تفسير المراغي - ج ٢

أحمد مصطفى المراغي

حقيقى نافع ، والإدلاء : إلقاء الدلو لإخراج الماء ، ويراد به إلقاء المال إلى الحكام لإخراج الحكم للملقى ، وقوله بها أي بالأموال ، والفريق من الشيء : الجملة والطائفة منه ، والإثم : هو شهادة الزور أو اليمين الفاجرة أو نحو ذلك.

المعنى الجملي

لما كان الكلام في الآية السالفة في الصيام وأحكامه ، وفيه حلّ أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت ، ناسب أن يذكر هنا حكم أكل الإنسان مال غيره.

الإيضاح

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض ، وسماه ماله إشعارا بوحدة الأمة وتكافلها ، وتنبيها إلى أن احترام مال غيرك احترام وحفظ لمالك ، كما أن التعدي على مال غيرك جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها ، ولا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها ، إذ هو باستحلال مال غيره يجرّئ غيره على استحلال أكل ماله إذا كان في طاقته. والباطل كلمة معروفة المعنى عند الناس بوجوهها الكثيرة ويدخل فيها :

(١) الربا لأنه أكل لأموال الناس بدون مقابل من صاحب المال المعطى.

(٢) الأموال التي تلقى إلى الحكام رشوة لهم.

(٣) الصدقة على القادر على الكسب الذي يكفيه.

(٤) أخذ القادر على الكسب صدقة ، فلا يحلّ لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطر إليها.

(٥) باعة التمائم والعزائم وختمات القرآن والعدد المعلوم من سورة يس لقضاء الحاجات أو رحمة الأموات.

(٦) التعدي على الناس بغصب المنفعة ، بأن يسخر بعضهم بعضا في عمل لا يعطيه عليه أجرا ، أو ينقصه من الأجر المسمى أو أجر المثل.

٨١

(٧) ضروب الغشّ والاحتيال كما يقع من السماسرة من التلبيس والتدليس ، فيزينون للناس السلع الرديئة والبضائع المزجاة ، ويورطونهم في شرائها ، ويوهمونهم ما لا حقيقة له ، بحيث لو عرفوا الخفايا ما باعوا وما اشتروا.

(٨) الأجر على عبادة من العبادات كالصلاة والصوم ، لأن العبادة إنما تكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى ابتغاء لمرضاته وامتثالا لأمره ، فمتى شاب هذا حظ من حظوظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة ، إذ لا يقبل الله من الأعمال إلا ما أريد به رضاه فحسب ، ودافع الأجر عليها خاسر لماله ، وآخذه خاسر لمآله.

ومن علّم العلم والدين بالأجر ، فهو كسائر الصناع والأجراء لا ثواب له على أصل العمل ، بل على إتقانه والإخلاص فيه ، ولا يجوز أخذ الأجر على جواب السائل عن فتوى دينية تعرض له ، إذ الإجابة فريضة على أهل الذكر العارفين ، وكتمان العلم محرم عليهم.

والخلاصة ـ أنه ينبغى للإنسان أن يطلب الكسب من الطرق المشروعة التي لا تضر أحدا.

(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم.

(لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لتأخذوا بعضا من أموال غيركم بوساطة يمين فاجرة ، أو شهادة زور ، أو نحو ذلك مما تثبتون به أنكم على حقّ فيما تدّعون ، وأنتم تعلمون أنكم على الباطل مرتكبون المعصية ، فإن الاستعانة بالحكام على أكل الأموال بالباطل حرام ، إذ الحكم لا يغير الحق في نفسه ، ولا يحله للمحكوم له ، وحكم القاضي إنما ينفذ ظاهرا فقط ، فهو لا يحلل الحرام ، فإذا حكم القاضي بصحة عقد بأن فلانا عقد على فلانة بشهادة زور لا يحلّ له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي وهو يعلم أنه بغير حقّ ، وهكذا الحال في الأموال والعقود المالية.

والأصل في ذلك حديث أم سلمة الذي رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن

٨٢

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمتخاصمين حضرا أمامه «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار». فبكى الخصمان وقال كل واحد منهما : أنا حلّ لصاحبى ، فقال عليه الصلاة والسلام : «اذهبا فتوخّيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه». وقوله ألحن بحجته : أي أقدر عليها من صاحبه ، والتوخي قصد الحق ، والاستهام : الاقتراع أي اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة ، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من القسمة.

وفي الآية والحديث عبرة لو كلاء الدعاوى (المحامين) فلا ينبغى لمن يؤمن منهم بالله واليوم الآخر أن يقبل الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها مبطل ، ويعتمد في ذلك على خلابته في القول ولحنه في الخطاب.

والناظر إلى ما عليه المسلمون اليوم من غرامهم بالتقاضي والخصام والإدلاء إلى الحكام لمحض الإيذاء والانتقام وإن أضرّ بنفسه ، يعلم بعدهم عن فهم دينهم وهدى كتابهم ، ومن ثم ساءت حالهم فنفدت ثرواتهم ، وخربت بيوتهم ، وفرّقت جماعاتهم ، ولو تأدبوا بأدب الكتاب الذي إليه ينتسبون لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم ويمنع تقاطعهم وعقوقهم ، ولحلّ فيهم التراحم محل التزاحم ، وقد بلغ من أمرهم أن ظنوا أنهم عن هدى الدين أغنياء ، وعموا عما أصابهم لأجل هذا من الأرزاء.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

تفسير المفردات

الأهلة : واحدها هلال وهو القمر في ليلتين أو ثلاث من أوّل الشهر ، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر حين رؤيته ، من قولهم : استهلّ الصبىّ إذا صرخ حين يولد

٨٣

وأهلّ القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، والمواقيت : واحدها ميقات وهو ما يعرف به الوقت وهو الزمن المقدّر المعين.

المعنى الجملي

كان الكلام في الآيات السابقة في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان ، فناسب ذلك ذكر الأهلة ، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال كما

جاء في الحديث : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».

أخرج أبو نعيم وابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة ابن غنيمة قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوى ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ، لا يكون على حال فنزلت الآية.

الإيضاح

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ، قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي يسألونك عن حكمة اختلاف الأهلة وفائدته ، فأجبهم بأنها معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ، فيعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ، وآجال عقودهم في المعاملات ، ومعالم للعبادات المؤقتة ، فيعرفون بها أوقاتها كالصيام والإفطار ولا سيما الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء ، ولو كان الهلال ملازما حالا واحدة لم يتيسر التوقيت به.

والتوقيت بالأهلة يسهل على العالم بالحساب والجاهل به ، وعلى أهل البدو والحضر ، والتوقيت بالسنة الشمسية لا يصلح إلا للحاسبين ، وهؤلاء لم يقدروا على ضبطها إلا بعد ارتقاء العلوم بأزمان طوال.

والعلوم التي نحتاج إليها في حياتنا على ضروب :

(١) ما لا حاجة لنا فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات.

(٢) ما لا نجد له أستاذا إذ لا سبيل للبشر إلى الوصول إليه ، ككيفية التكوين

٨٤

والخلق الأول ؛ فالطبيب يعرف كيف يولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ كان نطفة إلى أن صار إنسانا عاقلا ؛ والنباتي يعرف ما تكوّن منه النبات ، وكيف ينمو ويتغذى ، ولكنّ كلا منهما عاجز أن يعرف كيف وجدت أنواع الحيوان والنبات ، ولا مادتهما أول مرة ، فالإيجاد والخلق لا يمكن اكتناههما ، كما لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته.

(٣) ما يتيسر للناس معرفته بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الطبيعية والرياضية والزراعية والهيئة الفلكية كأسباب أطوار الهلال وتنقله من حال إلى حال وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله : «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ».

ومثل هذا ينبغى ألا يطالب الأنبياء ببيانه ، لأن ذلك جهل بوظيفتهم ، وإهمال للقوى والمواهب التي وهبها الله تعالى للإنسان ليصل بها إلى ذلك ، وإلا وجب حينئذ أن يتلقّى كل شىء بالتسليم ، كما يجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم ، وإن كان الأنبياء ينبهون الناس إجمالا إلى استعمال الحواس والعقول فيما يزيد منافعهم ويرقى إدراكهم وشعورهم ، يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في واقعة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ومن حديث ذلك أنه عليه الصلاة والسلام نهي أهل المدينة عن تأبير نخلهم: أي وضع طلع الذكر عليه فلم ينتج ثمرا جيدا ، فرجعوا إليه فقال لهم هذه المقالة.

والتاريخ الذي سيق في القرآن لم يذكر على أنه قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها ، بل سيق للعبر تتجلى في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم بيانا لسنة الله فيهم ، وإنذارا للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وتثبيتا لقلوب المؤمنين كما قال تعالى : «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وما يروى فى التوراة من التاريخ المفصل من ذكر خلق آدم وما بعده ، فهو مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون.

٨٥

(٤) ما يجب علينا للخالق الذي هدى عقولنا إلى الإيمان بآياته التي نراها في الآفاق وفي أنفسنا ، لكن هذه الهداية مبهمة تحتاج إلى التحديد من حيث معرفة ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا ، وما يتبع ذلك من وجوب الشكر والعبادة له ، ومعرفة مصيرنا وحال الحياة الأخرى.

ومثل هذا لا سبيل إلى معرفته بطريق الكسب البشري ، وكثيرا ما وقعت الأمم فى الخطأ والحيرة في فهم مسائله لجهلهم بالصلة بين الخالق والمخلوق ؛ فمنهم من توهم أن الحياة الأخرى تكون بهذه الأجساد ، والجزاء فيها يكون بهذا المتاع ، ومن ثمّ اخترعوا الأدوية لحفظ أجسادهم ومتاعهم كالمصريين في عهد الفراعنة.

لهذا كان الإنسان محتاجا إلى هاد يخبر عن الله تعالى لنأخذ عنه بالإيمان والتسليم ما لا يصل الحسّ والوجدان والعقل إلى إدراكه.

(٥) ما يستطيع العقل البشرى أن يصل إلى إدراك فائدته ، لكنه عرضة للخطأ فيه ، لما يعرض له من الشهوات والأهواء التي تلقى الغشاوة على البصائر والأبصار ، فتحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة ، أو تلبس الحقّ بالباطل أو تشبه النافع بالضار ، فالخمر والحشيش يعلم الإنسان مضرتهما ، لكن الشهوة تحجب ذلك عنه فيشربهما ، ويؤثر حكم لذته في حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار ، ومن ثمّ احتاج في هذا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى ، ويكبح جماح الشهوات ليكون على هدى وبينة من أمره.

ولما ذكر مواقيت الحج ذكر ما كان من أفعالهم فيه قال :

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) هذا إبطال لما كانوا يفعلونه في الجاهلية إذا هم أحرموا من إتيان البيت من ظهره وتحريم دخوله من بابه ، روى البخاري وابن جرير عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره ، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن جابر قال : كانت قريش تدعى الحمس (جمع أحمس من الحماسة ، وهى الشدة والصلابة لتشددهم في دينهم) وكانوا يدخلون البيوت

٨٦

من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان ، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة ابن عامر الأنصاري ، فقالوا يا رسول الله : إن قطبة بن عامر رجل فاجر ، وإنه خرج معك من الباب ، فقال له : ما حملك على ما فعلت؟ قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت ، قال إني رجل أحمسى ، قال له : فإن دينى دينك ، فأنزل الله الآية.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بعد أن أعلمهم بخطئهم في إتيان البيوت من ظهورها وظنهم أن ذلك من البرّ ، بيّن لهم البرّ لحقيقى ، وأنه تقوى الله بالتخلي عن المعاصي والرذائل ، والتحلي بالفضائل واتباع الحقّ وعمل الخير ، فأتوا البيوت من أبوابها ، وليكن باطنكم عنوانا لظاهركم ، واتقوا الله رجاء أن تفلحوا في أعمالكم وتصلوا إلى غاية آمالكم ، فالمتقون ملهمون إلى طريق الرشاد ، كما قال تعالى : «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً».

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣))

٨٧

تفسير المفردات

سبيل الله دينه لأنه طريق إلى مرضاته ، يقاتلونكم : أي يتوقع منهم قتالكم ، ولا تعتدوا : أي لا تبدءوهم بالقتال ، محبة الله لعباده إرادة الخير والثواب لهم ، والمعتدون أي الذين جاوزوا ما حده الله لهم من الشرائع والأحكام ، والثقف : الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا ، وقد يستعمل في مطلق الإدراك ، من حيث أخرجوكم :

أي من مكة ، والفتنة من قولهم فتن الصائغ الذهب إذا أذابه في النار ليستخرج منه الزّغل ، ثم استعملت في كل اختبار شاقّ كالإخراج من الوطن المحبب من الطباع السليمة والفتنة في الدين ، ويكون الدين لله ؛ أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه ، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه ، ولا يحتاج إلى مداهنة ومحاباة ، أو استخفاء ومداراة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج ، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية ؛ بين هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعا عن دينكم ، وتربية لمن يفتنكم عنه ، وينكث العهد لا لحظوظ النفس وشهواتها وحبّ سفك الدماء.

وقد روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ؛ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّ عن البيت ، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل ، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء ، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا ألا تفى لهم قريش ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام ، فأنزل الله الآية.

٨٨

الإيضاح

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) أي أيها المؤمنون الذين يخشون أن يمنعهم كفار قريش حين زيارة البيت الحرام والاعتمار فيه ، نكثا منهم للعهد ، وفتنة لهم فى الدين ، ويكرهون الدفاع عن أنفسهم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام ، إني أذنت لكم في قتالهم إعزازا لدين الله وإعلاء لكلمته ، لا لهوى النفس وشهواتها ولا حبّا فى سفك الدماء.

(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي ولا تعتدوا بالقتال فتبدءوهم به ، ولا فى القتال فتقتلوا من لا يقاتل

من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى ، ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم ، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار ، فإنّ الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى ، ولا سيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي إذا نشب القتال بينكم وبينهم فاقتلوهم أينما أدركتموهم ، ولا يصدنكم عنهم وجودكم في أرض الحرم.

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة ، فإن المشركين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم ، وبعدئذ صدوهم عن دخولها للعبادة ، فرضى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون على شرط ألا يعارضوهم في دخولها العام القابل لأداء النسك والإقامة بها ثلاثة أيام ثم نقضوا العهد فكان من فضل الله ورحمته بالمؤمنين أن قوّى أمرهم وأذن لهم أن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين ، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الحانثين في عهودهم.

ثم ذكر العلة في الإذن بقتالهم فقال :

(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي إن فتنتهم إياكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب

٨٩

والإخراج من الوطن ومصادرة المال أشد قبحا من القتل فيه ، إذ لا بلاء على الإنسان أشدّ من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه ، ورآه سعادة له في عاقبة أمره.

ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه المسجد الحرام فقال :

(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته ، فلا أمان له حينئذ.

ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرّج منه ، أكد الإذن فيه بشرطه السابق فقال :

(فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ولا تستسلموا لهم ، فالبادئ هو الظالم ، والمدافع غير آثم.

(كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي إنه قد جرت سنة الله بأن يجازى الكافرين مثل هذا الجزاء ، ويعذبهم مثل ذلك العذاب ؛ لأنهم قد تعرّضوا له بتعديهم الحدود التي شرعها ، فهم الظالمون لأنفسهم ، لأنهم قد بدءوا بالعدوان ، فيلقون جزاء ما صنعوا.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن كفّوا عن القتال أو عن الكفر فإن الله يقبل منهم عملهم ، فهو رحيم بعباده يغفر لهم ما سبق من زلاتهم ، ويمحو خطيئاتهم إذا هم تابوا عما اقترفوا ، وأحسنوا واتقوا : «إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي وقاتلوهم حتى لا تكون لهم قوّة يفتنونكم بها فى دينكم ، ويؤذونكم في سبيله ، ويمنعونكم من إظهاره والدعوة إليه.

وجملة وقاتلوا الأولى بينت بدء القتال ، وقاتلوهم إلخ بينت الغاية منه ، وهى ألا يوجد شىء من الفتنة في الدين.

٩٠

(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه ، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه ، ولا يحتاج فيه إلى مداهنة ومحاباة ، أو استخفاء ومداراة.

وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام مغلوبين على أمرهم ، والمشركون في ضلالتهم هم أصحاب الحول ، وكانت مكة قرارة الشرك ، والكعبة مستودع الأصنام ، فأبى الله إلا أن يتمّ نوره ، فمكّن للمؤمنين في الأرض ، ففتحوا مكة وحطّموا تلك الأصنام ، وكسروا اللات والعزّى «وتمّت كلمة ربّك صدقا وعدلا لا مبدّل لكلماته».

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فإن انتهوا عما كانوا عليه وأسلموا ، فلا تعتدوا عليهم ، لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم ، ليرجعوا عن ظلمهم وغيهم.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

تفسير المفردات

الحرمات : واحدها حرمة وهى ما يجب احترامه والمحافظة عليه ، والقصاص : المقاصة والمقابلة بالمثل ، وإلقاء الشيء : طرحه حيث تراه ثم استعمل في كل ما يطرح ويلقى مطلقا ، سبيل الله : هى طريق الخير والبرّ المؤدى إلى إعزاز دينه كجهاد الأعداء وصلة الأرحام ، والتهلكة : الهلاك والمراد به هنا الإمساك عن النفقة في الاستعداد للقتال وترك الجهاد.

٩١

المعنى الجملي

خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم للنسك عام الحديبية ، فصدهم المشركون وقاتلوهم رميا بالسهام والحجارة في شهر ذى القعدة سنة ست ، ثم صالحوهم على أن يرجعوا إلى مكة في العام القابل ، ولما خرجوا في ذلك العام لعمرة القضاء كرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام ، فبيّن الله لهم أن المحظور في الأشهر الحرم هو العدوان بالقتال لا المدافعة عن النفس ، وأن المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين فعلوا ما هو أشد قبحا من القتل بتأييدهم للشرك ومنعهم للحق.

الإيضاح

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي الشهر الحرام يقابل بذلك الشهر الحرام ، وهتك حرمته بهتك حرمته ، فلا تبالوا بالقتال فيه إذا اضطررتم للدفاع عن دينكم وإعلاء كلمته.

(وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي يجب مقاصة المشركين على انتهاك حرمة الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل ، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقا ، فهم قد انتهكوا حرمة شهركم بالصدّ عن البيت الحرام وفيه تعرّض للقتال ، فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم مكة عنوة وقهرا ، فإن منعوكم في هذه السنة عن قضاء العمرة وقاتلوكم فاقتلوهم.

ثم ذكر نتيجة لما سبق وأيد الحكم السابق بقوله :

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء ، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه.

وبهذه الآية استدل الشافعي على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به ، فيذبح إذا ذبح ويخنق إذا خنق ، ويغرق إذا أغرق وهكذا.

وفي الآية أيضا إيماء إلى أن قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير ،

٩٢

فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان ، والفتنة والاضطهاد ، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي واحذروا أن تعتدوا بما لم يرخص لكم فيه ، واعلموا أن الله مع المتقين بالمعونة والتأييد ، والنصر والتمكين ، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.

ثم أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال :

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين ، فاشتروا السلاح والكراع وعدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلب عليكم ، وإلى هذا أشار بقوله :

(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدّة فقد أهلكتم أنفسكم.

روى أن أبا أيوب الأنصاري قال : فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية ، إنه لما أعزّ الله دينه ، ونصر رسوله همس بعضنا في أذن بعض ، إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله على نبيه ما يردّ علينا ما قلنا (وَأَنْفِقُوا) الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو ، رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم فى جماعة آخرين.

والخلاصة ـ إن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين ، وهم من الكثرة بحيث يخشى شرّهم ، فلو انصرف المؤمنون عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لأوقعوا بهم ، فيكونون حينئذ قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة.

(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي وأحسنوا كل أعمالكم وجوّدوها ولا تهملوا إتقان شىء منها ، ويدخل ذلك التطوع بالإنفاق في سبيل الله لنشر دعوة الدين.

٩٣

وقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصدر الأوّل كان دفاعا عن الحقّ وأهله وحماية دعوة الدين ، فكانوا يبدءون أولا بالدعوة بالحجة والبرهان ، فإذا منعوا بالقوّة وهدّد الداعي أو قتل قاتلوا حماية للدعاة ونشرا للدعوة ، لا للإكراه على الدخول فى الدين ، إذ ذاك منهى عنه بنحو قوله تعالى : «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».

فإذا لم يوجد من يصدّ الدعوة أو يهدد الدعاة ويعتدى على المؤمنين ، فلا يفرض علينا الجهاد لسفك الدماء وإزهاق الأرواح ، ولا للطمع في الغنائم والأنفال.

وجملة القول : إن القتال شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها ، فعلى من يدّعى من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيى الدعوة الإسلامية ويعدّ لها عدّتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه ، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان.

ولم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة العربية ، كما اعترف بذلك المنصفون من الإفرنج ، فقد قال جوستاف لو بون الفيلسوف الفرنسى : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب ، وما يتجنّى به أعداء الإسلام من دعواهم أن الإسلام قام بالسيف ، فقول يكذبه التاريخ ولا يؤيده من ينظر إلى الأمور بعين الإنصاف ويدع الهوى وراءه ظهريا.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ

٩٤

فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦))

تفسير المفردات

الحصر والإحصار : الحبس والتضييق ، يقال حصره عن السفر وأحصره إذا حبسه ومنعه ، والهدى يطلق على الواحد والجمع وهو ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرق على الفقراء والمحل (بكسر الحاء) مكان الحلول والنزول ، حاضر والمسجد الحرام هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت.

المعنى الجملي

كان الكلام فيما مضى في بيان أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام ، لأن شهوره بعد شهر الصيام ، وجاء ذكر آيات القتال تابعا لبيان أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام.

وهنا عاد إلى إتمام أحكام الحج ، فذكر حكم المحصر وعدم جواز الحلق قبل بلوغ الهدى محله ، إلا لمن كان مريضا أو به جروح ونحوها فإنه يحلق وعليه أن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة أو يتصدق بفرق على ستة مساكين (الفرق بالتحريك مكيال بالمدينة يزن ستة عشر رطلا) فإذا زال الخوف من العدوّ ، فمن أتم العمرة وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه دم ، لأنه أحرم بالحج من غير الميقات ، فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج ، وسبعة إذا رجع إلى بلده إلا إذا كان مسكنه ووراء الميقات.

٩٥

الإيضاح

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي وأتوا بالحج والعمرة تامين كاملين ، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها ، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة.

والتجارة لا تنافى الإخلاص إذا لم تقصد لذاتها بدليل قوله تعالى : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ» والرياء والسمعة إذا كانا هما الباعث على الحج ، فالحج ذنب للمرائي لا طاعة ، وهكذا حكم من يحج ليقال له (الحاج فلان) أو ليحتفل بقدومه ، أو يقترض بالربا أو يرتكب أكبر ضروب المنكر ليحج ، أو لا تخطر على باله مناسك الحج وأركانه ، وإنما يقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف من الحج إلا هذه الزيارة.

وقد كان الحج معروفا في الجاهلية من عهد إبراهيم وإسماعيل وأقرّه الإسلام بعد أن أزال ما فيه من ضروب الشرك والمنكرات ، وزاد فيه مناسك وعبادات.

وهو فريضة لقوله تعالى : «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» وللأحاديث الواردة في ذلك.

وأول حجة حجها المسلمون كانت سنة تسع بإمرة أبي بكر رضى الله عنه ، وكانت تمهيدا لحجة النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر ، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا ألا يطوف بعد هذا العام مشرك ، ونزلت الآية : «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا».

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فإن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما ، وأردتم أن تتحللوا فعليكم أن تذبحوا ما تيسر لكم من بدنة أو بقرة أو شاة ، ثم تتحللوا.

وذبحها يكون في موضع الإحصار ولو في الحل. لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهى من الحل.

٩٦

(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) قد جعل الشارع أمارة الدخول في الحج أو العمرة ، الإحرام بنية النسك عند الابتداء به بالتلبية ولبس غير المخيط من إزار ورداء وكشف الرأس للرجل ولبس النعلين العربيتين ، وأمارة الخروج منهما (ويعبر عنه بالإحلال والتحلل) بحلق الرأس أو التقصير ، فالنهي عن الحلق نهى عن الإحلال قبل بلوغ الهدى إلى المكان الذي يحل ذبحه فيه ، وذلك حيث يحصر الحاج ، وإلا فالكعبة لقوله تعالى «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ».

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أي فمن كان منكم مريضا يحتاج إلى الحلق ويؤذيه تركه ، أو به أذى من رأسه من جراح أو صداع ، فعليه فدية إن حلق ، وهى إما صيام أو صدقة أو نسك.

وقد بيّن مقدارها ما أخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة قال «وقف علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسى يتهافت قملا ، فقال : يؤذيك هوامك؟ قلت نعم ، قال : فاحلق رأسك» قال فنزلت هذه الآية ، وذكرها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك بما تيسر».

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) من خوفكم من عدوكم أو برأتم من مرضكم الذي منعكم من حجكم أو عمرتكم.

(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة ، إلى وقت الانتفاع بأعمال الحج ، فعليه ما استيسر من الهدى أي فعليه دم نسك شكرا لله أن أتاح له الجمع بين النسكين ، ويأكل منه كالأضحية ويذبح يوم النحر.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أي فمن لم يجد الهدى لعدم وجوده أو عدم المال الذي يشترى به ، فعليه صيام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج وتمتد إلى يوم النحر ، وسبعة أيام إذا رجع من الحج إلى بلده ، أو شرع في الرجوع فيجزئ الصوم في الطريق ، ولا يتضيق الوقت إلا إذا وصل إلى وطنه.

٩٧

(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) أي هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة ، وهذا نتيجة لما تقدم مبين لجملة العدد الواجب بعد أن بينه تفصيلا ، وفائدته إزالة وهم من قد يظن أن الواو للتخيير بمعنى أو كقوله تعالى «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» وقولهم : جالس الحسن وابن سيرين ، وإرشاد إلى أن المراد بالسبعة هنا العدد دون الكثرة في الآحاد وهى تستعمل لهما ، إلى أن القرآن قد جرى على طريقهم في التخاطب ، فهم لكونهم أمة أمية كان أحدهم إذا خاطب صاحبه بأعداد متفرقة جمعها له ليسهل إحاطته بها.

وفائدة وصفها بالكمال الإشارة إلى أن رعاية العدد من المهام التي لا يجوز إغفالها بل يجب المحافظة عليها دون نقص في عددها ولا تهاون في أدائها ، وإلى أن هذا البدل كامل في قيامه مقام المبدل منه ، وهما في الفضيلة سواء.

ثم بين سبحانه أن التمتع بالعمرة مضمومة إلى وقت الإحرام بالحج وما يتبعه من الأحكام خاص بالآفاقيين دون أهل الحرم قال :

(ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي إن أهل الآفاق هم الذين يحتاجون إلى هذا التمتع ، لما يلحقهم من المشقة بالسفر إلى الحج وحده ثم السفر إلى العمرة وحدها ، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك ، فلا متعة ولا قران لحاضرى المسجد الحرام.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي اخشوا الله وحافظوا على امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه ، واحذروا أن تعتدوا في ذلك ، واعلموا أنه تعالى شديد العقاب لمن انتهك حرماته ، وركب معاصيه.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧))

٩٨

تفسير المفردات

فرض فيهن الحج أي أوجبه على نفسه ، والرفث لغة قول الفحش ، وشرعا قربان النساء ، والفسوق لغة التنابز بالألقاب كما جاء في قوله تعالى «وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ» وشرعا الخروج عما حدده الشارع للمحرم إلى ما كان مباحا في الحل كالصيد والطيب والزينة باللباس المخيط. والجدال المراء والخصام ، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر ، لأنه مشقة تضيق بها الصدور ، والزاد هو الأعمال الصالحة وما يدّخر من الخير والبر ، والتقوى هى ما يتقى به سخط الله وغضبه من أعمال الخير والتنزه عن المنكرات والمعاصي.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أعمال الحج وبين ما يجب على المحصر أن يفعله من ذبح الهدى وعدم الحلق حتى يبلغ الهدى محله ، ثم ذكر حكم من لم يجد ذلك ، أعقب هذا بذكر زمان الحج ، وما يجب على من أوجب على نفسه الحج من ترك الرفث والفسوق والجدال ، ثم ختم ذلك بطلب التمسك بالآداب الصالحة والتزود بها ليوم المعاد ، فهى خير زاد ، كما طلب خشيته تعالى والخوف من عقابه.

الإيضاح

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس ، وهى شوال وذو القعدة وعشر ذى الحجة ، وهذا هو المروي عن ابن عباس ، وجرى عليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد.

وفي قوله : معلومات ، إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار هذه الأشهر أشهرا للحج ، ونقل ذلك بالتواتر العملىّ من لدن إبراهيم وإسماعيل ، وجاء الإسلام مقررا لما عرف ولم يغيره.

٩٩

وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر معرفة أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها ، وإن كان الإحرام يصح في غيرها ، لأنه شرط للحج فيجوز تقديمه على وقت أدائه كتقديم الطهارة على أداء الصلاة.

(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدى ، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل ، فلا يكفى للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه.

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) أي لا يفعل الحاج شيئا من هذه الأفعال لأنه مقبل على الله قاصد لرضاه ، فينبغى أن يتجرد عن عاداته وعن التمتع بنعيم الدنيا ، وينسلخ عن مفاخره ومميزاته عن غيره بحيث يتساوى الغنى والفقير والصعلوك والأمير ، وفي هذا تهذيب للنفس وإشعار لها بالعبودية لله تعالى. وقد جاء في الصحيحين عن أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

إلى ما في ذلك من تعظيم شأن الحرم وتغليظ أمر الإثم فيه ، لأن المرء في أوقات العبادة ومناجاة الله ، يجب أن يكون على أكمل الآداب وأفضل الأحوال ، وللمرء في المجتمع من الآداب ما ليس له حين الخلوة ، وله في مجلس السلطان ما ليس له مع الإخوان.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم وتتخلى عن الرذائل وتتحلى بالفضائل ، وتكون أكثر استعدادا لعمل الخير ، وأطوع لامتثال أوامر الشرع ، والله يعلم ما تفعلون ، فيجازيكم بأعمالكم ويثيبكم على أفعالكم.

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أي واتخذوا التقوى زادكم لمعادكم ، فإنها خير زاد.

١٠٠