تفسير المراغي - ج ٢

أحمد مصطفى المراغي

تفسير المفردات

جاء لفظ الأمة في كتاب الله لعدة معان : (١) الملة : أي العقائد وأصول الشرائع كما في قوله : «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» ، (٢) الجماعة الذين تربطهم رابطة يعتبرون بها وحدة تسوغ أن يطلق عليها اسم الأمة كما في قوله :

«وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» ، (٣) الزمن كما في قوله : «وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ» وقوله : «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» ، (٤) الإمام الذي يقتدي به كما في قوله : «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ» ، (٥) إحدى الأمم المعروفة كما في قوله : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ».

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه الذين آمنوا بنبيه أن يدخلوا في السلم كافة ، وأن يكونوا في وفاق لا نزاع معه ، إذ ينبغى لمن جاءته الهداية من ربه ألا ينحو في عمله إلى ما يدعو إلى خلاف أو يثير نزاعا ، بل الواجب عليه أن يقف عند ما حدده الكتاب الإلهى والهدى السماوىّ ، ثم ذكر أن جاحد الحق إنما ينظر في عمله إلى ما يوفّر عليه لذته فى هذه الحياة الدنيا ، فهو لا يسعى إلا إلى لذة عاجلة ، ومن كانت هذه حاله كان فى خلاف وشقاق.

ذكر هنا أن الاهتداء بهدى الأنبياء ضرورى للبشر ، إذ أن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض ، ولا سبيل لعقولهم وحدها أن تصل إلى ما يلزمهم في توفير مصالحهم ، ودفع المضار عنهم ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم ، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله القادر على إثابتهم وعقوبتهم ، العالم بما في ضمائرهم ، الذي لا تخفى عليه خافية من أسرارهم.

١٢١

الإيضاح

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي خلق الله الناس أمة واحدة مرتبطا بعضها ببعض في المعاش ، لا تعيش إلا مجتمعة يعاون بعضها بعضا ، وكل واحد منهم يعيش بعمله ، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن الوفاء بجميع ما يحتاج إليه ، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته ، وهذا ما يعبر عنه بقولهم «الإنسان مدنىّ بالطبع».

ولما كانوا كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف ، إذ لا يمكنهم في هذه الوحدة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام ، مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول ، وحرمانهم من الإلهام الذي يهدى كلا منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه ، فكان من لطف الله ورحمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة ، ومنذرين بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الله إذا اتبعوا شهواتهم ، ولم ينظروا في العاقبة.

وقال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني : إن المعنى : إن الناس كانوا أمة واحدة على سنة الفطرة ، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل ، وتمييز الحسن من القبيح ، والباطل من الصحيح بالنظر في المنافع والمضار ، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدى إلهى مما يدعو إلى الاختلاف ، فكثيرا ما حالت الأوهام بين الناس وبين الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام.

فالعقل شاهد بأن العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده ، فكما نشأ الفرد قاصرا في جميع قواه ، نشأت الجماعة البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشئون الرفيعة العالية ، والمعاني السامية ، وما زال هذا شأنه تربيه حوادث الكون ، وتهذبه تجارب السنين والأيام ، فاستعمل النحاس بعد الحجارة فى معايشه ، وانتقل من بعد ذلك إلى الحديد ، ثم ارتقى إلى استعمال البخار فالكهرباء.

١٢٢

وقد كان في طور قصوره لا يدرك إلا ما يصل إليه بالحس ، ولا يعلم إلا المحسوس ، ولم يزل كذلك حتى كشفت له تجارب السنين والأيام خطأه فيما يتوّهم ، وعلّمته الحوادث ما لم يكن يعلم ، فاستعدّ لفهم باطن ما عقل ، وسرّ ما عرف ، فجاءته الأنبياء تهديه لصلته بربه ، وصلته ببني الإنسان ، وكانوا له بمنزلة الرأس من البدن يبينون له الخير ، ويبشرون كاسبه بأحسن الجزاء ، وينذرون فاعل الشرّ بسوء المصير ، بنار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي إن الله يبعث الأنبياء لينبهوا أقوامهم إلى ما غفلوا عنه ، ويحذروهم عاقبة ما هم فيه من سيىء العادات ، وقبيح الأخلاق ، وشرّ الأعمال ، حتى إذا تهيأت نفوسهم لقبول تشريع الأحكام أنزل الله الكتب لبيان تلك الأحكام بحسب استعداد تلك الأمم.

وفي الآية إيماء إلى أن الكتاب هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فيجب على الحاكمين أن يلزموا حكمه ، ولا يعدلوا عنه إلى ما تسوّله لهم نفوسهم وتزينه أهواؤهم من ضروب التأويل ، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر في ضروب التأويل فتصبح المصلحة مفسدة.

وكما أضاف الحكم إلى الكتاب هنا ، أضاف إليه النطق في قوله. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» والهدى والتبشير في قوله : «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ».

وفي الآية إيماء إلى أن الله أنزل مع كل نبىّ كتابا سواء كان طويلا أو قصيرا دوّن وحفظ ، أو لم يدوّن ولم يحفظ ليبلغه للناس ، فيبلّغ السلف الخلف ، والسابق اللاحق.

ثم ذكر أن ممن أوتوا الكتاب من جعلوه مصدر الاختلاف بغيا وجورا قال :

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي إن الاختلاف الذي وقع من الرؤساء والأحبار ، والعلماء وأهل النظر القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل ، وهم الذين أوتوه ، وأعطاهم الله الكتاب ليقرّروا ما فيه ،

١٢٣

ويراقبوا سير العامة عليه ، بعد أن قامت الأدلة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف ، وأنه ما جاء إلا لإسعاد الناس والتوفيق بينهم ، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم ـ لم يكن مصدره إلا البغي بينهم ، وتعدى الحدود التي أقامها الدين حواجز بين الناس.

فقد يشوب طلب الحق شىء من الرغبة في عزة الرياسة ، أو ميل مع أربابها ، أو شهوة خفية في منفعة أخرى ، وهذا من البغي على حق الله في عباده ، أو من التعصب للرأى وتأييد المذهب بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان ، وربما كان هذا مع حسن النية ، فيكون هذا مصدر شقاق وخلاف ، وقد كان الواجب تمحيص الآراء ليحصل الوفاق ، لكن هذه الجناية التي جناها الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس بسبب بغيهم لا تقدح في هداية الكتاب إلى ما يتفق عليه الناس من الحق ، فبغى علماء الدين فى التأويل ، وكثرة القيل والقال ليس بعيب في الكتاب ، فالذى يؤتي العقل ثمّ لا يهتدى بهديه ، هل يعد ذلك منقصة له ، تدل على أنه ليس بنعمة من عند الله؟ والذين لهم أبصار ولا يستعملونها في معرفة الطريق التي يسيرون فيها ، ولا في وقاية أرجلهم من الأشواك التي تصادفهم في تلك الطريق ، ولا يتباعدون من حفرة يتردّون فيها ، وربما كانت نظرة واحدة تقيهم من التهلكة لو وجهوا أنظارهم نحوها. وكذلك لا يأخذون حذرهم إذا هم سمعوا الأصوات التي تنذر بالخطر العاجل ـ فهل حال مثل هؤلاء يحطّ من قيمة السمع والبصر؟ كذلك حال رجال الدين لا تقدح في إرشاد الدين ، وقيمة هديه للناس.

وقد رأينا الأديان في بدء نشأتها تلمّ الشمل وتمحق أسباب الخلاف من النفوس ، وتوجد بين معتنقيها أخوّة لا تدانيها أخوة النسب ، فكان الواحد من الصحابة يؤثر أخاه في الدين بماله على نفسه ، ويبذل روحه فداء له ، والأخ من النسب لا يفعل شيئا من ذلك.

١٢٤

كان هذا أيام أن كان الدين غضّا طريّا معروفا بحقيقته لأهله ، تبينه للناس رؤساؤه ، ويمشى بنوره فيهم علماؤه ، لا خلاف ولا اعتساف ، ولكن خلف من بعدهم خلف اعتسفوا في التأويل ، وما همهم من ذلك إلا سدّ مطامعهم ، وتأييد سطوتهم ، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت ، واعوجّت السبل أم استقامت ، ثم يأتى ضال آخر فيحرّف ويؤوّل ، ويريد أن ينال من الأول ما نال هذا من غيره ، فيقع الخلاف والشقاق باسم الدين ولحماية الدين ، وكم حروب وقعت بين المسلمين حتى قصمت ظهورهم ، وأوهنت عزائمهم ، وما كان دعواهم في كل ما حدث إلا حفظ الدين ، وحمل الناس على الحق المبين ، وقد سبقهم إلى مثل هذا اليهود والنصارى ولا يزال أمرهم كذلك إلى اليوم ، فكأنهم احتذوا حذوهم ، وجعلوهم رائدهم مع ما في كتابهم من النعي عليهم وتقريعهم على سوء صنيعهم ، وكتابهم ملىء بهذا ، وسنة نبيهم تحذرهم كل التحذير من سلوك هذا الطريق المعوّج الذي جرى عليه سابقوهم ، وكان وبالا ونكالا عليهم.

ثم أرشد إلى أن الإيمان الصحيح يهدى الناس إلى الحق ويمنع الاختلاف قال :

(فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحقّ ويصلون إلى ما يرضى ربهم بتوفيقه وإنعامه ، فالإيمان الصحيح له نور يسطع في العقول فيهديها في ظلمات الشبه ، ويضىء لها السبيل إلى الحق لا يخالطه باطل ، فيسهل عليها أن تميط كل أذى يتعثر يه السالك ، كما لا يسمح لصاحبه أن يأخذ بأمر قبل أن يتبصر فيه ، ويعرف أنه نافع له في دينه ودنياه ، ويجعل لنفسه رقيبا عليها في كل خطرة تمرّ بباله ، وكل نظرة تقع على ما بين يديه من آيات الله ، فإذا اعتقد فهو يعتقد ما يطابق الواقع ، وإذا تخيل فإنما يتخيل صورا تجلّى الواقع في أقوى مظاهره ، فهو ساكن القلب ، مطمئن النفس ، والناس في اضطراب وحرب ، كفروا بأنعم الله فعوقبوا عليها بفشوّ الشرّ ، وفساد الأمر كما قال تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا

١٢٥

دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ».

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

تفسير المفردات

المثل : الوصف العظيم والحال التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل ، والبأساء : الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه ، كأخذ المال ، والإخراج من الديار ، وتهديد الأمن ، ومقاومة الدعوة ، والضرّاء ما يصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض ، والزلزال : الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب : «وزلزلوا زلزالا شديدا».

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله تعالى بالوفاق والسلام ، وأرشد إلى حاجة البشر إلى معونة بعضهم بعضا لكثرة المطالب وتعدد الرغبات ، وذلك مما يدعو إلى التنازع والتعادي ، فدعا ذلك إلى وضع نظام جامع وشرع يحدّد الحقوق ويهدى العقول إلى ما لا مجال للنزاع فيه ، لما فيه من البينات الدالة على أنه من عند الله ، ثم ذكر إحسان الله إلى عباده ، إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم فيما اختلفوا فيه ، ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في كتابهم ، واتخاذهم آلة الوفاق طريقا للخلاف ، وبعدئذ بيّن أن الله هدى أهل الإيمان الصحيح لما وقع فيه الاختلاف من الحق بالرجوع إلى الكتاب وتحكيمه في كل خلاف ، ثم أشار إلى أن الذين يحاولون الخروج من الخلاف يكونون

١٢٦

عرضة لبغى المختلفين وإيذائهم ، وإن كانوا يريدون الخير لهم ، حثّ المؤمنين هنا على الثبات والمصابرة في تحمل المشاقّ التي تصيبهم من الكفار ، كما لقى الأنبياء ومن معهم من أمثالهم من الشدائد ومقاساة الهموم ، وكان عاقبة أمرهم الفلج والنصر عليهم.

روى أن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين ، وشجوا رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسروا رباعيته، وقيل نزلت في غزوة الأحزاب حين اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين ، وأصاب المؤمنين يومئذ جهد وشدة وجوع وضروب من الأذى ، وأبدى المنافقون صفحة العداوة والبغضاء للمؤمنين الصادقين وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض «ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» وقال صادقو الإيمان على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم : «هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً».

الإيضاح

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) هذا خطاب للذين هداهم الله إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الوفاق باتباعهم هدى الكتاب زمن التنزيل ، وهم أهل الصدر الأول من المسلمين ، وفيه العبرة لمن يأتي بعدهم ويظنون أن في انتسابهم إلى الإسلام الكفاية في دخول الجنة ، جهلا منهم بسنة الله في أهل الهدى منذ أن خلقهم أن يتحملوا الشدائد والإيذاء في طريق الحقّ وهداية الخلق.

والخلاصة ـ إنه قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا ، أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون على الشدائد كما ثبتوا ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله من غير أن تفتنوا في سبيل الحق ، فتصبروا على ألم الفتنة ، وتؤذوا في الله ، فتصبروا على الإيذاء كما هى سنة الله في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟

١٢٧

ثم بين ما أصاب الأمم قبلهم من الشدائد فقال :

(مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ؟) أي إن أولئك السابقين كانوا إذا أصابهم البؤس والضر ووقعوا في حال من الاضطراب والزلزلة من شدة الهول ، وقد أحاط بهم أعداء الحق من كل جانب اعتقدوا أن النصر الذي وعد الله به من ينصره قد أبطأ فاستعجلوه بقولهم : (مَتى نَصْرُ اللهِ؟).

فأجابهم الله بقوله :

(أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) فهو سينصركم على عدوكم ، ويكفيكم شرّ أهل البغي ويؤيد دعوتكم ، ويجعل كلمتكم العليا ، وكلمة الذين كفروا هى السفلى.

ونحو الآية قوله تعالى : «(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ، وقوله : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ».

والمسلمون لم يصلوا في الشدة إلى مثل الحال التي نال فيها أولئك الرسل ما نالوا ، فقد قتل بعض النبيين وأصابهم ضروب من الإيذاء حتى قيل إن منهم من نشر بالمنشار وهو حىّ ، وأحرق بعض بالنار كما فعل أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

فليتأمل المسلمون وليعتبروا بما خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم موضع التجلة والاحترام ، وكيف عوتبوا هذا العتاب الشديد على ظنهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضرّاء واحتمال الشدائد في سبيل نصرة الدين ، مثل ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان حتى استحقوا الجنة ، فكيف لا يعاتب المسلم نفسه (وهو يعلم

١٢٨

أنه دون الصحابة إيمانا ودعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيل الله) حين يؤثر ما عند الناس على ما عند الله ، ولا همّ له إلا زينة الدنيا والاستكثار من المال ولو من غير الطريق الحلال ، والاعتداء على الناس ، والبغي في الأرض.

وقصارى القول ـ إن للإيمان حقوقا وواجبات تؤدى إلى سعادة الدارين ، من أهملها سلب النعمة التي أنعم بها على السابقين ، فعلى المسلم أن يجعل همه تطبيق آي كتاب الله على أعماله ، وأن يعرض عن الاحتفال بعيوب الناس ، وأن يتعاون مع المؤمنين على البرّ والتقوى ، ويهجر من رغب عنها ، اكتفاء بزخرف الدنيا وزينتها.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

تفسير المفردات

الخير هنا : هو المال ، وسمى به لأن حقه أن ينفق في وجوهه ، والأقربون : هم الأولاد وأولادهم ثم الإخوة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف ، وأن أهل الحق هم الذين يتحملون البأساء والضرّاء في أموالهم وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله ، ناسب أن يذكر هنا ما يرغب الإنسان في الإنفاق في ذلك السبيل ، ومن المعلوم أن بذل المال كبذل النفس ، كلاهما من آيات الإيمان ، فالسامع لما تقدم تتوجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه ، ومن ثم جاء بعده السؤال مقرونا بالجواب :

١٢٩

روى في أسباب النزول عن ابن عباس ، أن ابن الجموح ـ وكان شيخا كبيرا وله مال عظيم ـ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فنزلت الآية.

وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تصدّقوا فقال رجل : عندى دينار ، قال : تصدّق به على نفسك ، قال : عندى دينار آخر ، قال : تصدق به على زوجتك ، قال : عندى دينار آخر ، قال : تصدق به على ولدك ، قال : عندى دينار آخر ، قال : تصدق به على خادمك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : أنت أبصر به.

الإيضاح

(يسئلونك ما ذا ينفقون) أي أىّ شىء يتصدقون به من أصناف أموالهم؟

(قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي قل لهم : على المنفق أن يقدم الوالدين لأنهما قد ربياه صغيرا وتعبا في تنشئته ، ثم الأولاد وأولادهم ، ثم الإخوة لأنهم أولى الناس بعطفه ورعايته ، ولأنه إذا تركهم يحتاجون إلى غيره كان في ذلك عار وشنار عليه ، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الكسب لصغر سنهم ، ثم المساكين وأبناء السبيل للتكافل العام بين المسلمين ، فهم أعضاء أسرة واحدة فيجب أن يتعاونوا في السرّاء والضرّاء.

وقد جاءت الآية في بيان نفقة التطوع لا في الزكاة المفروضة ، لأنها لم تعين مقدار المنفق ، والزكاة الشرعية معينة المقدار بالإجماع ، ولم يذكر سبحانه السائلين والرقاب لذكرهما في مواضع أخرى.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي وما تنفقوه في وجوه البرّ والطاعة في أي زمان وأىّ مكان على الأصناف المذكورة أو غيرها ، فالله عليم به لا يغيب عنه شىء ، فلا ينسى المثوبة والجزاء عليه ، بل يضاعف عليه الجزاء.

١٣٠

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

تفسير المفردات

كتب عليكم : أي فرض عليكم ، والصدّ المنع ، والفتنة : أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم ، يرتدد : أي يرجع ، وحبط العمل : بطل وفسد ، وآمنوا : أي ثبتوا على إيمانهم ، وهاجروا : أي فارقوا الأهل والوطن ، وجاهدوا من الجهد وهو المشقة ، ويرجون : أي يتوقعون المنفعة بعمل الأسباب التي سنها الله ، ورحمة الله : أي ثوابه.

المعنى الجملي

كان الكلام فيما مضى في الإنفاق وبذل المال في سبيل الله على أصناف من المؤمنين فى احتياج إلى مدّ يد المعونة والمساعدة لهم إيجادا لروح التعاون بين الإخوة في الإيمان ،

١٣١

وبثا لمبدأ التكافل العام في الأسرة الإسلامية ، لتصلح جميع أعضائها وتكون كالبدن السليم ، لا يشتكى منه عضو من الأعضاء ، فيؤدى كل عضو وظيفته في الحياة ، ويعمل العمل الذي هيئ له بمقتضى النظام العام.

قفى ذلك بذكر القتال وبذل النفس لإعلاء دين الله وجعل كلمته العليا وكلمة الكفر هى السفلى ونشر النور الإسلامى في أرجاء المعمورة لهدى الخلق ومعرفتهم للحق.

ومن البين أن المال أخو الروح ، فالصلة بينهما وثيقة ، فناسب ذكر آيات القتال بعد ذكر أحكام الصدقة على النحو الذي عرفت.

الإيضاح

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي فرض عليكم قتال الكفار فرض كفاية إذا قام به جماعة كفى ولم يلزم الباقين ، إلا إذا دخل العدوّ بلاد المسلمين فاتحا فيكون فرض عين.

وقوله : وهو كره لكم ؛ أي شاقّ عليكم تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس ، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافى الرضا بما يكلف به الإنسان كالمريض يشرب الدواء المرّ البشع الذي تعافه نفسه لما يرى فيه من منافع في العاقبة.

وهذه أول آية فرض فيها القتال ، وكان ذلك في السنة الثانية للهجرة ، وقد كان القتال محظورا على النبي صلى الله عليه وسلم مدة إقامته في مكة ، فلما هاجر إلى المدينة أذن له فى قتال من يقاتله من المشركين بقوله : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» ثم أذن له فى قتال المشركين عامة ، ثم فرض الجهاد.

(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) أي إن من الأشياء المكروهة طبعا ما يفعله الإنسان لما يرجو فيه من نفع وخير فيما بعد ، فقد يتحمل الإنسان أخطار الأسفار لتحصيل الربح في التجارة ، ويتحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة في الدنيا والعقبى.

١٣٢

كذلك من الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضرر والأذى في نفسه ، أو من جهة منازعة الناس له فيه ، وهكذا الحال في ترك الجهاد فإنه يصون النفس عن خطر القتل ويصون المال عن الإنفاق منه حالا ، لكن فيه مفاسد ومضار مآلا كتسليط الكفار على بلاد المسلمين وأموالهم واستباحة حريمهم ، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم ، وكفى بذلك خسرانا مبينا.

إلى أن في الجهاد الظفر بالغنائم ، والفرح بالاستيلاء على بلاد العدوّ ، وحفظ بيضة الإسلام ، وترغيب الناس في الدخول فيه ، وإعلاء كلمة الحق ، والثواب في الآخرة ، ومرضاة الله «وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ».

(وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إذا تصوّرتم قصور علمكم وكمال علم ربكم علمتم أنه تعالى لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم ، فعليكم أن تمتثلوا وإن كرهته نفوسكم ، فاشتغلوا بطاعة الله ، ولا تلتفتوا إلى مقتضى طباعكم وما تهواه قلوبكم.

وقال بعض المفسرين : المراد بذلك أن المسلمين رأوا أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به ، فخافوا أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه ، فأبان لهم سبحانه أن سنته قد جرت بأن ينصر الحقّ وحزبه على الباطل وأهله ما استمسكوا به ودعوا إليه ودافعوا عنه ، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغرى به أعداءه ، ويطمعهم بالتنكيل بحزبه والتألّب عليه للإيقاع به.

وقد سبق في علم الله أنه لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم ، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم كما قال : «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» وقد علم الله هذا فأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه ، وستجدون صدق هذا في امتثال أمره ، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه.

وبعد أن ذكر أن القتال كتب على هذه الأمة بين مسألة سألوا عنها ، وهى القتال فى الشهر الحرام فقال :

١٣٣

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، إذ اختلج في صدورهم أن الأمر به في غير الشهر الحرام والمسجد الحرام ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، أيحلّ لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أولا؟ ويؤيده ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمته في ثمانية من المهاجرين في جمادى الآخرة قبل وقعة بدر بشهرين ، ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو ابن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها تجارة من تجارة الطائف ، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : قد استحلّ محمد الشهر الحرام وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف ، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم.

ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : والله ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام ، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ منها شيئا ، ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، ندموا على ما فعلوا وظنوا أن قد هلكوا فنزلت الآية ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العير وعزل منها الخمس وقسم الباقي بين أصحاب السريّة وفدى الأسيرين.

(قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي إن أىّ قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر الوقوع لعظيم حرمته ، وأن ما فعله عبد الله بن جحش وما يفعله المسلمون فيما بعد من القتال فيه ، مبنىّ على قاعدة ارتكاب أخفّ الضررين إذا لم يكن من أحدهما بدّ ، فالقتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم ، ولكنه ارتكب لإزالة ما هو أعظم منه ، وذلك ما ذكره تعالى بقوله :

(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) أي إنّ منع المشركين للمؤمنين عن الطريق الذي يوصل إلى الله تعالى ، وهو الإسلام باضطهادهم للمسلمين ، وفتنتهم عن دينهم بقتلهم من يسلم تارة ، وإيذائه في نفسه وأهله وماله ومنعه من الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة أخرى ، ومنعهم المسلمين عن

١٣٤

المسجد الحرام في الحج والعمرة ، وإخراجهم أهله منه ، وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون ، وكفرهم بالله تعالى ـ كل جريمة من هذه الجرائم التي يرتكبها المشركون أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام ، فما بالك بها وقد اجتمعت معا.

ثم ذكر عزّ اسمه السبب الذي من أجله شرع القتال ، وهى فتنة المؤمنين عن دينهم فقال :

(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرتّ وغيرهم ، فقد عذبوا عمارا بالكيّ بالنار ليرجع عن دينه ، وعذّب أبوه وأخوه وأمه ، فمرّ بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : صبرا آل ياسر ، صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ، ومات ياسر في العذاب ، وطعنت أمه بحربة في موضع عفتها فماتت ، وكان أمية بن خلف يعذب بلالا بالجوع والعطش ليلة ويوما ، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمى بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى ، فيأبي ذلك وتهون عليه نفسه في سبيل الحفاظ على دينه.

وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه ، على أنه لم يسلم من أذاهم ذوو العصبيات فقد آدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعوا سلا الجزور (الكرش المملوء بالفرث) على ظهره وهو يصلى حتى نحّته عنه فاطمة رضى الله عنها ، وتعرّضوا له بضروب أخرى من الإيذاء وقاه الله شرّها كما قال تعالى : «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ».

ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وكثر عددهم صاروا يقاتلونهم في مهجرهم لفتنتهم فى الدين إن استطاعوا ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) أي إن هؤلاء لا همّ لهم إلا منع الإسلام عن الانتشار في الأرض ، لاستحكام عداوتهم وحرصهم على فتنتكم فانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة طمع في غير مطمع ، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة

١٣٥

عن الإسلام إذا كان وحده ، فكيف إذا اقترن به غيره من الآثام كالصدّ عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام ، والكفر بالله ، والاعتداء بالقتال.

وفي قوله إن استطاعوا استبعاد لاستطاعتهم ، وشك في حصولها ، وتنبيه إلى سخف عقولهم ، وكون فعلهم هذا عبثا لا يوصل إلى غرض ، لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة لا يرجع عنه إلى الكفر ، وهكذا حال الكافرين في كل عصر ومصر يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا.

ثم عاقبة من يتأثر بهذه الفتنة فيرتد عن دينه فقال :

(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر ، ويمت على هذه الحال ـ بطلت أعماله حتى كأنه لم يعمل صالحا قط ، لأن قلبه قد أظلم فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية ، ويخسر الدنيا والآخرة ، أما خسارة الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة ، إذ يقتل عند الظفر به ، ولا يستحق موالاة المسلمين ولا نصرتهم ، وتبين منه زوجته ، ويحرم الميراث ، وأما خسارة الآخرة فيكفى في بيانها قوله : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

والردة تارة تحصل بالقول كإنكار شىء مما علم من الدين قطعا ، وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم والاستهانة بالمصحف ونحو ذلك.

وظاهر الآية يدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر ، وبه أخذ الشافعي ، ورأى أبو حنيفة أن الردة تحبط العمل حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام تمسكا بعموم قوله تعالى : «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وقوله : «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ».

ولما ذكر حال المشركين وحكم المرتدين ، بين جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ)

١٣٦

أي إن المؤمنين الذين ثبتوا على إيمانهم والذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الدين وإعلاء كلمة الله ، والذين بذلوا جهدهم في مقاومة الكفار وتقوية المؤمنين ـ هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه ، وهم جديرون بأن يعطوا ذلك ، لأنهم استفرغوا ما في وسعهم ، وبذلوا غاية جهدهم ، ولم يدخروا وسيلة فيها مرضاة لربهم إلا فعلوها ، فحق لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة. وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فرارا بنفسه وقومه من أذى قريش وفتنتهم في دينهم ، بعد أن عاهده أهل المدينة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ، وتبعه المؤمنون فى هجرته ليعتزّ الإسلام بأهله ، ويقدروا على الدفاع عن أنفسهم إذا هم اجتمعوا ، واستمروا على ذلك حتى فتح مكة ، وخذل الله المشركين وجعل كلمتهم السفلى وكلمة الله هى العليا.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله واسع المغفرة للتائبين المستغفرين ، عظيم الرحمة بالمؤمنين ، يحقق لهم رجاءهم إن شاء ، بعميم فضله ، وعظيم طوله ، قال قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمة ، قد جعلهم الله أهل رجاء ، ومن رجا طلب ، ومن خاف هرب.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠))

١٣٧

تفسير المفردات

الخمر مأخوذة من خمر الشيء إذا ستره وغطاه ، سميت بها لأنها تستر العقل وتغطيه ، والميسر : القمار ، من اليسر وهو السهولة ، لأنه كسب بلا مشقة ولا كدّ ، والإثم الذنب ولا ذنب إلا فيما كان ضارا من قول أو فعل ، والضرر يكون في البدن والنفس والعقل والمال ، والعفو الفضل والزيادة على الحاجة ، والعنت : المشقة وما يصعب احتماله ، يقال عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر.

المعنى الجملي

روى أحمد عن أبي هريرة قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فنزلت الآية فقال الناس : ما حرّم علينا ، إنما قال : إثم كبير ، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين وأمّ الناس في المغرب فخلّط في قراءته ، فأنزل الله آية أغلظ منها «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» ثم نزلت آية أغلظ من ذلك «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» إلى قوله : «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» قالوا انتهينا ربّنا.

ومجموع الروايات يدل على أن النهى القطعىّ عنها كان بعد التمهيد لذلك وبعد النهى عن قرب الصلاة حال السكر ، وأوقات الصلاة متقاربة ، فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران ، وفي هذا من الحكمة في التدريج بالتكليف ما يجعل النفوس له أقبل ولاتّباعه أطوع.

قال القفّال : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب ـ أن الله تعالى علم

١٣٨

أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بها كثيرا ، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق.

الإيضاح

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي يسألونك عن حكم تناول الخمر ، إحلال هو أم حرام؟ ومثل هذا بيعها وشراؤها ونحو ذلك مما يدخل في التصرفات التي تخالف الشرع ـ وعن حكم استعمال الميسر وفعله.

وكلمة (الخمر) يراد بها عند الشافعي كل شراب مسكر ، ويراد بها عند أبي حنيفة ما اعتصر من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد.

حجة الأول (١) أن الصحابة وهم صميمو العرب فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر ، ولم يفرقوا بين ما كان من العنب وما كان من غيره.

(٢) وما رواه أبو داود والترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم : كل مسكر خمر.

(٣) وما رواه النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من العنب خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا ، وإن من البرّ خمرا ، وإن من الشعير خمرا.

(٤) وما أخرجه البخاري عن أنس قال : حرّمت الخمر حين حرمت ، وما يتخذ من خمر الأعناب إلا القليل ، وعامة خمرنا من البسر والتمر.

قال بعض العلماء : جرى ذكر هذه الأشياء لكونها معهودة في ذلك العصر ، فكل ما في معناها من ذرة أو عصارة شجر أو تفاح أو بصل أو نحو ذلك مما يستخرج منه الخمر الآن فحكمه حكم هذه الأصناف.

وكيفية الميسر عند العرب أنه كانت لهم عشرة قداح وتسمى الأزلام والأقلام أيضا (واحدها قدح وزلم وقلم ، وهى قطع من الخشب) وأسماؤها الفذّ والتّوأم والرقيب والحلس والمسبل والمعلّى والنّافس والمنيح والسّفيح والوغد ، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها إما عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرين

١٣٩

جزءا ، ولا شىء للثلاثة الأخيرة ، فكانوا يعطون للفدسهما ، وللتوءم سهمين ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة ، وهو أعلاها ، ومن ثم يضرب به المثل ، فيقال لذى الحظ الكبير من كل شىء (هو صاحب القدح المعلّى).

وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرّبابة وهى الخريطة توضع على يد عدل يجلجلها ويدخل يده ويخرج منها واحدا باسم رجل ثم واحدا باسم رجل آخر وهكذا ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجذور كله ـ وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها شيئا ، ويفتخرون بذلك ، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم (الوغد : اللئيم عديم المروءة).

واتفق العلماء على أن كل قمار حرام كالقمار على النّرد والشّطرنج وغيرهما ، إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد.

(قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي قل لهم : إن في تعاطى الخمر والميسر إثما لأن فيهما أضرارا كثيرة ، ومفاسد عظيمة.

أما الخمر فلها مضار في البدن والنفس والعقل والمال وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض ، فمن ذلك :

(١) مضارها الصحية ـ بإفساد المعدة وفقد شهوة الطعام وجحوظ العينين وعظم البطن وامتقاع اللون ، ومرض الكبد والكلى ، والسل الذي يفتك بالبلاد الأوربية فتكا ذريعا على عناية أهلها بالقوانين الصحية ، وقد استطار شره في مصر بعد انتشار المسكرات بها ، مع أن جوها لا يساعد على انتشاره ، وإسراع الهرم إلى السكير حتى قال بعض الأطباء الألمان : إن السكير ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين ، وقال آخر : إن المسكر يعطل وظائف الأعضاء أو يضعفها ، فهو يضعف حاسة الذوق ويحدث التهابات في الحلق وتقرّحات في الأمعاء وتمددا في الكبد ويولد

١٤٠