تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل صلوات الله عليهم موسى وهارون إلى فرعون مصر وأشراف قومه ؛ وخصهم بالذكر لأن قومهم القبط كانوا تبعا لهم يكفرون بكفرهم ويؤمنون بإيمانهم إن آمنوا ويرجعون إليهم فى إقامة المصالح والمهمات ، مؤيدين له بآياتنا التسع المبينة فى سورة الأعراف ، فأعرضوا عن الإيمان كبرا وعلوا مع علمهم بأن ما جاءا به هو الحق لما كانوا عليه من العلم بصناعة السحر ولكنهم كانوا راسخين فى الإجرام والظلم والفساد فى الأرض كما قال تعالى «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ».

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءهم موسى بالحجج والبينات الدالة على الربوبية والألوهية قالوا من فرط عتوّهم وعنادهم : إن هذا لسحر واضح لمن رآه وعاينه.

(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي قال لهم موسى على وجه الإنكار والتوبيخ : أتقولون للحق الواضح الظاهر وهو أبعد الأشياء عن السحر الذي هو باطل حين جاءكم دون أن تتروّوا وتتدبروا فيه : إنه سحر وما ترونه بأعينكم من آيات الله وترجف له قلوبكم من عظمته لا يمكن أن يكون سحرا من جنس ما تعرفونه وتصنعونه بأيديكم ، وقد مضت سنة الله بأن السحرة لا يفوزون فى الأمور الهامة كالدعوة لدين ، والتأسيس لملك ، وذلك ما تتهموننى به على ضعفى وقوتكم ، فإن السحر شعوذة لا تلبث أن تفتضح وتزول.

وبعد أن أفحمهم بحجته ولم يجدوا ردّا مقنعا اضطروا إلى التشبث بذيل التقليد للآباء والأجداد ، وتلك حجة العاجز المضعوف فى رأيه ، ذى الخطل فى تصرفه ، فلم يكن منهم إلا تلك المقالة.

١٤١

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي قالوا له منكرين : ما جئتنا إلا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من ديننا ، لنتبع دينك وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها فى أرض مصر كلها ، وما نحن بمتّبعين لكما اتباع إيمان وإذعان فيما يخرجنا من دين آبائنا الذي تدين به عامتنا ، وتتمتع بكبريائه خاصتنا ، وهم الملك وأشراف قومه.

والخلاصة ـ إنه لا غرض لك من تلك الدعوة إلا هذا وإن لم تعترف به وقد وجهوا الخطاب أوّلا لموسى لأنه هو الداعي لهم ، وأشركوا معه أخاه فى فائدة الدعوى والغرض منها وهى الكبرياء فى الأرض لأنهما سيشتركان فيها.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

المعنى الجملي

كانت الآيات الماضية فى ذكر الحوار بين موسى وفرعون ـ وهنا ذكر ما فعل فرعون فى مقاومة دعوة موسى لصدّ الناس عن اتباعه باعتبار أنه ساحر ، فأحضر السحرة ليقاوموا عمله ، ويتغلبوا عليه فيبطلوا حجته.

١٤٢

الإيضاح

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي قال لملئه بعد أن يئس من إلزامه بالقول : اعملوا على دفع حجته بالفعل ، فأتونى بكل ساحر عليم بفنون السحر ، حاذق ماهر فيها.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي فأتوا بهم فلما جاءوا قال لهم موسى هذه المقالة بعد أن خيّروه بين أن يلقى ما عنده أوّلا أو يلقوا ما عندهم كما جاء ذلك فى سورتى الأعراف وطه ـ ليظهر الحق ويبطل الباطل.

(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي فلما ألقوا حبالهم وعصيّهم السحرية قال لهم موسى غير مكترث بهم ولا بما صنعوا : إن هذا الذي فعلتم وألقيتموه أمام النظّارة هو السحر ، لا ما جئت به من الآيات البينات من عند الله وقد سماه فرعون وملؤه سحرا.

(إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي إن الله سيظهر بطلانه بما يظهره على يدىّ من المعجزة حتى يظهر للناس أنه صناعة لا آية خارقة للعادة ، وحجة واضحة على بطلان حجتى.

ثم علل ما قال ببيان سنن الله فى تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد فقال :

(إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ، وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي إن الله لا يجعل عمل المفسدين صالحا للبقاء ، فيقوّيه بالتأييد الإلهى ويديمه ، بل يزيله ويمحقه ، ويثبت الحق الذي فيه صلاح الخلق وينصره على ما يعارضه ما يعارضه من الباطل بكلماته التكوينية ، وهى مقتضى إرادته التشريعية التي يوحيها إلى رسله ، ومن ثم سينصر موسى على فرعون وينقذ قومه من عبوديته.

(وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي ولو كره كل من اتصف بالإجرام كفرعون وملئه.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)

١٤٣

وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

تفسير المفردات

الذرية فى اللغة : صغار الأولاد ، وتستعمل فى الصغار والكبار عرفا ، والفتون : الابتلاء والاختبار الشديد للحمل على الفعل أو الترك ، والمراد هنا الاضطهاد والتعذيب ، والعلو : القهر والاستبداد ، ومسلمين : أي مذعنين مستسلمين ، وتبوأ الدار : اتخذها مباءة ومسكنا يبوء ويرجع إليها كلما فارقها لحاجة ، والقبلة : ما يقابل الإنسان ويكون تلقاء وجهه ، ومنه قبلة الصلاة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما فعله فرعون لمقاومة دعوة سيدنا موسى ـ قفى على ذلك بذكر ما كان من بنى إسرائيل مع موسى توطئة لإخراجهم من أرض مصر.

الإيضاح

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي إن إصرار فرعون وقومه على الكفر بموسى بعد خيبة السحرة وظهور حقّه على باطلهم ثم عزمه على قتله ، كما جاء فى قوله : «وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ».

١٤٤

كل هذا أوقع الرعب والخوف فى قلوب بنى إسرائيل قوم موسى فما آمن له إلا ذرية من قومه ، وهم الأحداث والشبان وكانوا خائفين من فرعون وأشراف قومهم الجبناء المرائين الذين هم عرفاؤهم عند فرعون فيما يطلب منهم ـ أن يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدّوا عن دينهم.

(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي وإن فرعون لشديد العتوّ قوى القهر فى أرض مصر فهو جدير بأن يخاف منه كما حكى الله عنه بقوله : «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» كما أنه من المسرفين المتجاوزين الحد فى الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء وغمص الحق واحتقار الخلق ، ومن ثم ادعى الربوبية واسترقّ أسباط الأنبياء.

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي وقال موسى لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الفتنة والاضطهاد : إن كنتم آمنتم بالله حق الإيمان فعليه توكلوا ، وبوعده فثقوا إن كنتم مستسلمين مذعنين ، إذ لا يكون الإيمان يقينا إلا إذا صدّقه العمل وهو الإسلام ، وليس فى الآية دلالة على إيمان جميع قومه ، إذ الإيمان بالله غير الإيمان لموسى المتضمن معنى الإسلام والاتباع الذي أشير إليه بقوله : «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» فهم قد طلبوا منه بعد ما نجاهم من الغرق أن يجعل لهم آلهة من الأصنام ثم اتخذوا العجل المصنوع وعبدوه.

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فقالوا على الفور ممتثلين أمره حين علموا أن إنجاز الوعد موقوف على ذلك : على الله توكلنا ، ودعوا بأن يحفظهم ربهم من فتنة القوم الظالمين.

ذاك أن التوكل على الله وهو أعظم علامات الإيمان لا يكمل إلا بالصبر على الشدائد ، والدعاء لا يستجاب إلا إذا كان مقرونا باتخاذ الأسباب بأن تعمل ما تسطيع عمله ، وتطلب إلى الله أن يسخّر لك ما لا تستطيع.

١٤٥

وخلاصة ما قالوا ـ ربنا لا تسلّطهم علينا فيفتنونا ، ولا تفتنا بهم فنتولى عن اتباع نبينا أو نضعف فيه فرارا من شدة ظلمهم لنا ، ولا تفتنهم بنا فيزدادوا كفرا وعنادا وظلما بظهورهم علينا ويظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل.

وقد دلت التجارب على أن سوء حال المؤمنين من ضعف أو فقر تجعلهم موضعا لافتتان الكفار بهم ، باعتقاد أنهم خير منهم كما جاء فى قوله : «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ»؟.

(وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي وبحنا برحمتك فخلّصنا من أيدى القوم الكافرين قوم فرعون ، لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم فى المهن الحقيرة ، ومثل هذا قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم والدين آمنوا معه : «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) أي وقلنا لهما : اتخذا لقومكما بيوتا فى مصر تكون مساكن وملاجىء تعتصمون بها.

(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي واجعلوا بيوتكم متقابلة فى وجهة واحدة.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها متجهين إلى جهة واحدة ، لأن الاتحاد فى الاتجاه يساعد على اتحاد القلوب.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بحفظ الله إياهم من فتنة فرعون وملئه الظالمين لهم وتنجيتهم من ظلمهم.

وإنما خص موسى بالتبشير لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة ، وأشرك معه هرون فى أمر قومهما بالتبوؤ لأنه مما يتولاه الرؤساء بتشاور بينهم ، فهو تدبير عملى يقوم به هو ووزيره المساعد على تنفيذه.

١٤٦

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

تفسير المفردات

الزينة : الحلل والحلىّ والأثاث والرياش والماعون ، والأموال : ما وراء ذلك من الذهب والفضة والأنعام والزروع ونحو ذلك ، والطّمس : الإزالة ، يقال طمس الأثر وطمسته الريح : إذا زال ، والشد على القلب : الطبع عليه وقسوته حتى لا ينشرح للإيمان.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه جبروت فرعون وملئه وخوف بنى إسرائيل من بطشهم وأنهم امتنعوا لأجل ذلك عن الإيمان ، إلا قليلا من شبانهم استجابوا لدعوة موسى بعد حثّ لهم وتحريض على الإيمان وطلب موسى من بنى إسرائيل أن يتخذوا بيوتا لهم بمصر يقيمون فيها مراسم دينهم ، ثم بشّرهم بالفوز والغلبة والنصر ـ قفّى على ذلك بدعوة موسى على فرعون وقومه مع ذكر السبب الذي دعاه إلى ذلك ، وهو الجحود والعناد لدعوته ، لما أوتوه من بسطة النعمة التي أبطرتهم ، فتركوا الدين وراءهم ظهريا.

الإيضاح

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وقال موسى بعد أن أعدّ قومه بنى إسرائيل للخروج من مصر على قدر ما يستطيع من الإعداد الديني والدنيوي ، وغرس فى قلوبهم الإيمان وحب العزة والكرامة ونحو

١٤٧

ذلك ، وتوجه إلى الله أن يتم أمره : ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءه زينة من حلىّ وحلل وآنية وماعون وأثاث ورياش وأموالا كثيرة من صامت وناطق أي من ذهب وفضة وزروع وأنعام يتمتعون بها وينفقون منها فى حظوظهم وشهواتهم.

(رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي لتكون عاقبة ذلك إضلال عبادك عن السبيل الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل وصالح العمل.

وقد جرت سنة الله بأن كثرة الأموال تورث الكبرياء والخيلاء والبطر والطغيان وتخضع رقاب الناس لأربابها كما قال تعالى : «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى».

وقد أثبت البحث والتنقيب فى نواويس قبور المصريين التي كشفت حديثا ، وفيما حفظ فى دور الآثار المصرية وغيرها من العواصم الأوربية ، ما يشهد بكثرة تلك الأموال ووجود أنواع من الزينة والحلي لم تكن لتخطر على البال ، ويدل على أرقى أنواع المدنية والحضارة التي لا تضارعها مدنية العصر الحاضر مع ما بلغه العلم والرقى العقلي فى الإنسان.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي ربنا امحق أموالهم بالآفات التي تصيب زروعهم والجوائح التي تهلك أنعامهم وتنقص مكاسبهم ؛ فيذوقوا ذل الحاجة ، واطبع على قلوبهم وزدها قسوة على قسوتها وإصرارا وعنادا ، فيستحقوا شديد عقابك ، ولا يؤمنوا إلا إذا رأوا عذابك ، ولا ينفعهم إيمانهم إذ ذاك.

وسبب غضبة موسى أنه عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا ، وردد عليهم المواعظ والنصائح ردحا من الزمن ، وحذرهم عذاب الله وانتقامه ، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه من الكفر والضلال المبين ، ثم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعتوا واستكبارا فى الأرض ، ولم يبق له مطمع فيهم وعلم بالاختبار أنه لا يكون منهم إلا الضلال ، وأن إيمانهم كالمحال ـ فاشتد عليهم ومقتهم ودعا عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ، إذ لم يبق له فيهم حيلة ، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه ، ويسيرون قدما فى طريق الغى والهلاك.

١٤٨

وخلاصة ذلك ـ كأنه قيل فليثبتوا على ضلالهم وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا ، وما علىّ منهم ، هم أهل لذلك وأحق به ، وما مثله إلا مثل قول الأب المشفق على ولده الذي انحرف عن جادّة الاستقامة ولم يقبل منه نصيحة : فلتمض فى غوايتك ولتعث فى الأرض فسادا ، وهو لا يريد غوايته بل حردا وغضبا عليه.

وقد روى أن موسى دعا بهذا الدعاء وهرون عليه السلام كان يؤمّن على دعاء أخيه ، ومن ثم قال تعالى :

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي قال لهما عز اسمه قد قبلت دعوتكما فى فرعون وملئه وأموالهم ، فامضيا لأمرى واثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الحق ، ومن إعداد شعبكما للكفاح والجلاد والخروج من مصر ، ولا تسلكا سبيل الذين لا يعلمون سنتى فى خلقى ، فيستعجلا الأمر قبل ميقاته ، ويستبطئا وقوعه فى حينه.

وفى سفر الخروج من التوراة ما بدل على استجابة دعاء موسى ، فقد كانت تنزل النوازل على مصر وأهلها ، فيلجأ فرعون إلى موسى حين كل نازلة منها ليدعوا ربه فيكشفها عنهم فيؤمنوا به ، حتى إذا كشفها قسّى الرب قلب فرعون فأصر على كفره ، وما قاله المفسرون فى تفسير الطمس على الأموال فهو من ترّهات الأباطيل الإسرائيلية التي روّجها كعب الأحبار وأمثاله ممن كان مقصدهم صدّ اليهود عن الإسلام بما يرونه فى تفسيره مخالفا لما هو متفق عليه عندهم وعند غيرهم من المؤرخين فى وقائع عملية وأمور حسية.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ

١٤٩

الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

تفسير المفردات

يقال : جاز المكان وجاوزه وتجاوزه : إذا قطعه حتى خلفه وراءه ، ويقال تبعته حتى أتبعته إذا كان قد سبقك فلحقته ، المسلمين : أي المنقادين لأمره ، وننجيك : نجعلك على نجوة من الأرض ، والنجوة : المكان المرتفع من الأرض ، والآية :العبرة والعظة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه مادار من الحوار بين موسى وفرعون ، وذكر ما أتى به موسى من الحجج والبينات الدالة على صدقه وغلبه لسحرة فرعون ولم يزده ذلك إلا كبرا وعتوّا ، فدعا عليه بالطمس على الأموال والشد على القلوب ، وذكر استجابة الله دعوته ـ قفّى على ذلك بذكر خاتمة القصة وهو ما كان من تأييد الله لموسى وأخيه على ضعفهما وقوة فرعون وقومه ، إذ كانت دولته أقوى دول العالم فى عصره.

الإيضاح

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي جاوز بنو إسرائيل البحر بمعونته تعالى وقدرته وحفظه وكان آية من آياته لنبيه موسى عليه السلام بفرقه تعالى بهم البحر وانفلاقه لهم ، فلحقهم فرعون وجنوده ظالمين عادين عليهم ، ليفتكوا بهم أو يعيدوهم إلى مصر ليسوموهم سوء العذاب ويجعلوهم

١٥٠

عبيدا لهم ، وخاض البحر وراءهم حتى إذا أشرف على الغرق قال آمنت أنه لا إله بحق إلا الرب الذي آمنت به جماعة بنى إسرائيل بدعوة موسى ، وأنا ممن أذعنوا لأمره بعد ما كان منى من جحود بآياته وعناد لرسوله.

وكرر المعنى الواحد بثلاث عبارات حرصا منه على القبول المفضى إلى النجاة ، ولكن هيهات فقد فات الوقت وجاء الإيمان حين اليأس وهو لا يجدى فتيلا ولا قطميرا ـ وهذا ما بينه سبحانه بقوله موبخا له.

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقيل له أتسلم الآن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات؟ وقد عصيت قبل ذلك وكنت من المفسدين فى الأرض الظالمين للعباد ، فدعواك الإسلام الآن لا تقبل ، فقد صار إسلامك اضطرارا لا اختيارا.

وخلاصة المعنى ـ آلآن تقرّ لله بالعبودية ، وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية ، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك ، وكنت من المفسدين فى الأرض الصادّين عن سبيله ، فهلا أقررت بما أقررت به الآن وباب التوبة لك منفتح.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك ينظر إليك من كذّب بهلاكك ، لتكون عبرة لمن بعدك من الناس يعتبرون بك فينزجرون عن معصية الله والكفر به والسعى فى الأرض بالفساد.

ووجه العبرة فى ذلك ـ أنه يكون شاهدا على صدق وعد الله لرسله ، ووعيده لأعدائهم كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات لإقامة حجج الله عليهم قبل غيرهم.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي وإن كثيرا من الناس لفى غفلة عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة له وحده خالصة ، فهم يمرون عليها وهم عنها معرضون ، فلا يتفكرون فى أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها.

١٥١

وفى ذلك إيماء إلى ذم الغفلة وعدم التفكر فى أسباب الحوادث وعواقبها واستبانة سنن الله فيها للعظة والاعتبار.

ووا أسفا قد صار من نزل فيهم القرآن من بينهم بل فى مقدمتهم وهو حجة عليهم وهو منهم براء.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

تفسير المفردات

مبوأ صدق : أي منزلا صالحا مرضيا. وأصل الصدق ضد الكذب ، ولكن جرت عادة العرب أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا مكان صدق إذا كان كاملا فى صفته صالحا للغرض المقصود منه ، كأنهم أرادوا أن كل ما يظهر فيه من الخير فهو صادق ، والعلم هنا علم الدين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه خاتمة فرعون وجنوده ـ قفى على ذلك بذكر عاقبة بنى إسرائيل ، وفى هذا عبرة لمكذبى محمد صلى الله عليه وسلم والجاحدين من قومه المفترين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم ـ فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددا وأشد قوة وأوفر ثروة ، وقد جعل الله سننه فى المكذبين واحدة ، ففكّروا أيها المكذبون فى عاقبة أمركم وتدبروا مليّا خوف أن يحل بكم مثل ما حل بهم ، وهاهو ذا أهلك أكثر زعمائهم وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين وأعطاهم أعظم ملك فى العالمين.

١٥٢

الإيضاح

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي ولقد أسكناهم منزلا مرضيا وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية وهى بلاد فلسطين ، وهو بمعنى قوله «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها».

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقناهم من اللذائذ فيها ، وقد جاء وصفها فى كتبهم بأنها تفيض لبنا وعسلا ، وفيها كثير من الغلات والثمرات والأنعام وصيد البر والبحر.

(فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي فما اختلف بنو إسرائيل إلا بعد ما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها ، ذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوته والإقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم ، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعض وآمن آخرون.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن هذا النوع من الاختلاف لا سبيل لإزالته فى دار الدنيا ، بل سيقضى الله بينهم فى الآخرة ، فيميّز المحقين من المبطلين ، ويدخل الأولين الجنة والآخرين النار وبئس القرار.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

١٥٣

المعنى الجملي

بعد أن قص سبحانه قصص الأنبياء السالفين وما لا قوه من أقوامهم من العناد والجحود والاستكبار والعتو ، وفى كل حال كان النصر حليف المؤمنين والخذلان نصيب الظالمين ـ قفّى على ذلك بذكر صدقه فيما قال ووعد وأوعد ، وكون ذلك سنة الله فى المكذبين قبل ، وسيكون ذلك فيهم من بعد وليس فى هذا سبيل للافتراء والشك وقد ساق ذلك بطريق التلطف فى الأسلوب ، فوجه الكلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد قومه فجاء على نحو قولهم : إياك أعنى واسمعي يا جارة ، وقد جاء مثل هذا فى قوله تعالى «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» وقوله : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ».

الإيضاح

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) المراد بالكتاب جنسه أي الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل ، أي فإن كنت أيها الرسول فى شك مما قلناه فى تلك الشواهد من قصة هود ونوح وموسى وغيرهم فرضا وتقديرا ، فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياء كاليهود والنصارى ، فإنهم يعلمون أن ما أزلناه إليك حق لا يستطيعون إنكاره.

وقد جرت عادة العرب أن يقدّروا الشك فى الشيء ليبنوا عليه ما ينفى احتمال وقوعه فيقول أحدهم لابنه : إن كنت ابني فكن شجاعا ، وجاء من هذا قول المسيح عليه السلام مجيبا ربه تعالى عن سؤاله إياه «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقله ولكنه يفرضه ليستدل على ذلك بأنه لو قاله لعلمه الله منه ، ويجرى العلماء فى محاوراتهم بينهم وبين نظرائهم

١٥٤

أو بينهم وبين تلاميذهم على هذا النمط ، فيشككونهم فيما لا شك فيه عندهم ، ليبنوا على ذلك أحكاما أخرى فيقولون : إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة إلى متساويين أي إن كون الخمسة زوجا يستلزم ذلك ، وهذا لا يدل على أن الخمسة زوج وهكذا ما فى الآية فهو يدل على أنه لو حصل الشك لكان الواجب هو فعل كذا وكذا ، وليس فيها دليل على وقوعه.

(لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) الامتراء : الشك والتردد ، أي لقد جاءك الحق الواضح بأنك رسول الله ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ويجدون نعتك فى كتبهم ، فلا تكونن من الشاكين فى صحة ذلك.

وهذا النهى وما بعده يدلان على أن فرض الشك والسؤال فيما قبلهما تعريض بالشاكين والمكذبين له من قومه ممن لم تستنر بصيرتهم بنبوته صلى الله عليه وسلم فأظهروا الإيمان بألسنتهم ولم يثبت فى قلوبهم فهم فى شك فيه.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولا تكونن أيها الرسول ممن كذب بآيات الله وحججه فى الأكوان مما يدل على وحدانيته وقدرته على إرسال الرسل لهداية البشر فتكونن ممن خسروا أنفسهم بالحرمان من الإيمان وما يتبعه من سعادة الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين ، فالشك والامتراء فيما أنزل إليك كالتكذيب بآيات الله جحودا بها وعنادا ، كلاهما سواء فى الخسران ، لحرمان الجميع من الهداية بها ، والوصول إلى السعادة فى الدارين.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة ربك بعذابهم بحسب سننه تعالى فى خلقه بفقدهم الاستعداد للاهتداء لا يؤمنون لرسوخهم فى الكفر والطغيان ، وإحاطة خطاياهم بهم ، وإعراضهم عن آيات الله التي خلقها فى الأكوان ، بما يرشد إلى وحدانيته وكمال قدرته.

(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي ولو جاءتهم كل آية من

١٥٥

الآيات الكونية كآيات موسى عليه السلام التي اقترحوا مثلها عليك ، والآيات المنزلة عليك كآيات القرآن العقلية الدالة بإعجازها على أنها من عند الله وعلى حقّية ما تدعوهم إليه وتنذرهم به ، حتى يروا العذاب الأليم بأعينهم ويذوقوه حين ينزل بهم ، فيكون إيمانهم اضطرارا لا اختيارا منهم ، فلا يترتب عليه عمل منهم يطهرهم ويزكيهم ويقال لهم إذ ذاك «آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ».

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

تفسير المفردات

لولا : كلمة تفيد التحضيض والتوبيخ كهلا ، والمراد بالقرية أهلها وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى ، والخزي : الذل والهوان ، والحين : مدة من الزمن والمراد بها العمر الطبيعي الذي يعيشه كل شخص ، والإذن بالشيء : الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه والرجس : لغة الشيء القبيح المستقذر ، والمراد به هنا العذاب.

المعنى الجملي

هذه الآيات الثلاث تكملة لما قبلها ، وبيان لسنن الله تعالى فى الأمم مع رسلهم ، وفى خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر ، وفى تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها وفقهما ، فبعد أن بين أن الذين حقت عليهم كلمة

١٥٦

ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ـ أتبعه بذكر هذه الآيات للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان.

الإيضاح

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم ، فنفعهم إيمانهم قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به.

وخلاصة ذلك ـ إنه لم يؤمن قوم منهم بحيث لم يشذ منهم أحد.

(إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) يونس عليه السلام بعث فى أهل نينوى بأرض الموصل ، وكانوا أهل كفر وشرك ، فدعاهم إلى الإيمان بالله وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه ، فأخبرهم أن العذاب مصبّحهم بعد ثلاث ليال ـ فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من حوف الليل ، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب ، فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى ربهم وأخلصوا النية فرحمهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب.

والخلاصة ـ إن قوم يونس لما آمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم ـ صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان فى الدنيا بعد ما أظلّهم وكاد ينزل بهم ، ومتعناهم بمتاعها إلى زمن معلوم وهو الوقت الذي يعيش فيه كل منهم بحسب سنن الله فى استعداد بنيته ومعيشته.

وفى ذلك تعريض بأهل مكة وإنذار لهم ، وحض على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا العذاب بعنادهم ، حتى إذا أنذرهم نبيهم بقرب وقوعه وخرج من بينهم اعتبروا وآمنوا قبل اليأس وقبل أن ينزل بهم البأس.

١٥٧

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) أي ولو شاء ربك أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا بأن يلجئهم إلى الإيمان قسرا ، أو يخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة لا استعداد فى فطرتهم لغير الإيمان.

وجاء فى معنى الآية قوله «وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا» وقوله «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً».

وخلاصة ذلك ـ أنه لو شاء ربك ألا يخلق الإنسان مستعدا بفطرته للخير والشر والإيمان والكفر ، ومرجحا باختياره لأحد الأمور الممكنة على ما يقابله بإرادته ومشيئته ـ لفعل ذلك ، ولكن اقتضت حكمته أن يخلقه هكذا يوازن باختياره بين الإيمان والكفر ، فيؤمن بعض ويكفر آخرون.

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن هذا ليس بمستطاع لك ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل الكرام كما قال تعالى «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» وقال «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» وقال «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ».

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي وما كان لنفس بمقتضى ما أعطاها الله من الاختيار والاستقلال فى الأفعال ، أن تؤمن إلا بإرادة الله ومقتضى سننه فى الترجيح بين المتقابلين ، فالنفس مختارة فى دائرة الأسباب والمسببات ، ولكنها غير مستقلة فى اختيارها استقلالا تاما ـ بل مقيدة بنظام السنن والأقدار الإلهية.

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي وإذا كان كل شىء بإذنه وتيسيره ومشيئته التي تجرى بقدره فهو يجعل الإذن وتيسير الإيمان للذين يعقلون آياته ويوازنون بين الأمور ، فيختارون خير الأعمال ويتقون شرها ، ويرجّحون أنفعها على أضرها بإذنه تعالى وتيسيره ، ويجعل الخذلان والخزي المرجح للكفر والفجور على الذين لا يعقلون ولا يتدبرون ، إذ هم لخطل رأيهم وسلوك سبيل الهوى يرجحون الكفر على الإيمان والفجور على التقوى.

١٥٨

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أن سننه فى نوع الإنسان ، أن خلقه مستعدا للإيمان والكفر والخير والشر ، ولم يشأ أن يجعله على طريقة واحدة إما الكفر وحده وإما الإيمان وحده وإنك أيها الرسول لا تقدر على جعله على غير ذلك ـ بين هنا أن مدار سعادته على استعمال عقله فى التمييز بين الخير والشر. وما على الرسول إلا التبشير والإنذار وبيان الطريق المستقيم الذي يوصل إلى السعادة ، وما الدين الا مساعد للعقل على حسن الاختيار إذا أحسن النظر والتفكر اللذين أمر الله بهما.

فليحذر أولئك القوم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المكذبين ، فإن سنننا لا تغيير فيها ولا تبديل ، فننجى رسلنا والذين آمنوا معهم ونهلك من كذبهم وندخله سواء الجحيم.

الإيضاح

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل أيها الرسول لمن تحرص على هدايتهم من قومك : انظروا بأبصاركم وبصائركم ماذا فى السموات والأرض من كواكب نيرات ، ثوابت وسيارات ، وشمس وقمر ، وليل ونهار ، وسحاب ومطر ، وهواء وماء ، وليل ونهار ، وإيلاج أحدهما فى الآخر حتى يطول هذا ويقصر ذاك وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات ، وماذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع ، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران ، وما فى البحر من عجائب وهو مسخّر

١٥٩

مذلّل للسالكين ، يحمل سفنهم ويجرى بها برفق بتسخير القدير العليم الذي لا إله غيره ولا رب سواه «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» إنه يريكم كل هذه الآيات ثم أنتم تشركون.

(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) تغنى : تنفع وتفيد ، والنذر واحدها نذير ، أي إن الآيات الكونية على ظهور دلالتها ، والرسل على بلاغة حجتها ، لا تجدى نفعا لقوم لا يتوقع إيمانهم ، لأنهم لم يوجهوا أنظارهم إلى الاعتبار بالآيات والاستدلال بها على ما تدل عليه من وحدانية الله وقدرته. والاعتبار بسننه فى خلقه والاستفادة منها فيما يزكّى النفس ويرفعها عن الأرجاس والأدناس.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم محذّرا مشركى قومه من حلول عاجل نقمة ربهم بهم وقد حل بمن قبلهم من سائر الأمم الخالية التي سلكت فى تكذيب رسله وجحودهم مسلكهم : هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون بما جئتهم به من عند الله تعالى إلا يوما يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذين كانوا على مثل ما هم عليه من الشرك والتكذيب.

والخلاصة ـ إنهم لا ينتظروا إلا مثل وقائعهم مع رسلهم مما بلغهم مبدؤه وغايته.

(قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي قل لهم منذرا مهدّدا : انتظروا عقاب الله ونزول سخطه بكم ، إنى من المنتظرين هلاككم بالعقوبة التي تحل بكم ، وإنى على بينة بما وعد الله به وصدق وعده للمرسلين ، وإن الذين يصرّون على الجحود والعناد سيكونون من الهالكين.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي إن سنتنا فى رسلنا مع أقوامهم الذين يبلغونهم الدعوة ، ويقيمون عليهم الحجة ، وينذرونهم سوء عاقبة التكذيب ، فيؤمن بعض ويصر آخرون على الكفر ـ أن نهلك المكذبين وننجى رسلنا والذين آمنوا بهم.

١٦٠