تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

«يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» وقوله : «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً».

ثم أتبع ما تقدم بالدليل على قدرته على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده ، وكون الظالمين لا يعجزونه ولا يستطيعون منه مهربا فقال :

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وكل من فيهما من العقلاء وغيرهم ، فليس للكافرين به شىء يملكونه فيفتدون به أنفسهم من ذلك العذاب ، بل الأشياء كلها لله الذي إليه عقابهم جزاء ما كسبت أيديهم.

والخلاصة ـ فليتذكر من نسى ، وليتنبّه من غفل ، وليعلم من جهل ، أن لله وحده جميع ما فى العوالم العلوية والعوالم الأرضية يتصرف فيها كيف يشاء ، ولا يملك أحد من دونه شيئا من التصرف والفداء ، فى يوم البعث والجزاء.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن كل ما وعد به على ألسنة رسله حق لا ريب فيه ، لأنه وعد المالك القادر على كل شىء ولا يعجزه شىء ، ولكن أكثر الكفار منكرى البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة لغفلتهم عنها وقصور أنظارهم عن الوصول إلى ما يكون فيها.

ثم أقام الدليل على قدرته على ذلك فقال :

(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي إنه تعالى هو المحيي المميت ، لا يتعذر عليه فعل ما أراد من الإحياء والإماتة ، ثم إليه ترجعون حين يحييكم بعد موتكم ويحشركم إليه للحساب والجزاء بأعمالكم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما

١٢١

فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

تفسير المفردات

العظة : الوصية بالحق والخير ، واجتناب الباطل والشر ، بأساليب الترغيب والترهيب التي يرقّ لها القلب ، فتبعث على الفعل أو الترك ، والشفاء : الدواء ، والهدى بيان الحق المنقذ من الضلال ، ويكون فى الاعتقاد بالحجة والبرهان ، وفى العمل ببيان المصالح والحكم ، والرحمة : الإحسان ، وفضل الله : هو توفيقهم لتزكية أنفسهم بالموعظة والهدى ، ورحمته : هى الثمرة التي نتجت من ذلك ، وبها فضلوا جميع الناس.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأدلة على أسس الدين الثلاثة وهى الوحدانية والرسالة والبعث ـ قفى على ذلك بذكر التشريع العملي وهو القرآن الكريم ، وقد أجمل مقاصد هذا التشريع فى أمور أربعة :

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي قل لهم أيها الرسول : قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من المواعظ الحسنة التي تصلح أخلاقكم وأعمالكم ، والشفاء للأمراض الباطنية والهداية الواضحة للصراط المستقيم الذي يوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة ، والرحمة الخاصة للمؤمنين من رب العالمين.

والخلاصة ـ إن الآية الكريمة أجملت إصلاح القرآن الكريم لأنفس البشر فى أربعة أمور :

(١) الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب بذكر ما يرقّ له القلب فيبعثه على الفعل أو الترك.

١٢٢

وقد جاء فى معنى الآية قوله : «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ» وقوله : «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ».

(٢) الشفاء لما فى القلوب من أدواء الشرك والنفاق وسائر الأمراض التي يشعر من أحبّها بضيق الصدر كالشك فى الإيمان والبغي والعدوان وحب الظلم وبغض الحق والخير.

(٣) الهدى إلى طريق الحق واليقين والبعد من الضلال فى الاعتقاد والعمل.

(٤) الرحمة للمؤمنين وهى ما تثمر لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم ، ومن آثارها بذل المعروف وإغاثة الملهوف وكف الظلم ومنع التعدي والبغي.

وإجمال ذلك ـ إن موعظة القرآن وشفاءه لما فى الصدور من أمراض الكفر والنفاق وجميع الرذائل وهداه إلى الحق والفضائل موجّهات إلى أمة الدعوة وهم جميع الناس ، والمؤمنون قد اختصّوا بما تثمره هذه الصفات الثلاث من الرحمة لأنهم هم الذين ينتفعون بها.

ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المؤمنين بأنه يحق لهم أن يفرحوا بفضل الله عليهم بنعمة الإيمان وبالرحمة الخاصة بهم الجامعة لكل ما ذكر قبلها من مقاصد الشريعة فقال :

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي قل لهم ليفرحوا بفضل الله وبرحمته أي إن كان شىء فى الدنيا يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته.

روى ابن مردويه وأبو الشيخ عن أنس مرفوعا «فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله».

وعن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد «فضل الله الإيمان ، ورحمته القرآن».

(هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي إن الفرح بهما أفضل وأنفع مما يجمعونه من الذهب والفضة والأنعام والحرث والخيل المسومة وسائر خيرات الدنيا ، لأنه هو سبب السعادة فى الدارين. وتلك سبب السعادة فى الدنيا الزائلة فحسب. فقد نال المسلمون فى العصور

١٢٣

الأولى بسببه الملك الواسع والمال الكثير مع الصلاح والإصلاح مما لم يتسنّ لغيرهم من قبل ولا من بعد.

وبعد أن جعلوا ديدنهم جمع المال ومتاع الدنيا ووجهوا همتهم إليه وتركوا هداية القرآن فى إنفاقه والشكر عليه ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدى أعدائهم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه وتعالى الأدلة العقلية على إثبات الوحى والرسالة ـ قفى على ذلك بذكر فعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فى وجوده وهو يثبت صحة وجودهما.

ذاك أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق الله تعالى وحده وأن الأصل فى الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الإباحة ، فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعض إما بأمره تعالى بوساطة رسله وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال ، وإما بالافتراء على الله وهو الذي يلزمكم بإنكار الأول ، إذ لا واسطة بينهما.

الإيضاح

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) أي قل لهؤلاء المشركين : أخبرونى أيها الجاحدون للوحى والرسالة ـ أهذا الذي أفاضه الله عليكم من فضله وإحسانه من رزق تعيشون به من نبات وحيوان ، فجعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأنعام فقال «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ

١٢٤

وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا» إلخ وقوله فى سورة المائدة : «ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ».

(قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أي قل لهم إن حق التحريم والتحليل لا يكون إلا لله ، فهل الله هو الذي أذن لكم بذلك بوحي من عنده؟ أم أنتم على الله تفترون بزعمكم أنه حرم ما حرمتم وحلّل ما حلّلتم.

والخلاصة ـ إنه لا مندوحة لكم من الاعتراف بأحد الأمرين ، إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحريم والتحليل ، وذلك اعتراف بالوحى ، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال ، وإما الافتراء على الله وهو الذي يلزمكم إذا أنكرتم الأول.

وبعد أن سجل سبحانه وتعالى عليهم جريمة افتراء الكذب على الله ، قفى عليه بالوعيد مع الإيماء إلى ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة فقال :

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أىّ شىء ظنهم فى ذلك اليوم الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت؟ أيظنون أنهم يتركون بلا عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله وتعمده فيما هو خاص بربوبيته ونزاع له فيها وشرك به كما قال : «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ» وقال : «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ».

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي إن الله ذو فضل على الناس فى كل ما خلقه لهم من الرزق ، وكل ما شرع لهم من الدين ، ومن ذلك أن جعل الأصل فيما أنزله إليهم من الرزق الإباحة ، وأن جعل حق التحريم والتحليل له وحده كيلا يتحكم فيهم أمثالهم من عباده كمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وهو سبحانه لم يحرم عليهم إلا ما كان ضارّا بهم ، وحصر محرمات الطعام فى أمور معينة.

١٢٥

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ذلك الفضل كما يجب كما قال تعالى : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» ومن ثم تراهم يحرّمون ما لم يحرمه الله ويكفرون نعمه فيغالون فى الزهد وترك الزينة والطيبات من الرزق ، أو يسرقون فى الأكل والشرب والزينة ابتغاء الشهرة والتكبر على الناس ، مع أن الإسلام يأمر بالاعتدال كما قال تعالى : «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ».

أخرج أحمد عن أبى الأحوص عن أبيه قال : «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رثّ الهيئة فقال : هل لك مال؟. قلت : نعم ، قال : من أىّ المال؟ قلت : من كل المال ، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال : إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته».

وأخرج البخاري والطبراني عن زهير بن أبى علقمة مرفوعا «إذا آتاك الله مالا فلير عليك ، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا ، ولا يحب البؤس ولا التباؤس».

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

تفسير المفردات

الشأن : الأمر العظيم ، وجمعه شئون ، تقول العرب : ما شأن فلان ، أي ما حاله ، وأفاض فى الشيء أو من المكان : اندفع فيه بقوة أو بكثرة ، وعزب الرجل بإبله يعزب أي بعد وغاب فى طلب الكلأ ، والذرة : النملة الصغيرة ، وبها يضرب المثل فى الصغر

١٢٦

والخفة ، وتطلق على الدقيقة من الغبار الذي يرى فى ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت ، والكتاب : هو اللوح المحفوظ.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات أن فضله على عباده كثير ، وأن الواجب عليهم أن يشكروه بدوام طاعته وترك معصيته ، وأن القليل منهم هم الشاكرون ـ قفى على ذلك بتذكيرهم بإحاطة علمه بشئونهم وأعمالهم ما دق منها وما عظم فى جميع ملكوت السموات والأرض حتى يحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم فى ذكره وشكره وعبادته.

الإيضاح

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي وما تكون أيها الرسول الكريم فى أمر من أمورك الهامة ، خاصة كانت أو عامة مما تعالج بها شئون الأمة بدعوتها إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، إنذارا لها وتبشيرا وتعليما وعملا.

(وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أي وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزل عليك تعبدا به أو تبليغا له.

وفى التعبير بالشأن وهو الأمر ذو البال دلالة على أن جميع أموره صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة حتى ما كان منها من مجرى العادات ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان فيها قدوة صالحة.

وبعد أن خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ـ انتقل إلى خطاب الأمة كلها فى شئونها وأعمالها فقال :

(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي ولا تعملون

١٢٧

أىّ عمل ، خيرا كان أو شرا ، شكرا كان أو كفرا ، وإن كان كمثقال الذرة ، إلا كنا رقباء عليكم إذ تخوضون فيه ، فنحفظه عليكم ونجازيكم به.

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي وما يبعد عن علمه ولا يخفى عليه أقل شىء يبلغ وزنه ثقل ذرة فى الوجود السفلى والعلوي.

وفى التعبير بالإفاضة دليل على أن ما يفيض الإنسان مهتمّا به مندفعا فيه ـ جدير بألا يغفل عن مراقبة ربه فيه واطلاعه عليه ، وكذلك فى التعبير بيعزب الدالّ على الخفاء والبعد دليل على أن ما شأنه أن يغيب ويبعد عنا من أعمالنا لا يغيب عن علمه تعالى ، وقدم ذكر الأرض لأن الكلام مع أهلها.

ثم أكد سبحانه ما سبق وبيّن إحاطة علمه بكل شىء فقال :

(وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي ولا شىء أصغر من الذرة مما لا تبصرونه من دقائق الكون وخفاياه ، ولا أكبر من ذلك وإن عظم مقداره كعرشه تعالى ، إلا وهو معلوم له ومحصى عنده فى كتاب عظيم الشأن وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها إكمالا للنظام وبيانا لضبط جميع الأعمال.

وفى معنى الآية قوله : «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ».

وفى ذلك إشارة إلى أن فى الوجود أشياء لا تدركها الأبصار. وقد أثبت العلم الحديث بوساطة الآلات التي تكبّر الأشياء أضعافا مضاعفة (المكروسكوبات) أن هناك أشياء لا يمكن رؤيتها إلا إذا كبرت عن حقيقتها آلاف المرات كالجراثيم (المكروبات) ولم تكن تخطر على البال فى عصر التنزيل ، وقد ظهرت للناس الآن فهى من روائع الإعجاز العظيمة الدالة على أنه من كلام العليم الخبير.

١٢٨

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

تفسير المفردات

الأولياء : جمع ولىّ من الولي : وهو القرب ؛ يقال تباعد بعد ولى : أي بعد قرب ، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون ، والبشرى : هى الخبر السارّ الذي تنبسط به بشرة الوجه فتتهلل وتبرق أساريره.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه لعباده سعة علمه ، ومراقبته لعباده ، وإحصاء أعمالهم وجزاءهم عليها ، وذكّرهم بما يجب عليهم من شكره على تفضله عليهم ـ ذكر هنا حال الشاكرين المتقين الذين لهم حسن الجزاء يوم القيامة.

الإيضاح

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن أولياء الله الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده والتوكل عليه ولا يتخذون له أندادا يحبونهم كحبه ، ولا يتخذون من دونه وليا ولا شفيعا يقربهم إليه زلفى ـ لا خوف عليهم ـ فى الآخرة مما يخاف منه الكفار والفساق والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الآخرة كما قال تعالى «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» ولا هم يحزنون من لحوق مكروه أو ذهاب محبوب ، ولا يعتريهم ذلك فيها ، لأن مقصدهم نيل رضوان الله المستتبع للكرامة والزلفى ، ولا ريب فى حصول ذلك ولا خوف من فواته بموجب الوعد الإلهى.

١٢٩

وكذلك فى الدنيا لا يخافون مما يخاف منه غيرهم من الكفار وضعفاء الإيمان وعبيد الدنيا من مكروه يتوقع كما قال تعالى : «فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) التقوى ـ هى اتقاء كل ما لا يرضى الله من ترك واجب وفعل محرم ، واتقاء مخالفة سنن الله تعالى فى خلقه من أسباب الصحة والقوة والنصر والعزة وسيادة الأمة ، أي أولياء الله الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح بالله وملائكته وكتبه ، وملكة التقوي له عز وجل وما تقتضيه من عمل.

(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي لهم البشرى فى الحياة الدنيا بالنصر وحسن العاقبة فى كل أمر ـ وباستخلافهم فى الأرض ما أقاموا شرع الله وسننه ونصروا دينه وأعلوا كلمته ، وبإلهام الحق والخير كما ورد من حديث ابن مسعود مرفوعا عند الترمذي والنسائي «إن للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة ؛ فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ؛ وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله تعالى ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان» وفى الآخرة بما أشارت إليه الآية الكريمة : «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ».

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا تغيير ولا خلف فى مواعيده تعالى ، ومن جملتها بشارة المؤمنين المتقين بجنات النعيم والخير العميم.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الذي ذكر من البشرى بسعادة الدارين هو الفوز الذي ليس بعده فوز ، لأنه ثمرة الإيمان الحق والتقوى فى حقوق الله وحقوق الخلق.

١٣٠

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

تفسير المفردات

العزة : الغلبة والقوة ، والخرص : الحزر والتقدير للشىء الذي لا يجرى على قياس من وزن أو كيل أو زرع كحرص الثمر على الشجر والحب فى الزرع ، ويستعمل بمعنى الكذب أيضا لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين ، والمبصر : ذو الإبصار ، تقول العرب : أظلم الليل وأبصر النهار وأضاء.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم صفة أوليائه وما بشرهم به ووعدهم فى الدنيا والآخرة ، وفى هذا إيماء إلى الوعد بنصره ونصر من آمن به من أوليائه وأنصار دينه على ضعفهم وفقرهم ، وكان أعداؤهم يغترون بقوتهم فى مكة بكثرتهم ، وكانوا لغرورهم بها يكذبون بوعد الله ، وكان ذلك مما يحزنه كما قال : «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ».

قفّى على ذلك بتسليته له صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من أذى أعدائه ، وتبشيره بالنصر والعزة والوعيد لأعدائه.

١٣١

الإيضاح

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي لا تحزن لقولهم ولا تبال بما يتفوّهون به فى شأنك مما لا خير فيه.

(إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي لأن الغلبة والقهر لله تعالى لا يملك أحد من دونه شيئا منها ، فهو يهبها لمن يشاء ويحرمها من يشاء وليست للكثرة دائما كما يدعون «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ» وقد وعد الله بها رسله والذين آمنوا بهم واتبعوهم من أوليائه كما قال : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقال : «وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ».

(هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هو السميع لما يقولون من تكذيب بالحق وادعاء للشرك فيكافئهم على ذلك ، وهو العليم بما يفعلون من إيذاء وكيد ، فهو مذلّهم ومحبط أعمالهم.

ثم أقام الدليل على كون العزة لله جميعا وكون الجزاء بيده فقال :

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي ألا إن لله كل من فى السموات والأرض عبيدا مملوكين له ، لا مالك لشىء من ذلك سواه ، فكيف يكون إلها معبودا ما يعبده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام ، والعبادة للمالك دون المملوك ، وللرب دون المربوب.

ثم بين أنه لا شريك له أبدا.

(وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى بدعائهم فى الشدائد واستغاثتهم فى النوازل والتقرب إليهم بالقرابين والنذور ـ لا يتبعون شركاء له فى الحقيقة يدبرون أمور العباد ويكشفون الضر عنهم ، إذ لا شريك له.

ثم أكد ما سلف وزاده بيانا فقال :

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما يتبعون فى الحقيقة فيما يقولون

١٣٢

إلا الظن فى دعواهم أنهم أولياء لله وشفعاء عنده ، فهم يقيسونه على ملوكهم الظالمين المتكبرين الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا بوسائل حجّابه ووزرائه ووسائطه.

ثم زاد ذلك توكيدا بقوله :

(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي وما هم فى اتباع هذا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا إلا متخرصون قائلون بغير علم بما يقولون.

والخلاصة ـ إنهم إنما اتبعوا ظنونهم الفاسدة وأوهامهم الباطلة ، فقاسوا الرب فى تدبير أمور عباده على الملوك ، وجهلوا أن أفعاله تعالى إنما تجرى بمقتضى مشيئته الأزلية وفق علمه الذاتي وحكمته البالغة العادلة ، وأن جميع أوليائه وأنبيائه وملائكته عبيد مملوكون له : «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» أي إن أقرب أولئك الذين يدعونهم ويتوسلون إليه بهم كالمسيح والملائكة ومن دونهم ـ يتوسلون إليه راجين خائفين لا كأعوان الملوك الذين لا ينتظم أمر ملكهم بدونهم.

ثم أقام البرهان على مضمون ما قبله من نفى الشركاء له فى الخلق والتقدير ، والشفعاء عنده حين التصرف والتدبير فقال :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي هو الذي جعل لكم الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع ، فجعل الليل مظلما لأجل أن تسكنوا فيه بعد طول التعب والنصب والحركة للمعاش ، وجعل النهار مضيئا ذا إبصار لتنتشروا فى الأرض وتقوموا بجيمع أعمال العمران والكسب والشكر للرب. وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى : «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ».

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن فى اختلاف الليل والنهار وحال أهلهما فيهما لدلائل وآيات على أن المعبود بحق هو الذي خلق الليل والنهار وخالف بينهما ـ

١٣٣

لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمته تعالى ووجه النعمة فى ذلك ، سماع تدبر وعظة لما يسمع.

وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

تفسير المفردات

الولد : يستعمل مفردا وجمعا ، وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما ، وسبحان كلمة تنزيه وتقديس ، وتستعمل للتعجب ، والسلطان : الحجة والبرهان.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه وتعالى أن من المشركين من اتخذوا الأوثان والأصنام شفعاء عنده ـ قفى على ذلك بذكر ضرب آخر من أباطيلهم ، وهو زعمهم أنه تعالى جدّه اتخذ ولدا ، وتلك مقالة اشترك فيها المشركون واليهود والنصارى على السواء.

١٣٤

الإيضاح

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله.

(سُبْحانَهُ) أي تنزه ربنا عما لا يليق بربوبيته وألوهيته ، ويمكن أن يكون المعنى ـ عجيب أن تصدر منهم تلك الكلمة الحمقاء.

ثم أكد هذا التنزيه بقوله :

(هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن الله غنى عن خلقه جميعا ، فإن كل ما فى الوجود من العالم العلوي والسفلى ملك له ولا حاجة له إلى شىء منه وجميعه فى حاجة إليه ، ولا يجانسه شىء منه ، فالإنسان يحتاج إلى الولد إما للنصرة والمعونة وإما للاعتزاز به لدى الأهل والعشيرة ، وإما لأنه زينة يلهو به فى صغره ويفخر به فى كبره ، وإما للحاجة إليه فى قضاء مصالحه أو لانتظار رفده وبره حين عجزه أو فقره ، وإما لبقاء ذكره بعد موته ، والله غنىّ عن كل ذلك ، ولا حاجة له إلى شىء من هذه المنافع فهو مستغن أزلا وأبدا.

(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ليس عندكم من الدلائل والبراهين ما يؤيد صحة هذا القول الذي تقولونه بلا علم ولا وحي إلهى.

ثم أكد ما سلف بقوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز إضافته إليه ، ولا سيما بعد مجىء ما ينقضه من الأدلة العقلية والوحى الإلهى.

وفى الآية إيماء إلى أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة ، وأن العقائد الدينية لا بد فيها من دليل قاطع ، وأن التقليد فيها غير سائغ.

(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي قل لهم إن الذين يفترون على الله الكذب بنسبة الشركاء إليه ، أو باتخاذه ولدا لنفسه أو بدعوى أن

١٣٥

الأولياء يطلعون على أسرار خلقه ويتصرفون فى ملكه ، لا يفوزون بالتمتع بالنعيم بشفاعة الولد أو الشركاء الذين اتخذوهم له تعالى ، ولا ينجون من عذاب الآخرة.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي هؤلاء لهم متاع فى الدنيا حقير يتلهّون به فى حياة قصيرة هى الحياة الدنيا ، إذ مهما يبلغ هذا المتاع من العظمة ككثرة مال أو عظم جاه فهو قليل بالنسبة إلى ما عند الله فى الآخرة للصادقين المتقين ـ ثم يرجعون إلى ربهم بالبعث بعد الموت وما فيه من أهوال الحشر والحساب ، فيذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بآياته وبالافتراء عليه وتكذيب رسله بعد أن قامت عليهم الحجة.

وفى الآية إيماء إلى أن ما يظن أنه فلاح بالحصول على منافع الدنيا المادية والمعنوية فهو لا يعتد به بالنسبة إلى ما عند الله من حظ عظيم ، ونعيم مقيم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

تفسير المفردات

النبأ : الخبر له خطر وشأن ، والمقام : الإقامة والمكث ، والإجماع العزيمة على الأمر عزما لا تردد فيه كما قال شاعرهم :

١٣٦

أجمعوا أمرهم بليل فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

والغمة : الستر واللبس ، يقال إنه لفى غمة من أمره : إذا لم يهتد له ، وقضاء الأمر : أداؤه وتنفيذه ، قال تعالى «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ». والإنظار : التأخير والإمهال ، خلائف ، أي يخلفون الذين هلكوا بالغرق ، المنذرون : المخوّفون بالله وعذابه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه عناد المشركين لرسوله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له بعد أن قامت البراهين على صدقه ـ قفى على ذلك بذكر أقوام الرسل قبله تسلية له صلى الله عليه وسلم وبيانا بأن قومه لم يكونوا بدعا فى عنادهم وتكذيبهم له بل سبقهم فى مثل فعلهم كثير من سالفى الأمم وكانت العاقبة فوز الرسل عليهم ، وأتم الله لهم النصر ، فلعل أولئك القوم يتدبرون حالهم فينزجروا بما فيه مزدجر لهم ويعترفوا بصدقه صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به قبل أن تفوت الفرصة السانحة فيندمون ، ولات ساعة مندم.

الإيضاح

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي واقرأ أيها الرسول على المشركين من أهل مكة وغيرهم فيما أوعدتهم به من عقاب الله لهم على مقتضى سننه فى المكذبين لرسله من قبلك ـ خبر نوح حين قال لقومه يا قوم إن كان قد شق عليكم قيامى فيكم بالدعوة إلى عبادة ربكم وتذكيرى إياكم بآياته الدالة على وحدانيته ووجوب عبادته ـ فإننى وقد وكلت أمرى إلى الله الذي أرسلنى واعتمدت عليه وحده بعد أن أديت رسالته بقدر طاقتى.

(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أي فأعدّوا أمركم واعزموا على ما تقدمون عليه فى أمرى مع شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله كما أدعو ربى وأتوكل عليه.

١٣٧

(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي ثم لا يكن أمركم الذي تعتزمونه خفيّا عليكم فيه حيرة ولبس ، بل كونوا على بصيرة كيلا تتحولوا عنه.

(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) أي ثم أدوا إلىّ ذلك الأمر بعد إجماعه واعتزامه ، وبعد استبانته التي لا غمة فيها ولا التباس بأن تنفذوه بالفعل بعد استيفاء مقدماته كلها ، ولا تمهلونى بتأخير هذا القضاء.

والخلاصة ـ إن نوحا طلب إلى قومه على كثرتهم وقوتهم أن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به ، مطالبة المدلّ ببأسه وقوته ، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه ، فأمرهم بإجماع أمرهم بصادق العزيمة وقوة الإرادة ، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية قوة الإيمان بشركائهم وآلهتهم ، وألا يكون فى أمرهم الذي أجمعوا عليه شىء من الغمة والخفاء الذي قد يوجب الوهن والتردد فى التنفيذ.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي فإن أعرضتم عن تذكيرى بعد دعائى إياكم وتبليغ رسالة ربى إليكم فلن يضرنى ، فإنى لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرا ولا جزاءا ، وما جزاء عملى وثوابى إلا على ربى الذي أرسلني إليكم ، فهو يوفينى إياه ، آمنتم أو توليتم ، وأمرت أن أكون من المنقادين بالفعل لما أدعوكم إليه.

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فأصروا على تكذيبه بعد أن أقام عليهم الحجة بقوله وعمله على حقيقة دعوته ، فنجيناه هو ومن آمن معه فى السفينة التي كان يصنعها بأمرنا.

(وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي وجعلنا الذين نجينا مع نوح فى السفينة خلائف فى الأرض من قومه الذين كذبوه بعد أن أنذرناهم فأغرقناهم وحقت عليهم كلمة ربك.

فانظر أيها الرسول بعين بصيرتك وعقلك كيف كانت عاقبة الذين أنذرهم رسولهم

١٣٨

وقوع عذاب الله بهم وأصروا على تكذيبه ، وهكذا تكون عاقبة من يصرّون على تكذيبك من قومك ، وعاقبة المؤمنين المتقين لك.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))

تفسير المفردات

الطبع على القلوب : هو عدم قبولها شيئا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها ، والمعتدى : المتجاوز حدود الحق والعدل اتباعا لهوى النفس وشهواتها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه قصص نوح مع قومه وبيّن عاقبة أمرهم حين كذبوه ونصر الله له عليهم ، بيّن هنا عبرة أخرى من عبر مكذبى الرسل وسنة من سننه فيهم ، عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا أن لله سننا لا تبديل فيها ولا تحويل فيتقوا مثل تلك العاقبة التي حلّت بمن قبلهم من المكذبين من قوم نوح وغيرهم ، واتقاؤه فى مكنتهم وهو بأيديهم يمكنهم أن يجتنبوه ويبتعدوا عن أسبابه كالكفر والاعتداء والظلم ونحوها.

الإيضاح

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه فى تكذيب رسلهم فقد أرسل هود إلى عاد ، وصالح إلى ثمود ، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا فى زمانه إلا شعيبا فإنه أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة فقد كانوا متحدين معهم لغة ووطنا ، فجاء كل رسول منهم قومه بالحجج الدالة على صدقه فى رسالته بحسب ما يتسنى لهم فهمه من الأدلة العقلية والحسية.

١٣٩

(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي فما استقام لقوم من أولئك الأقوام أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله فى سبب كفره وهو استكبار الرؤساء وتقليد الدهماء.

(كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي مثل هذا الطبع وعلى ذلك النهج نطبع على قلوب المعتدين أمثالهم فى كل قوم كقومك إذ كانوا مثلهم فى اللجاج والعتوّ والاستكبار فى الأرض «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً».

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))

تفسير المفردات

الملأ : أشراف القوم الذين يجتمعون على رأى ، ولفته عن كذا : صرفه.

المعنى الجملي

أفردت قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه وفصلت تفصيلا وافيا لما لها من شديد الخطر وعظيم الأثر ، إذ فيها من العبرة أن قوة الحق تثلّ العروش وتهدّ أركان الباطل وإن علا أصحابه ، فقد كان الفلج والظفر لموسى على ذلك الطاغية الذي قال أنا ربكم الأعلى ، وانتهى أمره بالغرق وصار مثلا للآخرين.

١٤٠