تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي وبشر الذين آمنوا بما أوحيناه إليك بأن لهم أعمالا صالحة استوجبوا بها الثواب منه تعالى ، ومنزلة رفيعة نالوها بصدق القول وحسن النية.

(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله : إن هذا الذي جاء به محمد لسحر مبين أي ظاهر واضح يبين لكم أنه مبطل فيما يدعيه.

وجعلوه سحرا لأنه خارق للعادة فى تأثيره فى القلوب وجذبه النفوس إلى الإيمان به واحتقار الحياة ولذاتها فى سبيل الله.

وخلاصة ذلك ـ إنه كلام مزخرف حسن الظاهر لكنه واضح البطلان فى الحقيقة.

وقد كذبوا فى تسميته سحرا ، لأن السحر ما يكون بأسباب خفيّة يتعلمها بعض الناس من بعض إما بالحيل والشعوذة ، وإما باستخدام خواص طبيعية علمية مجهولة للجماهير ، وإما بتأثير قوى النفس وتوجيه الإرادة ، وجميعها من الأمور التي يشترك فيها الكثير من العارفين بها ، والقرآن ليس بسحر يؤثّر بالعلم والصناعة ، بل هو أقوال مشتملة على آداب عالية وتشريع حكيم فيه مصلحة للناس ، معجز فى أسلوبه ونظمه ومعانيه ، أتى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس ، ولم يكن ليقدر على شىء من مثله ، وبهذا ثبت أنه نبى من عند الله ، وأن ما جاء به وحي من لدنه.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

٦١

تفسير المفردات

الخلق : لغة التقدير ، واليوم لغة الوقت الذي يحدّه حدث يحدث فيه وإن كان ألوف السنين من أيام هذه الأرض الفلكية التي وجدت بعد خلق الليل والنهار ، والعرش : مركز التدبير ولا نعلم كنهه ولا صفته ، والتدبير : النظر فى أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود ، وتدبير الأمر ، أو القول : هو التفكر فيما وراءه وما يراد منه وينتهى إليه ، والقسط : العدل ، والحميم : الماء الشديد الحرارة.

المعنى الجملي

بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر آيات الكتاب ، وأنكر على الناس عجبهم أنه يوحى إلى رجل منهم يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب ، وينذرهم على الكفر والمعاصي بالعقاب ـ قفى على ذلك بذكر أمرين :

(١) إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا نافذ الحكم بالأمر والنهى يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.

(٢) إثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال من ثواب وعقاب وهما اللذان أخبر بهما الأنبياء.

الإيضاح

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي إن ربكم هو الله الذي خلق العوالم السماوية التي فوقكم ، وهذه الأرض التي تعيشون على ظهرها فى ستة أزمنة قد تمّ فى كل زمن منها طور من

٦٢

أطوارها وقدرها بمقادير أرادها ، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير لهذا الملك العظيم ، استواء يليق بعظمته وجلاله ، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام واقتضته حكمته من الإحكام ، ولا يستنكر من رب هذا الخلق المدبر لأمور عباده أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه ، ما يهديهم به لما فيه كمالهم من عبادته وشكره ، وبذلك تصلح أنفسهم وتطهر قلوبهم وتستنير أفئدتهم ، لتتم لهم بذلك الحياة السعيدة فى الدنيا والنعيم المقيم فى الآخرة ، كما لا يستنكر أن هذا الوحى منه عزّ وجل ؛ إذ هو من كمال تقديره وتدبيره ولا يقدر عليه سواه.

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي لا يوجد شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه ، والآية بمعنى قوله سبحانه «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وقد جاء فى كتابه تعالى أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة كما قال : «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً» ومن أذن له بالشفاعة لا يشفع إلا لمن رضى له الرحمن لإيمانه وصالح عمله كما قال : «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى».

وفى هذا إيماء لدحض العقيدة التي كان يعتقدها مشركو العرب ومقلدوهم من أهل الكتاب من أن الأصنام والأوثان وعبادة المقربين من الملائكة والبشر يشفعون لهم عند الله بما يدفع عنهم الضرر ويجلب لهم النفع كما حكى الله عن عبدة الأصنام قولهم «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى».

وفى هذه العقيدة حجة عليهم إذ يقال لهم ـ إنكم إذا كنتم تؤمنون بأن لله شفعاء من أوليائه وعباده المقربين يشفعون لكم بما يقربكم إليه زلفى. وهو قول عليه تعالى بغير علم ـ فما بالكم تنكرون وتعجبون أن يوحى إلى من يشاء ويصطفى من عباده من يعلّمهم ما يهديهم إلى العمل الموصل إلى السعادة والهادي إلى طريق الرشاد.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي ذلكم الموصوف بالخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف فى أمر الشفاعة يأذن بها لمن يشاء ـ هو الله ربكم المتولى شؤونكم فاعبدوه

٦٣

وحده ولا تشركوا به شيئا ولا تشركوا معه أحدا لا فى شفاعة ولا غيرها ، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعا ولا ضرا ، بل هو الذي يملك ذلك وحده وهو قد هداكم إلى أسباب النفع والضر الكسبية بالعقول والمشاعر التي سخرها لكم ، وإلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه ، فلا تطلبوا نفعا ولا ضرا إلا بالأسباب التي سخرها لكم ، وما تعجزون عنه أو تجهلون أسبابه ، فادعوه فيه تعالى وحده يحصل لكم ما فيه ترغبون ، أو يدفع عنكم ما تكرهون.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أتجهلون هذا الحق الواضح فلا تتذكرون أن الذي خلق السموات والأرض ، وانفرد بتدبير هذا العالم هو الذي يجب أن يعبد ولا يعبد سواه ، وذلك هو مقتضى الفطرة ، والإعراض عنه غفلة يجب التنبيه إليها.

وفى ذلك إيماء إلى أنه لا ينبغى أن نوجه وجوهنا شطر قبور الأولياء والصالحين ونشد الرحال إلى من بعد منهم ونتقرب إليهم بالنذور ونطوف بهم كما يطوف الحاج بيت الله الحرام ، داعين متضرعين خاشعين نطلب منهم ما عجزنا عنه بكسبنا من دفع ضر أو جلب نفع ، وكيف نتذكر هذه الآيات وأمثالها التي تجعل العبادة خاصة به تعالى وما الدعاء إلا مخ العبادة وروحها وأجلى مظاهرها كما جاء فى الأثر «الدعاء مخ العبادة».

ولكن أكثر العلماء وجمهرة الناس يتأولون هذه العبادة ويسمونها توسلا واستشفاعا ، والأسماء لا تغير من قيمة الحقائق شيئا ، فذلك بعينه هو ما كان يدّعيه المشركون وأهل الكتاب «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى».

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي إلى ربكم وحده دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعا بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه لا يتخلف منكم أحد.

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعد الله ذلك وعدا حقا لا خلف فيه.

(إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشئه حين التكوين ، ثم يعيده فى نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه.

٦٤

وقد اتفق العلماء جميعا ما ديّهم وروحيهم على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية قد وجدت بعد أن لم تكن وإن كانوا لا يزالون يبحثون عن كيفية تلك النشأة والقوة المتصرفة فى أصل مادتها.

وهم جميعا متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة بها فى هذا النظام الشمسى الجامع لها بأن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية تبسّها بسّا فتكون هباء منبثا.

وها هو ذا قد حصل البدء بالفعل والإعادة أهون من البدء ، فمن قدر على البدء يكون أقدر على الإعادة كما قال فى سورة الروم : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».

ومما يقرّب ذلك أن علماء الطبيعة أثبتوا أن هذه الأجساد الحية فى انحلال وتجدد دائمين فما ينحل منها ويبخر فى الهواء أو يموت فى داخل الجسم ثم يخرج منه تحلّ محله موادّ حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان فى سنين قليلة ويتجدد غيره.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي إنه تعالى يعيدهم لأجل جزائهم بالعدل ، فيعطى كل عامل حقه من الثواب الذي جعله لعمله ، وهذا المعنى قد جاء فى آيات كثيرة كقوله : «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» وقوله : «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ».

والعدل فى الأمور كلها مما يتطلبه الإيمان كما قال : «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» وقال : «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ».

والجزاء بالعدل لا يمنع أن يزيدهم ربهم شيئا من فضله ويضاعف لهم كما وعد على ذلك فى آيات أخرى ، منها قوله : «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» وقوله : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ».

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي إن

٦٥

الكافرين لهم من الجزاء شراب من حميم يقطع أمعاءهم وعذاب شديد الألم بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرّة إلى الموت كدعاء غير الله من الأوثان والأصنام ، وسائر المعاصي التي يزينها لهم الشيطان ويصدهم بها عن الإيمان.

وتعليل الرجوع إليه تعالى بأنه لجزاء المؤمنين الصالحين ، بيان منه بأنه المقصود بالذات ، إذ هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشرى للذين زكّوا أنفسهم وطهروا قلوبهم وأخبتوا إلى ربهم فيلقى من عمل الصالحات من النعيم المادي ما هو خال من الشوائب التي تخالطه فى نعيم الدنيا ، ومن النعيم الروحي (وهو رضوان الله الأكبر) مما لا يعلم كنهه فى هذه الحياة أحد كما قال «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وجاء فى الحديث القدسي «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» رواه البخاري.

وأما جزاء الكافرين الظالمين لأنفسهم وللناس على تدسيتهم لأنفسهم بالكفر والخطايا ، فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية فى خلق الإنسان ، ولكنها مقتضى العدل ومقتضى مشيئته تعالى فى ارتباط الأسباب بالمسببات والعلل بالمعلولات.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

تفسير المفردات

الضوء والنور : بمعنى واحد لغة ، والضوء أقوى من النور استعمالا بدليل هذه الآية ، وقيل الضوء لما كان من ذاته كالشمس والنار ، والنور لما كان مكتسبا من

٦٦

غيره ، ويدل على ذلك قوله : «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» والسراج : نوره من ذاته ، والضياء والضوء ما أضاء لك ، وشعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي ترى فى قوس السحاب فهو سبعة أضواء ، وقد كشف ترقى العلوم الفلكية عن ذلك ، وكان الناس يجهلونه عصر التنزيل ، والتقدير : جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة فى الذات أو الصفات أو الزمان أو المكان كما قال : «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» وقال : «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» والمنازل : واحدها منزل ، وهو مكان النزول ، وهى ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب بأسمائها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الآيات الدالة على وجوده ، وهو خلق السموات والأرض على ذلك النظام المحكم ـ ذكر هنا أنواعا من آياته الكونية الدالة على ذلك وعلى أنه خلقها على غاية من الإحكام والإتقان ، وهو تفصيل لما تقدم وبيان له على وجه بديع وأسلوب عجيب.

الإيضاح

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) أي إن ربكم الذي خلق السموات والأرض ـ هو الذي جعل الشمس مضيئة نهارا والقمر منيرا ليلا ، ودبّر أمور معاشكم هذا التدبير البديع ، فأجدر به وأولى أن يدبّر أمور معادكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.

(وقدره منازل) أي وقدر سير القمر فى فلكه منازل ينزل كل ليلة فى واحد منها لا يجاوزها ولا يقصر دونها وهى ثمانية وعشرون يرى القمر فيها بالأبصار ، وليلة أو ليلتان يحتجب فيهما فلا يرى.

(لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لتعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير

٦٧

المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم المالية والمدنية ، ولو لا هذا النظام المشاهد لتعذر العلم بذلك على الأميين من أهل البدو والحضر ؛ إذ حساب السنين والشهور الشمسية لا يعلم إلا بالدراسة ، ومن ثم جعل الشارع الحكيم الصوم والحج وعدة الطلاق بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة ، ولعبادتى الصيام والحج حكمة أخرى وهى دورانهما فى جميع فصول السنة ، فيعبد المسلمون ربهم فى جميع الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة.

وقد حث الشارع على الانتفاع بالحساب الشمسى بنحو قوله : «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» وقوله : «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ».

(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما خلق الله الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لها فتنبعث الحرارة فى جميع الأحياء ، وبها يبصر الناس جميع المبصرات ويقومون بأمور معايشهم وسائر شئونهم ، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة فى سيرهم ، وقدره منازل يعرف بها الناس السنين والشهور ، ما خلق ذلك إلا مقترنا بالحق الذي تقتضيه الحكمة والمنفعة لحياة الخلق ونظام معايشهم فلا عبث فيه ولا خلل ، فكيف يعقل بعد هذا أن يخلق هذا الإنسان ويعلمه البيان ويعطيه من كمال الاستعداد ما لم يعط غيره ، ثم يتركه بعد ذلك سدى يموت ويفنى ولا يعود ويبعث ، لتجزى كل نفس بما كسبت فيجزى المتقون بصالح أعمالهم ، والمشركون والظالمون المجرمون بكفرهم وجرائمهم كما قال تعالى : «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟».

(يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يبين الدلائل من حكم الخلق على رسوله مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون دلالة الأدلة ويميزون بين الحق والباطل باستعمال عقولهم فى فهم هذه الآيات فيجزمون بأن من خلق النيّرين على هذا النظام البديع لا يمكن أن يخلق الإنسان سدى.

٦٨

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي فى حدوثهما وتعاقبهما بمجىء كل منهما خلقة للآخر وفى طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس ، وما لهما من نظام دقيق بحسب حركة الشمس اليومية والسنوية ، وفى طبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل دنيوى ودينى (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أحوال الجماد والنبات والحيوان ، ويدخل فى ذلك أحوال الرعود والبروق والسحاب والأمطار ، وأحوال البحار من مدّ وجزر ، وأحوال المعادن العجيبة فى تركيبها وأوضاعها المختلفة إلى نحو ذلك مما ذكر فى علم المواليد الثلاثة.

(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) أي لدلائل عظيمة على وجود الصانع ووحدانيته وحكمته فى الإبداع والإتقان وفى تشريع العقائد والأحكام ـ لقوم يتقون مخالفة سننه تعالى فى التكوين وسننه فى التشريع ، فلله سنن فى حفظ الصحة من خالفها مرض ، وله سنن فى تزكية الأنفس من خالفها وأفسدها بارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن جوزى على ذلك فى الآخرة أشد الجزاء.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

تفسير المفردات

قال فى المصباح : رجوته : أمّلته أو أردته قال تعالى «لا يَرْجُونَ نِكاحاً» أي لا يريدونه ، ويستعمل بمعنى الخوف لأن الراجي يخاف ألا يدرك ما يرجوه ، وقيل

٦٩

الرجاء مجرد التوقع الذي يشمل ما يسرّ وما يسوء ، واللقاء : الاستقبال والمواجهة ، والاطمئنان : سكون النفس إلى الشيء وارتياحها به ، والمأوى : الملجأ الذي يأوى إليه المتعب أو الخائف أو المحتاج من مكان آمن أو إنسان نافع ، وقد أطلق على الجنة فى ثلاث آيات ، وعلى النار فى بضع عشرة آية ، والدعوى : الدعاء ، وهو للناس النداء والطلب المعتاد بينهم فى دائرة الأسباب المسخرة لهم ، ولله هو دعاؤه وسؤاله والرغبة فيما عنده مع الشعور بالحاجة إليه والضراعة له فيما لا يقدر عليه أحد من خلقه من دفع ضر أو جلب نفع ، سبحانك : أي تنزيها لك وتقديسا ، والتحية : التكرمة بقولهم حياك الله ، أي أطال عمرك والسلام : السلامة من كل مكروه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأدلة على وجوده تعالى من خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وأثبت بذلك البعث والجزاء على الأعمال يوم العرض والحساب ـ قفى على هذا بذكر حال من كفر به وأعرض عن البينات الدالة عليه ، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات موقنين بلقاء ربهم ـ ثم ذكر جزاء كلّ من الفريقين.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي إن الذين لا يتوقعون لقاءنا فى الآخرة للحساب والجزاء على الأعمال لإنكارهم للبعث ، ورضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة فقصروا كل همهم من الحياة على الحصول على أغراضهم منها ، وسكنت نفوسهم إلى شهواتها ولذاتها.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) فلا يتدبرون منها ما نزل على رسولنا وما حوته من عبر ومواعظ ومعاد وحكم ، ولا يتفكرون فى صحائف الكون وما فيها من حكمته وسننه فى الخلق ، وبهذا شاركوا الفريق الأول فى الشغل بالدنيا عن الآخرة ، ومن ثم لم يستعدوا لحسابنا وما يعقبه من نعيم مقيم ، وعذاب أليم.

٧٠

(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أولئك الذين سلف ذكرهم مأواهم فى الآخرة النار جزاء ما اجترحوا من السيئات طوال حياتهم ، فهم قد دنسوا أنفسهم بشرور الوثنية وظلمات الشهوات الحيوانية فلم يعد لنور الحق والخير مكان فيها ، ومن ثم لا يجدون ملجأ بعد هول الحساب إلا جهنم دار العذاب.

وبعد أن أبان جزاء الفريق الأول كان من الواضح أن تستشرف نفس القارئ والسامع إلى جزاء الفريق الثاني فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به ولم يغفلوا عن الآيات التي غفل عنها الغافلون ورجوا لقاء ربهم وخافوا حسابه وعقابه ، يهديهم ربهم بسبب إيمانهم صراطه المستقيم فى كل ما يعملون وينتهى ذلك بهم إلى دخول الجنة التي أعدها لعباده المخبتين.

وفى هذا إيماء إلى أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب الهداية والفوز برفيع الدرجات والوصول إلى أقصى الغايات.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي تجرى من تحت غرفهم فى الجنات ومن تحت الأشجار.

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إنهم يبدءون كل دعاء وثناء عليه تعالى يناجونه به بهذه الكلمة (سُبْحانَكَ اللهُمَّ) أي تنزيها وتقديسا لك يا الله ، وأن تحيتهم فيها كلمة (سَلامٌ) الدالة على السلامة من كل مكروه ، وهى تحية المؤمنين فى الدنيا.

وهذه التحية تكون منه عز وجل حين لقائه كما قال فى سورة الأحزاب : «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» ومن الملائكة لهم عند دخول الجنة كما قال : «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» وتكون منهم بعضهم لبعض كما قال : «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً».

٧١

وإن آخر كل حال من أحوالهم من دعاء يناجون به ربهم ، ومطلب يطلبونه من إحسانه وكرمه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كما أنه أول ثناء عليه حين دخولها كما قال «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» كما أنه آخر كلام الملائكة كما قال : «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

فعلى كل مؤمن أن يستعدّ لها بتزكية نفسه وترقية روحه ، ويعلم أنه لن يكون أهلا لها إلا بالعمل ومجاهدة النفس والهوى ، لا بالتوسلات للأولياء والتمني لشفاعتهم كما قال تعالى : «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً».

وروى عن أبىّ بن كعب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «إن أهل الجنة إذا قالوا ـ سبحانك اللهم ، أتاهم ما يشتهون» وكذلك روى مثله عن بعض التابعين ـ فالكلمة إذا علامة بين أهل الجنة وخدمهم على إحضار الطعام وغيره فإذا أكلوا حمدوا الله تعالى.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))

٧٢

تفسير المفردات

تعجيل الشيء. تقديمه على أوانه المقدر له أو الموعود به ، والاستعجال به : طلب التعجيل له ، والعجلة من غرائز الإنسان كما قال تعالى «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» فاستعجاله بالخير لشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها ، واستعجاله بالضر لا يكون من دأبه بل بسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز ، أو للنجاة مما هو شر منه ، وقضاء الأجل : انتهاؤه ، ونذر : نترك ، والطغيان : مجاوزة الحد فى الشر من كفر وظلم وعدوان ، والعمه : التردد والتحير فى الأمر أو فى الشر ، ومرّ : أي مضى فى طريقته التي كان عليها من الكفر بربه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر تعجب القوم من تخصيص محمد بالنبوة ، وأزال هذا التعجب بقوله «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ» ثم ذكر دلائل التوحيد والبعث والجزاء ـ ذكر هنا جوابا عن شبهة كانوا يقولونها أبدا وهى : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فى ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء.

وخلاصة الجواب أنه لا مصلحة لهم فى إيصال الشر إليهم إذ لو أوصله إليهم لماتوا وهلكوا ، ولا صلاح فى إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك أو خرج من صلبهم من يكون مؤمنا.

الإيضاح

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم فى الشر وفيما عليهم فيه مضرة فى نفس أو مال كاستعجال مشركى مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب الذي أنذرهم نزوله بهم كما حكى الله عنهم من نحو قوله «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ

٧٣

الْمَثُلاتُ» وقوله «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً» وقوله «وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ».

كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه بدعاء الله أو بعلاج الأسباب التي يظنون أنها قد تأتى به قبل أوانه ، لقضى أجلهم قبل وقته الطبيعي كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم.

ولكن الله أرحم بهم من أنفسهم ، وقد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهداية الدائمة ، وقضى بأن يؤمن به قومه العرب ويحملوا دينهم إلى العجم ، وأنه يعاقب المعاندين من قومه فى الدنيا بما فيه تأديب لهم كما بين ذلك بقوله «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» ويؤخر عذاب سائر الكافرين إلى يوم القيامة ، ولم يقض بإهلاكهم واستئصالهم ، بل يذرهم إلى نهاية آجالهم كما قال : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي فنترك الذين لا يرجون لقاءنا ممن تقدم ذكرهم فيما هم فيه من طغيان فى الكفر والتكذيب ، يترددون فيه متحيرين لا يهتدون سبيلا للخروج منه ، ولا نعجل لهم العذاب فى الدنيا بالاستئصال حتى يأتى أمر الله فى جماعتهم بنصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وفى أفرادهم بقتل بعضهم وموت بعض ، ومأواهم النار وبئس القرار ، إلا من تاب وآمن منهم.

وقد يكون المراد : ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه بما يقترفونه من ظلم وفساد فى الأرض لأهلكهم كما جاء فى قوله «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» ومن هذا دعاؤهم على أنفسهم حين اليأس ، ودعاء بعضهم على بعض حين الغضب كما قال «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» أي وما دعاء الكافرين بربهم أو بنعمه فيما يخالف شرعه وسننه فى خلقه إلا فى ضياع لا يستجيبه الله لهم لحلمه عليهم ورحمته بهم.

٧٤

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) أي إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر فيه بشدة ألم أو خطر على نفسه كغرق ومسغبة وداء عضال دعانا ملحّا فى كشفه عند اضطجاعه لجنبه أو قعوده فى كسر بيته أو قيامه على قدميه حائرا فى أمره ، ولا ينسى حاجته إلى رحمة ربه مادام يشعر بمسّ الضر ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه ، وقدم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان أشد عجزا وشعوره بالحاجة إلى ربه أقوى ثم التي تليها ثم التي تليها.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أي فلما كشفنا عنه ضره الذي دعانا إليه حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه أو بغيره من الأسباب ـ مرّ ومضى فى طريقه التي كان عليها من الغفلة عن ربه والكفر به كأن الحال لم تتغير ولم يدعنا إلى شىء ولم نكشف عنه ضرا.

(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مثل هذا الطريق من معرفة الله والإخلاص فى دعائه وحده فى الشدة ، ونسيانه والكفر به بعد كشفها ، زين للمشركين من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك ، حتى بلغ من عنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب أن استعجلوه به فقالوا اللهم ربنا أمطر علينا حجارة من السماء.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

تفسير المفردات

القرون : الأمم ، واحدها قرن ، وهم القوم المقترنون فى زمن واحد ، وجاء فى الحديث الشريف «خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم» والخلائف : واحدها خليفة ، وهو من يخلف غيره فى شىء ، وننظر : نشاهد ونرى.

٧٥

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السالفة أنهم كانوا يتعجلون العذاب ، وذكر أنه لا صلاح لهم فى إجابة دعائهم ، ثم ذكر أنهم كاذبون فى هذا الطلب إذ لو نزل بهم الضر جأروا وتضرعوا إلى الله فى كشفه وإزالته.

بين هنا ما يجرى مجرى التهديد ، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال كما حدث للأمم قبلهم حتى يكون ذلك رادعا لهم وزاجرا عن هذا الطلب.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الخطاب إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل وطنه مكة ، أي ولقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبلكم بسبب ظلمهم.

والآية بمعنى قوله «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» وهلاك الله للأمم بالظلم ضربان :

(١) ضرب بعذاب الاستئصال للأقوام الذين بعث الله تعالى فيهم رسلا لهدايتهم بالإيمان والعمل الصالح كقوم نوح وعاد وثمود ، فعاندوا الرسل فأنذروهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيئهم بالآيات الدالة على صدقهم.

(٢) ضرب بعذاب هو مقتضى سنته تعالى فى نظم الاجتماع البشرى ، فالظلم مثلا سبب لفساد العمران وضعف الأمم ، ولاستيلاء القوية على الضعيفة كما قال «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» ـ وهو إما ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف فى الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق ، وإما ظلم الحكام الذي يفسد بأس الأمة ويهن من قوتها.

(وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أهلكناهم لما ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالبينات الدالة على صدقهم.

٧٦

(وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي وما كان من شأنهم ولا من مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا لأنهم قد مرنوا على الكفر وصار ديدنهم حب الشهوات واللذات من الجاه والرياسة والظلم والفسق والفجور.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا العذاب الشديد وهو الاستئصال نجزيه لكل قوم مجرمين.

وفى هذا وعيد شديد لأهل مكة على تكذيبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعد أولئك الأقوام بما آتيناكم فى هذا الدين من أسباب الملك والحكم ، إذ فى شريعتكم ما به سعادة الأمة فى دينها ودنياها.

وفى الآية بشارة لهذه الأمة بأنها ستخلفهم فى الأرض إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه كما قال «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» ولقد صدق الله وعده فملكهم ملك الأكاسرة والقياصرة والفراعنة وكثير من الأمم غيرها.

(لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي لنرى ماذا تعملون فى خلافتكم فنجازيكم به بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم ، كما قال «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» وجاء فى الأثر «إن الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» وقال قتادة : صدق الله ربنا ، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل أو النهار.

وفى ذلك إيماء إلى أن هذه الخلافة منوطة بالأعمال حتى لا يغتروا بماسينالونه ويظنوا أنه باق لهم وأنهم يتفلتون من سننه تعالى فى الظالمين.

٧٧

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

المعنى الجملي

بعد أن بدأ سبحانه السورة بذكر الكتاب الحكيم وإنكار المشركين الوحى على رجل منهم ، ثم أقام الحجة على الوحى والتوحيد والبعث بخلق العالم علويّه وسفليّه ، وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه ـ أعاد هنا الكلام فى شأن الكتاب نفسه ، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنه ، وحجته البالغة عليهم فى كونه وحيا من عند الله تعالى.

الإيضاح

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آيات الكتاب الذي أنزل إليك حال كونها بارزات فى أعلى أسلوب من البيان ، دالات على الحق ، ساطعات الحجة والبرهان قالوا لمن يتلوها عليهم ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، أي ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما لا نؤمن به من البعث والجزاء على الأعمال ، ولا ما نكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها ، أو بدّله بأن تجعل بدل الآية المشتملة على الوعيد آية أخرى ، ولم يكن مقصدهم من هذا إلا أن يختبروا حاله بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره فى جملة ما بلّغهم من سوره فى أسلوبها ونظمها ، أو بالتصرف فيه بالتغيير والتبديل لما يكرهونه منه من تحقير آلهتهم وتكفير آبائهم حتى إذا

٧٨

فعل هذا أو ذاك كانت دعواه أنه كلام الله أوحاه إليه دعوى لا يعوّل عليها ، وكان قصارى أمره أنه امتاز عنهم بنوع من البيان خفيت عليهم أسباب معرفته ، ولم يكن بوحي من الله كما يزعمه.

(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي قل لهم أيها الرسول إنه ليس من شأنى ولا مما تجيزه لى رسالتى أن أبدله من تلقاء نفسى ومحض رأيى وخالص اجتهادي.

ثم أكد ما قبله فقال :

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع فيه إلا تبليغ ما يوحى إلىّ والاهتداء بهديه ، فإن بدّل الله منه شيئا بنسخه بلغت عنه ما أراد ، وما علىّ إلا البلاغ.

ثم علل ما سبق بقوله :

(إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف إن فعلت أىّ عصيان ، عذاب يوم عظيم الشأن ، ألا وهو يوم القيامة ، فكيف بي إذا عصيته بتبديل كلامه اتباعا لأهوائكم.

ثم لقّنه الله الجواب عن الشق الأول وهو التغيير لأهميته بقوله :

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) يقال دريته ودريته به ، أي علمته ، أي قل لهم لو شاء الله ألا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم ، فإنما أتلوه بأمره وتنفيذ مشيئته ولو شاء الله ألا يعلمكم به بإرسالى إليكم لما أرسلنى ولما أدراكم به ، ولكنه شاء أن يمنّ عليكم بهذا العلم النافع لتهتدوا به وتكونوا بهدايته خلائف فى الأرض ، وهذا لن يكون بكتاب آخر كما قال «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» فهو قد أنزله عالما بأن فيه كل ما يحتاج إليه البشر من الهداية وأسباب السعادة.

(فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي فقد مكثت بين ظهرانيكم عمرا طويلا من قبله وهو أربعون سنة لم أتل عليكم سورة من مثله ولا آية تشبه آياته ، لا فى العلم والهداية ، ولا فى البيان والبراعة.

٧٩

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون أن من عاش أربعين سنة لم يقرأ كتابا ولم يلقّن من أحد علما ولم يتقلد دينا ولم يمارس أساليب البيان وأفانين الكلام من شعر ونثر وخطابة وفخر وعلم وحكمة ـ لا يمكنه أن يأتى بمثل هذا القرآن المعجز لكم ولجميع الدارسين لكتب الأديان ، فكيف تقترحون علىّ أن آتى بقرآن غيره.

وقد كان أكثر أنبياء بنى إسرائيل قبل نبوتهم على شىء من العلم كما قال تعالى فى موسى «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» وقال فى يحيى «وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا».

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي إن شر أنواع الظلم والإجرام فى البشر شيئان :

(١) افتراء الكذب على الله ، وذلك بما اقترحتموه على الإتيان بقرآن غيره.

(٢) التكذيب بآيات الله بما اجترحتموه من السيئات.

وقد نعيت عليكم الثاني منهما ، فكيف أرضى لنفسى الأول وهو شر منه ، وإنّ أهم أغراض رسالتى الإصلاح ، ولأجله أحتمل المشاقّ ، وأقبل فى سبيله كل إرهاق ، فلا فائدة لى فى هذا الإجرام.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي إنه لا يفوز الذين اجترموا الكفر فى الدنيا إذا لقوا ربهم ولا ينالون الفلاح.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

٨٠