تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

(كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ومثل هذا الإنجاء ننجى المؤمنين معك أيها الرسول ونهلك المصرين على تكذيبك ، وعدا حقا علينا لا نخلفه كما قال تعالى «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً».

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأدلة على صدقه فى رسالته وصحة الدين الذي جاء به ، وبسطها غاية البسط حتى لم يبق فيها مجال للشك ـ قفّى على ذلك بالأمر بإظهار دينه ، وبإظهار الفارق بينه وبين ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع وبيان أن الذي بيده النفع والضر هو الله الذي خلقهم. وبيده تصريف أمورهم.

الإيضاح

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي قل لهم أيها

١٦١

الرسول إن كنتم فى شك من دينى الذي أدعوكم إليه ولم يتبين لكم أنه الحق ، فاسمعوا وصفه ، واعرضوه على عقولكم ، وانظروا فيه ، لتعلموا أنه لا مدخل فيه للشك ، إنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون إلهكم وخالقكم ، بل أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذا شاء ، وينفعهم ويضرهم إذا أراد ، ومثل هذا هو الحقيق بأن يعبد وأن يخاف وأن يتّقى دون من لا يقدر على شىء من ذلك.

وفى ذلك تعريض لطيف وإيماء إلى أن مثل هذا الدين لا يشكّ فيه ، وإنما ينبغى أن تشكّوا فيما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع ، إذ عبادة الخالق لا يستنكرها ذو والفطرة السليمة ، أما عبادة الأصنام فيستنكرها كل ذى لبّ وعقل سليم.

وقد أمرت أن أكون من المؤمنين الذين وعدهم الله بالنجاة من عذابه ، وينصرهم على أعدائهم واستخلافهم فى الأرض.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وأمرت أن أقيم وجهى للدين القيم الذي لا عوج فيه حال كونى حنيفا أي مائلا عن غيره من الشرك والباطل ، وذلك بالتوجه إلى الله وحده فى الدعاء وغيره بدون التفات إلى شىء سواه ونحو الآية قوله «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

فمن توجه قلبه إلى غيره فى عبادة من العبادات ولا سيما مخّ العبادة وروحها وهو الدعاء فهو عابد له مشرك بالله.

ثم نهى رسوله عن ضد ذلك فقال :

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تكونن ممن يشرك فى عبادة ربه الآلهة والأنداد كأرباب الديانات الوثنية الباطلة الذين يجعلون بينهم وبين الله حجابا من الوسطاء والأولياء والشفعاء يوجهون قلوبهم إليهم عند الشدة تصيبهم والحاجة تستعصى عليهم ، ليضوا لهم حاجتهم إما بأنفسهم أو بشفاعتهم ووساطتهم عند ربهم ، فإن فعلت ذلك كنت من الهالكين.

١٦٢

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي ولا تدع أيها الرسول غيره تعالى دعاء عبادة لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك بوساطة الشفعاء ـ مالا ينفعك فى الدنيا ولا فى الآخرة ، ولا يضرك إن تركت دعاءه ولا إن دعوت غيره.

(فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي فإن فعلت هذا ودعوت غيره كنت فى هذه الحال من الذين ظلموا أنفسهم ، ولا ظلم لها أكبر من الشرك بالله تعالى ، فدعاؤه وحده أعظم العبادات ، ودعاء غيره شرك وظلم للنفس ، لإضافة التصرف إلى مالا يصدر منه ، فهو وضع للشىء فى غير موضعه.

وقد جاء فى معنى الآية آيات كثيرة متفرقة فى السور لانتزاع هذا الشرك من قلوب السواد الأعظم من الناس ، وقد انتزع من قلوب الذين أخذوا دينهم من كتاب ربهم ، وكانت عبادتهم له دعاءه بالغدوّ والآصال والليل والنهار ، وفيها نعى على الذين هجروا تدبر القرآن وتلقّوا عقائدهم من الآباء والأمهات والمعاشرين الأميين الجاهليين فتوجهوا إلى القبور فزيّنوها بالسرج والمصابيح ودعوها من دون الله وتقربوا إليها بالهدايا والنذور لتكشف عنهم الضر وتعطيهم ما يرجون من النفع ، ويتأولون هذه الآيات الكثيرة فيزعمون أنها خاصة بعبادة الأصنام والنذر للأوثان ، والتعظيم للصلبان كأن الشرك بالله جائز من بعض المخلوقين دون بعض.

ثم أكد سبحانه المعنى السالف ودحض شبهة الذين يدعون غير الله ، لأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم وكشف الضر عنهم فقال :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي وإن يمسسك الله أيها الإنسان بضر كمرض يصيبك بمخالفة سننه فى حفظ الصحة ، أو نقص فى الأموال والثمرات بأسباب لك فيها عبرة ، أو ظلم يقع عليك من غيرك ، فلا كاشف له إلا هو ، وقد جعل سبحانه للأشياء أسبابا يعرفها خلقه بتجاربهم ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها ومعرفة خواصّ العقاقير التي تداوى بها ، فعلينا أن نطلبها من الأسباب ونأتى البيوت من الأبواب ، ونتوجه إلى الله وحده ، وندعوه مخلصين له ، متوكلين عليه.

١٦٣

(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي وإن يردك ربك برخاء ونعمة وعافية فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين فضله الذي تعلقت به إرادته تعالى ، فما شاء كان حتما ، فلا يرجى خير ونفع إلا من فضله ، ولا يخاف ردّ ما يريده. فهو يصيب بالخير من يشاء من عباده بكسب أو بغير كسب ، وبسبب ما قدّره فى السنن العامة وبغير سبب ، ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته ، بخلاف الضر فإنه لا يقع إلا بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد أو العامة فى نظام الخلق كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية جهلا أو تقصيرا ، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل وكثرة الظلم.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي وهو الغفور لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته ، الرحيم بمن آمن به منهم فلا يعذبه بعد التوبة ، ولو لا مغفرته الواسعة ورحمته العامة لأهلك الناس جميعا بذنوبهم فى الدنيا قبل الآخرة كما قال تعالى : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وقال : «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ».

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

المعنى الجملي

بعد أن قرر سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ـ ختم السورة بهذا البلاغ للناس كافة بمقتضى البعثة العامة ، وهو إجمال لما تقدم من التفصيل فيها.

١٦٤

الإيضاح

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول مخاطبا جميع الناس ، من حضر منهم فسمع هذه الدعوة منك ومن ستبلغه عنك. قد جاءكم الحق المبيّن لحقيقة هذا الدين ، وقد أوحى به إلى رجل منكم ، وكان خفيا عنكم بما جهل من دعوة الرسل السالفين أو حرّف وبدل ، ففصّله هذا الكتاب العربي المبين.

(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن سلك سبيل الحق وصدّق بما جاء من عند الله فى كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فإنما فائدة ذلك عائدة إليه ، لأنه يفوز بالسعادة فى دنياه ودينه ، وذلك إنما يكون بعمله لا بعمل غيره ، ولا بتأثيره بشفاعته أو وساطته.

(وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن اعوجّ عن الحق الذي أتاه من عند الله وأعرض عن كتابه وعن آياته فى الأنفس والآفاق ، فإنما وبال ضلاله على نفسه ، بما يفوته من فوائد الاهتداء فى الدنيا ، وما يصيبه من العذاب على كفره وجرائمه فى الآخرة (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنا بموكّل من عند الله بأموركم ، ولا بمسيطر عليكم ، فأكرهكم على الإيمان ، وأمنعكم بقوتي من الكفر والعصيان ، ولا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، وما أنا إلا رسول مبلغ إليكم أمر ربكم ، بشير لمن اهتدى ، ونذير لمن ضل وغوى ، وقد أعذر من أنذر.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) أي واتبع أيها الرسول وحي الله الذي أنزله إليك فى كتابه ، واعمل به وعلّمه أمتك ، واصبر على ما يصيبك من الأذى والمكاره وعلى ما ينالك من قومك ، حتى يقضى الله بينك وبين المكذبين لك ، وينجز لك ما وعدك.

١٦٥

(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي وهو خير القاضين ، وأعدل الفاصلين ، فهو لا يحكم إلا بالحق ، وغيره قد يحكم بالباطل ، إما لجهله بالحق أو مخالفته له باتباع الهوى ، وقد امتثل رسوله أمر ربه ، وصبر حتى حكم الله بينه وبين قومه ، وأنجز وعده له صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه من المؤمنين ، فاستخلفهم فى الأرض ، وجعلهم الأئمة الوارثين ما أقاموا الدين.

وغير خاف ما فى هذه الآيات من التسلية لنبيه ووعده للمؤمنين ووعيده للكافرين.

١٦٦

سورة هود عليه السلام

وهى مكية كالتى قبلها ، وعدد آيها ثلاث وعشرون ومائة ، نزلت بعد سورة يونس ، وتصمنت ما تضمنته تلك من أصول الإسلام ، وهى التوحيد والنبوة والبعث والحساب والجزاء.

وفصّل فيها ما أجمل فى سابقتها من قصص الرسل عليهم السلام وهى مناسبة لها فى فاتحتها وخاتمتها وتفصيل الدعوة فى أثنائها ، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد (الر) وذكر رسالة النبي المبلغ عن ربه ، وبيان أن وظيفة الرسول إنما هى التبشير والإنذار وفى أثنائهما ذكر التحدي بالقرآن والرد على الذين زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد افتراه ، ومحاجّة المشركين فى أصول الدين ، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فى الأولى بالصبر حتى يحكم الله بينه وبين الكافرين ، وفى الثانية بانتظار هذا الحكم منه تعالى مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه.

وعلى الجملة فقد أجمل فى كل منهما ما فصل فى الأخرى مع فوائد انفردت بها كل منهما ، فقد اتفقتا موضوعا فى الأكثر واختلفتا نظما وأسلوبا مما لا مجال للشك فى أنهما من كلام الرحمن ، الذي علم الإنسان البيان.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ

١٦٧

كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

تفسير المفردات

(الر) تقدم أن قلنا إنها حرف تنبيه كألا وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال : (ألف لام ، را) وإحكام البناء كالقصر والحصن : إتقانه حتى لا يقع فيه خلل ، وتفصيل العقد بالفرائد : جعل خرزة أو مرجانة بلون بين كل خرزتين من لون آخر ، والمتاع :

كل ما ينتفع به فى المعيشة وحاجة البيوت ، والأجل المسمى : هو العمر المقدر.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات فى أصول الدين وهى القرآن وما بيّن فيه من توحيد الله وعبادته وحده والإيمان برسله والبعث والجزاء فى اليوم الآخر.

الإيضاح

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي هذا كتاب عظيم الشأن جليل القدر ، جعلت آياته محكمة النظم والتأليف واضحة المعاني ، لا تقبل شكا ولا تأويلا ولا تبديلا ، كأنها الحصن المنيع الذي لا يتطرق إليه خلل ـ وجعلت فصولا متفرقة فى سورة ، تبين حقائق العقائد والأحكام والمواعظ وجميع ما أنزل له الكتاب من الحكم والفوائد ، فكأنها العقد المفصّل بالفرائد ، ولا عجب فقد أنزلت من لدن حكيم يقدر حاجة عباده ، ويعطيهم ما فيه الخير لهم ، خبير بعواقب ذاك ومصادره وموارده.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي أحكمت وفصلت بألا تعبدوا إلا الله ، أي نزل هذا القرآن المحكم المفصّل لعبادة الله وحده لا شريك له ،

١٦٨

وهذا كقوله : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» وقوله : «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقل للناس إنى من عند الله نذير ينذركم عقابه ، ويبشركم ثوابه على طاعته والإخلاص له.

وهذا بيان لوظيفة الرسالة ، ومبيّن لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي واسألوه أن يغفر لكم ما كان منكم من أعمال الشرك والكفر والإجرام ، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة له دون سواه مما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان فإن فعلتم ذلك واستغفرتم من كل ذنب وتبتم من الإعراض عن هدايته وتنكّب سننه ، يمتعكم فى دنياكم متاعا حسنا فيرزقكم من زينة الدنيا وينسألكم فى آجالكم إلى الوقت الذي قضى عليكم فيه الموت وهو العمر المقدر لكم فى علمه المكتوب فى نظام الخليقة وسنن الاجتماع البشرى فى عباده ، ولا يقطعه بعذاب الاستئصال ولا بفساد العمران ولا ينقصه ما ينقص من أدمن على الشرك والمعاصي.

ذاك أن الله ما حرم إلا الأشياء الضارة بالعقل أو بالصحة أو بنظام الاجتماع المالى أو البدني ، وإنما يكمل ضررها بإصرار فاعليها عليها ، فاذا أقلعوا عنها وندموا على ما فعلوا وبادروا إلى التوبة من قريب ، امتنع ذلك الفساد.

وهذه سنة مطردة فى ذنوب الأمم ، وهى فيها أظهر من ذنوب الأفراد ، فالمشاهد أن الأمم التي تصرّ على الظلم والفسوق والعصيان يهلكها الله تعالى فى الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران حتى تزول منعتها وتتمزق وحدتها.

(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي وإن تجتنبوا الشرك وتؤمنوا بالله وتستغفروه يمتعكم متاعا حسنا تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة ويعط كل ذى فضل من علم وعمل جزاء فضله ، أما فى الآخرة فهو مطّرد دائما ، وأما فى الدنيا فقد يكون ناقصا مشوبا بأكدار ، ولا يكون مطردا لقصر أعمار الأفراد.

١٦٩

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أي وإن توليتم وأعرضتم عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده وعدم عبادة غيره ، فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير الهول شديد البأس ، فيصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم ، أو قريب منه بعد نصر الرسول والمؤمنين.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إليه تعالى رجوعكم بعد موتكم جميعا أمما وأفرادا لا يتخلّف منكم أحد ، وحينئذ تلقون جزاءكم بالعدل والقسطاس ، وهو سبحانه قدير على كل شىء.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

تفسير المفردات

ثنى الشيء : عطف بعضه على بعض فطواه ، وإثناء الثوب : إطواؤه ، وثناه عنه : لواه وحوّله ، وثناه عليه : أطبقه وطواه ليخفيه فيه ، وثنى عنانه عنّى : تحول وأعرض ، والاستخفاء : محاولة الخفاء ، واستغشى الثوب تغطّى به كما قال حكاية عن نوح عليه السلام : «وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً».

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنهم إن أعرضوا حاق بهم عذاب يوم كبير ـ بين فى هذه الآية حالهم وصفتهم العجيبة الدالة على إعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل.

١٧٠

الإيضاح

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رءوسهم كأنهم يحاولون طىّ صدورهم على بطونهم حين سماع القرآن ليستخفوا منه صلى الله عليه وسلم حين تلاوته فلا يراهم حين نزول هذه القوارع على رءوسهم ، روى ابن جرير وغيره أن ابن شداد قال : كان أحدهم ذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره كيلا يراه أحد.

(حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إن ثنى صدورهم وتنكيس رءوسهم ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم لا يغنى عنهم شيئا ، فإن ربهم يعلم ما يسرون ليلا حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم ، ثم ما يعلنون نهارا.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بأسرار الصدور وخواطر القلوب ، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون فى صدوركم الشك فى شىء من توحيده أو أمره أو نهيه.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.

تمت مسودة هذا الجزء فى السادس والعشرين من ذى الحجة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف هجرية بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية.

١٧١

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

من أتى أبواب السلطان افتتن...................................................... ٨

من الأعراب من كان يظن أن الصدقات مغارم ، ومنهم من كان يظن أنها قربات عند الله ٨

المسلمون ثلاث طبقات......................................................... ١١

من أهل المدينة ناس مردوا على النفاق............................................ ١٢

المنافقون فريقان................................................................ ١٣

خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها....................................... ١٦

كان الرسول يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم....................................... ١٧

فوائد الصدقات فى إصلاح المجتمع الإسلامى....................................... ١٨

فرضت الزكاة فى أول الإسلام مطلقة............................................. ١٨

ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة................................... ٢٠

كان المتخلفون عن الجهاد فى غزوة تبوك أقساما ثلاثة............................... ٢١

الأغراض التي لأجلها بنى مسجد الضرار.......................................... ٢٥

حب الله للمتطهرين............................................................ ٢٧

بيعة العقبة..................................................................... ٣١

المؤمنون الكملة................................................................ ٣٣

النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين فى حال...................... ٣٦

غزوة العسرة.................................................................. ٤٠

لا يرخص فى الكذب إلا فى ثلاث............................................... ٤٣

١٧٢

فى المعاريض ما يغنى عن الكذب................................................. ٤٤

وجوب التفقه فى الدين والاستعداد لتعليمه........................................ ٤٨

الأب الرحيم ربما لجأ إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها.............. ٥٤

ليس الغنى سببا للزلفى والقرب من الله............................................ ٦٠

ليس القرآن بسحر............................................................. ٦١

العرش مركز تدبير هذا الملك العظيم.............................................. ٦٣

لا ينبغى أن نوجه وجوهنا شطر قبور الأولياء والصالحين............................ ٦٤

الإعادة أهون من البدء.......................................................... ٦٥

منازل القمر وسيلة لمعرفة عدد السنين والحساب................................... ٦٧

تحية أهل الجنة................................................................. ٧١

لا يكون المؤمن أهلا للجنة إلا بالعمل ومجاهدة النفس والهوى....................... ٧٢

لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.......................... ٧٤

الإنسان عند الشدة يدعو ربه وعند الرخاء ينساه.................................. ٧٥

هلاك الله للأمم ضربان......................................................... ٧٦

شر الظلم افتراء الكذب على الله والتكذيب بآياته................................. ٨٠

الشرك ضربان شرك فى الربوبية وشرك فى الألوهية................................. ٨٢

شئون الرب وسائر ما فى عالم الغيب لا تعلم إلا بوحي............................. ٨٣

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم هى كتابه المعجز................................. ٨٤

دعا رسول الله على المشركين فقال : اللهم أنزل عليهم سنين كسنى يوسف.......... ٨٨

الناس الآن أشد من المشركين إشراكا فإذا نزلت بهم ضائقة دعوا الأموات وقد كان المشركون يدعون الله فى مثل هذا         ٩٠

ثلاث هن رواجع على أهلها ـ المكر. والنكث. والبغي............................ ٩١

١٧٣

مثل الحياة الدنيا فى القرآن....................................................... ٩٢

صفات المحسن والمسيء يوم القيامة................................................ ٩٤

وعد الله المحسن بالحسنى وزيادة وأوعد الذين كسبوا السيئات بسيئة مثلها............. ٩٥

لا شفيع ولا ناصر يوم القيامة.................................................... ٩٨

علامة الحياة فى النبات والحيوان................................................ ١٠٠

الأدلة على بطلان الشرك...................................................... ١٠٢

أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن........................................ ١٠٥

ما فى القرآن ليس فى طوق البشر أن يأتى بمثله................................... ١٠٦

تحدّيهم أن يأتوا بسورة مثله.................................................... ١٠٧

إسراعهم فى تكذيبهم قبل أن يتدبروا معناه...................................... ١٠٨

النبي ليس بمسيطر ولا جبار.................................................... ١١٠

المسلمون الآن يسمعون القرآن لترتيله لا لتدبر معانيه............................. ١١١

هداية الله لا تكون إلا للمستعد لها.............................................. ١١٢

الدنيا كساعة من نهار......................................................... ١١٣

ما ترك الله أمة بلا رسول...................................................... ١١٥

المشركون كانوا يستعجلون العذاب............................................. ١١٦

عجبا لقوم يطلبون الحاجات ممن دفنوا تحت أطباق الثرى.......................... ١١٧

حديث ضمام بن ثعلبة مع النبي صلى الله عليه وسلم.............................. ١١٩

يتمنى الظالم أن يكون له فداء فى ذلك اليوم...................................... ١٢٠

القرآن عظة وشفاء وهدى ورحمة.............................................. ١٢٢

التحليل والتحريم لله وحده..................................................... ١٢٤

جزاء المفترين على الله الكذب يوم القيامة........................................ ١٢٥

١٧٤

الله رقيب وشهيد على أعمال المرء فى هذه الحياة................................. ١٢٧

لا يغيب عن ربنا مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء............................. ١٢٨

أولياء الله.................................................................... ١٢٩

للشيطان لمة وللملك لمة........................................................ ١٣٠

الذين يتوسلون بهم يتوسلون إلى ربهم راجين خائفين.............................. ١٣٠

قال المشركون الملائكة بنات الله وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ١٣٠

العقائد الدينية لا بد فيها من دليل قاطع والتقليد فيها غير سائغ.................... ١٣٥

مقالة نوح لقومه.............................................................. ١٣٧

حين جاء موسى بالآيات البينات قال فرعون وقومه ـ إن هذا إلا سحر مبين....... ١٤١

الساحر لا يفوز بمطلوب....................................................... ١٤١

قالوا لموسى ما غرضك من هذه الدعوة إلا امتلاك البلاد.......................... ١٤٢

مقالة موسى للسحرة.......................................................... ١٤٣

الدعاء لا يستجاب إلا مع اتخاذ الأسباب........................................ ١٤٥

كان المصريون يستعملون بنى إسرائيل فى المهن الحقيرة............................. ١٤٦

دعوة موسى على المصريين فى ذلك الحين....................................... ١٤٨

غرق فرعون فى بحر القلزم..................................................... ١٥١

عاقبة بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر....................................... ١٥٣

قوم يونس لما آمنوا............................................................ ١٥٧

لو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا.................................... ١٥٨

لا تغنى الآيات والنذر لمن لا يفكر فيها.......................................... ١٦٠

الإله الذي ينبغى أن يعبد...................................................... ١٦٢

لا يكشف الضر إلا رب العالمين............................................... ١٦٣

الرسول ليس بمسيطر ولا جبار................................................. ١٦٥

١٧٥