تفسير المراغي - ج ٢

أحمد مصطفى المراغي

وقد روى ابن جرير أن سبب نزول الآية أن أبا بكر حلف ألا ينفق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك بافترائه على عائشة ، وقد كان من ذوى قرابته ، وفيه نزل :

«وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى» الآية.

كذلك بين أنه لا يؤاخذ باليمين اللغو فلا يعاقب عليها ولا يفرض فيها كفارة ، كما أرشد إلى أن من آلى من امرأته ينتظر عليه مدة أربعة أشهر ، وبعدها إما أن يرجع إليها ويحنث في اليمين ، وإما أن يطلق.

الإيضاح

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أي ولا تجعلوا الحلف بالله مانعا لما حلفتم على تركه من عمل البر ، فتتركوه تعظيما لاسمه ، فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجابا دون الخير ، فكثيرا ما يسرع الإنسان إلى الحلف بألا يفعل كذا ويكون خيرا ، أو أن يفعل كذا ويكون شرا ، فنهانا الله عن ذلك وأمرنا بتحرى وجوه الخير ، فإذا حلفنا على تركها فلنفعلها ولنكفر عن اليمين بما سيأتى في سورة المائدة.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما تلفظون به ، عليم بنواياكم ، فعليكم أن تراقبوه فى السر والعلن ، وتراقبوا حدود شرائعه لتكونوا من المفلحين.

ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد والتهديد.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي لا يؤاخذكم بما يقع منكم من الأيمان في حشو الكلام دون أن تقصدوا به عقد اليمين ، فلا يفرض عليكم فيه كفارة ولا يعاقبكم به.

(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي ولكن يؤاخذكم بالكفارة أو العقوبة بما نوت قلوبكم وقصدته من اليمين ، حتى لا تجعلوا اسمه الكريم عرضة للابتذال ، أو مانعا من صالح الأعمال.

(وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فيغفر لعباده ما ألموا به من الذنوب ، ولا يتعجلهم بالعقوبة ، ولم يكلفهم ما يشق عليهم مما لم تقصده قلوبهم ، ولا يدخل تحت سلطان الاختيار.

١٦١

وبعد بيان أحكام اليمين العامة انتقل إلى حكم يمين خاصة هى يمين الإيلاء فقال :

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم أن ينتظروا مدة أربعة أشهر دون أن يطالبوا بالرجوع إلى نسائهم أو بالطلاق.

والحلف على هذا الوجه حلف بما لا يرضى الله تعالى ، لما فيه من ترك التوادّ والتراحم بين الزوجين ، ولما يترتب عليه من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما ، ولما فيه من امتهان المرأة وهضم حقوقها.

وقد كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف ألا يقربها أبدا ، ويتركها لا هى أيّم ولا هى ذات بعل ، وكان المسلمون في ابتداء الإسلام يفعلون مثل هذا ، فأزال الله ذلك الضرر عنهنّ ، وضرب للزوج مدة يتروّى فيها ، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارّة فعله ، وإن رأى المصلحة فى المفارقة فارقها.

(فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن رجعوا إلى نسائهم وحنثوا في اليمين وقاربوهنّ في أثناء هذه المدة أو في آخرها ، فإن الله يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة ، لأن الفيئة توبة في حقهم ، فيغفر لهم إثم حنثهم عند التكفير.

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي وإن عزموا ألا يعودوا إلى ملامسة المرأة ، وثبتوا على ترك القربان حتى مضت المدة ، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم ، عليم بنياتهم ، فليراقبوه فيما يفعلون ، فإن كانوا يريدون بذلك إيذاء النساء ومضارتهنّ فهو يتولى عقابهم ، وإن كان لهم عذر شرعى بأن كان الباعث على الإيلاء تربيتهنّ لإقامة حدود الله ، وعلى الطلاق اليأس من إمكان العشرة ، فالله يغفر لهم.

وخلاصة ذلك ـ إن من حلف على ترك غشيان امرأته ، لا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر ، فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم ، وإن أتمها تعين عليه أحد أمرين : الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق ، وعليه أن

١٦٢

يراقب الله فيما يختاره منهما ، فإن لم يطلق بالقول كان مطلقا بالفعل : أي إنها تطلق منه بعد انتهاء تلك المدة رغم أنفه.

وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق ، إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة ، وذكّر المولى بسمعه لما يقول ، وعلمه بما يسرّه في نفسه ويقصده من عمله.

هذا حكم الإيلاء إذا أطلقه الزوج ولم يذكر زمنا أو ذكر أكثر من أربعة أشهر ، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر ، فلا يلزمه شىء إذا أتمها.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

تفسير المفردات

يراد بالمطلقات هنا الأزواج اللاتي يعهد في مثلهنّ أن يطلقن ، وأن يتزوجن بعد ذلك ، وهنّ الحرائر ذوات الحيض بقرينة ما قبلها وما بعدها من ذكر التربص بالزواج ، ولأنهنّ المستعدات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزواج.

أما من لسن كذلك كاليائسات ، فليس من شأنهنّ أن يطلقن ، إذ من أمضى مدة الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض ، فأدب الشرع وداعي الفطرة يحتمان عليه أن برعى عهدها ويحفظ ودعا ـ إلى أنّ مثل هذه لو طلقت فقلما تتزوج بعد ، والتي لم تبلغ الحلم لا تكاد تتزوّج ، ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة ، فيندر أن يتحوّل عنها فيطلقها.

١٦٣

والتربص : الانتظار ، والقروء : واحدها قرء (بضم القاف وفتحها) يطلق تارة على حيض المرأة وأخرى على طهرها ، ومن ثم قال الحنفية والحنابلة المراد به الحيض ، وقال المالكية. والشافعية المراد به الطهر ، وما في أرحامهنّ يشمل الولد والحيض والبعولة واحدهم بعل وهو الزوج ، والمراد بالدرجة هنا ما جاء في قوله : «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ».

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة أن المولى إما أن يفىء ويرجع إلى معاشرة زوجه ، وإما أن يعقد العزم على الطلاق بترك القربان ـ ناسب أن يذكر بعدئذ شيئا من أحكام الطلاق ليكون كالتتمة لما سبق.

الإيضاح

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي وحرائر النساء اللاتي يطلقن وهنّ من ذوات الحيض ، فلسن يائسات انقطع عنهنّ الحيض ، ولا صغيرات لم يصلن إلى سن الحيض ـ ينتظرن ثلاث حيض بعد الطلاق حتى يتزوّجن ، ليظهر أنهنّ غير حوامل.

وفي قوله بأنفسهنّ إشارة إلى أنه يجب عليهنّ أن يملكن رغبتهنّ في الزواج. ويكبتن جماح شهواتهنّ إلى إتمام تلك المدة وإلى أن هذه الرغبة مما تنطوى عليها نفوس النساء ، وإلى أنهنّ يستطعن امتلاكها والتربص اختيارا.

إلى ما في هذا من التعظيم والتبجيل لهنّ إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا.

ثم بين سبحانه حكمة هذا التربص بالزواج ضمن حكم آخر فقال :

(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) أي ولا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق الله في الأرحام من ولد إذا علمن به ، أو حيض ليطلن عدتهنّ ، وقد فشا ذلك الآن في المطلقات اللاتي لا يجدن الأزواج ، لأن القضاة يفرضون لهنّ النفقة ما دمن في العدة ، فهنّ يكتمن الحيض جهد المستطاع استدامة لهذه النفقة ،

١٦٤

وقد جرت المحاكم الآن على أن تكون أقصى العدة سنة قمرية كما هو رأى للإمام مالك رضى الله عنه.

وكانت المرأة في الجاهلية تتزوج أحيانا بعد فراق رجل ثم يظهر أنها حبلى من الأول ، فتلحق الولد بالثاني ، فلما جاء الإسلام حرّم هذا لما فيه من ضروب الغش والبهتان بنفي الولد عن قوم هو منهم وإلحاقه بمن ليس منهم ، وأمر أن تعتد بعد فراق زوجها لتظهر براءة الرحم من الحمل.

(إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إذا كن صادقات في الإيمان بالله الذي أنزل الحرام والحلال لمصلحة عباده ، وباليوم الآخر الذي يجازى فيه كل عامل على ما عمل ، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ ، إذ التصديق بأن في اتباع هذا المثوبة والرضوان ، وفي تركه الشقاء والخسران ، يقتضى الامتثال مع التعظيم والإجلال ، ولا يخفى ما في هذا من التهديد الشديد والوعيد.

(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) أي إن بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى العصمة الأولى في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة ، أما إذا قصد من المراجعة مضارتها ومنعها من التزوج حتى تكون كالمعلقة ، فلا هو يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى ، ولا يمكّنها من التزوج بغيره ، فهو آثم بينه وبين ربه بهذه المراجعة.

والخلاصة ـ إنه لا يباح للرجل أن يردّ مطلقته إلى عصمته إلا إذا أراد إصلاح ذات البين ، ونية المعاشرة بالمعروف.

وإنما كان أحق بردها ، لأنه بعد الطلاق قلّما يرغب فيها الرجال ، ولأنه قد يندم على طلاقها ، ويرغب في مراجعتها ، ولا سيما إذا أنجبا أولادا فتتغلب عاطفة تربيتهم وكفالتهم بين الزوجين على عاطفة الغضب العارضة ، وهذا الطلاق الذي يملك فيه الرجل حق المراجعة ما دامت المرأة في العدة يسمى طلاقا رجعيا ، ولا يحتاج فيه الرجل إلى رأي

١٦٥

المرأة وإذنها ـ وسيأتى ذكر الطلاق البائن الذي لا تحل مراجعة المطلقة بعده إلا بعقد جديد برضا الزوجة أو الزواج بغيره.

ولما كانت إرادة الإصلاح بردّ المرأة إلى العصمة ، إنما تؤتى ثمرها إذا قام كل منهما بالحقوق التي ينبغي عليه أن يؤديها ، ذكر ذلك سبحانه بعبارة هى على إيجازها تعتبر دستورا في معاملة كل من الزوجين للآخر ـ وهو مساواة الرجل للمرأة في سائر الحقوق إلا أمرا واحدا فقال :

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي إن للرجل حقوقا وعليه واجبات يؤديها للمرأة ، وللمرأة مثل ذلك.

بيان هذا أن الحقوق والواجبات التي على كل منهما للآخر موكولة إلى اصطلاح الناس في معاملاتهم وما يجرى عليه العرف بينهم ، وتابعة لشرائعهم وآدابهم وعاداتهم ، فإذا طلب الرجل منها شيئا تذكر أنه يجب عليه شىء آخر بإزائه ، ومن ثم أثر عن ابن عباس أنه قال : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لى لهذه الآية.

والمراد بالمماثلة أن الحقوق بينهما متبادلة متكافئة ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله ، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال ، كما أنهما متساويان في الشعور والإحساس والعقل ، فليس من العدل ولا من المصلحة أن يتحكم أحد الجنسين في الآخر ويستذله ، لأن الحياة المشتركة بينهما لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه.

وهذه الحقوق أجملها النبي صلى الله عليه وسلم فيما قضى به بين بنته وصهره ، فقضى على ابنته بخدمة البيت ، وعلى علىّ بما كان في خارجه من الأعمال.

وهذا ما تحكم به الفطرة في توزيع الأعمال بين الزوجين ، فعلى المرأة تدبير شئون المنزل والقيام بحوائج المعيشة ، وعلى الرجل السعى والكسب في خارجه ، وهذا لا يمنع من استعانة كل منهما بالخدم والأجراء حين الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه ، كما لا يمنع من مساعدة كل منهما للآخر في عمله حين الضرورة ، يرشد إلى ذلك

١٦٦

قوله تعالى : «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ».

والخلاصة ـ إن الإسلام رفع النساء إلى درجة لم يرفعهنّ إليها دين سابق ، ولا شريعة من الشرائع الماضية ، بل لم تصل إليها أمة من الأمم التي بلغت شأوا بعيدا فى الحضارة والمدنية ، فهى وإن بالغت في تكريم النساء واحترامهنّ وتعليمهنّ العلوم والفنون ، لا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من التصرف في مالها بدون إذن زوجها.

وقد أعطى الإسلام هذه الحقوق للمرأة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ، وكانت فى أوربا من نحو مائة سنة تعامل معاملة الرقيق كما كانت في الجاهلية ، أو أسوأ منها حالا.

ومن العجب العاجب أن الفرنجة الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن المرأة ، يفخرون علينا ويرموننا بالوحشية في معاملتها مدّعين أن ذلك هو أثر التعاليم الدينية ، ولكن لهم بعض العذر في ذلك بما يرون عليه المسلمين في معاملتهم للنساء بحكم العادة والجهل بفقه الشريعة وعدم النظر إلى ما كان عليه الصدر الأول من المسلمين في معاملتهن.

وأما الدرجة التي للرجال عليهن فهي الرياسة ، والقيام على المصالح كما فسرتها الآية : «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ».

فالحياة الزوجية حياة اجتماعية تقتضى وجود رئيس يرجع إليه حين اختلاف الآراء والرغبات ، حتى لا يعمل كل ضدّ الآخر ، فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختلّ النظام ، والرجل هو الأحق بهذه الرياسة ، لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوّته وماله ، ومن ثم كان هو المطالب بحماية المرأة والنفقة عليها ، وكانت هى المطالبة بطاعته فيما لا يحرّم حلالا ، ولا يحلل حراما ، فإن نشزت عن طاعته كان له حق تأديبها

١٦٧

بالوعظ والهجر في المضاجع ، والضرب غير المبرّح ، كما يجوز مثله لقائد الجيش وللسلطان لمصلحة الجماعة.

أما الاعتداء عليها للتشفى من الغيظ أو لمجرد التحكم فهو ظلم لا يقره الدين بحال كما

ورد فى الحديث عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهى مسئولة عن رعيتها».

ولا شكّ أن من موجبات هذه الرياسة التي للرجال أن يعلموهنّ ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن من الواجبات ، ومعرفة ما لهن من الحقوق ، ويعلموهن عقائد الدين وآدابه ، وما يجب عليهن لتربية أولادهن ، ومعاملتهن للناس.

ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان والأحوال ، فتمريض المرضى ومداواة الجرحى كان فيما مضى أمرا سهلا ، لكنه الآن يحتاج إلى تعلم علوم وفنون متعددة وتربية خاصة فتحت لأجلها مدارس تعدّ لها.

وأي الأمرين أفضل في نظر الدين والعقل ، أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرّضة أجنبية تطّلع على ما لا يحل لها أن تنظر إليه إلا للضرورة ، وتنكشف على مخبآت بيته؟

وهل تستطيع أن تفعل ذلك إذا كانت جاهلة بالقوانين الصحية غير عارفة بأسماء الأدوية؟ وهل يمكن الأم الجاهلة أن تعلم أولادها شيئا نافعا لهم قبل ذهابهم إلى المدرسة؟

أو هى تحشو أدمغتهم بخرافات وأوهام تسىء إليهم في مستأنف حياتهم عند ما يصيرون رجالا في المجتمع ، ولله درّ حافظ إبراهيم حين يقول :

الأمّ مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعبا طيب الأعراق

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فمن عزته وحكمته أن أعطى المرأة من الحقوق مثل ما أعطى الرجل بعد أن كانت كالمتاع لدى جميع الأمم ، وفي اعتبار كل الشرائع ، وأن أعطى الرجل حق الرياسة عليها ، ومن لم يرض بهذا يكن منازعا لله في عزّته وسلطانه ،

١٦٨

ومنكرا لحكمته في أحكامه. ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لمن خالف ما فرض الله وقدره من الأحكام.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩))

تفسير المفردات

الطلاق اسم بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ، ومرتان : أي دفعتان ، والإمساك بالمعروف أن يراجعها لا على قصد المضارة ، بل على قصد الإصلاح وحسن المعاشرة ، والتسريح بإحسان أن يوقع الطلقة الثالثة ويؤدى لها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة ، والجناح : الإثم ، والاعتداء تجاوز الحد في قول أو فعل ، والظلم : وضع الشيء فى غير موضعه.

المعنى الجملي

كان للعرب في جاهليتهم طلاق وعدة للمرأة ومراجعة في العدة ، لكن لم يكن للطلاق حدّ ولا عدد ، فإن كان الطلاق لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع زوجه واستقامت بينهما العشرة ، وإن كان لمضارة الزوجة راجعها قبل انقضاء العدة ، واستأنف طلاقا جديدا ، وهكذا يفعل المرة تلو المرة أو يفىء وتسكن ثورة غضبه ، فكانت المرأة ألعوبة فى يد الرجل يضارها بالطلاق أنّى شاء.

فلما جاء الإسلام أصلح مما أصلح من شئونهم الاجتماعية أمور الزوجية والطلاق والرجعة.

أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت : «كان الرجل يطلق امرأته ما شاء

١٦٩

أن يطلقها ، وهى امرأته إذا ارتجعها في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر ، حتى قال رجل لامرأته : والله لا أطلقك فتبينى ، ولا آويك أبدا ، قالت : وكيف ذلك؟ قال : أطلقك فكلما همت عدّتك أن تنقضى راجعتك ، فذهبت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فسكت حتى نزلت الآية «الطلاق مرتان» ...

الإيضاح

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي إن التطليق الشرعي الذي حده الله للطلاق ولم يخرج به العصمة من أيدى الرجال هو مرتان : أي طلقتان تحلّ بكل منهما العصمة ثم تبرم ، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام كما قال بذلك جمع من الصحابة ، منهم عمر وعثمان وعلىّ وعبد الله ابن مسعود وأبو موسى الأشعري ، ويؤيده حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا ، فتطلّق لكل قرء تطليقة».

فالطلاق الذي يثبت للزوج فيه حق المراجعة هو أن يوجد طلقتان فقط ، أما بعد الطلقتين بأن وجدت الثلاث فلا يثبت للزوج حق الرجعة البتة ، ولا تحل له المرأة إلا بعد زواج آخر.

(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي ليس لكم بعد المرتين إلا أحد الأمرين ، الإمساك بالمعروف أو الطلاق بإحسان ، ويؤيد هذا حديث أبي رزين الأسدى عند أبي داود وغيره ، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم سمعت الله تعالى يقول : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فأين الثالثة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أو تسريح بإحسان.

فقوله تعالى بعد هذا «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» بيان لهذا.

فإن اختار التسريح فطلقها بانت منه ولا تحل له حتى تتزوّج زوجا غيره.

والخلاصة ـ إن الرجل إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها ، يجوز له أن يراجعها من غير رضاها ما دامت في العدة ، فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها ،

١٧٠

أو طلقها قبل الدخول بها ، فلا تحل له إلا بعقد جديد بإذنها ، فإن طلقها ثلاثا فلا تحل له ما لم تتزوّج زوجا غيره ويصبها.

والحكمة في إثبات حق الرجعة ـ أن الإنسان لا يحس بخطر النعمة وجليل قدرها إلا إذا فقدها ، وربما ظهرت المحبة للمرأة بعد فراقها ، أو استبانت له الحاجة إليها وعظمت المشقة عليه في تركها والبعد عنها ، ويندم على ما فرط منه في شأنها ـ وقد تكون المرأة سادرة في كبريائها وخيلائها ، ولا تؤدى ما ينبغى للرجل من الحقوق والواجبات ، فإذا هى طلقت تذكرت مصار خطئها ، وأحست بما كان فيها من عيوب في المعاملات الزوجية والشؤون المنزلية ، وتمنت أن لو كانت لها عودة تمكنها من إصلاح ما سلف منها ـ فإذا أبيح لها العودة إلى الحياة الزوجية كان في هذا فرصة في استدراك ما فات ، والعمل على الطريق السوىّ فيما هو آت.

وقد يحدث أحيانا أن يرجع الرجل سيرته الأولى من المشاكسة والمغاضبة وسوء الخلق ، أو يحدث من الزوجة ما يدعو إلى الفراق ثانية فيطلقها حين حدة الغضب مرة أخرى ، ثم يرى أنه كان بما عمل في غواية وضلالة ، وأنه لا يطيق البقاء بعيدا عنها ، إذ أن أولاده لا تستقيم شئونهم إلا بوجودها فأبيح له العودة مرة أخرى ، فإذا هو عاد الثالثة استبان أن رباط الزوجية قد وهن ، وأن العشرة أصبحت في خطر ، وأن بقاءهما زوجين ربما جرّ إلى ما لا تحمد عقباه من الإساءة إليها في نفسها أو في مالها أو في عرضها ، فيجدر أن يكون الفراق لا رجعة بعده ، مع أدائه ما لها عليه من حقوق مالية ، وفاء بحقوق العشرة السالفة التي كانت فيها المودة والرحمة بينهما ، حين كان يسكن إليها وتسكن إليه ، ومن ثم ينبغى له ألا يذكرها بسوء في نفسها أو في عرضها وعفتها حتى لا ينفر الناس منها إذا هى أرادت أن تتزوج بسواه ، وفي هذا منتهى المروءة والوفاء لذلك الرباط الوثيق الذي كان بينهما ، وحل الزوج وثاقه بطلاقها.

وفي هذا التشريع بذلك التدريج منتهي الرأفة والسجاحة في تلك الشئون الاجتماعية التي يترتب عليها صلاح الأسرة وحسن تهذيب الأولاد ، وتثقيف عقولهم والحدب عليهم

١٧١

بإشراك الوالدين في تقويم المعوجّ وتعهدهما لهم بالرعاية الأبوية التي لن تكون كاملة إلا إذا قام كل من الوالدين بقسط منها.

وبعد أن فرض سبحانه الإحسان على من اختار التسريح حرّم على الرجال أخذ شىء من مال المرأة فقال :

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي ولا يحل لكم أن تأخذوا منهنّ بإزاء الطلاق شيئا مما أعطيتموهنّ على سبيل التمليك مهرا كان أو غيره ، بل يجب عليكم أن تمتعوهنّ بشىء من المال زائدا على ذلك كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً».

وإنما نصّ سبحانه على ذلك وإن كان هذا يفهم من الأمر بالإحسان إليهن حين التسريح ، لمزيد العناية بأمر النساء ، وللتأكيد في تحذير الرجال الأقوياء من ظلم النساء الضعفاء وهضم حقوقهن كما تومئ إلى ذلك الآية الكريمة : «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» وهذا الحكم فيما إذا اختار الزوج الفراق ورغب عنها ، فإن كانت هى الطالبة لفراقه وتوسلت إلى ذلك بالنشوز وسوء العشرة لكراهتها إياه أو لسوء خلقها ، لا لمضارته إياها فلا جناح عليه فيما يأخذه منها لإطلاق سراحها ، إذ لا يكلف خسارة امرأته وماله بغير ذنب جناه ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ألا يقيما أي ألا يراعيا ، وحدود الله هى أحكامه التي شرعها للزوجين من حسن العشرة والمماثلة في الحقوق مع ولاية الرجل عليها ، والتعاون على القيام بتدبير المنزل وتربية الأولاد بما يصلح حالهم في دينهم ودنياهم ، وعدم المضارة التي أشار إليها بقوله : «وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ». فإن خافا ذلك بأن خافت المرأة أن تعصى الله في أمر زوجها بأن تجحد نعمة العشرة أو تخونه ، أو خاف الرجل أن يزيد على ما شرعه الله في مؤاخذة الناشز ، فالحكم ما ذكره بقوله :

١٧٢

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الخطاب في مثل هذا للأمة لأنها متكافلة في المصالح العامة ، وأولو الأمر هم المطالبون أولا بالقيام بهذه المصالح ، والحكام وسائر الناس رقباء عليهم ، أي إذا خافا عدم إقامة حدود الله التي سنها للزوجين فلا إثم عليهما فيما تعطيه المرأة للرجل لتفتدى به نفسها وتطلق منه ، ولا على الرجل في أخذه لأجل ذلك ، لأنه برضاها واختيارها بدون إكراه منه ولا مضارة لها بل هى الحافزة عليه.

روى البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ابن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ثابت ابن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكن لا أطيقه بغضا وأكره الكفر في الإسلام (تريد كفران نعمة العشير وخيانته) قال : أتردّين عليه حديقته؟ (وكان قد أصدقها إياها) قالت نعم : قال اقبل الحديقة وطلقها تطليقة.

وهذا الفراق الذي يبنى على الافتداء يسمى خلعا وعدّته كعدة المطلقة.

ثم ختم الآية بوعيد من يخالف هذه الأحكام فقال :

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) أي هذه الأوامر والنواهي المتقدمة هى الحدود التي حدها الله في المعاملات الزوجية ، فلا تتجاوزوا ما أحله لكم إلى ما حرمه عليكم ، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه.

(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وفعل ما لا ينبغى فعله ، والظلم مخرّب للعمران ، مبيد للأمم ، ولا سيما ظلم الأزواج للأزواج ، إذ الرابطة التي بينهما أمتن الروابط وأحكمها ، فأى رجاء في الأمة إذا انحلت فيها عرا تلك الرابطة ، وهى أشد الروابط تماسكا.

وإنا لنشاهد الآن ما يدمى له القلب أسى وحسرة من انفصام روابط الزوجية بحال لم تعهد في أي عصر من عصور الإسلام ، إذ هتك النساء حجاب الصيانة والحياء ، وأسرفن في التبرّج والاختلاط بالرجال ، وكثر الطلاق ، وقلّ الزواج ، وعمت الشكوى

١٧٣

من هذه الفوضى الخلقية ، ونبذ آداب الدين والفضيلة ، وشعر العقلاء بسوء المغبة بعد أن فاتت الفرصة ، وندموا ولات ساعة مندم.

وقد جاء في السنة الحث على ترك الطلاق ، وحظره في غير ضرورة ، فمن ذلك حديث ثوبان عند أحمد والترمذي والبيهقي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» وقال : «المختلعات هنّ المنافقات».

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

الإيضاح

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي فإن طلقها بعد المرتين المذكورتين في قوله : «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» وهذه التطليقة هى المعبّر عنها فيما سلف بقوله : «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلا إذا تزوجت بزوج آخر زواجا صحيحا مقصودا مع غشيان الثاني لها كما بينته السنة ، فقد روى الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنى كنت عند رفاعة فطلقنى فبتّ طلاقى ، فتزوجنى عبد الرّحمن ابن الزّبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : «أ تريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك» (يعنى بالعسيلة أقل ما يكون من تغشى الرجل بالمرأة).

والحكمة في اشتراط ذلك أن الرجل متى علم أن المرأة لا تحل له بعد الطلاق ثلاثا

١٧٤

إلا إذا نكحت زوجا غيره ، ولعله عدوه ـ يرتدع ويزدجر ، لأن هذا مما تنفر منه الطباع السليمة ويأباه ذوو الغيرة والمروءة.

والآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثا ما كان زواجا صحيحا عن رغبة مقصودة لذاتها ، فمن تزوج بامرأة بقصد إحلالها للزوج الأول كان زواجه غير صحيح ولا تحل به المرأة للأول إذا هو طلقها ، وهو معصية لعن الشارع فاعلها ، وبهذا قال مالك وأحمد والثوري ـ وقال جماعة من الفقهاء : هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط ذلك في العقد.

روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أ لا أخبركم بالتّيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله ، قال هو المحلّل ، لعن الله المحلّل والمحلّل له».

وروى عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال : لا ، إلا نكاح رغبة لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العسيلة.

وعن عمر رضى الله عنه أنه قال : لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلا رجمتهما ، فسئل ابنه عن ذلك ، فقال : كلاهما زان. وسأل رجل ابن عمر فقال : ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها ، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر : لا ، إلا نكاح رغبة ، إن أعجبتك أمسكتها ، وإن كرهتها فارقتها ، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وسئل ابن عباس عمن طلّق امرأته ثلاثا ثم ندم ، فقال هو رجل عصى الله فأندمه ، وأطاع الشيطان ، فلم يجعل له مخرجا ، فقيل له : فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال : من يخدع الله يخدعه.

ومن هذا ترى أن حكم السنة ورأى كبار الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ، لعن المحلل والمحلل له ، لكن قد فشت هذه الرذيلة بين الأشرار الذين اتخذوا الطلاق

١٧٥

عادة ، وجعلوا دينهم هزوا ولعبا ، حتى صار الإسلام يعاب بمثل هذا ، وما عيبه إلا بفعلهم.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أي فإن طلقها الزوج الثاني فلا حرج عليه ولا على المرأة أن يتراجعا ، ويكون هو أحق بها من الزوج الأول ، ولكن بعد تحقق الشرط الذي بينه الله بقوله :

(إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي إن ترجح لدى كل منهما أن يقوم بحق الآخر على الوجه الذي حده الله من حسن العشرة وسلامة النية ، ليصلح حالهما ويستقيم أمرهما.

فإن خافا حين المراجعة نشوزا منها أو إضرارا منه ، فالرجوع ممقوت عند الله وإن صح عند القاضي.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن هذه الأحكام بينها الله على لسان نبيه في كتابه الكريم لأهل العلم بفائدتها ، ومعرفة ما فيها من المصلحة ، ليعملوا بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة والمنفعة ، لا لمن يجهلون ذلك ، فلا يجعلون لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في العمل ، فيرجع أحدهم إلى المرأة وهو يضمر لها السوء ويبغى الانتقام منها.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))

١٧٦

تفسير المفردات

يقال بلغ البلد : إذا وصل إليه ، ويقال أيضا بلغه إذا شارفه ودنا منه ، يقول الرجل لصاحبه : إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى ، يريد دنوت منها ، لأن ذا طوى قبلها ، والأجل يطلق على المدة كلها وعلى آخرها ، فيقال لعمر الإنسان أجل وللموت الذي ينتهى به أجل ، والمراد هنا زمن العدة ، والمراد بالإمساك المراجعة ، والمعروف ما ألفته العقول واستحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة ، والمراد بالتسريح ترك المراجعة حتى تنقضى عدتها والضرار الضرر ، والاعتداء الظلم ، وآيات الله هى آيات أحكام الطلاق والرجعة والخلع ونحو ذلك ، وهزوا أي مهزوءا بها بالإعراض عنها ، والتهاون في المحافظة عليها ، لقلة الاكتراث بالنساء وعدم المبالاة بهن ، ونعمة الله هى الرحمة التي جعلها بين الزوجين ، وما أنزل عليكم من الكتاب أي من آيات أحكام الزوجية التي تحفظ لكم الهناء في الدنيا والسعادة في الآخرة ، والحكمة هى سرّ تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح.

المعنى الجملي

بعد أن بيّن فيما سلف كيفية الطلاق المشروع وعدده بقوله : «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» وأن الأصل فيه أن يكون بلا عوض بقوله : «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» ، وأن أخذ العوض لا يحل إلا بشرط ذكره بقوله : «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ».

ذكر هنا ما يجب في معاملة المطلقات ، ونهى عن ضده ، وتوعد على فعل ذلك الضد ، وأرشد إلى المصلحة والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والانتهاء عن ذلك النهى.

١٧٧

الإيضاح

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي وإذا طلقتم النساء فقار بن إتمام العدة ، فاعزموا أحد الأمرين ، إما إمساك المرأة بالمراجعة ، أو إطلاق سبيلها بالمعروف الذي شرع لكم في الآية : «الطَّلاقُ مَرَّتانِ».

وإنما فسرنا بلوغ الأجل بقرب إتمام العدة ، لأن الأجل إذا انقضى حقيقة لم يكن للزوج حق إمساكها بالمعروف ، إذ هى غير زوجة له ، وفي غير عدة منه.

ثم أكد الأمر بالإمساك بالمعروف ووضح معناه بقوله :

(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) أي ولا تراجعوهن مريدين مضارتهن وإيذاءهن بالحبس وتطويل العدة لتلجئوهن إلى افتداء أنفسهن كما كانوا يتعاطونه في الجاهلية ، روى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان الرجل يطلق امرأته ، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها ، ثم يفعل ذلك ليضارّها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية.

وعن السدى قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة ، ثم راجعها ثم طلقها مضارة لها فأنزل الله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا).

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي ومن يفعل ذلك الإمساك المؤدى إلى الظلم فقد ظلم نفسه في الدنيا بسلوك طريق الشر وإقلاق راحة الضمير بالاعتداء ، وبمناصبة المرأة وأسرتها العداء فيتألبون عليه وينفرون منه حتى يوشك ألا يصاهره أحد ، كما ظلم نفسه في الآخرة بمخالفة أمر الله وتعرضه لسخطه.

(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) أي ولا تتهاونوا بحدود الله التي شرعها لكم في دينه جريا على سنن الجاهلية ، فإن التهاون بعد هذا البيان والتأكيد يعدّ استهزاء بها.

وفي هذا وعيد شديد وتهديد لمن يتعدى هذه الحدود ، وفيه حث للمسلمين على

١٧٨

احترام صلة الزوجية والبعد عما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، إذ كانوا يتخذون هذه الصلة لعبا ويعبثون بطلاقهن ويمسكونهن عبثا ؛ فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت ويعتق ، ثم يقول لعبت فأنزل الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «ثلاث جدّهن جد وهزلهنّ جدّ : الطلاق والنكاح والرجعة».

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) أي وتذكّروا ما أنعم به عليكم من الرحمة التي جعلها بين الزوجين ، وبها امتنّ علينا في قوله : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ومن جعل النكاح والطلاق والرجعة بأيدينا ، وعدم التضييق في عدد النساء ؛ كما ضيق على من سبقنا إذ أحل لهم امرأة واحدة ولم يحلّ لهم بعد موت المرأة زواج أخرى ، وبما أنزل به عليكم من آيات أحكام الزوجية التي تجعلكم في هناء في الدنيا وسعادة في الآخرة ، ومن الحكمة في سنّ تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح ، إذ معرفة التشريع مع حكمته هى التي تحدث العبرة والعظة الباعثة على الامتثال.

وقد ذكّرنا سبحانه بنعمته علينا أن ممكننا من إقامة الصلة الزوجية على أتمّ نظام ، وأن هدانا بهذا الدين القويم وحدّ لنا الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها ، وأيدها بالمواعظ التي تهدى إلى اتباعها.

بيد أن الناس قد أعرضوا عن هذه النعم ففسدت بينهم تلك المودة والرحمة ، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة غرورهم بالقوة وطغيانهم بالغنى ، وكفر النساء نعمة الرجال وتمادين في ذمهم والتبرم بهم ، وقلد الناس بعضهم بعضا في ذلك.

(وَاتَّقُوا اللهَ) بامتثال أمره ونهيه في أمر النساء وتوثيق الصلة الزوجية ، وترك ما ألف الناس من عدم المبالاة بعقد الزوجية الذي كانوا يرونه كعقد الرق والإجارة في المتاع الخسيس ، بل كانوا يرونه دون ذلك ، إذ كانوا يطلقون المرأة لأتفه سبب ، ثم يعودون إليها ، يفعلون ذلك المرة بعد المرة للضرار والإهانة.

١٧٩

فاعتياد المعاملة السيئة والأنس بها لا يقاوم إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة فى تأكيده بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد.

نعم ، كان لذلك أحسن الأثر في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام ، ثم خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام ، حتى صاروا شرا مما كان عليه أهل الجاهلية من ظلم النساء ومعاملتهن بالقسوة دون مراعاة لما أمر به الدين على لسان سيد المرسلين.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شىء مما يسرّه العبد أو يعلنه ، وهو لا يرضى إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه ، مع الإخلاص وحسن النية ، حتى يكون الباطن كالظاهر في الخير ، ولا يتم ذلك إلا بمراقبة الله في العمل ، والإخلاص له فى السر والعلن ، والعلم بأنه تعالى المطلع على كل شىء ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

تفسير المفردات

البلوغ الانتهاء ، والأجل هنا آخر المدة المضروبة لانقضاء العدة لا قربها كما في الآية التي قبلها ، لأن الإمساك بالمعروف والتسريح لا يتأتي بعد انقضاء العدة إذا انقضاؤها إمضاء للتسريح فلا محل معه للتخيير ، والتخيير يستمر إلى قرب الانقضاء والمذكور هنا

١٨٠