تفسير المراغي - ج ٢

أحمد مصطفى المراغي

فى حاجة إلى مذكّر يرقى بها إلى العالم الروحي ، ويخلعها من عالم الحس ، ويوجهها إلى مراقبة من برأها وفطرها حتى تطهر من تلك الأرجاس والأدران ، وتترفع عن البغي والعدوان ، وتميل إلى العدل والإحسان ، ذلك المذكر هى الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتنفى الجزع والهلع عند المصايب ، وتعلّم البخيل الكرم والجود ، لهذا أردف هذه الأحكام بطلب الصلاة والمحافظة عليها وأدائها على وجهها بإخبات وقنوت لتحدث فى النفس آثارها.

الإيضاح

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أي داوموا على الصلوات جميعها لما فيها من مناجاة الله والتوجه إليه بالدعاء له والثناء عليه كما جاء في الحديث «اعبد الله كانك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وإذا أديت على الوجه الحق وأقيمت كما أمر به الدين نهت عن الفحشاء والمنكر ، وحفظت النفوس من الشرور والآثام ، ولا سيما صلاة العصر حين ينتهى الإنسان من أعمال الدنيا فيضرع إلى الله أن وفقه لخدمة نفسه وعياله وأهله ووطنه ، ويشكره على ذلك حق الشكر.

(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي قوموا خاشعين لله مستشعرين هيبته وعظمته ، ولا تكون الصلاة كاملة تتحقق فائدتها التي ذكرت في الكتاب الكريم إلا بالتفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب وخشوعه.

روى أحمد والشيخان من حديث زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة ، حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ـ لأن حديث الناس مناف له ، فيلزم من القنوت تركه.

والمحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى والشرط في صحة الإسلام والأخوّة فى الدين وحفظ الحقوق.

٢٠١

روى أحمد وأصحاب السنن من حديث ، بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر.

وروى أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ذكر الصلاة يوما فقال : من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف».

وروى الترمذي قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.

أ رأيت بعد هذا كيف أعرض جمهرة المسلمين عن الصلاة ، وكثر التاركون الغافلون عنها ، وقلّ عدد المصلين ، أرأيت أن أحدهم لتتلى عليه الآيات والأحاديث فيصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقرا ، اتكالا على شفاعة الشافعين ، وغرورا بالانتساب إلى الإسلام ، واعتقادا بأن ذلك كاف في نيل السعادة في الآخرة ، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدّهم في غيهم ، ويستدرجهم في غرورهم.

وقد كان من أثر ترك الصلاة والتهاون في شئون الدين في المدن والقرى ، أن فشت الفواحش والمنكرات ، وكثرت حانات الخمور ، ومواخر الفجور والرقص ، وبيوت القمار ، وتكالب الناس على جمع المال ، لا يبالون أمن حلال جاء أم من حرام ، وانقبضت الأيدى عن فعل الخير ، وزال التراحم والتعاطف ، وقلّت الثقة بين بعض الناس وبعض ، واعتدى بعض الزراع على بعض بقلع المزروعات قبل النّضج ، وبالسرقة بعده ، وبقتل الماشية بالسم أو بالسلاح ، وتزعزع الأمن على النفس والمال ؛ ولو حافظوا على الصلوات كما أمر الله لانتهوا عن كل هذا بالوازع النفسي ، فالصلاة حارس وديدبان يمنع من عمل السوء.

فالمحافظ عليها لا يرضى أن يكون من روّاد بيوت القمار ومحالّ اللهو والفسوق ، ولا يمنع الماعون ، بل يبذل معونته لمن يراه مستحقا لها ، ولا يخلف موعدا ، ولا ينتقص

٢٠٢

حقا لغيره ، ولا يضيع حقوق أهله وعياله ، ولا حقوق أقاربه وجيرانه ، ولا يجزع من النوائب ، ولا تفلّ عزمه المصايب ، ولا تبطره نعمة ، ولا تقطع رجاءه نقمة.

والمحافظ عليها هو الذي يؤمن شره ، ويرجى خيره ، ولا غرو فللصلاة يد في الآداب الكاملة ، والأخلاق السامية ، والاستقامة في السرّ والعلن.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) أي فإن خفتم أي ضرر من قيامكم قانتين لله ، فصلوا كيفما تيسر لكم راجلين أو راكبين.

وفي هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة وبيان أنها لا تسقط بحال ، إذ حال الخوف على النفس أو المال أو العرض مظنّة العذر في تركها ، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام.

والسبب في عدم سقوطها عن المكلف في كل حال ، أنها عمل مذكّر بسلطان الله المستولى علينا وعلى العالم كله ، وما الأعمال الظاهرة إلا مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات ، إذ من شأن الإنسان أنه إذا أراد عملا قلبيا يحتاج إلى جمع الفكر وحضور القلب أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل.

فإذا تعذر بعض الأعمال البدنية فلا تسقط العبادة القلبية وهى الإقبال على الله مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر المستطاع ، ويكون ذلك حين قتال العدو أو الفرار من أسد فيصلى المكلف راجلا أو راكبا إن حال وقت الصلاة لا يمنعه من ذلك الكرّ والفرّ والطعن والضرب ، ويأتى من أقوال الصلاة وأفعالها بما يستطاع من ركوع وسجود ولا يلتزم التوجه للقبلة.

وستأتى صلاة الخوف كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة في سورة النساء.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي فإذا زال الخوف وأمنتم فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة ، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه ، كيف تصلون حين الأمن وحين الخوف.

٢٠٣

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

تفسير المفردات

يذرون : أي يتركون زوجات بعد وفاتهم ، وصية لأزواجهم : أي وصية من الله لأزواجهم ، متاعا إلى الحول : أي جعل الله لهن ذلك متاعا مدة الحول ، غير إخراج : أي لهن ذلك المتاع وهن مقيمات في البيت غير مخرجات منه ، ولا ممنوعات من السكنى فيه.

المعنى الجملي

هذه الآيات جاءت متممة لأحكام الزواج ، وقد توسط بينها الأمر بالمحافظة على الصلاة ؛ لأنها عماد الدين ، فجدير بالمسلمين أن يعنوا بها أشد العناية ، إذ من حافظ عليها جعل نصب عينيه إقامة حدود الدين ، والعمل بالشريعة كما قال : «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ».

الإيضاح

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) أي والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات بعدهم ، فليوصوا لهن بوصية وليمتّعوهن متاعا إلى آخر الحول غير مخرجات من بيوتهن ، فلا يمنعن السكنى فيها.

٢٠٤

والخلاصة : إن على الأزواج أن يوصوا لهن بشىء من المال ينفقنه مدة الحول ، ولا يخرجن من البيوت مدة سنة كاملة ، تمر فيها الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهن فيها.

وهذا الأمر أمر ندب واستحسان لا أمر وجوب وإلزام تهاون فيه الناس كما تهاونوا فى كثير من المندوبات.

(فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أي فإن خرجن من تلقاء أنفسهن فلا إثم عليكم أيها المخاطبون بالوصية فيما فعلن في أنفسهن من المعروف شرعا وعادة كالتعرض للخطّاب بعد العدة والتزوج ، إذ لا ولاية لكم عليهن ، فهن حرائر لا يمنعن إلا من المنكر الذي يمنع منه كل مكلف.

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي والله عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه ، حكيم يراعى فى أحكامه مصالح عباده.

ومن عزته وقدرته أن يحوّل الأمم من عادات ضارة ، إلى عادات نافعة تقتضيها المصلحة ، كتحويل العرب من عادتهم في العدة والحداد ، إذ كانوا يجعلون المرأة أسيرة ذليلة مقهورة في عقر دارها سنة كاملة ـ إلى ما هو خير من ذلك وهو إكرامها في بيت زوجها بين أهله ، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآدابه.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي وشرعت المتعة لكل مطلقة على سبيل الوجوب إذا كانت غير مدخول بها ، وعلى سبيل الاستحسان لغيرها ، والذي يفعل ذلك من أشرب قلبه تقوى الله والخوف من عقابه ، فهو الذي يجود بالمال تطييبا للقلوب وإزالة للضغن.

والخلاصة ـ إن المطلقات أصناف أربعة :

(١) مطلقة مدخول بها وقد فرض لها مهر ، وهذه لها كل المفروض ، وهى التي عناها الله سبحانه بقوله : «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً».

٢٠٥

(٢) مطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها ، وهذه يجب لها المتعة بحسب يسار الزوج ولا مهر لها ، وهى التي عناها الله بقوله : «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» إلى آخر الآية ، ولا عدّة لها.

(٣) مطلقة مفروض لها وغير مدخول بها ، ولها نصف المهر المفروض ، ولا عدة لها ، وفيها نزل قوله : «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ...» (٤) مطلقة مدخول بها غير مفروض لها ، ولها مهر مثلها من قريباتها وأسرتها.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) المراد من البيان ذكر الحكم وفائدته ، ثم قرنه بالموعظة الحسنة ، وقوله تعقلون : أي تتدبرون الأشياء وتذعنون لما أودع فيها من الحكم والمصالح إذعانا يكون له الأثر في الأعمال.

والمعنى ـ إن الله جلت قدرته ، مضت سنته أن يبين لعباده أحكام دينهم على هذا النحو من البيان الذي تقرن فيه الأحكام بعللها وأسبابها وبيان فوائدها ، ليعدّهم بذلك لكمال العقل ، حتى يتحرّوا الاستفادة من كل عمل ، وليكونوا على بصيرة من دينهم ، عالمين بانطباق أحكامه على مصالحهم ، فدينهم هو دين العقل ، وأحكامه تنطبق على مصالح البشر في كل زمان ومكان.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الأحكام الماضية وقرنها بعللها وأسبابها ، وفوائدها ومنافعها ، ووجّه أنظار المخاطبين عقب كل منها إلى الخوف والخشية من الربّ الخالق لكل شىء ،

٢٠٦

العليم بكل شىء ـ قفى هذا بذكر بعض الأخبار عمن سلف من الأمم للعبرة والعظة فى سياق واقعة مصت تنويعا في التذكير والبيان.

والأحكام السالفة تتعلق بالأفراد في أنفسهم وفي بيوتهم ، والحكمان الآتيان يتعلقان بالأمم من ناحية الدفاع عن استقلالها وحفظ كيانها بمدافعة المعتدين عليها ، وبذل المال والروح في توفير منافعها ، وجلب الخير لها.

وقد جرت العادة بأن التذكير بمنافع الشخص ومصالحه كافية في العمل بما يوعظ به ، إذ أنها وفق ما يهوى ، فلها في النفس عون أيّما عون ، أما المصالح العامة فالرغبة فيها قليلة ، فتحتاج إلى العناية في الدعوة إليها وتكرار الطلب لها ، ومن ثم جاءت هذه الآية على هذا النسق الرائع ، والأسلوب الخلاب ، لتدعو المخاطبين إلى تلبية الدعوة ، والقيام بما يجب من النصرة ، فتكون المصلحة العامة صنو المنفعة الخاصة ، وما يحفظ بقاء الجماعة عدل ما يحفظ نظام الفرد والأسرة.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) الخطاب في نحو هذا يوجه إلى كل من بلغه وسمعه ، والاستفهام للتعجيب والاعتبار ، والرؤية بمعنى العلم ، وهذا أسلوب جار مجرى المثل يخاطب به من لم يرو من لم يعلم ، ويراد معنى ـ ألم ينته علمك إلى كذا ، والمقصد هنا ـ ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وحالهم بلغت من العجب مبلغا لا ينبغى لمثلها أن تجهل ـ إذ هم قوم بلغوا حدّا من الكثرة التي تدعو إلى الشجاعة واطمئنان النفس والدفاع عن الحمى ، لا إلى الهلع والجزع وخور العزيمة والهرب من الوطن خوفا من الموت بمهاجمة الأعداء ، وهذا هو الخوف والحذر الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء ، فيخيل إليهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت ، وما هو إلا وسيلة تدني إليه ، فهو يمكّن العدوّ من الرقاب ، ويحفزه إلى الفتك بهم ، استهانة بأمرهم كما قال المتنبي :

٢٠٧

يرى الجبناء أن الجبن حزم

وتلك خديعة الطبع اللئيم

والكتاب الكريم لم يبين لنا عدد هؤلاء القوم ولا أمتهم ، ولا بلدهم ، ولو علم أن فى ذلك خيرا لنا لتفضل علينا ببيانه في محكم كتابه فنكتفى بما فيه ، ولا ندخل في تفاصيل ذكرت في الإسرائيليات ، هى إلى الأوهام والخرافات أقرب منها إلى الحقائق التي تصلح للعبرة ، وتكون وسيلة إلى الموعظة.

ويرى جمع من المفسرين منهم ابن كثير بسنده عن ابن جرير وعطاء ـ أن هذا مثل لا قصة واقعة ، ضرب للعظة والتأمل فيما ينطوى عليه ، ليكون أفعل في النفس وأدعى إلى الزجر.

(فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) أي خرجوا هاربين فأماتهم الله ، بأن مكن منهم العدوّ ففتك بهم ، وقتل أكثرهم وفرّق شملهم ، وأصبح من بقي منهم خاضعا للغالب ، منضويا تحت لوائه ، يصرّف بحسب إرادته ولا وجود له في نفسه ، ثم أحياهم بعود الاستقلال إليهم ، بعد أن جمعوا كلمتهم ، ووثقوا رابطتهم ، واعتزوا وكثروا ، وخرجوا من ذلّ العبودية إلى رياض الحرية ، وكان ما أصابهم من البلاء تأديبا لهم ومطهرا لنفوسهم مما عرض لهم من ذميم الأخلاق ورذيل السجايا.

وقد جرت سنة الله في خلقه أن تموت الأمم باحتمالها الظلم ، وقبولها الجور والعسف ، حتى إذا أفاقت من سباتها وتنبهت من غفلتها ، قام بعض أفرادها بتدارك مافات ، والاستعداد لما يرقى شأنها ، وتبذل في ذلك كل مرتخص وغال ، وتتلمس كل الوسائل التي تحقق لها ما تصبو إليه ، ولا يصدها عن ذلك ما يحول دونها من العوائق حتى تفوز ببغيتها وتنال أمنيتها ، ومن ثم أثر عن علىّ كرم الله وجهه أنه قال : بقية السيف هى الباقية ، أي هى التي يحيا بها أولئك الميتون.

وعلى هذا فالموت والحياة واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهد في أسلوب القرآن ، إذ خاطب بنى إسرائيل في زمن التنزيل بما كان من آبائهم الأولين بمثل قوله : «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» وقوله : «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ»

٢٠٨

وسر هذا تقرير وحدة الأمة وتكافلها ، وتأثير سيرة بعض أفرادها في بعض حتى كأنها شخص واحد ، وكل جماعة منها كعضو فيه ، وهذا استعمال معهود في كلام العرب يقولون هجمنا على بنى فلان حتى أفنيناهم ، ثم أجمعوا أمرهم وكرّوا علينا ، ولا شك أن الذي كر إنما هو من بقي منهم.

وإطلاق الحياة على حال الأمة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم ، والموت على مقابلها ، معهود في القرآن كقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» وقوله : «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها».

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) جميعا بما جعل في موتهم من الحياة ، فقد جعل المصايب محيية للهمم ، كما جعل الجبن والهلع وغيرهما من مفاسد الأخلاق سببا في ضعف الأمم ، وجعل ضعفها مغريا للقوى بالاعتداء عليها ، وجعل هذا الاعتداء منبها لها إلى اليقظة بعد السّبات العميق ، حتى تحيا وتكون أمة عزيزة مرهوبة الجانب ، قوية البطش والشوكة.

والخلاصة ـ إن إماتة الأمة إنما تكون بتسليط الأعداء عليها ، والتنكيل بها ، وإحياءها يكون بإحياء نابتة من أبنائها تستردّ ذلك المجد الضائع ، والشرف المسلوب ، كالبنيان القديم الذي تقضى الضرورة بإزالته ، وإقامة بناء جديد تدعو الحاجة إلى عمل مثله ، أو كالعضو الفاسد الذي يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يقومون بحقوق هذه النعم ، بل هم فى غفلة من حكمة ربهم ، فينبغى للمؤمنين أن يعتبروا بما نزل بغيرهم ، ويستفيدوا من حوادث الكون ، حتى إذا نزل بهم البلاء بما يقع منهم من التفريط ، لم يقصروا في حماية أنفسهم ، علما منهم بأن الحياة العزيزة لا تكون إلا بدفع المعتدى ، ومقاومة عدوانه ، هذا خلاصة ما اختاره الأستاذ الإمام تفسيرا للآية.

٢٠٩

واختار غيره أن الآية تشير إلى قوم بأعيانهم خرجوا من ديارهم ، ورووا عن ابن عباس أن ملكا من ملوك بنى إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا وقالوا : إن الأرض التي سنذهب إليها موبوءة ، فدعنا حتى يزول الوباء ، فأماتهم الله ثمانية أيام حتى انتفخوا ، وعجز بنو إسرائيل عن دفنهم لكثرتهم ، فأحياهم الله وقد بقي منهم شيء من ذلك النّتن وقالوا إن هذا الموت لم يكن كالموت الذي يكون وراءه الحياة للبعث والنشور ، وإنما هو نوع انقطاع لتعلق الروح بالجسد بحيث لا يلحقه التغيير والفساد ، وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد ، حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بأنه موت حقيقى.

وقيل إنه من خوارق العادات ، فلا يجرى على سنن الموت الطبيعية.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمة الحق ، وتأمين الدعوة ، ونشر الدين ، حتى لا يغلب أهله ، ولا يصدهم صادّ عن إقامة شعائره ، وتلقين أوامره ، والدفاع عن بلاد الإسلام إذا همّ الطامع في اغتصابها والتمتع بخيراتها ، وإرادة إذلالها ، والعدوان على استقلالها.

فهذا أمر لنا بأن نتحلّى بالشجاعة ، ونلبس سرابيل القوة ، ليخشى العدو بأسنا ، ويرهب جانبنا ، ونكون أعزاء ونحيا حياة سعيدة في دنيانا وأخرانا.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فعلينا أن نراقب أنفسنا فيما عسى أن نعتذر به عن التقصير عن امتثال الأمر بالقتال بنحو قولنا ـ ماذا نعمل ، ليس لنا في الأمر شىء «ليس لها من دون الله كاشفة» إلى نحو ذلك من تعلّات الجبناء التي لا يتقبلها الله وما هى إلا مراوغة ، وفرار من الاستعداد للدفاع ومقاتلة العدو ، فالمتعلل بها مخادع لربه ولنفسه ولقومه.

فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول ، عليم بما يفعل ، حاسب نفسه حتى يتجلّى له من تقصيره ما يحمله على التشمير عن ساعد الجد لتدارك ما فات ، والاستعداد لما هو آت.

٢١٠

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بالقتال في الآية السابقة دفاعا عن الحق ، وكان ذلك يتوقف على بذل المال لتجهيز المقاتلة ، والاستعداد للمدافعة ، ولا سيما بعد أن ارتقت الفنون العسكرية ، واحتاجت إلى علوم وصناعات كثيرة ـ حثّ هنا على بذل المال فيما يعين عليه ، ويعلى شأن الدين ، ويمنع عداوة المعتدين.

الإيضاح

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) حث سبحانه على الإنفاق في سبيل الله بهذا الأسلوب الذي يستفزّ النفوس ويبسط الأكف ، إذ سماه قرضا لله ، والله غنى عن العالمين ، لعلمه بأن داعى البذل في المصالح العامة ضعيف في نفوس أكثر الناس والرغبة فيه قليلة ، فإنك لترى أن الغنى يبذل فضل ماله لأفراد يعيش بينهم ، إما لاتقاء شر حسده ، وإما لارتفاع مكانته في النفوس ، وإما لجلب محبتهم إياه كما قال :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

ولا سيما إذا كان البذل لذوى القربي ، فحظ النفس فيه أظهر ، إذ يتعذر على الإنسان أن يكون ناعم البال بين أهل الضر والبؤس ، سعيدا بين الأشقياء والمعوزين.

أما البدل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته ، وحفظ حقوقه ، فليس فيه شىء من حظوظ النفس التي تسهل عليها مفارقة ما تحبه وهو المال ، إلا إذا كان تبرعا جهريا يتولاه الحكام والملوك.

من قبل هذا احتاج الأمر إلى المبالغة في الترغيب ، فإنك لا تقول : من ذا الذي

٢١١

يفعل كذا إلا في الأمر العظيم الذي يندر أن يقدم عليه أحد ، لأنه عظيم أو شاقّ قلّ من يتصدى له كما جاء في قوله : «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ» وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)».

والقرض الحسن هو ما حل محله ووافق المصلحة ، لا ما قصد به الرياء والسمعة ، نعم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن وإن أريد به الشهرة ، لكنه لا يدل على ثقة المنفق بربه ، وابتغائه مرضاته ، ولا على حبه للخير لذاته ، فلا يكون له حظ من نفقته يقرّبه إلى ربه.

والخلاصة ـ إنه لا يكون القرض حسنا إلا إذا وضع موضعه ، مع البصر بوجه الحاجة وحسن النية ، ليكون فيه منفعة للمسلمين من الطريق الذي شرعه الإسلام (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) الأضعاف واحدها ضعف ، وهو مثل الشيء في المقدار يزاد عليه ، وقد عبر عن البذل في سبيله ابتغاء مرضاته بالقرض الحسن ، وهذا يقتضى أنه لا يضيع منه شىء عند الله ، ثم عبر ثانيا بالجزاء عليه أضعافا مضاعفة ، زيادة فى الترغيب والحث عليه.

وهذه الأضعاف الكثيرة التي جاء في بعض الآيات أنها تبلغ سبعمائة ضعف (والمراد من ذلك) تكون في الدنيا والآخرة.

ذاك أن المنفق لإعلاء كلمة الله ، ولتعزيز الأمة ، والدفاع عن الحق ، إنما يدافع عن نفسه ، ويحفظ حقوقها ، فضعف الأمة وضياع حقوقها لا يكون إلا بما يقع على أفرادها من البلاء والعسف والظلم ـ إلى أن بذل الأغنياء لأموالهم ، وقيامهم بفريضة التعاون ، وكفالة الغنى للفقير ، وحماية القوىّ للضعيف ـ مما يوسع المرافق على الأمة ويوفر لها السعادة ويديم لأفرادها النعمة ، ما بقوا على هذه السنة ، واستقاموا على هذا النهج القويم ثم هم بذلك يستحقون سعادة الآخرة ومضاعفة الثواب ، ورضوان الله «ورضوان من الله أكبر».

٢١٢

(وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقبض أي يقتر ويضيق ، ويبسط أي يوسع أي والله يقتر على بعض الناس لجهلهم بسنن الله في كسب المال ، وعدم نهوضهم للسعى فى مناكب الأرض بحسب الأوضاع التي شرعها الله لعباده في هذه الحياة ، ويبسط الرزق لآخرين ، لأنهم ساروا على النواميس التي تقتضيها طبيعة الحياة ، واتخذوا الأسباب التي توصل من سلكها إلى نتائجها المحتومة كما أرشدت إلى ذلك الفطرة وسنة الوجود.

ولو شاء أن يغنى فقيرا ، أو يفقر غنيا لفعل ، فإن الأمر كله له ، وبيده القبض والبسط ، فحضّ الأغنياء على مؤازرة الفقراء لم يكن من حاجة له ، أو عجز منه ، بل هداية منه لعباده ، ليشكروه على تلك النعم فيزيدهم منها كما قال : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» وبذلك يبلغ النوع الإنسانى كماله الاجتماعى الذي أعده له بحكمته حتى يحقق معنى الخلافة في الأرض ويعمرها على أحسن الوجوه ، وأفضل الحالات.

ثم بين مصير الخلق ومجازاتهم على أعمالهم من خير أو شر ، وفيه وعد ووعيد فقال :

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) والرجوع إلى الله ضربان :

(١) رجوع في هذه الحياة بالسير على سننه الحكيمة ، ونظمه في الخليقة ، بأن يعرف المرء أن الغنى يكون بعمل العامل وتوفيق الله وتسخيره ، وأن البذل من فضل الله يأتي بالمنافع الخاصة للباذل ، وبالمنافع العامة لقومه الذين يعتز بهم ويسعد بسعادتهم ، وأن تركه يعقبه مفاسد ومضار عامة وخاصة للأمم والأفراد ، وأنه لا يستقل بعمله مهما أوتي من رجاحة عقل ، بل له حاجة إلى معونة الله وتوفيقه بتسخير الأسباب له.

(٢) رجوع في الآخرة حين تظهر للمرء نتائج أعماله وآثار أفعاله «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ

٢١٣

الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧))

تفسير المفردات

الملأ : القوم يجتمعون للتشاور ، ولا واحد له ، وسموا بذلك لأنهم يملئون العيون رواء ، والقلوب هيبة ، والنبي هو شمويل معرّب صمويل أو صموئيل ، عسى كلمة تفيد توقع الحصول وقرب تحققه ، كتب : أي فرض ، وطالوت معرب شاول لقب به لطوله ، فقد جاء في سفر صموئيل الأول من العهد العتيق (فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب ، من كتفه فما فوق) اصطفاه أي فضله بما أودع فيه من الاستعداد الفطرىّ للملك ، وبسطة الجسم عظمه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه في الآيات التي قبل هذه شرع القتال لحماية الحق وبذل المال فى سبيل الله لعزة الأمة ومنعتها ، وأن من ينحرف عن ذلك يتردى في مهاوى الردى كما وقع لمن خرجوا من ديارهم فارّين من عدوهم على كثرة عددهم.

هنا بين قصة قوم من بنى إسرائيل أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر ، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن واستحقوا الخزي والنكال ، لكن جاءت هذه القصة مفصلة

٢١٤

تبين ما في القصة الأولى المجملة ، فإن الأولى تصرح بأن موتهم كان بذهاب استقلالهم ، وأنه نتيجة لفرارهم وضعف عزيمتهم ، لكن لم يذكر سبب إحيائهم وإن كان قد فهم مما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال أن هذا هو سنة الله في إحياء الأمم.

أما هذه القصة فقد فصلت احتياج هؤلاء القوم إلى القتال لمدافعة العادين عليهم ، واسترجاع ديارهم من أيديهم ، فبذلوا الوسع في الاستعداد للدفاع ، لكن الضعف قد بلغ منهم كل مبلغ ، فتولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا منهم ، ألهمهم الله رشدهم فاعتبروا وانتصروا.

وقد جاء قصص القرآن للعبرة والموعظة كما قال : «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» ومن ثم لم يذكر إلا ما تمس الحاجة إليه من الفائدة ، أما ذكر التفاصيل والجزئيات فربما شغل عن ذلك ـ إلى ما فيها من خلاف ربما يذهب الثقة بها ، ومن قبل هذا اقتدى كثير من المؤرخين في العصر الحديث بطريق القرآن فلا يذكرون إلا الأمور الكلية ، ولا يحفلون بالجزئيات ، مع توافر أسباب ضبطها ونقل أخبارها بتصوير الوقائع والأماكن ، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان ، وإنك لترى في ذكر أخبار الحروب فى العصر الحاضر التناقض الواضح في رسائل الفريقين المختصمين فيها ، مما يرفع الثقة بها.

وإذا جاء في كتب بنى إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق ، أو في كتب التاريخ القديمة ما يخالف ما في القرآن في باب القصص ، فعلينا ألا نحفل به ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه ، فحال التاريخ قبل الإسلام كانت حالكة الظلام ، فلا يوثق إذ ذاك برواية ، كما أن الكتب الدينية ليست لها أسانيد متواترة ، وقد صرح القرآن بأن أتباع موسى نسوا حظّا مما ذكروا به ، وحفظوا نصيبا وهذا الذي حفظوه حرفوه ، وأن أتباع عيسى فعلوا مثل ما فعل أصحاب موسى ، فلا ثقة بما جاء في قصص العهدين العتيق والجديد مما يسمى مجموعه الكتاب المقدس.

٢١٥

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي ألم ينته إلى علمك قصص هؤلاء الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى في عصر داود عليه السلام ، وكان بينهما زمان طويل.

(إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي قالوا لنبيهم شمويل ، أقم لنا أميرا نصدر عن رأيه في تدبير الحرب ، وتنتظم به كلمتنا ، وكان دأب بنى إسرائيل أن يقوم أمرهم بملك يجتمعون عليه ، يجاهد الأعداء ويجرى الأحكام ، ونبىّ يطيعه الملك ؛ ويقيم أمر دينهم ، ويأتيهم بالخير من ربهم.

(قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) أي هل أتوقع منكم الجبن عن القتال إن كتب عليكم؟

(قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أي أىّ سبب يدعونا إلى ترك القتال ، وقد عرض لنا ما يوجبه إيجابا قويا بإخراجنا من ديارنا وأوطاننا واغترابنا عن أهلنا وأولادنا؟

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي فلما فرض عليهم القتال بعد سؤال النبي ذلك وبعث الملك ـ أعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله بعد مشاهدة العدوّ وشوكته ، إلا قليلا منهم عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة كما سيأتى بعد.

ذاك أن الأمم إذا قهرها العدو تهن قوّتها ويغلب عليها الجبن وتلبس ثوب الذل والمسكنة ، فإذا أراد الله إحياءها بعد موتها نفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها وهم الأقلون ، فيعملون ما لا يعمله الأكثرون.

وفي الآية من العبرة والفوائد الاجتماعية ـ أن الأمم حين الضعف قد تفكر فى الدفاع حين الحاجة إليه ، وتعزم على القيام به إذا توافرت الشرائط التي يتخيلونها كما قال :

٢١٦

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

فإذا توافرت لهم ضعفوا وجبنوا وزعموا أن ما هم عليه من القوة غير كاف لمقاومة الأعداء ، والتمسوا لأنفسهم المعاذير ، وأكثروا من التعللات الواهية.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي بالذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها ، وحفظا لحقوقها ، فيصبحون في الدنيا أذلاء مستضعفين ، وفي الآخرة أشقياء معذبين ، وفي هذا وعيد لأمثالهم لا يخفى.

(قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) روى في أخبار بنى إسرائيل أن الإسرائيليين في الزمن الذي بعث فيه صموئيل نبيا لهم ، كانوا قد انحرفوا عن شريعتهم ، وعبدوا الأصنام والأوثان ، وضعفت فيهم الرابطة الدينية ، فسلط الله عليهم أهل فلسطين ، فأثخنوهم وقتلوا منهم العدد الكثير ، وأخذوا تابوت عهد الرب ، وكانوا من قبل يستفتحون به (يطلبون الفتح والنصر به) على أعدائهم ففترت هممهم واستكانوا وذلوا ، ولم يكن لهم إلى ذلك العهد ملوك ، بل رؤساؤهم وقضاتهم رجال الدين ، ومن بينهم أنبياؤهم ، ومن هؤلاء صموئيل فقد كان قاضيا ، ولما كبرت سنه جعل بنيه قضاة ، فكانوا من قضاة الجور وأكلة الرّشا ، فاجتمع شيوخ بنى إسرائيل الذين عبر عنهم القرآن بالملأ ، وطلبوا من صمويل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كبقية الشعوب الأخرى ، فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستعبادهم للأمم فألحوا ، فألهمه الله أن يختار لهم شاول ملكا.

(قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) أي كيف يملّك علينا وهو لا يستحق هذا التملك؟ لأن هناك من هو أحق به منه ، ولأنه لا يوجد لديه ما يتوقف عليه الملك وهو المال ، ولأنه ليس من سلائل الملوك ولا من سلائل النبوّة ، وقد كان الملك في سبط يهوذا بن يعقوب لا يتجاوزه إلى غيره ومنهم داود وسليمان ، وكانت النبوة في سبط لاوى بن يعقوب ، ومنه موسى وهرون.

وقد جرت العادة عند الناس أن الملك لا بد أن يكون وارثا للملك أو ذا نسب

٢١٧

شريف يسهل على عظماء الناس أن يخضعوا له ، وأن يكون ذا مال كثير يدبر به الملك ولا يأبهون بمعارفه وصفاته الذاتية وفضائله وأخلاقه.

من أجل هذا بيّن الله فيما حكاه عن نبيه خطأ هؤلاء القوم في زعمهم أن الملك لا يستحق إلا بالنسب وسعة المال فقال :

(قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أي قال لهم نبيهم : إن الله اختاره ملكا عليكم لما فيه من المزايا الآتية :

(١) الاستعداد الفطري وهو في المنزلة الأولى من الأهمية ، ومن ثم قدمه.

(٢) السعة في العلم الذي يكون به التدبير ، ومعرفة مواطن ضعف الأمة وقوتها وجودة الفكر في تدبير شئونها.

(٣) بسطة الجسم وكمال قواه المستلزمة لصحة الفكر ، فقد جاء في أمثالهم : العقل السليم في الجسم السليم. وللشجاعة والقدرة على المدافعة والهيبة والوقار.

(٤) توفيق الله تعالى له بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله : «وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ».

أما المال فليس بلازم في تأسيس الملك ، لأنه متى وجدت الأسباب سهل على صاحبها إيجاد المال اللازم لتدبير الملك ، فكم في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي وكان استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها كافيا في الاستيلاء عليها ، واستعانته بأهل العلم والشجاعة كافيا في تمكين سلطته فيها.

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي والله واسع التصرف والقدرة ، إذا شاء أمرا اقتضته حكمته فى نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة ، عليم بوجوه الحكمة ، فهو يضع لهم من السنن والنظم ما هو في منتهى الإبداع والإتقان ، وليس في الإمكان أبدع مما كان.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ

٢١٨

فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

تفسير المفردات

الآية : العلامة ، والتابوت : صندوق وضعت فيه التوراة ، أخذه العمالقة ثم ردّ إلى بنى إسرائيل ؛ وفي سفر تثنية الاشتراع : أن موسى لما أكمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا : خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون شاهدا عليكم.

ثم كانت حرب بين الفلسطينيين وبنى إسرائيل على عهد عالى الكاهن انتصر فيها الفلسطينيون ، وأخذوا التابوت من بنى إسرائيل ونكلّوا بهم تنكيلا ، فمات

٢١٩

عالى كمدا ، وكان صموئيل أو شمويل قاضيا لبنى إسرائيل من بعده وهو نبيهم الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ففعل ، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت الذي أقامه لهم ، والسكينة : ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب ، وتحمله : أي تحرسه وقد جرت عادتهم بأن من يحفظ شيئا في الطريق ويحرسه يقال إنه حمله ، وإن كان الحامل غيره ، وفصل بالجنود : أي فصل عن بلده مصاحبا لهم لقتال العمالقة ، والجنود : واحدهم جندى وهم العسكر وكل صنف من الخلق كما جاء في الحديث «الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها : ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» والابتلاء : الاختبار والامتحان ، والنهر (بسكون الهاء وفتحها) كان بين فلسطين والأردن ، والشرب : تناول الماء بالفم من موضعه وابتلاعه دون أن يشرب بكفين ولا إناء ، وطعم الشيء : أي ذاقه مأكولا كان أو مشروبا ، والغرفة (بالضم) المقدار الذي يحصل في الكف بالاغتراف ، والغرف : أخذ الماء بالكف ونحوه ، والطاقة : أدني درجات القوة ، وجالوت : أشهر أبطال الفلسطينيين أعدائهم ، والفئة : الجماعة من الناس قليلا كان عددهم أو كثيرا ، والبراز (بالفتح) الأرض المستوية الفضاء ، والإفراغ : إخلاء الإناء مما فيه بصبه ، وثبات القدم : كمال القوة وعدم التزلزل عند المقاومة ، وداود : هو داود ابن يسّى وكان راعى غنم وله سبعة إخوة هو أصغرهم ، والحكمة : النبوة وعليه نزل الزبور كما قال : «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» وتعليمه مما يشاء هو صنعة الدروع كما قال : «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» ومعرفة منطق الطير كما قال : «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» وفصل الخصومات لقوله : «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ».

المعنى الجملي

فى هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال ، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم.

٢٢٠