تفسير المراغي - ج ٢

أحمد مصطفى المراغي

الشحم فيه فيضعف عمله ، ويعيق دورة الدم وقد يقفها أحيانا فيموت السكّير فجأة ، كما يضعف مرونة الشرايين فتتمدد وتغلظ حتى تفسد أحيانا فيفسد الدم ولو في بعض الأعضاء فتحدث (الغرغرينا) التي تقضى بقطع العضو الذي تظهر فيه حتى لا يسرى الفساد إلى الجسم كله فيكون الموت ، وكذلك يضعف مرونة الحنجرة ويهيج شعب التنفس ويحدث بحة في الصوت ويكثر السعال.

وانقطاع النسل ، فولد السكير يكون ضعيفا وحفيده أشد ضعفا وأقل عقلا وهكذا يسرى الضعف إلى أولاده طبقة بعد أخرى حتى ينقطع النسل ، ولا سيما إذا سار الأبناء على سنة الآباء وذلك هو الغالب فيهم ، حتى قال أحد الأطباء : اقفلوا لى نصف الخانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات.

(٢) مضارها العقلية ـ إنها تضعف القوة العاقلة لتأثيرها في المجموع العصبي ، وكثيرا ما ينتهى الأمر بالسّكور إلى الجنون.

(٣) مضارها المالية ـ تفنى الثروة وتستهلك المال ، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أصناف الخمور وغلا ثمن الكثير منها ـ وافتنّ تجرها في ترويج بضاعتهم بوسائل شتى حتى لقد يجمعون بينها وبين القيادة والزنا ، فكم رأينا من خمار رومى فقير يفتح حانة في إحدى القرى فلا يلبث إلا قليلا حتى يبتلع ثروة أهلها ويصير سيد القرية ، وقد قيل : إن ما ينفق في مصر ثمنا للخمر يربو على ما ينفق في فرنسا كلها.

(٤) مضارها في المجتمع ـ وقوع النزاع والخصام بين بعض السكارى وبعض ، وبينهم وبين من يعاشرهم لأدني بادرة تصدر من واحد منهم ، وذلك ما أشار إليه الكتاب الكريم : «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ».

والخسة والمهانة في عيون الناس ، فقد يأتى السكّير في كلامه وحركاته بما يضحك منه ويكون موضع السخرية من الناس ، ويعبث به الصبيان ، إذ يكون أقل منهم

١٤١

عقلا ، وقلما يضبط أقواله وأفكاره ، وللسكارى من النوادر ما يكفى كل ذى شرف وعقل أن يكفّ عن الخمر ، وتجرّئ على ارتكاب الجرائم وتغرى بها ، ولا سيما الزنا والقتل ، ومن ثم سميت أم الخبائث.

(٥) مضارها النفسية ـ إفشاء السر وهو ذو أضرار خطيرة ، ولا سيما إذا كان متصلا بالحكومات وسياسة الدول وشئونها العسكرية ، وعليها يعتمد الجواسيس في نجاحهم فى مهامهم التي ندبوا لها.

(٦) مضارها الدينية ـ إن السكران لا تتأتى منه عبادة صحيحة ، ولا سيما الصلاة التي هى عماد الدين ، ومن ثم قال : «وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ» أي يصدكم الشيطان بتناولها عن الذكر والصلاة.

أما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر ، فمنها :

(١) أنه يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين.

(٢) أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

(٣) أنه يفسد الأخلاق بتعويد الناس الكسل بانتظار الرزق من الأسباب الوهمية وتركهم الأعمال الجالبة للكسب كالزراعة والصناعة والتجارة وهى أساس العمران (٤) خراب البيوت بغتة وضياع أموال أربابها فجأة بالخسارة في لعب الميسر ، فكم رأينا من أسرة نشأت بين أحصان الثروة والغنى ، وانحصرت ثروتها في واحد من أفرادها ، فلم يكن منه إلا أن أضاعها بين غمضة عين وانتباهتها ، وأصبحت هذه الأسرة فى فقر مدقع لا تملك ما تعيش به عيش الكفاف.

أما منافع الخمر فكثيرة منها :

(١) الاتجار بها فقد كانت ولا تزال موردا كبيرا للغنى والإثراء.

(٢) قد تكون علاجا لبعض الأمراض ككثير من السموم والنبات الضار بالمزاج المعتدل والمقدار الذي يعطى حينئذ يكون قليلا لا يكفى للذة والنشوة.

١٤٢

(٣) تسلّى الحزين على ما يكون بعدها من رد الفعل الذي يزيد في الكآبة والحزن.

(٤) تثير النّخوة والشجاعة ، وهذا من أعظم منافعها عند العرب ، وإن كان هذا مضرة في العصر الحاضر ، فإن هذه الحميّة هى التي تثير الشحناء والبغضاء بين السكارى ولا حاجة إليها الآن في الحرب ، لأنها أصبحت فنا لا بد فيه من حضور العقل وجودة النظر.

(٥) تجعل البخيل سخيّا ، وقد يكون هذا نافعا في الأزمنة القديمة حين كان الرجل ينفق ماله بين أهله ـ أما الآن فإنه كثير الضرر ، لأنه يذهب بثروة البلاد ويضعها فى أيدى الأشرار من الأجانب.

ومن منافع الميسر.

(١) مواساة الفقراء كما في النوع المسمى (يا نصيب) الذي يعمل لبناء الملاجئ والمستشفيات والمدارس وغيرها من أعمال البر.

(٢) سرور الرابح وأريحيته.

(٣) أنه يصيّر الفقير غنيّا بدون تعب ولا نصب.

(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فى هذا إرشاد إلى القاعدة العظيمة التي دوّنها علماء الإسلام فيما بعد وهى : «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» ، وإلى القاعدة الأخرى «ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما».

ولما كانت دلالة الآية على التحريم ليست صريحة لم تجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة ، بل عمل فيها كل واحد باجتهاده ، فمن فهم منها التحريم امتنع منها ، ومن لم يفهم ذلك جرى على أصل الإباحة ، ومن ثم عمل الصحابة باجتهادهم على اختلافهم فيه ، وأقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وصار عمر يدعو الله أن يبين في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية المائدة التي تقدمت : إنما الخمر والميسر إلخ. فتركهما الصحابة جميعا.

ولما للخمر من مضارّ كثيرة تركها في الجاهلية كثير من العرب ، منهم العباس

١٤٣

ابن مرداس فقد قيل له : ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلى بيدي فأدخله في جوفى ، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم وأمسى سفيههم.

وقد ألّفت الجماعات في أوربا وأمريكا للسعى في إبطال المسكرات ، وحمل الدول على تشديد العقوبة على بائعى الخمور.

ولا تزال الأيام تظهر من مضارّ الخمر والميسر ما لم يكن معروفا من قبل ، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ولكن الهوى وسلطان اللذة صرفا كثيرا من أدعياء المدنية عن النظر في هذه المضار ، فأسرفوا في معاقرتها حتى غيض معين الشباب ، وحرموا من سعادة الحياة ، وحرمت منهم أمتهم وأهلوهم ، وهم أحوج ما يرجون من ذكائهم ورجاحة عقولهم ، وبدت فتنة السكر بين ذوى الثراء والجاه من المتعلمين ، وانتقلت منهم العدوى إلى غيرهم من الفلاحين ، والعمال والأجراء ، وعم خطر هذه الآفة وتبعها انتشار الزنا بما له من مضارّ لا تحصى كداء الزهري والسيلان وغيرهما مما يوجب انقطاع النسل.

وإذا استمر انتشار الخمر والزنا في هذه البلاد ولا سيما الخمور التي تباع للفقراء فهى موادّ سامة محرقة (سبيرتو) يضاف إليها قليل من الماء والسكر ، فليس بالبعيد أن تنقرض الأمة بعد جيلين أو أكثر كما انقرض هنود أمريكا ، ولا يبقى منهم إلا بعض الأجراء والخدم ، فالسكر والزنا مقراضان يقرضان الأمم قرضا.

وقد شاع حديثا في مصر ما هو أفتك بالأمة من الخمور وأقتل لها ، وهو بعض السموم التي تستعمل حقنا تحت الجلد أو شمّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهرويين.

وأما كون إثم الميسر أكثر من نفعه فواضح مما تقدم ، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أنواع القمار وعمّ ضررها ، وقد تنبهت لذلك حكومات كثيرة فمنعت أكثر أنواعه وشددت في العقوبة عليه ، مع احترامها للحرية الشخصية ، علما منها بأن منفعة القمار وهمية ومضرته حقيقية ، إذ المقامر يبذل ماله المملوك له لربح موهوم ، والمسترسل فى إضاعة المحقق طلبا للمتوهم يفسد فكره ، ويضعف عقله ، ومن ثم انتهى الأمر

١٤٤

بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم أو الرضا بعيشة الذل والمهانة.

وكم من أرباب الثراء ما زال الشيطان يغريه حتى فقد ثروته وعاش بقية حياته فقيرا معدما.

ولبيوت القمار وسائل في استدراج الأغنياء وتخريب بيوتهم بأجابيلهم وشركهم التي ينصبونها.

وقلما يقدر متعاطى الخمر والميسر على تركهما ، لأن للخمر تأثيرا في الأعصاب يدعو إلى شربها والإكثار منها ، وما تحدثه من التنبيه يعقبه الخمود والفتور ، فيشعر السكران بعد صحوه أنه مضطر إلى معاودة السكر ، فإذا هو عاد قويت الداعية إليه.

وأما صاحب الميسر فإذا ربح طمع في المزيد ، وإذا خسر طمع في تعويض الخسارة وقصارى القول ـ إن الله قد هدانا لأن نبحث عن مضار الخمر والميسر بأنفسنا لنكون على بصيرة في تحريمهما ، وإنا لنرى الأمم التي لا تدين بالإسلام قد اهتدت إلى ما لم نهتد إليه من المضار ، فأنشأت تؤلف الجماعات للسعى في إبطال هاتين الجريمتين.

(وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) أي أىّ جزء من أموالهم ينفقون ، وأىّ جزء منها يمسكون ، ليكونوا ممتثلين لقوله : «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ».

وقد أطلق القرآن العفو والزيادة ليقدّره كل قوم بحسب عصرهم ، وما يليق بحالهم والمراد بهذا الإنفاق فيما زاد على الزكاة المفروضة من صدقات التطوع على الأفراد والمصالح العامة.

وقد قضت الحكمة بمجىء الإنفاق مطلقا أول الإسلام ، وبمدح الإيثار على النفس ، لأن المسلمين كانوا فئة قليلة بين أمم وشعوب تناصبهم العداوة وتبذل في سبيل ذلك الأموال والأرواح ، فلا تستقيم لهم حال إذا لم يتّحدوا ويكونوا كرجل واحد ويجودوا بالمال لخدمة المصالح العامة.

وتلك سنة الله في كل دين حين بدأ ظهوره ، حتى إذا ما اعتز وكثرت الأمة ، وصار يكفى لمرافقها العامة ما يبذله كل ذى غنى من ماله ـ اختلفت الحال ودعا الأمر

١٤٥

إلى تقييد الإنفاق ، ومن ثم سأل المسلمون ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأنهم ينفقون الفضل والزيادة على حاجة من يعولونهم.

أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول» وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير الصدقة ما أبقت غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة : أنفق علىّ أو طلقنى ، ويقول مملوكك : أنفق علىّ أو بعنى ، ويقول ولدك : إلى من تكلنى؟».

وأخرج ابن سعد عن جابر قال : قدم أبو الحصين السلمى بمثل بيضة الحمامة من الذهب ، فقال يا رسول الله : أصبت هذه من معدن فخذها فهى صدقة ، ما أملك غيرها ، فأعرض عنه ، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ، ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها ، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته ، ثم قال : يأتي أحدكم بما يملك ، فيقول هذه صدقة ، ثم يقعد يتكفّف الناس ، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول. والحكمة في الجمع بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الإنفاق في آية واحدة ـ الموازنة بين حال فريقين من الناس : فريق ينفق المال بغير حساب في الإثم تفاخرا ومباهاة فيما لا خير فيه ، أو لمجرد اللذة وإن ساءت العاقبة ، وفريق ينفقه في سبيل الله يزيل به ضرورة إخوانه ذوى الحاجة ، أو يرفع به شأن أمته بالإنفاق في مصالحها العامة وأعمال الخير فيها كالتعليم وإنشاء الملاجئ والمستشفيات.

فالأمة التي يكون أفرادها مليون نسمة إذا بذلوا في مصالحها العامة كتربية النشء وإعداد القوة الحربية ونحو ذلك مما يرقى شئونها ـ تكون أعز وأقوى من أمة عدّتها مائة مليون لا يبذلون شيئا من فضل أموالهم في مثل ذلك ، فكل امرئ من الأولى يكون كأمة ، لأن أمته عون له ، تعده جزءا منها ويعدها كلّا له ، والأمة الثانية كلها لا تعدّ بواحد ، لأن كل واحد منها يخذله الآخرون ، ويرى أن حياته بموته ، فيكون

١٤٦

كل واحد منها في حكم الميت ، ومثل هذا الجمع لا يسمى أمة ، لأن كل واحد يعيش وحده وإن كان مع غيره على ظهر الأرض ، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم ، ويتعاون الجميع على حفظ الوحدة الجامعة لهم ، وبها تتكون الأمة الناجحة في الحياة.

فالأمم لا تنهض إلا بمثل هذا التعاون ومساعدة الغنى للفقير وإعانة القوى للضعيف ، وبهذا يظهر القليل على الكثير وتكون له السيادة.

ثم ذكر مننه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال :

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي على هذا النحو من البيان قضت الحكمة بأن يبين لكم الأحكام التي فيها مصالحكم ومنافعكم ، ويوجه عقولكم إلى ما فيها من منافع ومضارّ.

ثم ذكر الحكمة في شرع هذه الأحكام فقال :

(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي لتتفكروا في شئونهما معا ، فتجتمع لكم مصالح الروح والجسد وتكونوا أمة وسطا ، لا كمن ظنوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها فخسروها وخسروا الآخرة ، إذ الدنيا مزرعة الآخرة ، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات ، ففسدت أخلاقهم ، وأظلمت أرواحهم ، وصاروا كالبهائم ، وخسروا الآخرة والدنيا.

وهذه الآية وما ماثلها ترشد إلى أن الإسلام هاد إلى سعة دائرة الفكر واستعمال العقل فى مصالح الدارين معا ، ومن ثم قال العلماء إن الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس فى معايشهم ـ من الفروض الدينية ، إذا أهملت الأمة شيئا منها ولم يقم من أفرادها من يكفيهم أمرها ، كانت عاصية لأمر ربها مخالفة لدينه.

وعلى هذا سارت الأمة الإسلامية في القرون الأولى ، فكانت إذا احتاجت إلى شىء مما يستدعيه التوسع في العمران ، عدّت القيام به من فروض الدين ـ إلى أن غلا أقوام فى الدين وأهملوا مصالح الدنيا زعما منهم بأن ذلك من الزهد المطلوب والتوكل المحبوب ، وما هو منهما في شىء ، وكان نتيجة ذلك أن أهملت الشريعة ، ولم توجد أمة إسلامية تقيمها ، ولم يعد من المسلمين من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها

١٤٧

مصالح الأمم والحكومات ، بل قد أصبح كثير من العلماء يعد الاشتغال بالعلوم والفنون التي تتوقف عليها مصالح الدنيا ، صادّا عن الدين مبعدا عنه.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) أي ويسألونك عن القيام بأمر اليتامى ، أو عن مخالطتهم وكفالتهم.

أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزلت آية «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» وآية «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى» انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) الآية.

وأشد ما ورد في الوصية باليتامى قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً» وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله ويأخذون القرآن بقوة ، فتحدث لهم ذكرى وعظة لا يجد مثلها من بعدهم ممن لم يفهم القرآن كما فهموا.

وهذه الوصايا باليتامى ملكت على المؤمنين نفوسهم فتركتهم في حيرة وحرج من أمر القيام على اليتامى واستغلال أموالهم خوفا من أن ينالهم شىء من الظلم ، وتأثّم الصحابة من مخالطة اليتامى ، فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم ، وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله ، فلا يخالطونه في شىء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده ، ثم فطنوا إلى ما في هذا من الحرج مع عدم المصلحة لليتيم ، بل فيه مفسدة له في تربيته وضياع لماله ، إلى ما في ذلك من الاحتقار والإهانة له ، فيكون كالكلب أو كالداجن في مأكله ومشربه ، ومن ثم احتاجوا إلى السؤال عما يجمع بين المصلحتين : مصلحة اليتيم ليعيش فى بيت كافله عزيزا كأحد عياله ، ومصلحة الكافل فيسلم من أكل شىء من ماله بغير حق ، فأجيبوا بقوله تعالى :

١٤٨

(قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي قل لمن يسأل عن المصلحة فى معاملة اليتامى من عزل أو مخالطة ـ إن كل ما فيه صلاح لهم فهو خير ، فعليكم أن تصلحوا نفوسهم بالتربية والتهذيب ، وأموالهم بالتنمية والتثمير ، ولا تهملوا شئونهم فتفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم ، ولا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والكسب ، فهم إخوانكم في الدين ، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء في الملك والمعاش ، وفي ذلك منفعة لهم لا ضرر عليهم ، إذ كل واحد منهم يسعى في خير الجميع ، والمخالطة مبنية على المسامحة ، لانتفاء مظنّة الطمع ، فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته ، ويتحرى له رجحان كفته.

(وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي والله يعلم ما تضمره القلوب ، وتميل إليه من قصد الإفساد أو الإصلاح في هذه المخالطة ، وسيحاسبكم على الدقيق والجليل من الأمور.

وإنما نبه القلوب إلى ذكر علمه تعالى ، لتلاحظ ذلك حين العمل ، وترقب الجزاء على ما تعمل ، حتى تأمن الزلل ، وتبتعد عن مواطن الشبهة ، فشهوة الطمع كثيرا ما تسوّل للانسان أكل مال اليتيم ، كما تزين له أكل مال أخيه الضعيف ولا وازع ولا زاجر إلا تقوى الله ، ومراقبته في السر والعلن.

وكثير من الأوصياء على الأيتام يظهرون العفّة والزهد في أكل أموالهم ، وهم يلتهمونها التهاما ، فتراهم بعد قليل أصبحوا من ذوى الثراء ، وأجرهم المفروض ليس فيه الغناء.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي ولو شاء الله أن يكلفكم ما لا تطيقونه من القيام بشئون اليتامى وحفظ أموالهم دون أن يأذن لكم في مخالطتهم لفعل ، لكنه لواسع رحمته لا يكلف النفس إلا ما تطيق كما قال : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» ومن ثم أباح لكم مخالطتهم ومعاملتهم معاملة الإخوة ، وعفا عما جرى العرف به من

١٤٩

المسامحة فيه ، إذ ذلك لا يستغنى عنه الخلطاء ، ووكل أمر ذلك إلى ضمائركم ، مع مراقبة من لا تخفى عليه خافية ، العليم بالسر والنجوى.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي لو شاء إعناتكم لعزّ على غيره أن يمنعه ، ولكن جرت سنته أن يجعل شرائعه جامعة لمصالح عباده ، جارية على ما توحى به الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها.

والحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر ـ أن السؤالين الأولين بينا حال طائفتين من الناس في بذلهم وإنفاقهم للمال فناسب أن يذكر بعدها السؤال عن طائفة هى أحق الناس بالإنفاق عليها ، وبذل المال فى تربيتها وإصلاح شئونها ، وهى جماعة اليتامى ، كأنه تعالى يذكرنا بأنه حين مخالطتهم وإصلاح أمورهم يجب أن تكون النفقة من أموالنا ، وأنهم من الأصناف التي تستحق أن ينفق عليها من العفو الزائد على حاجتنا ، ولا ينبغي أن نعكس ذلك ونطمع فى فضول أموالهم.

ومما تقدم تعلم ، كيف كانت عناية المؤمنين بأحكام دينهم وحفظ حدوده ، وكيف شدد سبحانه في الأمر بشأن اليتامى ، فلم يأذن في القيام عليهم إلا بقصد الإصلاح ولا بمخالطتهم إلا مخالطة الإخوة ، مع توجيه القلوب إلى مراقبته ، والتذكير بإحاطة علمه ، ومع كل هذا لا نرى من الأوصياء على اليتامى إلا الفساد والإفساد ، دون مراقبة لله في أعمالهم ، ومراجعة نفوسهم في أفعالهم ، غير ناظرين إلى الوعيد الشديد الذي تقشعر من هوله الصمّ الجلاميد.

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ

١٥٠

وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

المعنى الجملي

روى الواحدي عن ابن عباس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من قبيلة غنىّ يقال له مرثد بن أبي مرثد ، وكان حليفا لبنى هاشم ، إلى مكة ليخرج جماعة من المسلمين أسارى بها. فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق ، وكانت خليلة له في الجاهلية ، فلما أسلم أعرض عنها ، فأتته وقالت ويحك يا مرثد ألا تخلو ، فقال لها؟

إن الإسلام قد حال بينى وبينك وحرّمه علينا ، ولكن إن شئت تزوجتك ، فقالت نعم ، فقال : إذا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنته في ذلك ، ثم تزوجتك ، فقالت له : وأبي ، تتبرّم ، ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله ، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقى بسببها ، فقال يا رسول الله : أيحل لى أن أتزوجها؟ فنزلت الآية.

الإيضاح

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) أي ولا تتزوجوا المشركات اللاتي لا كتاب لهن حتى يؤمنّ بالله ويصدقن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء لفظ المشرك في القرآن بهذا المعنى في نحو قوله : «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ» وفي قوله : «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ».

والخلاصة ـ لا تتزوجوا المشركات ما دمن على شركهن.

(وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي ولأمة مؤمنة على ما بها من

١٥١

خساسة الرق وقلة الخطر ، خير من مشركة حرة على مالها من شرف الحرية ونباهة القدر ولو أعجبتكم بحمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها.

إذ بالإيمان يكون كمال دينها ، وبالمال والجاه يكون كمال دنياها ، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يستطع الجمع بينهما ـ إلى أنه ربما حصلت المحبة والتآلف عند اتحادهما دينا فتكمل المنافع الدنيوية أيضا من حسن العشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والقيام على الأولاد بتنشئتهم تنشئة قويمة ، وتهذيب أخلاقهم حتى يكونوا قدوة لسواهم.

أخرج ابن ماجه عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا تنكحوا النساء لحسنهنّ ، فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، وانكحوهن على الدّين ، فلأمة سوداء ذات دين أفضل» وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يداك» أي افتقرت ، وظاهر هذا الأسلوب الدعاء عليه ، والمراد الدّعاء له ، وهو كثير الاستعمال في كلام العرب.

(وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) أي لا تزوجوهم المؤمنات إلا إذا آمنوا وتركوا ما هم عليه من الكفر ، وحينئذ يصيرون أكفاء لهن.

(وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) أي ولمملوك مؤمن مع ما به من الذلة والمهانة خير من مشرك عزيز الجانب مهيب في أعين الناس.

وقصارى ما تقدم ـ إنه لا يجوز لنا أن نتصل بالمشركين برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوّج منهم ، إذ المرأة موضع ثقة الرجل ، يأمنها على نفسه وولده ومتاعه ، وما كان الجمال وحده ليحقق في المرأة هذا الوصف ، فالمشركة لا دين لها يحرّم عليها الخيانة ويأمرها بالخير وينهاها عن الشر ، فقد تخون زوجها وتفسد عقيدة ولدها.

١٥٢

أما الكتابيات كالنصرانيات واليهوديات ، فقد جاء في القرآن في سورة المائدة النصّ على حلّهن فقال : «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» والحكمة في هذا التألف لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا ، وسهولة شريعتنا ، فالرجل هو القوّام على المرأة وصاحب الولاية والسلطة عليها ، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن هذا الدين يدعو إلى الإنصاف في المعاملة وسعة الصدر بين المختلفين في الدين.

وأما زواج الكتابىّ بالمسلمة فحرام بنص السنة وإجماع المسلمين على ذلك ، والسرّ فى هذا أن المرأة كما علمت ليس لها من الحقوق مثل ما للرجل ، فلا تظهر الفائدة التي تقدمت ، إلى أنه بما له عليها من السلطان يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه.

وقد بين علة النهى عن مناكحة المشركين والمشركات بقوله :

(أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إن هؤلاء المشركين والمشركات من دأبهم أن يدعوا إلى كل ما يكون سببا في دخول النار من الأقوال والأفعال ـ وصلة الزوجية من أقوى العوامل في تأثير هذه الدعوة في النفوس ، إذ من شأنها أن يتسامح معها في أمور كثيرة ، فربما سري شىء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب من الشبه والتضليل ، فالمشركون عبدوا غير الله لكنهم لم يسموا عملهم عبادة ، بل أطلقوا عليه الاستشفاع والتوسل ، واتخذوا غير الله ربّا وإلها وسمّوه وسيلة وشفيعا ، ظنا منهم أن تسمية الشيء بغير اسمه يخرجه عن حقيقته كما قال تعالى : «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ».

وإذا كانت مساكنة المشركين مع الكراهة والنفور قد أفسدت الأديان ، فكيف بهم إذا اتّخذوا أزواجا ، ألا يكون في ذلك الدعوة إلى النار ، والسبب في الشقاء والدمار؟

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) أي إن دعوة الله التي عليها المؤمنون هى التي

١٥٣

توصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه وتوفيقه ، فهي بالضد من دعوة المشركين التي توصل إلى النار ، لسوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم ، وما عليه المؤمنون هو الذي هدت إليه الفطرة ، وبلّغه عنه رسله بإذنه ، وأرشدوا إليه خلقه.

اعتبر بهذا وانظر إلى ما فتن به كثير من الشبان المصريين من التزوّج بالأفرنجيات والغرام بعشرتهنّ تاركين بنات وطنهم من المسلمات المؤمنات العفيفات ، فأفسدن عليهم دينهم ووطنيتهم وقطعن صلة الأرحام ما بين الأزواج وأسرهم ، وصارت المعيشة الزوجية فى كثير من الأحيان جحيما وغصة وعذابا أليما ، حتى اضطر بعضهم إلى الطلاق بعد أن أنفق كثيرا من ثروته وماله ، ومن استمر عليها أغضى العين على القذى وباع العرض رخيصا ، وفقد الغيرة والنّخوة التي هى أفضل شمائل الرجل ، وبها يكون التفاضل بين الرجال ، وقلما اهتدت امرأة بزواجها بمسلم فأسلمت ، بل لقد عظم الخطب وعمّ البلاء ، فسرت العدوى إلى المسلمات المتعلمات الغنيات ، فتزوّجن بمن أحببن من رجال الفرنجة بلا مبالاة ولا خشية من دين ، ولا خوف من حكومة ، ولا وازع من أسرة ، وكل هذا من ضعف الوازع الديني ، وترك الفضائل الإسلامية التي ينبغى أن تغرس في نفوس النشء إبّان الصبا.

ثم امتنّ عز اسمه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال :

(وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ويوضح الأدلة على أحكام شريعته للناس ، فلا يذكر لهم حكما إلا إذا بيّن لهم حكمته وأرشدهم إلى فائدته ، والسرّ فى تشريعه لعلهم بهذا يعتبرون ، فإن الأحكام إذا ذكرت بعللها وأدلتها طبعت فى النفوس وتقبلتها على الوجه المرضى ، ولم تكن صورا ورسوما تؤدى دون أن تحصل الغاية منها ، وهى الإخبات إلى الله ، وتهذيب الأرواح وتنقيتها من أدران الذنوب وأكدار المعاصي.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ

١٥٤

اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

تفسير المفردات

الحيض : لغة السيلان ، يقال حاض السيل وفاض ، وشرعا : دم ذو أوصاف خاصة يخرج من الرحم في مدة مخصوصة استعدادا للحمل حين المعاشرة الزوجية إبقاء للنوع البشرى ، والأذى : الضرر ، واعتزال النساء زمن المحيض ترك غشيانهن في هذه المدة ، والطهر : انقطاع دم الحيض ، والتطهر : هو الاغتسال بالماء إن وجد ولم يمنع منه مانع ، أو التيمم خلفا عنه عند الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن طهرت لأقل من عشرة أيام فلا تحل له إلا إذا اغتسلت أو مضى وقت صلاة والدم منقطع ، وإن طهرت لأكثر مدته ، وهى العشرة حلت له ولو لم تغتسل ، والحرث : موضع النبت أي الأرض التي تستنبت ، شبهت بها النساء لأنها منبت للولد كالأرض للنبات ، أنّى شئتم : أي كيف شئتم من قيام وقعود واضطجاع ، وإقبال وإدبار متى كان المأتى واحدا وهو موضع الحرث.

المعنى الجملي

هذا السؤال ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو لاتصالها بما قبلها وما بعدها ، إذ كلها في التشريع المختص بالنساء ، أما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فهى مختلفة الموضوعات ، فجاءت مفصولة على طريق التعداد والسرد.

كل هذه الأسئلة جاءت والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة والاختلاط على أتمه بين العرب واليهود ، وقد كان اليهود يشددون في مسائل الحيض كما جاء في الفصل الخامس عشر من التوراة ، وفيه : أن كل من مسّ الحائض في أيام طمثها يكون نجسا ،

١٥٥

وكل من مس فراشها يغسل ثيابه بماء ويستحم ويكون نجسا إلى المساء ، وكل من مسّ متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء ، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام ، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا ـ إلى نحو ذلك من الأحكام وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام.

وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحيّض ، ولا يؤاكلونهنّ كما كانت تفعل اليهود والمجوس.

وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض ، وكانوا مخالطين للعرب في كثير من المواطن ، وقد جرت العادة أن الناس لا يتأثمون في أمور الدين إذا كانت تتعلق بلذاتهم وشهواتهم ، وفيها منفعة لهم ، وقلما يقفون عند حدود الشرائع ، فكان هذا الاختلاف الذي يرونه بين أهل الأديان مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة.

الإيضاح

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أي ويسألونك عن حكم مخالطة النساء زمن الحيض.

(قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي أجبهم وقل لهم : هو ضرر وأذى ، فاتركوا غشيانهنّ في هذه المدة ، والسرّ في هذا التأكيد كبح جماح الرغبة في ملابسة النساء ولو وصلت إلى حد الإيذاء ، وقد كان بعض الناس يظن أن الاعتزال ترك القرب الحقيقي ، لكن السنة بينت أن المحرّم إنما هو الوقاع فحسب ، فعن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها فى البيوت ، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله عزّ وجلّ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اصنعوا كل شىء إلا الجماع» رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.

١٥٦

وعن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحلّ لى من امرأتي وهى حائض؟ قال : «لك ما فوق الإزار» أي ما فوق السرّة ، رواه أبو داود.

وقد جاءت الآية ببيان سبب المنع أوّلا ، ثم رتبت عليه الحكم وهو المنع ، ليؤخذ بالتسليم والقبول ، وليعلم أن الأحكام لم تشرع إلا للمصلحة لا للتعبد كما يرى اليهود.

والخلاصة ـ إنه يجب ترك غشيان النساء مدة الحيض ، لأنه سبب للأذى والضرر ، وقد أثبت ذلك الطب الحديث ، فقالوا : إن الوقاع في زمن الحيض يحدث الأضرار الآتية :

(١) آلام أعضاء التناسل في الأنثى ، وربما أحدث التهابات في الرحم فى المبيضين أو في الحوض تضرّ صحتها ضررا بليغا ، وربما أدى ذلك إلى تلف المبيضين وأحدث العقم.

(٢) أن دخول مواد الحيض في عضو التناسل عند الرجل ، قد تحدث التهابا صديديا يشبه السيلان ، وربما امتدّ ذلك إلى الخصتين فآذاهما ، ونشأ من ذلك عقم الرجل ، وقد يصاب الرجل (بالزهرى) إذا كانت جراثيمه في دم المرأة.

وعلى الجملة فقربانها في هذه المدة قد يحدث العقم في الذكر أو في الأنثى ، ويؤدى إلى التهاب أعضاء التناسل فتضعف صحتها ، وكفى بهذا ضررا ، ومن ثمّ أجمع الأطباء المحدثون في بقاع المعمورة على وجوب الابتعاد عن المرأة في هذه المدة كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم خبير.

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي فإذا اغتسلن من دم الحيض فأتوهن من المأتي الذي جبلت النفوس على الميل إليه ، ومضت سنة الله بحفظ النوع به ، وهو موضع النسل.

وفي هذا إيماء إلى أن الشريعة طلبت التزوج وحرّمت الرهبانية ، فليس لمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرّب إلى الله تعالى ، لأنه سبحانه قد امتنّ علينا بالزواج

١٥٧

بقوله : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» وطلب إلينا أن ندعوه بالتوفيق للسرور بالزوجة الصالحة والولد البارّ فقال : «رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ».

فالزواج الشرعي وقربان المرأة ابتغاء النسل من أعظم القرب ، وتركه مع القدرة عليه وعدم المانع مخالف لناموس الفطرة وسنته تعالى في شريعته.

وحين قال عليه الصلاة والسلام : «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال : «أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر»؟

وقصاري ذلك ـ إن الإسلام لم يجعل العبادة في تعذيب النفس ومخالفة سنة الفطرة بترك ما أحلّ الله من لذات الدنيا ، توهما بأن ذلك مما يرضى الخالق جلّ وعلا.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) أي إن الله يحب الذين يرجعون إليه تائبين غير مصرّين على سيئ أفعالهم ، بتغليب سلطان الشهوة على سنة الفطرة حين أتوا نساءهم في المحيض أو في غير المأتي الذي أمر الله به.

(وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي وإنه تعالى يحب كل من نزّه نفسه عن الأقذار ، وابتعد عن ارتكاب المنكرات ، وهؤلاء أحبّ إلى الله ممن فرطت منهم الزلة ووقعوا في الدنس ثم تابوا.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي لا حرج عليكم في إتيان نسائكم بأى كيفية شئتم ما دمتم تقصدون الاستيلاد في الموضع الطبيعي ، فالشارع لا يقصد إلى إعناتكم وحظر اللذة عليكم ، بل يريد لكم الخير والمنفعة ، ولا يريد المفسدة بوضع الأشياء فى غير مواضعها.

وقد جاءت هذه الآية عقب سابقتها ، كالبيان لها شارحة وجه الحكمة التي لأجلها شرع غشيان النساء ، وهو حفظ بقاء النوع البشرى بالاستيلاد ، كما يحفظ النبات بالزرع والحرث ، لا لذة المباشرة لذاتها ، ومن ثمّ لا يحل لكم أن تأتوا النساء في زمن الحيض

١٥٨

حيث لا استعداد لقبول الزرع ، ولا في غير المأتى الذي يتحقق به الاستيلاد.

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) ما يقدّم للنفس هو ما ينفعها في مستأنف حياتها ، ولا شىء أنفع للإنسان في مستقبله من ولد بارّ ينفعه في دينه ودنياه كما جاء في الحديث «إن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه بعد موته» ولا يكون الولد كذلك إلا إذا أحسن والداه تربيته وهذباه وجعلاه ذا خلق عظيم.

وهذا يدعو إلى اختيار المرأة الودود الولود ، التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها ، وتكون قدوة حسنة له ، إذ ينشأ وهو يرى فضائلها وجلائل أعمالها فتنطبع صورتها في نفسه ، فيشبّ وهو كامل الأخلاق حميد الصفات ، كما يختار الزارع الأرض الصالحة التي تؤتي جيد الغلة.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي واحذروه بأن تخرجوا النساء عن كونهنّ حرثا بإضاعة مادة النسل في الحيض ، أو بوضعها في غير موضع الحرث ، أو بأن تختاروا المرأة السيئة الأخلاق التي تفسد تربية الأولاد بإهمالها ، وسوء القدوة في معاشرتها.

ثم أوعد من يخالفون أمره فقال :

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي واعلموا أنكم ستلاقون ربكم في الآخرة ، فيجازيكم على عصيانه ومخالفة أمره ، وتتجرّعون من جراء ذلك العذاب الأليم.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر المؤمنين الذين يقفون عند حدود دينهم ، ويتبعون هدى ربهم في أمر النساء والأولاد ، فيسعدون بنعيم الدنيا والآخرة ؛ فمن يختر لنفسه الزوجة الصالحة ، ويحسن تربية ما رزقه الله من الأولاد ، يكن قرير العين سعيدا بما يرى من حسن حاله وحال أهله وولده.

أما من تطغى عليه شهواته ، فيخرج عن السنن التي شرعها الله لعباده ، فإنه لا يسلم من المنغصات في هذه الحياة ، وهو في الآخرة أتعس حالا وأضلّ سبيلا.

فالسعادة كل السعادة في تكميل النفس بصادق الإيمان وفاضل الأخلاق ، واطمئنان

١٥٩

القلب عند الفرح والحزن ، ولدى السرور والهم ، وتسليم الأمر إلى خالق الخلق ومدبر أمرهم بعد أخذ الأهبة ، وكمال العدّة ، وهذا هو التوكل الذي أمرنا به.

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

تفسير المفردات

العرضة كالغرفة : المانع المعترض دون الشيء ، والمراد من الأيمان الأمور المحلوف عليها ، كما جاء في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه» واللغو : ما يقع في حشو الكلام من الأيمان من غير قصد ولا رويّة كقول الإنسان : إي والله ، ولا والله ، فهذا ونحوه يسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد به عقد اليمين ، فلا يؤاخذ الله به بفرض كفارة ولا بعقاب ، حتى لا يكون في ذلك حرج على المؤمنين. والإيلاء : لغة الحلف ، وشرعا حلف الرجل ألا يقرب امرأته إما لمدة معينة أو غير معينة كأن يقول : والله لا أقربك أربعة أشهر ، أو لا أقربك ، والتربص : الانتظار ، وفاءوا : أي رجعوا إلى نسائهم ، وعزموا الطلاق : أي صمّموا في قصده ، وعزموا ألا يعودوا إلى ملامسة نسائهم.

المعنى الجملي

بعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره ـ ذكر هنا أن مما يتّقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعا من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس.

١٦٠