تفسير المراغي - ج ٢

أحمد مصطفى المراغي

(وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي وأخلصوا لى يا أهل العقول والأفهام بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض ، واجتناب ما حرمته عليكم ، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبى وعقابى ، وتدركوا ما تطلبون من الفوز برضاى ورحمتى.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩))

تفسير المفردات

الجناح : الحرج والإثم ، من الجنوح ، وهو الميل عن القصد ، أن تبتغوا أي أن تقصدوا وتطلبوا ، وفضلا أي عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج ، والإفاضة من المكان :

الدفع منه أي أفضتم أنفسكم ودفعتموها ، ويقال أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق ، وعرفات موقف الحاج في أداء النسك ، وسمى بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون فيه ، وعرفة اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات ، وهو التاسع من ذى الحجة ، والذكر : الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد ، والمشعر الحرام : هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام ، وسمى بهذا الاسم لأنه معلم للعبادة ، والشعائر العلامات ، ووصف بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهى عنه

المعنى الجملي

جاء هذا كالاستدراك : والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من منع التجارة في الحج ؛ ذاك أن الآيات السابقة أرشدت إلى حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج ، والتجارة

١٠١

تفضى إلى الجدال والنزاع في قيم السلع قلة وكثرة ، فعقب ذلك ببيان حكمها ، وأبان أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور ، لأنه لا ينافى الإخلاص فى هذه العبادة ، وإنما الذي ينافيها أن يكون المقصد التجارة فحسب ، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر للحج.

وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام يتأثمون من كل عمل دنيوى أيام الحج ، حتى إنهم كانوا يقفلون حوانيتهم ، فأعلمهم الله أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص.

أخرج البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا فى الجاهلية ، فتأثّموا أن يتجروا في الموسم ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت الآية.

وعن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر إنا نكري (أي الرواحل للحجاج) فهل لنا من حج؟ فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتنى عنه ، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم حجاج.

الإيضاح

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي لا حرج ولا إثم في الكسب أيام الحج إذا لم يكن هو المقصد بالذات ، إذ هو مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الله عبادة ، ولكن التفرغ لأداء المناسك في تلك الأوقات أفضل ، والتنزه عن حظوظ الدنيا أكمل ، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».

(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أي يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالدعاء والتحميد والثناء

١٠٢

والتلبية ، وإنما طلب منه ذلك خشية أن يتركه بعد المبيت ، فطلب منه المضىّ في الذكر مادام في هذا الموضع.

(وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ، بأن يكون بتضرع وخيفة وطمع في ثوابه ، صادر عن رغبة ورهبة كما قال صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ولا تعدلوا عنه إلى ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من الشرك واتخاذ الوسطاء بينكم وبينه ، فلا تفرغ قلوبكم له ، فقد كانوا يقولون في التلبية : لبّيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي وإنكم كنتم من قبل هذا الهدى من الضالين عن الحق في العقائد والأعمال بعباد الأوثان والأصنام ، وباتخاذ الوسطاء الذين يشفعون عنده ويقربون إليه زلفى.

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) روى البخاري ومسلم : أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس (واحدهم أحمس وهو الشديد الصّلب في الدين والقتال) كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.

فأمر الله نبيه أن يأتى عرفات ، ثم يقف بها ، ثم يفيض منها ، ليبطل ما كانت عليه قريش.

فالمعنى ـ عليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر وعدم الامتياز لأحد عن أحد ، وذلك من أهمّ مقاصد الدين.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) مما أحدثتم من تغيير المناسك بعد إبراهيم ، وإدخال الشرك فى أعمال الحج.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يستغفره مع الإنابة والتوبة.

١٠٣

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

تفسير المفردات

الخلاق : الحظ والنصيب ، وحسنة الدنيا هى العافية أو المرأة الصالحة أو الأولاد البررة ، أو العلم والمعرفة ، وحسنة الآخرة هى الجنة أو رؤية الله تعالى يوم القيامة ، والأولى التعميم فى كل هذا.

المعنى الجملي

كان العرب في الجاهلية يجتمعون بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم ، يتفاخرون بمآثر آبائهم ، فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات والديات ، ليس له ذكر غير فعال آبائه فأنزل الله هذه الآية.

ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون ، فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج ، كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.

وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام

١٠٤

التشريق ، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال : أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربيّ على عجمىّ ، ولا لعجمى على عربى ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، أبلّغت ، قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي فإذا فرغتم من مناسك الحج ونفرتم فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.

ثم ذكر أن الذين يذكرونه فيدعونه قسمين :

١ ـ (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي فمن المسلمين فريق ممن يشهدون مواسم الحج ، ممن لم تصل أسراره وحكمه إلى شغاف قلوبهم ، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم ، يكون جلّ اهتمامهم في ذكرهم ودعائهم حظ الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء إلى نحو ذلك من الحظوظ العاجلة ، وهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة مما أعده الله للمتقين من رضوانه ، إذ هم وجهوا جلّ اهتمامهم لحظوظ الدنيا وعملوا لها جهد الطاقة ، ولا يسألون ربهم إلا المزيد من نعيمها ولذاتها ، وقد ينالونها بدون عناء ولا نصب في العمل كما قال تعالى : «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً».

٢ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي ومنهم فريق يقول : ربنا هب لنا حياة طيبة سعيدة في الدنيا ، وحياة راضية مرضية في الآخرة.

وطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها التي دلت التجربة على نفعها

١٠٥

فى الكسب ونظم المعيشة وحسن معاشرة الناس والتخلق بآداب الشرع وأدب السلوك وما جرى عليه العرف من فضائل الصفات.

وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص والعمل الصالح والتحلي بمكارم الأخلاق.

(وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي واحفظنا من الشهوات والذنوب التي تؤدى إليها ، ويكون ذلك بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة ، مع القيام بأداء الفرائض.

وفي الآية إيماء إلى أن الغلوّ في الدين والتشدد فيه مذموم خارج من سنن الفطرة ، وقد نهى الله أهل الكتاب عنه وذمهم عليه ، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، روى البخاري عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف ، فقال له : هل كنت تدعو الله بشىء؟ قال : نعم كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبى به في الآخرة فعجّله لى في الدنيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه ، فهلا قلت : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) ودعا له فشفاه الله.

(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي أولئك الذين يطلبون سعادة الدارين ، والحسنة في المنزلتين ، يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم وسعيهم ، فهم قد طلبوا الدنيا بأسبابها ، وسعوا للآخرة سعيها فكان لهم حظ من كسبهم في الدارين على قدره.

وبمعنى الآية قوله : «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ».

(وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيوفى كل كاسب أجره عقب عمله ، فقد جرت سنته أن يكون الجزاء أثرا للعمل بلا إبطاء ، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطلاع كل عامل على عمله ، ويتم ذلك في لحظة ، وقد روى أن الله يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، وروي بمقدار لمحة البصر.

١٠٦

وبعد أن أمر بذكره عند المشعر الحرام وكانوا لا يذكرونه هناك ، وأمر بذكره عند تمام قضاء المناسك بعد أيام منى حيث كانوا يذكرون مفاخر آبائهم ، أمر بذكره فى أيام منى فقال :

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) الأيام المعدودات هى أيام منى ، وهى أيام التشريق الثلاثة من حادى عشر من ذى الحجة إلى ثالث عشر ، وقد روى أرباب السنن عن عبد الرّحمن بن يعمر قال : إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة فسألوه ، فأمر مناديا ينادى «الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع ـ مزدلفة ـ قبل طلوع الفجر فقد أدرك ، أيام منى ثلاثة أيام ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه».

وأردف رجلا ينادى بهن ، أي أركب معه رجلا ينادى بهذه الكلمات ، ليعرف الناس الحكم ، وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر فيها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهى الليلة العاشرة من ذى الحجة فقد أدرك الحج ، وأن أيام منى ثلاثة ، وهى التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم ، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له ، ومن تأخر إلى الثالث جاز له ، بل هو الأفضل لأنه الأصل.

وبينت السنة أن ذكر الله في هذه الأيام هو التكبير في إدبار الصلوات ، وعند ذبح القرابين ، وعند رمى الجمار ، روى عن الفضل بن العباس قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع (مزدلفة) إلى منى ، فلم يزل يلبّى حتى رمى جمرة العقبة ، وروى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر بمنى تلك الأيام ، وعلى فراشه ، وفي فسطاطه ، وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا.

والذكر في يوم عرفة ويوم النحر لغير الحاج التكبير ، وللحاج هذا وغيره ، والمأثور من التكبير ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر كبيرا ، ومن التلبية ، لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك ، والملك لك ، لا شريك لك.

(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) أي من

١٠٧

تعجل وطلب الخروج من منى في تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمى الجمار فيهما ولم يمكث حتى يرمى الجمار في اليوم الثالث ، فلا إثم عليه بهذا التعجيل ، إذ المطلوب أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق ، ويرمى كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة ، عند كل جمرة سبع حصيات (والجمرة جمعها جمار وجمرات وهى مجتمع الحصى) ورميها من ذكريات المناسك المأثورة عن إبراهيم عليه السلام كذبح القرابين وعامة أعمال الحج.

ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني فعليه أن يبيت حتى يرمى اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده ، ثم ينفر ولا إثم عليه بترك الترخيص.

وهذا التخيير ونفى الإثم عن المستعجل والمتأخر ، إنما هو لمن اتقى الله وترك ما نهى عنه ، لأنه هو الحاج على الحقيقة ، فما الغرض من كل عبادة إلا التقوى كما قال : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

والوسيلة إلى ذلك ذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال حتى يكون عبدا له لا لأهوائه وشهواته.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واتقوا الله حين أدائكم مناسك الحج وفي جميع شئونكم واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة ، والعاقبة حينئذ لمن اتقى كما قال تعالى : «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا».

ومن علم بأنه محاسب على أعماله مجازى عليها. كان ذلك باعثا له على العمل ، وداعيا له إلى ملازمة التقوى ، أما من كان على شك أو ظن فإنه يعمل تارة ويترك أخرى.

وقد كرر الأمر بالذكر وبين منزلة التقوى ليشعرنا بأن المهم في العبادة هو ذكر الله الذي يصلح النفس ويوجه القلب إلى عمل الخير ، ويبعدها عن الشرور والمعاصي ، فيكون فاعلها من المتقين.

١٠٨

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

تفسير المفردات

يقال أعجبه الشيء أي راقه واستحسنه ورآه عجبا أي طريفا جديدا غير مبتذل ، وتقول العرب : الله يشهد أو الله يعلم أنى أريد كذا ، تقصد بذلك الحلف واليمين كما قال تعالى حكاية عن رسل عيسى : «قالوا ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون» واللدد شدة الخصومة ، والخصام الجدال ، وتولى أي أدبر وانصرف عن مجلسك ، والسعي السير السريع بالأقدام والمراد به هنا الجد في العمل والكسب ، ويهلك أي يضيع ، والحرث الزرع ، والنسل ما تناسل من الحيوان ، والمراد من إهلاكهما الإيذاء الشديد ، أخذته أي لزمته ، والعزة في الأصل خلاف الذل والمراد بها هنا الأنفة والحميّة ، بالإثم أي على الذنب الذي نهى عنه واسترسل في فعله ، حسبه أي كافيه ، والمهاد الفراش يأوى إليه المرء للراحة ، ويشرى أي يبيع ويبذل ابتغاء أي طلبا.

المعنى الجملي

دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى ، لاستشعارها عظمته وفضله ، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافى التقوى بل يعين عليها ، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة

١٠٩

من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أسّ الدين وأصله ، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.

ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة ، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال ، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان :

منافقون يظهرون غير ما يبطنون ، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله ، ولا يريدون إلا وجهه.

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ومن الناس فريق يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة الدنيا ، لأنك تأخذ بالظواهر ، وهو منافق يظهر غير ما يضمر ويقول ما لا يفعل ، فهو يعتمد على خلابة اللسان ، فى غش المعاشرين والأقران ، ويوهم أنه صادق الإيمان ، نصير للحق خاذل للباطل ، متّق لله في السر والعلن ، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن.

(وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي ويحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي.

(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي وهو قوى في الجدل لا يعجزه أن يغشّ الناس بما يظهر من الميل إليهم والسعى في إصلاح شئونهم.

والخلاصة ـ إن هذا الفريق يركن في خداعه للناس إلى أمور ثلاثة :

(١) حسن القول بحيث يعجب السامع ويملك لبه ، بحيث لا يتهمه في صدقه.

(٢) إشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده.

(٣) قوة العارضة في الجدل عند محاجة المنكر أو المعارض.

ومثل هذا الفريق يوجد في كل أمة وكل عصر وإن اختلفت حاله باختلاف العصور ، فحينا ترى الواحد لا يغشّ بزخرف قوله إلا فردا أو أفرادا معدودين وحينا يتسنى له أن يخدع أمة وينكل بها تنكيلا ، فترى الجرائد في عصرنا قد تكون سبيلا للغش ، كما تكون أحيانا طريقا للنصح وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها وفلاحها

١١٠

ولا سيما إذا كان الكاتبون فيها ممن تثق بهم الدهماء ، ويتقبل الجمهور آراءهم بالتسليم والاطمئنان.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) أي إن مثل هؤلاء إذا أعرضوا عن مخاطبيهم وذهبوا لشأنهم ، فإن سعيهم يكون على ضد ما قالوا ، فهم يدّعون الصلاح والإصلاح ثم يسعون في الأرض بالفساد ، إذ لا همّ لهم إلا اللذات والحظوظ الدنيئة التي لأجلها يعادون أرباب الفضيلة ، ويكونون من ذوى اللدد والخصومة لهم ، لما بينهم من التناقض في السجايا والغرائز ، بل يعادون أمثالهم من المفسدين ، إذ من دأبهم الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم.

وقوله في الأرض يفيد العموم أي إنهم في أي مكان يحلون فيه يفسدون.

(وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) أي إنه دائب على إفساده مسترسل فيه ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل ، وهكذا شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خربت الدنيا بأسرها.

وفي ذلك عبرة للذين يقتلعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره ، انتقاما ممن يكرهونهم ، فأين منهم هدى الإسلام وهدى القرآن.

ويرى بعضهم أن المراد بالحرث النساء كما في قوله : «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» وبالنسل الأولاد ، فيكون المراد ـ إن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقونه من الفتن ويدأبون عليه من التفريق ـ لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب ، فهم يؤذون أنفسهم وأهليهم بضروب من الإيذاء قد يعميهم الغرور عنها ، أو عن كونها من سعيهم.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي والله لا يرضى الفساد ولا يحبه ، فلا يحب المفسدين ، وفي الآية إيماء إلى أن تلك الصفات المحمودة في الظاهر لا تكون مرضية عند الله إلا إذا أصلح صاحبها عمله ، لأن الله لا ينظر إلى الصور والأقوال ، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

١١١

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي إن ذلك المفسد إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر أسرع إليه الغضب ، وعظم عليه الأمر وأخذته الأنفة وطيش السفه ، إذ يخيل إليه أن النصح والإرشاد ذلة تنافى العزة التي تليق بأمثاله.

وفي طبع المفسدين النفور ممن يأمرهم بالصلاح ، إذ يرون في ذلك تشهيرا بهم وإعلانا لمفاسدهم التي يسترونها بزخرف القول وخلابته ، وإن استطاعوا الحبس حبسوا أو ضربوا أو قتلوا.

(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي إن النار مصيره ويكفيه عذابها جزاء له على كبريائه وحميته حمية الجاهلية ، وستكون مهاده ومأواه ، وهى بئس المهاد وشره ، فلا راحة فيها ، ولا اطمئنان لأهلها.

قيل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه : اتق الله ، فوضع خده على الأرض ، وقال ابن مسعود : من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد اتق الله ، فيقول : عليك نفسك أي أصلح نفسك ولا تصلح غيرك.

ثم ذكر الفريق الآخر فقال :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي ومن الناس فريق يبيع نفسه لله لا يبغى ثمنا لها غير مرضاته ، ولا يتحرى إلا صالح العمل وقول الحق مع الإخلاص فيهما ، فلا يتكلم بلسانين ، ولا يقابل الناس بوجهين ، ولا يؤثر عرض الدنيا وزخرفها على ما عند ربه.

وهذا البيع لا يتحقق إلا إذا جاد المؤمن بنفسه وما له في سبيل الله إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، كجهاد أعداء الأمة عند الاعتداء عليها ، أو الاستيلاء على شيء من أرضها ، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ذلك ، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ذلك ، وإن قدر عليهما معا وجب عليه ، فإن قصر في شىء من ذلك فقد آثر نفسه على مرضاة الله وخرج من زمرة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله.

(وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فيجازيهم على العمل القليل نعيما دائما ، ولا يكلفهم

١١٢

إلا ما في وسعهم عمله ، ويشترى منهم أموالهم لأنفسهم وهى ملكه تعالى بما لا يعدّ ولا يحصى من رحمته وإحسانه وكرمه ، ويرفع هممهم ليبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده ، وتقرير الحق والعدل فيهم ، ولو لا ذلك لغلب شرّ المفسدين في الأرض ، فلا يبقى فيها صلاح كما قال تعالى : «وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

تفسير المفردات

أصل السلم : التسليم والانقياد ، فيطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام ، والخطوات : واحدها خطوة (بالضم) ما بين قدمى من يخطو ، والزلل في الأصل : عثرة القدم ، ثم استعمل في الانحراف عن الحقّ ، والبينات : الحجج والأدلة التي ترشد إلى أن ما دعيتم إليه هو الحق ، عقلية كانت أو نقلية ، والعزيز الغالب : الذي لا يعجزه الانتقام ، والحكيم : الذي يعاقب المسيء ويكافئ المحسن ، ينظرون : أي ينتظرون ، يأتيهم الله : أي يأتيهم عذابه ، والظلل : واحدها ظلة (بالضم) وهى ما أظلك ، والغمام : السحاب الأبيض الرقيق ، وقضى الأمر : أي أتمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه.

١١٣

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان : فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل ، وفريق يبغى بعمله رضوان الله وطاعته ـ أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد ، لا التفريق والانقسام.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) كافة : أي في أحكامه كلها التي أساسها الاستسلام والخضوع لله والإخلاص له ، ومن أصوله الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب بين المهتدين بهديه ، والأمر بالدخول فيه أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ».

المعنى ـ يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب ، دوموا على الإسلام فيما تستأنفون من أيامكم ، ولا تخرجوا عن شىء من شرائعه ، بل خذوا الإسلام بجملته وتفهموا المراد منه ، بأن تنظروا في كل مسألة إلى النصوص القولية والسنة المتبعة فيها وتعملوا بذلك ، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر ، وإن أدى إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن ، وبهذا يرتفع الشقاق والتنازع ويعتصم المسلمون بحبل الوحدة الإسلامية التي أمرنا الله باتباعها في قوله : «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» ونهانا عن ضدها في قوله : «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا» وقوله صلى الله عليه وسلم «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض».

ولكنّ المسلمين قد خالفوا هذا فتفرّقوا وتنازعوا وشاقّ بعضهم بعضا ، واتخذوا مذاهب متفرّقة ، كل فريق يتعصب لمذهب ويعادى سائر إخوانه المسلمين زعما منه أنه ينصر الدين وهو يخذله بتفريق كلمة المسلمين ، فهذا سنّى يقاتل شيعيا ، وهذا شافعى يغرى التتار بالحنفية ، وهؤلاء مقلّدة الخلف يحادّون من اتبع طريق السلف.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي ولا تتبعوا سبله في التفرق في الدين أو في الخلاف

١١٤

والتنازع ، إذ هى سبله التي يزينها للناس ، ويسوّل لهم فيها المنافع والمصالح ، فقد كانت اليهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد ، فوسوس لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وشيعا ، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا ، وحرّفوا من حكمه ما حرّفوا ، فسلّط الله عليهم أعداءهم فمزقوهم كل ممزّق ، وهكذا فعل غيرهم من أهل الأديان ، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه ، وقليلا فكثّروه فثقل عليهم بذلك فوضعوه ، فذهب الله بوحدتهم ولم تغن عنهم كثرتهم ، إذ سلّط عليهم الأعداء وأنزل بهم البلاء.

ثم ذكر السبب في النهى عن اتباع خطوات الشيطان فقال :

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم ، فإن جميع ما يدعو إليه ظاهر البطلان ، بيّن الضرر لمن تأمل فيه وتفكر ، ومن لم يدرك ذلك في مبدأ الخطوات أدركه فى الغايات ، حين يذوق مرارة العاقبة ، فلا عذر لمن بقي على ضلالته بعد تذكير الله وهداية عباده إلى سبل الخير ، وتحذيره إياهم من سلوك طرق الشر.

ثم توعدهم إذا هم حادوا عن الهج السويّ والطريق المستقيم فقال :

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي فإن حدتم عن صراط الله وهو السلم ، وسرتم في طريق الشيطان وهى طريق الخلاف والافتراق ، بعد أن بيّن لكم عداوته ، ونهاكم عن اتباع طرقه وخطواته ، فاعلموا أن الله يأخذكم أخذ عزيز مقتدر ، فهو عزيز لا يغلب على أمره ، حكيم لا يهمل شأن خلقه ، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة ، فجعل لكل ذنب عقوبة ، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم ضربة لازب في الدنيا ، ولم يؤخرها حتى تحلّ بها في الحياة الأخرى.

ولا تقوم للأمم قائمة إلا إذا أقامت العدل بين أفرادها ، وكانت صالحة لعمارة الأرض كما قال تعالى : «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» وهكذا الأفراد إذا لم ينهجوا النهج السوىّ ويتحلّوا بفاضل الأخلاق ، فلن يوفّقوا في دنياهم ولا في أخراهم.

ثم زاد في التهديد والوعيد فقال :

١١٥

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) أي هاهى ذى قد قامت الحجج ودلت البراهين على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، فهل ينتظر المكذبون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب في ظلل من الغمام عند خراب العالم وقيام الساعة ، وتأتي الملائكة وتنفّذ ما قضاه الله يومئذ؟.

والحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به ، ولا توطئة توطّن النفوس على احتماله ، إلى أن الغمام مظنة الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان أفظع وأشدّ هولا ، والخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم ونحو الآية قوله : «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً».

وفي الآية عبرة للمؤمن ترغّبه في المبادرة إلى التوبة لئلا يفاجئه وعد الله وهو غافل ، فإذا لم يفاجئه قيام الساعة العامة وهلاك هذا العالم كله ، فاجأه قيام قيامته بموته بغتة ، فإن لم يمت بغتة جاءه المرض بغتة ، فلا يقدر على العمل وتدارك الزلل.

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي كيف ينتظرون غير ذلك ، وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفرّ منه ، وحينئذ يثاب الطائع ويعاقب العاصي.

ثم بالغ في التهديد والزجر قال :

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيضع كل شىء في موضعه الذي قضاه ، فهو الأول ، ومنه بدأت الخلائق ، وهو الآخر وإليه ترجع الأمور وتصير ، فعلى من زلّ عن الصراط السويّ ، واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة ويرجع إلى الحق قبل أن يحيق به زلله ، ويجازى على عمله «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ».

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

١١٦

تفسير المفردات

الآية : المعجزة الظاهرة التي لا يخفى أنها من عند الله كالعصا واليد البيضاء ، والتبديل : تغيير الشيء من حال إلى حال ، ونعمة الله : هى آياته الباهرة التي آتاها أنبياءه وجعلها مصدر الهدى والنجاة ، والعقاب : عذاب يعقب الذنب ، وزيّن له الشيء : حسّن له ، وسخر منه : استهزأ به ، والحساب : التقدير.

المعنى الجملي

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي سل أيها الرسول الكريم هؤلاء الحاضرين من بنى إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتيناها أسلافهم فأنكروها ، فأخذناهم بذنوبهم ، وحلّ بهم ما كانوا أهلا له من العقاب ، فهل لهم أن يتدبروا عاقبة أمرهم ويعتبروا بتلك العظات البالغة ، ويقلعوا عما هم عليه من الجحود والطغيان؟ خوفا من أن يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك من النكال والوبال وسوء المآل.

وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ لهم على طغيانهم وجحودهم بالحق بعد وضوح الآيات ، كما يقول أحدنا توبيخا لآخر أمام جمع من الناس : سلوه كم أنعمت عليه؟ وكم أنقذته من ورطة كادت تودى به؟.

ثم هدّد وتوعد من يغير سنن الله قال :

(وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يغير نعمة الله وهى باهر آياته فيجعلها من أسباب ضلاله بدلا من أن تكون من أسباب سعادته ، وتزيده رجسا إلى رجسه ، عاقبه الله أشدّ العقاب. وذلك جزاء كل من حاد عن سنته ، وبدّل شريعته. وهؤلاء المبدلون منهم ، فالعقاب لا محالة نازل بهم ، إذ هو من سنن الله العامة فحذار أن تكونوا من المخالفين المبدلين.

ومعنى قوله (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أنها وصلت إليه وتمكن من معرفتها ، ووقف على تفاصيلها فهو بمعنى قوله : «يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

١١٧

والآية عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين ، فإن ملكهم الذي يتقلص ظله وعزّهم الذي تتخطّفه منهم الأيدى ـ ما حدث له ما حدث إلا بعد أن بدلوا نعمة الله التي أشار إليها بقوله : «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً».

ثم ذكر طبيعة الكافرين الجاحدين قال :

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي حسنت الحياة الدنيا للكافرين وأشربت محبتها في قلوبهم فتهالكوا عليها ، وتهافتوا فيها ، وأعرضوا عن الدين حين ظنوا أن منافعها قد تفوتهم.

والمراد بهم من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس ، إيمان إذعان وانقياد ، بل يؤثرون الدنيا على ما عند الله من النعيم المقيم ، وأخصّ صفاتهم أن تكون زينة الدنيا أكبر همهم ، فهم يؤثرونها على كل شىء ، حتى إن أمر الدين لا يزحزحهم عن شىء يقدرون عليه من هذه الزينة ، لأنهم لا يقين لهم في الآخرة ، فدينهم تقاليد وخواطر تتنازعها الشبهات ، والشكوك والتأويلات فأهل الكتاب ـ ولهم شريعة إلهية ـ تفرّقوا واختلفوا في التأويل وارتكبوا التحريف ، وكل فريق منهم يعتذر عن ترك العمل بالتوراة بأنه متبع لبعض الأحبار الذين هم أعلم منه بها.

وليس لذلك من سبب إلا الافتتان بزينة الحياة الدنيا الزائلة ، وإيثارها على حياة الآخرة الباقية ، فقد انصرفت نفوسهم عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيّناته ، فرؤساؤهم جعلوا همهم الشهرة والاستعلاء على الأقران ، وانتصر كل فريق لمذهب يدافع عنه بالجدل والتأويل ، والمرءوسون ينتمى كل فريق إلى رئيس يعتزّ به ويقلده ، ولا يستمع قولا لمخالفه ، وحب الدنيا هو رأس كل خطيئة ، وسبب كل بلية في الدنيا والآخرة.

فليحذر المسلمون أن يحذوا حذوهم ويسيروا سيرتهم ولا يتبعوا خطوات الشيطان فيتفرّقوا كما تفرّق اليهود والنصارى حتى لا يحيق بهم ما حق بالذين من قبلهم.

١١٨

ولكن الله قد قضى ولا راد لقضائه أن يحتذوا حذوهم ، ويتبعوا نهجهم ، ويختلفوا كما اختلف الذين من قبلهم ، فحاق بهم مثل ما حاق بأولئك ، وتلك سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

والخلاصة ـ إن الله قد أوعد المسلمين على التفرّق والاختلاف ، وذكّرهم بحال من سبقهم من أهل الكتاب الذين حلّ بهم عقابه في الدنيا جزاء أعمالهم من حبهم للدنيا وزينتها ، وتركهم حقوقه وحقوق الناس واختلافهم في دينهم لأجلها.

(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ويسخرون من فقراء المؤمنين كعبد الله ابن مسعود وعمّار وصهيب ، ويقولون : تركوا لذات الدنيا وعذّبوا أنفسهم بالعبادات.

كما يسخرون من أغنيائهم لأنهم لا يتنوّقون في النعيم ، بل يستعدون لما بعد الموت بترقية نفوسهم بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبينات والتحلي بفاضل الأخلاق ، وإعطاء فضل ما لهم للعاجزين والبائسين.

ثم ردّ على أولئك الساخرين الذين يرون أنهم في لذاتهم خير من أهل اليقين فى تقاهم فقال :

(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي إنه إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين برهة من الدهر في هذه الحياة القصيرة بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والخدم والأعوان ، فإن المؤمنين المتقين سيكونون أعلى منهم في تلك الحياة الأبدية مقاما وأرفع منهم منزلة.

وآثر التعبير بالذين اتقوا عن الذين آمنوا ، إيماء إلى أن المفتونين بزخرف الدنيا يدّعون الإيمان لأنهم نشئوا بين قوم يدعون أهل الكتاب ، ومع هذا لم يعتد بإيمانهم فى الآخرة ، إذ لم تصحبه التقوى ، ولم يكن له أثر في النفس يولّد العمل الصالح كما قال : «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا».

(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنه يعطى كثيرا بلا تضييق ولا تقتير

١١٩

كما يقال هو ينفق بغير حساب ، على معنى أنه ينفق كثيرا ، وقد جاء هذا المعنى في قوله : «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً».

والرزق بلا حساب ولا سعى في الدنيا يكون بالنسبة إلى الافراد ، فإنا نرى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء متمتعين بسعة الرزق ، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين ، لكن المتقى يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا ، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر ، إذ هو بالتقوى يجد المخلص من كل ضيق ، ومن عناية الله به رزقا غير محتسب.

أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك ، فالأمم الذليلة المهينة لا تكون متقية لأسباب نقمة الله وسخطه بالجري على سننه ، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزّة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر ولا تعمل ولا تتدبر ، بل هو يعطيها بعملها ويسلبها بزللها كما قال : «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ».

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))

١٢٠