال كما جاء على لسانهم وحكاه الله عنهم «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» وحكى عنهم أنهم قالوا : العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا إلا يتيم أبى طالب.

فإن كانوا قد عنوا الأول ، فهو عجب عاجب ، لأن بعث الملك إنما يتسنى إذا كان المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى منكرا عليهم ذلك «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً».

وإن كانوا أرادوا الثاني فهو أغرب منه ، لأن مدار الاصطفاء للإيحاء هو التبريز فى إحراز الفضائل ونيل المكرمات ، وللنبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك القدح المعلّى فقد شهر من بينهم بالأمانة والصدق وحسن السمعة وبلوغ الغاية فى الكمالات ، ولله در القائل :

خلقت مبرّأ من كل عيب

كأنك قد خلقت كما تشاء

وكما قال الآخر :

ولو صوّرت نفسك لم تزدها

على ما فيك من كرم الطباع

وليس للتقدم فى حظوظ الدنيا ولا للسبق فى رياساتها مدخل فى ذلك لا بقبيل ولا دبير ، ولا قليل ولا كثير ، فليس الغنى سببا للقرب والزلفى عند الله كما قال تعالى : «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى».

(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس كافة وأعلمهم بالتوحيد والبعث وسائر مقاصد الدين مع التخويف بعاقبة ما هم فيه من كفر وضلال.

٦٠