تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي ومن يلى تدبير أمر الخليقة جميعا بما أودعه فى كل منها من السنن وقدّره من النظام.

(فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أي فسيجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة بلا تلعثم ولا تلكّؤ بأن فاعل هذا كله هو الله رب العالم كله ومليكه ـ إذ لا جواب غيره وهم لا يجحدون ذلك ولا ينكرونه.

(فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فقل لهم أيها الرسول الكريم : أفلا تتقون سخطه وعقابه لكم بشرككم وعبادتكم لغيره ممن لا يملك لكم ضرا ولا نفعا.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) أي فذلكم المتصف بكل تلك الصفات السالفة هو الله المربى لكم بنعمه والمدبر لأموركم ، وهو الحق الثابت بذاته الحي المحيي لغيره المستحق للعبادة دون سواه.

(فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي فماذا بعد الرب الحق الثابتة ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل ، فالذى يفعل تلك الأمور هو الرب الحق ، وعبادته وحده هى الهدى ، وما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال ، وكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال.

(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) أي فكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال؟ مع علمكم بما كان به الله هو الرب الحق ، فما بالكم تقرّون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية فتتخذون مع الله آلهة أخرى.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي مثل ذلك الذي حقّت به كلمة ربك من وحدة الربوبية والألوهية ، وكون الحق ليس بعده لمن تنكّب عنه إلا الضلال ـ حقت كلمة ربك : أي وعيده على الذين خرجوا من حظيرة الحق ، وهو توحيد الألوهية والربوبية وهداية الدين الحق.

١٠١

(أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي هى أنهم لا يؤمنون بما يدعوهم إليه رسلنا من التوحيد والهدى مهما تكن الآية بيّنة ، والحجة ظاهرة قوية.

وليس المراد أنه يمنعهم من الإيمان بالقهر ، بل هم يمتنعون منه باختيارهم لفقدهم نور البصيرة واستقلال العقل فلا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل ، والهدى والضلال لرسوخهم فى الكفر ، واطمئنانهم به بالتقليد كما قال تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ».

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

المعنى الجملي

هذا ضرب آخر من الحجة أقامه سبحانه دليلا على توحيده وبطلان الإشراك به جاء بطريق السؤال للتوبيخ وإلزام الخصم ، فإن الكلام إذا كان ظاهرا جليا ، ثم ذكر على سبيل الاستفهام وفوّض الجواب إلى المسئول ، يكون أوقع فى النفس وأبلغ فى الدلالة على الغرض.

١٠٢

الإيضاح

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي قل لهم أيها الرسول : هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله من الأصنام أو الأرواح الحالّة فيها كما تزعمون ، أو الكواكب السيارة أو غيرها من الأحياء كالملائكة والجن ، من له هذا التصرف فى الكون ببدء الخلق فى طور ثم إعادته فى طور آخر؟.

ولما كانوا لا يجيبون عن هذا السؤال كما أجابوا عن الأسئلة الأولى لإنكارهم للبعث والمعاد ، لقّن الله رسوله الجواب فقال :

(قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إذ القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى ، وهم ينكرون إعادة الأحياء الحيوانية دون الأحياء النباتية ، إذ هم يشاهدون بدء خلق النبات فى الأرض حين ما يصيبها ماء المطر فى فصل الشتاء وموته بجفافها فى فصل الصيف والخريف ، ثم إعادته بمثل ما بدأه مرة بعد أخرى ، ويقرون بأن الله هو الذي يفعل البدء والإعادة ، لأنهم يشاهدون كلا منهما وهم لا يسلمون إلا بما يرون بأعينهم أو يلمسونه بأيديهم.

وقد أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم وينبههم للتفكير فى أمرهم فقال : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تصرفون من الحق الذي لا محيد عنه ، وهو التوحيد إلى الضلال البيّن ، وهو الإشراك وعبادة الأصنام ، وذلك من دواعى الفطرة وخاصة العقل حين تفكيره فى المصير.

ثم جاء باحتجاج آخر على ما ذكره إلزاما لهم عقب الإلزام الأول ، فسألهم عن شأن من شئون الربوبية المقتضى لاستحقاق الألوهية وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية فقال :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) أي قل لهم أيها الرسول : هل من

١٠٣

أولئك الشركاء من يهدى إلى الحق بوجه من وجوه الهداية التي بها تتم حكمة الخلق.

كما يدل على ذلك قوله (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

والهداية أنواع ـ هداية الغريزة والفطرة التي أودعها الله فى الإنسان والحيوان ، وهداية الحواس من سمع وبصر ونحو ذلك ، وهداية التفكير والاستدلال بوساطة هذه الوسائل ، وهداية الدين ، وهو للنوع البشرى فى جملته بمثابة العقل للأفراد ، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبله ومنع الصوارف عنه.

ولما كانوا لا يستطيعون أن يدّعوا أن أحد من أولئك الشركاء يهدى إلى الحق لا من ناحية الخلق ولا من ناحية التشريع ، لقن الله رسوله الجواب فقال : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) أي قل هو الله سبحانه الذي يهدى إلى الحق دون غيره بما نصب من الأدلة والحجج ، وأرسل من الرسل ، وأنزل من الكتب ، وهدى إلى النظر والتدبّر ، وأعطى من الحواس.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) قرأ يعقوب وحفص يهدى بكسر الهاء ، وتشديد الدال وأصله يهتدى ، أي أفمن يهدى إلى الحق وهو الله أحق أن يتّبع فيما يشرّعه ، أم من لا يهدى غيره ولا يهتدى بنفسه إلا أن يهديه غيره وهو الله تعالى ، إذ لا هادى غيره.

ويدخل فيمن نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء ـ المسيح عيسى بن مريم وعزير والملائكة. وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى فى سورة الأنبياء «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا».

(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي أىّ شىء أصابكم وماذا حلّ بكم حتى اتخذتم هؤلاء شركاء وجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا هادى لكم سواه ، كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه.

وفى هذا تعجيب من حالهم وسوء صنيعهم وقبيح فعلهم.

١٠٤

وبعد أن أقام الحجج على توحيد الربوبية والألوهية ، بيّن حال المشركين الاعتقادية فقال :

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي إن أكثرهم لا يتبعون فى شركهم وعبادتهم لغير الله ، ولا فى إنكارهم للبعث وتكذيبهم للرسول عليه الصلاة والسلام إلا ضربا من ضروب الظن قد يكون ضعيفا كأن يقيسوا غائبا على شاهد ، ومجهولا على معروف ويقلدون الآباء اعتقادا منهم أنهم لا يكونون على باطل فى اعتقادهم ، ولا ضلال فى أعمالهم وقليل منهم كان يعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والهدى وأن أصنامهم وسائر معبوداتهم لا تضرّ ولا تنفع ، ولكنهم يجحدون بآيات الله ، ويكذبون رسوله صلى الله عليه وسلم عنادا واستكبارا وخوفا على زعامتهم أن تضيع سدى فيصبحون تابعين بعد أن كانوا متبوعين.

ثم بين حكم الله فى الظن فقال :

(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) الحق هو الثابت الذي لا ريب فى ثبوته وتحققه أي إن الشك لا يقوم مقام اليقين في شىء ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين.

وخلاصة ذلك ـ إن الظن لا يجعل صاحبه غنيّا بعلم اليقين فيما يطلب فيه ذلك كالعقائد الدينية ، وبهذا تعلم أن إيمان المقلد غير صحيح.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي إن الله عليم بما كانوا يعملون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية ، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها ، كتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم مع قيام الأدلة القطعية على صدقه ، واتباعهم للظن كالتقليد باتباع الآباء والأجداد.

وفى الآية إيماء إلى أن أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن ، فالعلم المفيد للحق ما كان قطعيا من كتاب أو سنة ، وهو الدين الذي لا يجوز للمسلمين التفرق والاختلاف فيه ، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به فى الاعتقاد وهو متروك

١٠٥

للاجتهاد فى الأعمال ، اجتهاد الأفراد فى الأعمال الشخصية ، واجتهاد أولى الأمر فى القضاء مع سلوك طريق الشورى حتى يتحقق العدل والمساواة فى المصالح العامة.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه الأدلة على أن القرآن من عنده ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عاجز كغيره عن الإتيان بمثله ، ثم أتى بالحجج على بطلان شركهم واتباع أكثرهم لأدنى الظن وأضعفه فى عقائدهم ـ عاد إلى الكلام فى تفنيد رأيهم فى الطعن على القرآن بمقتضى هذا الظن الضعيف لدى الأكثرين منهم ، والجحود والعناد من الأقلين كالزعماء والمستكبرين.

الإيضاح

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا يصح ولا يعقل أن يفتريه أحد على الله من دونه وينسبه إليه ، إذ لا يقدر على ذلك غيره عز وجل ، فإن ما فيه من علوم عالية ، وحكم سامية ، وتشريع عادل ، وآداب اجتماعية ، وأنباء بالغيوب الماضية والمستقبلة ليس فى طوق البشر ولا هو داخل تحت قدرته وفى حيّز مكنته ، ولئن سلم أن بشرا فى مكنته ذلك فلن يكون إلا أرقى الحكماء والأنبياء والملائكة ، ومثل هذا لن يفترى على الله شيئا.

١٠٦

ولقد ثبت أن أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أبو جهل قال : إن محمدا لم يكذب على بشر قط ، أفيكذب على الله؟.

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن كان تصديق الذي تقدمه من الوحى لرسل الله تعالى بالإجمال كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم بدعوته إلى أصول الدين الحق من الإيمان بالله واليوم الآخر وصالح الأعمال بعد أن نسى بعض هذا بقية أتباعهم وضلّوا عن بعض ، ولم يكن محمد النبي الأمى يعلم شيئا من ذلك لو لا الوحى عن ربه.

(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام والعبر والمواعظ وشئون الاجتماع.

(لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ينبغى لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه ، لأنه الحق والهدى.

(مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي من وحيه لا افتراء من عند غيره ولا اختلافا كما قال : «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً».

وبعد أن أبان أنه أجلّ وأعظم من أن يفترى لعجز الخلق عن الإتيان بمثله.

انتقل إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين الذين قالوا : إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افتراه وفنّد مزاعمهم وتعجّب من حالهم وشنيع مقالهم وتحداهم أن يأتوا بمثله فقال :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ما كان ينبغى أن تقولوا إن محمد صلى الله عليه وسلم افتراه من عند نفسه واختلقه ، إذ لو كان الأمر كما تقولون وأنه اختلقه وافتراه ، فأتوا بسورة مثله فى نظمه وأسلوبه وعلمه مفتراة فى موضوعها ، لا تلتزمون أن تكون حقا فى أخبارها ، فإن لسانه لسانكم ، وكلامه كلامكم ، وأنتم أشد مرانا وتمرسا للنثر والنظم منه ، واطلبوا من يعينكم على ذلك من دون الله ، ولن تستطيعوا أن تفعلوا شيئا ، فإن جميع الخلق عاجزون عن

١٠٧

هذا «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» إن كنتم صادقين فى زعمكم أنه مفترى.

وإذ قد عجزتم عن ذلك مع شدة تمرّسكم ، ولم يوجد فى كلام أولئك الذين نصبت لهم المنابر فى سوق عكاظ ، وبهم دارت رحى النظم والنثر ، وتقضّت أعمارهم فى الإنشاء والإنشاد مثله ـ فهو ليس من كلام البشر ، بل هو من كلام خالق القوى والقدر.

ومن البين أنه ما كان لعاقل مثله ـ صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم هذا التحدي لو لم يكن موقنا أن الإنس والجن لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن فى جملته ولا بسورة مثله ، إذ لو كان هو الذي أنشأه وألّفه لمصلحة الناس برأيه لكان عقله وذكاؤه يمنعانه من الجزم بعجز عقلاء الخلق من العوالم الظاهرة والباطنة عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به.

إذ العاقل الفطن يعلم أن ما يمكنه من الأمر قد يمكن غيره ، بل ربما وجد من هو أقدر منه عليه.

والخلاصة ـ إن محمد صلى الله عليه وسلم كان على يقين بأنه من عند ربه ، وأنه صلى الله عليه وسلم كغيره لا يقدر على الإتيان بمثله.

ثم انتقل من إظهار بطلان ما قالوه فى القرآن بتحدّيه لهم ـ إلى إظهار بطلانه ببيان أن كلامهم ناشىء من عدم علمهم بحقيقة أمره واختبار حاله فقال :

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي بل هم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما احتوى عليه من الأدلة والبراهين الدالة على أنه كما وصف آنفا ، ومن قبل أن يعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بمثله.

(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي ولم يأتهم إلى الآن ما يئول إليه ويكون مصداقا له بالفعل ويقع ما أخبر به من الأمور المستقبلة.

١٠٨

وخلاصة ذلك ـ أنهم على إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى والإخبار بالغيب ـ قد أسرعوا فى تكذيبه قبل أن يتدبروا أمره أو ينتظروا وقوع ما أخبر به ـ وفى تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع حصوله ـ شناعة وقصر نظر لا تخفى على عاقل ، وفيه دليل على أنهم مقلدون.

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل هذا التكذيب بلا تدبر ولا تأمل كذب الذين من قبلهم من مشركى الأمم رسلهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله الذي أوعدهم به.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها الرسول الكريم كيف كان عاقبة الظالمين لأنفسهم بتكذيب رسلهم ، لتعلم مصير من ظلموا أنفسهم من بعدهم ، وهذه العاقبة هى التي بينها الله فى قوله : «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

وقد أنذر الله قوم محمد صلى الله عليه وسلم بمثل ما نزل بالأمم قبلهم فى الدنيا بهذه الآية وغيرها من هذه السورة ، كما أنذرهم عذاب الآخرة وكذبه المعاندون المقلدون فى كل ذلك ظنا منهم أنه لا يقع.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١))

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فى الآية السالفة أنهم كذبوا بالقرآن قبل أن يأتيهم تأويله وقبل أن يحيطوا بعلمه ـ قفّى على ذلك بذكر حالهم بعد أن يأتيهم التأويل المتوقع ، وبيّن أنهم حينئذ يكونون فريقين : فريق يؤمن به ، وفريق يستمر على كفره وعناده.

١٠٩

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي ومن هؤلاء المكذبين من يؤمن به حين إتيان تأويله وظهور حقيقته بعد أن سعوا فى معارضته ورازوا قواهم فيها فتضاءلت دونها.

(وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أي ومنهم من يصرّ على الكفر ويستمر عليه.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي وربك أعلم بمن يفسدون فى الأرض بالشرك والظلم والبغي ، لفقدهم الاستعداد للإيمان ، وهؤلاء سيعذبهم فى الدنيا ويخزيهم وينصركم عليهم ، ويجزيهم فى الآخرة لفسادهم وسوء معتقداتهم.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي وإن أصروا على تكذيبك فقل لى عملى ، وهو البلاغ المبين والإنذار والتبشير ، وما أنا بمسيطر ولا جبّار ، ولكم عملكم وهو الظلم والفساد الذي تجزون به يوم الحساب كما قال تعالى : «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ».

(أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ، وهذا كقوله : «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ»

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

المعنى الجملي

بعد أن أنبأ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن من قومه من لا يؤمن به لا حالا ولا استقبالا ، بل يصرّون على التكذيب بعد ما جاءتهم البينات ، وكان ذلك من

١١٠

شأنه صلى الله عليه وسلم أن يثير عجبه ويجعله يطيل الحزن والأسف إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ـ ذكر سبب هذا ، وهو أنهم قوم طبع الله على قلوبهم وفقدوا الاستعداد للإيمان ، فلا وسيلة له صلى الله عليه وسلم فى إصلاح حالهم ، ولا قدرة له على هدايتهم.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي ومن المكذبين ناس يصيخون بأسماعهم إذا قرأت القرآن أو بينت ما فيه من أصول الشرائع والأحكام ، ولكنهم لا يسمعون إذ يستمعون ، فهم لا يتدبرون القول ولا يتفقهون ما يراد منه ، بل جلّ همهم أن يتسمعوا غرابة نظمه وجرس صوته بترتيله ، كمن يستمع إلى الطائر يغرّد على غصن الشجرة ليتلذذ بصوته لا ليفهم ما يغرد به ، وقد وصف الله حالهم فى آي أخرى فقال : «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» وقال : «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً».

والآن نرى من المسلمين من يستمع إلى قراءة القرآن من قارئ حسن الصوت للتلذذ بترتيله وتوقيع صوته لا لينتفع بعظاته وعبره ، ولا ليفهم عقائده وأحكامه.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي إن السماع النافع للمستمع هو الذي يعقل به ما يسمعه ويفقهه ويعمل به ، ومن فقد هذا كان كالأصم الذي لا يسمع ، وإنك أيها الرسول الكريم لم تؤت القدر على إسماع الصم الذين فقدوا حاسة السمع حقيقة فكذلك لا تستطيع أن تسمع إسماعا نافعا من فى حكمهم وهم الذين لا يعقلون ما يسمعون ولا يفقهون معناه فيهتدوا به وينتفعوا بعظاته.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي ومنهم من يتجه نظره إليك حين تقرأ القرآن

١١١

ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان والخلق العظيم وأمارات الهدى والتزام الصدق.

(أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي إنك أيها الرسول الكريم كما لا تقدر على هداية العمى بدلائل البصر الحسية ، لا تقدر على هدايتهم بالدلائل العقلية ، ولو كانوا فاقدين لنعمة البصيرة التي تدركها.

وخلاصة ما تقدم ـ إن هداية الدين كهداية الحس لا تكون إلا للمستعدّ بهداية العقل ، وإن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحة القصد ، وهؤلاء قد انصرفت نفوسهم عن استعمال عقولهم استعمالا نافعا فى الدلائل البصرية والسمعية لإدراك أىّ مطلب من المطالب الشريفة التي وراء شهواتهم وتقاليدهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) يراد بالظلم هنا المعنى الذي تدل عليه اللغة وهو نقص ما تقتضى الخلقة الكاملة وجوده كما فى قوله : «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» أي إنه لم يكن من سنن الله تعالى فى خلقة أن ينقصهم شيئا من الأسباب التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم من إدراكات وإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة التي توصلهم إلى سعادتهم فى الدنيا والآخرة.

(وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي إنهم يظلمون أنفسهم وحدها دون غيرها ، لأن عقاب ظلمهم واقع عليها ، فهم يجنون عليها بكفرهم بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله من اتباع الحق فى الاعتقاد والهدى فى الأعمال ، وذلك هو الصراط المستقيم الموصل لسعادة الدارين.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥))

١١٢

المعنى الجملي

لما وصف الله هؤلاء المشركين بترك التدبر والإصغاء وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن قبل أن يأتيهم تأويله ـ قفّى على ذلك بالوعيد بما سيكون لهم من الجزاء على هذا يوم القيامة.

الإيضاح

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) الساعة يضرب بها المثل فى القلة : أي وأنذرهم أيها الرسول يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت ويسوقهم إلى مواقف الحساب والجزاء ، وكأنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا مدة قليلة ثم تقضّت.

وخلاصة ذلك ـ إن هذه الدنيا التي غرّتهم بمتاعها الحقير الزائل قصيرة الأمد ستزول بموتهم ، وسيقدّرون يوم القيامة قصرها بساعة من النهار لا تسع لأكثر من التعارف.

والآية بمعنى قوله : «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ ، لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ». وقوله : «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ، كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ». وقوله : «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ ، قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي إن هؤلاء آثروا الحياة القصيرة المنغّصة بالأكدار السريعة الزوال على الحياة الأبدية بما فيها من النعيم المقيم ، فلم يستعدوا لها ويعملوا الأعمال الصالحة التي تزكى نفوسهم وتهذب أرواحهم ، فخسروا السعادة فيها وما كانوا مهتدين فيما اختاروه لأنفسهم من إيثار الخسيس الزائل على النفيس الخالد.

١١٣

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه وتعالى فى الآية السالفة أن هؤلاء المشركين الذين كذبوا بلقاء الله تعالى قد خسروا وما كانوا مهتدين ، وهذا يتضمن تهديدا ووعيدا بالعذاب الذي سيلقونه فى الدنيا والآخرة ـ قفّى على ذلك ببيان أن بعض هذا العذاب ستراه

١١٤

أيها الرسول الكريم وتقرّ عينك برؤيته ، وبعض آخر سيكون لهم يوم الجزاء ، وهو عليم بما فعلوه فيجازيهم به قدر ما يستحقون.

الإيضاح

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي وإن أريناك بعض ما نعدهم من العقاب فى الدنيا ، فذاك الذي يستحقونه وهم له أهل ، وقد أراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة بدعائه صلى الله عليه وسلم عليهم ، ونصره عليهم نصرا مؤزّرا فى أول معركة هاجمه بها رؤساؤهم وصناديدهم وهى غزوة بدر فقتلّهم وشرّدهم شر تقتيل وتشريد ، وكذلك فعل بهم صلى الله عليه وسلم فى غيرها من الغزوات حتى فتح عاصمتهم أمّ القرى ودخل الناس فى الدين أفواجا.

(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي أو نتوفينك هم قبل أن نريك ذلك فيهم فمصيرهم بكل حال إلينا ، وآنئذ سيلقون من الجزاء ما يعلمون به صدق وعيدنا.

(ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) فيجزيهم به على علم وشهادة حق.

وقد جاء بمعنى الآية قوله : «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ» وقوله. «وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ».

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) أي إنه تعالى رحمة بعباده وإزالة للحجة جعل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا بعثه فيها وقت الحاجة إليه ، ليبين لهم ما يجب عليهم من الإيمان به وباليوم الآخر وما ينجيهم من العقاب فى ذلك اليوم وهو العمل الصالح الذي يكون سببا فى سعادتهم فى الدارين.

وفى الآية دليل على أن الله تعالى قد أرسل إلى كل جماعة من الأمم السالفة رسولا وما أهمل أمة قط ، ويدل على ذلك قوله : «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» وقوله : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» وقوله : «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».

١١٥

(فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي فإذا جاء رسولهم وبلّغهم ما يجب عليهم معرفته من أمور دينه ، لم يبق لهم حينئذ عذر فى مخالفته ، فهنالك فى يوم الحساب يقضى الله تعالى بينهم بالعدل ولا يظلمون فى قضائه شيئا مما سيحل بهم من عذاب لا يكون ظلما لهم ، لأنه من قبل أنفسهم وهم الذين دنسوها بسيء الأعمال فاستحقوا على ذلك شديد العقاب.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين مكذبين له فيما أخبرهم به من نزول العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء : متى يقع هذا الوعد الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين فى قولكم : إن الله تعالى سينتقم لكم منا وينصركم علينا : أي فى نحو ما جاء فى قوله : «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» وقوله : «قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً».

وقد لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب عن هذا السؤال بقوله :

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي قل أيها الرسول لمن يستعجل الوعيد ويقول لك متى هذا الوعد. إنى بشر رسول لا أملك لنفسى فضلا عن غيرى شيئا من التصرف فى الضر فأدفعه عنها ، ولا شيئا من النفع فأجلبه لها من غير طريق الأسباب التي يقدر عليها غيرى ، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين ولا بذل النصر والمعونة للمؤمنين ، لكن ما شاء الله تعالى من ذلك يكون متى شاء ولا شأن لى فيه ، لأنه خاص بمقام الربوبية دون الرسالة التي من وظيفتها التبليغ لا التكوين.

وقد جاء فى معنى الآية قوله : «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

١١٦

(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لكل أمة من الأمم الذين أصرّوا على تكذيب رسولهم أجل لعذابهم يحلّ بهم عند حلوله لا يتعداهم إلى أمة أخرى ، إذا جاء ذلك الأجل فلا يملك رسولهم من دون الله تعالى أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له وإن قلّت.

قال فى فتح البيان : وفى هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجّيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه وتعالى ؛ وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه وتعالى ؛ فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ، ورزقهم وأحياهم فكيف يطلب من نبىّ من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب من رب الأرباب القادر على كل شىء الخالق الرازق المعطى المانع.

وحسبك ما فى الآية من موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأنه يقول لعباده «لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» فكيف يملكه لغيره ، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته؟.

فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين صاروا تحت أطباق الثرى ، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجل ، كيف لا يتّعظون لما وقعوا فيه من الشرك ، ولا يتنبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله ، ومدلول «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ».

وأعجب من هذا إطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى ، بل إلى ما هو أشد منها ، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، الضار النافع ، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين لهم إليه وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على

١١٧

الضر والنفع وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذى الجلال (وكفاك من شر سماعه) والله ناصر دينه ومطهّر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر.

وقد توسل الشيطان أخزاه الله تعالى بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه ويثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» إنّا لله وإنّا إليه راجعون اه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) أي قل لهم أيها الرسول : أخبرونى عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه إن أتاكم عذا به الذي تستعجلون به فى وقت مبيتكم بالليل أو وقت اشتغالكم بلهوكم ولعبكم أو بأمور معاشكم بالنهار.

(ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي أىّ نوع من العذاب يستعجل منه المجرمون الكذابون؟ أعذاب الدنيا أم عذاب يوم القيامة؟ وأيا ما استعجلوا فهو حماقة وجهالة.

(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) أي أيستعجل مجرموكم بالعذاب الذين هم أحق بالخوف منه بدل الإيمان الذي يدفعه عنهم ثم إذا وقع بالفعل آمنتم به حين لا ينفع الإيمان ، إذ هو قد صار ضروريا بالمشاهدة والعيان ، لا تصديقا للرسول عليه السلام.

(آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي وقيل لكم على سبيل التوبيخ آلآن آمنتم به اضطرارا ، وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا به واستكبارا.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالرسالة والوعد والوعيد تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا بحيث لا فناء له ولا زوال.

ثم بين أن هذا العذاب جزاء ما صنعوا فى الدنيا فقال :

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟) أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون باختياركم من الكفر والظلم والفساد فى الأرض والعزم على الثبات عليه وعدم التحول عنه ، وليس فى هذا الجزاء شىء من الظلم ، لأنه أثر لازم لما عملوا فلم يعودوا أهلا للكرامة وجوار المولى فى جنة الخلد.

١١٨

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟) أي ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به فى الدنيا والآخرة أحق إنه سيقع جزاء على ما كنا نكسبه من المعاصي فى الدنيا ، أم هو إرهاب وتخويف فحسب؟.

(قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إي بكسر الهمزة وسكون الياء كلمة يجاب بها عن كلام سبق بمعنى نعم ، وأعجزه الأمر : فاته ، أي نعم أقسم لكم بربي إنه لحق واقع ماله من دافع ، وما أنتم بواجدى من يوقع العذاب بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم.

وخلاصة ذلك ـ إنه حين ينزل بكم عذابه لستم بفائتيه سبحانه بهرب أو امتناع بل أنتم فى قبضته وسلطانه ، إذا أراد فعل ذلك بكم فاتقوه فى أنفسكم أن يحل بكم غضبه.

روى أحمد والشيخان عن أنس قال : «بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه فى المسجد ثم عقله ثم قال : أيكم محمد؟ قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ ، فقال : أبن عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك ، فقال إنى أسألك فمشدّد عليك فى المسألة فلا تجد علىّ فى نفسك ، قال سل ما بدا لك ، فقال أسألك بربك ورب من قبلك : آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال : اللهم نعم ، قال : أنشدك الله : آلله أمرك أن تصلى الصلوات الخمس فى اليوم والليلة؟ قال : اللهم نعم ، قال : أنشدك الله : آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟

قال : اللهم نعم قال أنشدك الله ، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال : اللهم نعم ، قال آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي من قومى ، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بنى سعد بن بكر».

وفى رواية أحمد أنه قال أيضا : «آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدونها معه؟ قال : اللهم نعم ، وأنه كان أشعر داغديرتين وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة».

وذكر أنه خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال :

١١٩

بئست اللات والعزّى ، قالوا مه (أي كفّ عن هذا!) يا ضمام ، اتق البرص والجذام ، اتق الجنون ، قال : ويلكم إنهما والله ما يضرّان ولا ينفعان ، إن الله قد بعث إليكم رسولا وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، وأنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ، فو الله ما أمسى فى ذلك اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.

ثم ذكر ما فى هذا اليوم من الأهوال فقال :

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أي ولو أن لكل نفس كفرت بالله ـ جميع ما فى الأرض من أنواع الملك وصنوف النعم وأمكنها أن تجعله فداء لها من ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه ـ لافتدت به ولم تدّخر منه شيئا.

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) إسرار الشيء : إخفاؤه وكتمانه ، وإسرار الحديث : خفض الصوت به ، والندم والندامة : ما يجده الإنسان فى نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل يظهر له ضرره ، وقد يجهر به بالكلام كما قال تعالى : «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ» أو يخفيه ويكتمه حين لا يجد فائدة من إعلانه أو اتقاء للشّماتة أو الإهانة. أي وأسر أولئك الذين ظلموا غمّهم وأسفهم على ما فعلوا من الظلم حين معاينة العذاب بأبصارهم ؛ إذ برزت لهم نار جهنم وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها ، فما مثلهم إلا مثل من يقدّم للصلب يثقله ما نزله به من الخطب الجلل ، ويغلب عليه الحزن الفادح فيخرسه ، ولا يستطيع أن ينطق ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا لا حراك به.

ثم بين أنه لا ظلم اليوم فقال :

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وقضى الله بينهم وبين خصومهم بالحق والعدل ، وخصومهم هم الرسل والمؤمنون بهم ، وكذلك من أضلّوهم وظلموهم من المرءوسين والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر ويصدّونهم عن الإيمان.

وجاء فى معنى هذه الآية قوله فى سورة سبأ «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وقوله :

١٢٠