تفسير المراغي - ج ٢

أحمد مصطفى المراغي

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

تفسير المفردات

الصبر : توطين النفس على احتمال المكاره ، والابتلاء : الاختبار والامتحان ، والمراد بالأموال : الأنعام التي كانت معظم ما يتموّله العرب ، والمصيبة : كل ما يؤذى الإنسان في نفس أو مال أو أهل ، قلّ أو كثر ، والصلاة : من الله التعظيم وإعلاء المنزلة عنده وعند الناس ، والرحمة : اللطف بما يكون لهم من حسن العزاء ، والرضا بالقضاء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتخويل القبلة ، وأقام الحجة على المشاغبين ، وبيّن فوائد التحويل للمؤمنين ، ومن أهمها البشارة ، وكون ذلك طريقا للهداية ، لما فى الفتن من تمييز الخبيث من الطيب ، والمسلم من المنافق ، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم ، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوّره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى ، ومنة عظمى.

بيّن في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب ، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل

٢١

كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء ، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم ، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا ؛ لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة ، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعوّد تحمل المشاقّ ، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة ، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حقّ أو إزالة باطل ، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة ، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك ، وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان ، حتى فازوا بعاقبة الصبر ، ونصرهم الله نصرا مؤزّرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.

وفي الصلاة التوجه إلى الله ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه ، واستشعار المصلى للهيبة والجلال وهو واقف بين يدى ربه كما

جاء في الحديث «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وهو بهذا الشعور المالك للبّه المالئ لقلبه ، يستسهل في سبيله كل صعب ، ويستخفّ بكل كرب ، ويحتمل كل بلاء ، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضى ربه الذي يلجأ إليه في الملمّات ، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.

وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هى مجرد القيام والركوع والسجود ، والتلاوة باللسان خاصة ، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات ، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله : «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» وقوله : «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ» ومن ثمّ نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شىء على غير ما يرومون ، وما كان للمصلى أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله ، والله يبرئه من ذلك ويقول : «إِلَّا الْمُصَلِّينَ».

٢٢

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه ، وعلى سائر ما يشق عليكم من مصايب الحياة ، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره ، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عزّ اسمه ، وتصغر بمناجاته فيها كل المشاقّ.

وإنما خصّ الصبر والصلاة بالذكر ، لأن الصبر أشد الأعمال الباطنة على البدن ، والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليه ، إذ فيها خضوع واستسلام لله ، وتوجه بالقلب إليه ، واستشعار لعظمة الخالق ، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر «اشتدّ عليه» فزع إلى الصلاة وتلا هذه الآية.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي إن الله ناصرهم ومجيب دعوتهم ، ومن كان الله ناصره فلا غالب له ، أما الجازع فقلبه لاه عن ذكر الله ، والقلب اللاهي ممتلىء بهموم الدنيا وأكدارها ، وإن حاز الدنيا بحذافيرها.

وقد جرت سنة الله أن الأعمال العظيمة لا تنجح إلا بالثبات والدأب عليها ، ومدار ذلك كله الصبر ، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه ، فيسهّل له العسير من أمره ، ويجعل له فرجا من ضيقه ، ومن لم يصبر فليس الله معه ، لأنه تنكّب عن سنته ، فلن يبلغ قصده وغايته.

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي ولا تتحدثوا في شأنهم ، فتقولوا : إنهم أموات ، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم ، ولكن لا تشعرون بحياتهم ، إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر ، بل هى حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس وبها يرزقون وينعمون ، ولا نعرف حقيقة هذه الحياة ولا الرزق الذي يكون فيها ، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب ، فنفوض أمره إلى الله ، وقيل إنها حياة روحانية محضة لا ندرك سرها.

٢٣

وقد أبان سبحانه في هذه الآية جزاء ما يلاقيه المؤمن في تأييد الدعوة إلى دينه مما يصل به أحيانا إلى القتل في التغلب على من يصدّ الناس عن الدعوة ويقاتل في الدفاع عن الباطل ، فذكر ما أعد له من النعيم المقيم ، والرزق المتواصل ، والحياة التي لا يعرف كنهها إلا علام الغيوب ، جزاء ما فعل لتأييد حجة الله البالغة ، والجهر بالحق ، والصدع بأمر ربه ، فكان له ما كان مما لم تره عين ، ولا سمعت به أذن ، ولا خطر على قلب بشر.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) أي والله لنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وبعض المصايب المعتادة في المعاش ، كالجوع ونقص الثمار ، إذ كان أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج صفر اليدين ، حتى لقد بلغ من جوعهم أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرات ، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك ، وبنقص الأنفس بالقتل والموت من اجتواء المدينة ، فقد كانت حين الهجرة بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها.

وفي الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضى سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف ، بل كل ذلك يجرى بحسب السنن التي سنها الله لخلقه ، فتقع المصايب متى وجدت أسبابها ، وكامل الإيمان يتأدب بمقاومة الشدائد ، ويتهذّب بوقوع الكوارث.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي وبشر الصابرين الذين يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر ـ بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون. والصبر لا ينافى ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة ، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين فى الإنسان ، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى عند ما حضر ولده إبراهيم الموت ، فقيل له : أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال : إنها الرحمة ، ثم قال :

٢٤

إن العين لتدمع ، وإن القلب ليجزع ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

والجزع المذموم هو الذي يدعو صاحبه إلى فعل ما يمجّه العقل وينهى عنه الشرع ، مما نرى مثله عند الجماهير إذا حلّت بهم المصايب ، ونزلت بهم الكوارث.

روى مسلم عن أم سلمة رضى الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهمّ آجرني فى مصيبتى ، وأخلف لى خيرا منها ، إلا آجره الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها».

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عاقبته ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه».

وفي قوله : «إِنَّا لِلَّهِ» إقرار بالعبودية والملك ، وفي قوله : «وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» إقرار بالفناء والبعث من القبور ، واليقين بأن مرجع الأمر كله لله تعالى.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) أي أولئك الصابرون لهم من ربهم مغفرة ومدح على ما فعلوا ، ورحمة يجدون أثرها في برد القلوب عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين ، فإن الكافر الذي حرم من هذه الرحمة ، إذا نزلت به المصيبة تضيق به الأرض بما رحبت ، حتى لقد يقضى على نفسه بيده إذا لم يجد وسيلة للخلاص مما حلّ به (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) إلى الحق والصواب ، ومن ثم استسلموا للقضاء ، فلم يستحوذ الجزع على نفوسهم ، ففازوا بخير الدنيا والراحة فيها ، وسعادة الآخرة بتزكية النفس ، وتحليها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

٢٥

تفسير المفردات

الصفا والمروة : جبلان بمكة بينهما من المسافة مقدار ٧٦٠ ذراعا ، والصفا : تجاه البيت الحرام ، والآن علتهما المبانى وصار ما بينهما سوقا ، وواحدة الشعائر شعيرة وهى العلامة ، وتسمى المشاعر أيضا وواحدها مشعر ، وهى تطلق حينا على معالم الحج ومواضع النسك ، وحينا آخر على العبادة والنسك نفسه. والحج لغة القصد ، وشرعا قصد البيت الحرام لأداء المناسك المعروفة. والعمرة : لغة الزيارة ، وشرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام مفصلة في كتب العبادات ، والاعتمار : أداء مناسك العمرة ، والجناح :

(بالضم) الميل ، ومنه «وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها» والمراد هنا الميل إلى الإثم ، ويّطوف أصله يتطوّف : أي يكرر الطواف ، وهذا التطوّف هو الذي عرف في كتب الدين بالسعي بين الصفا والمروة ، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر ؛ والتطوع : لغة الإتيان بالفعل طوعا لا كرها ، ثم أطلق على التبرع بالخير لأنه طوع لا كره ، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب ، شاكر : أي مجاز على الإحسان إحسانا.

المعنى الجملي

علمت مما سلف أن في تحويل القبلة إلى البيت الحرام توجيها لقلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه لتطهيره من الشرك والآثام ، وأن في قوله : ولأتمّ نعمتى عليكم بشارة بهذا الاستيلاء ، وأنه أرشد المؤمنين إلى ما يستعينون به على الوصول إلى ذلك وإلى سائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة ، وأنه أشعرهم بما سيلاقون في سبيل ذلك من المصايب والكوارث ، وهنا ذكر ما يؤكد تلك البشارة ويتمم لهم النعمة باستيلائهم على مكة وإقامة مناسك الحج فيها ، فساق الكلام في الصفا والمروة على أنه شعيرة من شعائر الحج وقربة يتقرّب بها إلى الله ، وأنه من المناسك التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي صلى الله عليه وسلم ملته ، وجعلت الصلاة إلى قبلته.

٢٦

الإيضاح

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي إن هذين الموضعين من علامات دين الله ، وكذلك الأعمال والمناسك التي تعمل بينهما وهى السعى بينهما هى أيضا من الشعائر ، لأن القيام بها علامة الخضوع لله والإيمان به وعبادته إذعانا وتسليما.

والأحكام الشرعية قسمان :

(١) نوع يسمى بالشعائر وهى ما تعبّدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص ، والتوجه فيها إلى مكان معين سماه بيته ، مع أنه من خلقه كسائر العالم ، وكمناسك الحج وأعماله ، فمثل هذا شرعه الله لنا لمصلحة لا نفهم سرها تمام الفهم ، ولا نزيد فيه ولا ننقص ، ولا يؤخذ فيه برأى أحد ولا باجتهاده ، إذ لو أبيح لهم ذلك لزادوا فيه ، فلا يفرق بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع ، ويصبح المسلمون كالنصارى ويصدق عليهم قوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ).

(٢) ما لا يسمى بالشعائر كأحكام المعاملات من بيع وإجارة وهبة ونحوها ، وهذه قد شرعت لمصالح البشر ، ولها علل وأسباب يسهل على الإنسان فهمها.

(فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر فلا يتخوفنّ من الطواف بهما ، من أجل أن المشركين كانوا يطوفون بهما ، فإن هؤلاء يطوفون بهما كفرا ، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولى وطاعة لأمرى.

والسرّ في التعبير بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح ، مع أن السعى بينهما إما فرض كما هو رأى مالك والشافعي أو واجب كما هو رأى أبي حنيفة ، الإشارة إلى بيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر ، وأن السعى بينهما من مناسك إبراهيم ، وذلك لا ينافي الطلب الجازم.

٢٧

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) أي ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجب ـ فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا ، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء.

وفي التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر ـ تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية ، إذ أن منفعة عملهم عائدة إليهم ، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه. أفبعد هذا ينبغى للإنسان أن يرى نعم الله تترى عليه ، ولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما خلقت لأجله؟ وهل يليق به ألا يشكر نعمة من أسدى إليه المعروف وغمره بالنعمة؟

وشكر المنعم على ما يسديه من النعم ركن عظيم من أركان العمران ، فهو يشحذ عزائم العاملين ، ويوجد التنافس بين ذوى الهمم المخلصين لوطنهم وأممهم ، بل للعالم أجمع.

كما أن ترك شكر الناس وتقدير أعمالهم جناية على الناس وعلى أنفسنا ، فإن صانع المعروف إن لم يلق من الناس إلا الكفران ، ترك عمل الخير يأسا منه في الفائدة أو حذرا من سوء النية ، إذا الحاسدون من الأشرار يسعون في إيذاء الأخيار.

ويروون في ذلك حديثا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرّ بمديحه إذا ذكرت أعماله الشريفة وسعيه في حب الخير ، مع أنه من أخلص المخلصين لله لا يبغى بعمله غير مرضاته ، وهو «عجبت لمحمد كيف يسمن من أذنيه».

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ

٢٨

لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

تفسير المفردات

الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه ، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه ، واليهود فعلوا في التوراة كليهما ، فقد أخفوا حكم رجم الزاني ، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام ، وكذلك فعلوا بالدلائل الدالة على نبوّة عيسى عليه السلام وزعموا أنها لغيره ، وأنهم لا يزالون إلى الآن ينتظرونه ، والبينات : هى الأدلة الواضحة الدالة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الرجم ، وتحويل القبلة ، والهدى هو ضروب الإرشاد التي فيها ، والكتاب يراد به الكتب المنزلة جميعا ، واللعن : الإبعاد والطرد ، ولعن الله الإبعاد من رحمته التي تشمل المؤمنين جميعا في الدنيا والآخرة ، واللاعنون : هم الملائكة والناس أجمعون ، ولعنهم لهم دعاؤهم عليهم بالإبعاد من رحمة الله ، تابوا : أي رجعوا عن الكتمان ، وأصلحوا : أي أصلحوا أعمالهم وأرشدوا قومهم إلى تلك الآيات البينات عن النبي صلى الله عليه وسلم ودينه والهدي الذي جاء به ، وبينوا : أي جاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس حتى يمحوا عن أنفسهم سمة الكفر ويكونوا قدوة لغيرهم ، خالدين : أي ما كثين في تلك اللعنة على طريق الدوام ، ومتى خلد فيها فقد خلد فى عذاب النار الدائم ، ينظرون : أي يمهلون.

المعنى الجملي

لا يزال الكلام في عناد الكفار للنبى صلى الله عليه وسلم ومعاداتهم إياه ، ولا سيما اليهود ، فقد ذكر فيما سلف جحودهم وعنادهم له في مسألة القبلة ، وجاء في سياق ذلك أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون.

٢٩

وهنا ذكر أن أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم :

(١) إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته مع وجودها في سفر التثنية ، فقد جاء فيه : وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بنى إخوتهم ، وأجعل كلامى في فمه ، ويكلمهم بكل شىء آمره به. ولا شكّ أن بنى إخوتهم هم العرب أبناء إسماعيل ، وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره فى سورة المائدة.

(٢) وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة ، أو بحمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم.

وقد فضحهم الله بهذه الآيات ، وسجل عليهم اللعنات الدائمات.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام وأمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بينا واضحا ، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله ، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين.

وحكم هذه الآية شامل لكل من كتم علما فرض الله بيانه للناس ، كما روى في الخبر أنه عليه السلام قال : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». وروى أن أبا هريرة قال : لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم ، وتلا «إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا» الآية.

ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه ، والدين يداس جهارا بين يديه ، ويرى البدع تمحو السنن ، والضلال يغشى الهدى ، ثم هو لا ينتصر بيد

٣٠

ولا لسان ، يكون ممن يستحق وعيد الآية ، وقد لعن الله الذين كفروا من بنى إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله : «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهى عن المنكر ، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قال : «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إلا من أناب عن كتمانه ، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأقر بنبوته ، وصدّق ما جاء به من عند الله ، وأصلح حال نفسه بالتقرّب إلى الله بصالح الأعمال ، وبيّن ما علم من وحي الله إلى أنبيائه ، وما عهد إليهم في كتبه ، فلم يكتمه ولم يخفه ، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويفيض عليهم مغفرته تفضلا منه ورحمة ، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته ، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه ، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.

وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه ، فى التوبة عما فرط من الذنوب ، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام كما قال : «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً».

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بعد أن ذكر في الآية السالفة أن الكافرين الذين كتموا الحق يستحقون اللعن ، ثم أخرج من بينهم جماعة التائبين ، ذكر في هذه الآية وما بعدها أن اللعن الأبدىّ الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان ، لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر ، وحينئذ تسجل عليه اللعنة من الله والملائكة والناس جميعا ، ومن بينهم أهل مذهبه ، فإنهم إذا

٣١

شرحت لهم أحوال كفره وإصراره على غيه ، وكيف يعاند الداعي إلى الحق ، رأوه محلا للعن ومستحقا أشدّ العقوبة.

والسر في التعبير بلعن الملائكة والناس ، مع أن لعن الله وحده يكفى في خزيه ، الدلالة على أن جميع من يعلم أحواله من العوالم العلوية والسفلية يراه أهلا للعن الله ومقته ، فلا يشفع له شافع ولا يرحمه راحم ، فهو قد استحق اللعن لدى جميع من يعقل ويعلم ، ومن استحق النكال من الرب الرءوف الرّحيم ، فماذا يرجو من سواه من عباده؟

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي ماكثين في هذه اللعنة على طريق الدوام ، ومتى خلدوا فيها فقد خلدوا في عذاب النار الدائم لا يخلصون منه ، ولا يخفف عنهم شىء منه ، ولا هم ينظرون ويمهلون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال ، لأن الكفر الذي استحقوا به هذا العذاب هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح ، ومتى مات انقطع عمله وتعذر عليه أن يجلّى تلك الظلمة ، ويرجع إلى الحق ، ويزكى نفسه ، ولا يمهل إذ هو الجاني على نفسه ، فأىّ شىء يرجو من غيره؟

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

المعنى الجملي

حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا ، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين

٣٢

فى اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء ولا يقبل منهم فدية ولا تنفعهم شفاعة.

وهنا ذكر أن شارع الدين واحد لا معبود سواه ، ولا ينبغى أن تكتم هدايته للبشر وهو مفيض الرحمة والإحسان ، ليتذكر أولئك الذين يكتمون البينات ، المؤثرون آراء رؤسائهم وأحبارهم ، ثقة بهم ، واعتمادا على شفاعتهم ، إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا وإنهم مخطئون في كتمان الحق ومعاداة أهله.

الإيضاح

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي وإلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد ، فلا تشركوا به أحدا.

والشرك به ضربان :

(١) شرك في الألوهية والعبادة ، بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله ، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض ، فيتوجه إليه في الدعاء عند ما يتوجه إلى الله ، ويدعوه معه ، أو يدعوه من دون الله ، ليكشف عنه ضرا أو يجلب له نفعا.

(٢) شرك به في الربوبية ، بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه ، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلّغه عنه الرسل ، استنادا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين ، هم أعلم بمراد الله ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ».

فواجب علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه ، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه ، كما فعل من قبلهم من أهل الكتب المنزلة ، حين زادوا على الوحى أحكاما كثيرة من تلقاء أنفسهم ، وخالفوا ما نزل بتأويلات وتعسفات بعيدة عن روح الدين وسرّه.

والله هو الرّحمن الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، فحسب المرء أن يرجوها

٣٣

ولا يعتمد على رحمة سواه ، ممن يظن أنهم مقربون إليه ، إذ كل ما يعتمد عليه من دونه فليس أهلا للاعتماد عليه ، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك.

والإله الذي بيده أزمّة المنافع ، والقادر على دفع المضارّ ، واحد لا سلطان لأحد على إرادته ، ولا مبدل لكلماته ، ولا أوسع من رحمته.

وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته ، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق ، بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته ، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله ، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.

ثم ذكر ـ عزت قدرته ـ بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال :

«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الآية.

وهذه الظواهر والآيات ضروب منوّعة :

١ ـ السموات التي تتألف أجرامها من طوائف ، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد ، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير ، والحكمة والتدبير ، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها ، فتكون سببا في حياة الحيوان والنبات ، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها ، استقر كل منها في مداره ، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية ، ولو لا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة فى أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعا.

وفي كل شىء له آية

تدلّ على أنه واحد

٢ ـ الأرض ، ففى جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان ، وفي منافعهما المختلفة باختلاف أنواعها ، ما يدل على إبداع الحكيم العليم «وفي الأرض آيات للموقنين».

٣٤

٣ ـ (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما بمجىء أحدهما وذهاب الآخر واختلافهما في الطول والقصر باختلاف الأقطار والبلدان ومواقع الطول والعرض واختلاف الفصول ، وفي ذلك من المنافع والمصالح للناس آيات بينات دالة على وحدة مبدع هذا النظام ورحمته بعباده ، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم في آيات أخرى فقال : «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ، لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً» وقال أيضا : «وهو الّذى جعل اللّيل والنّهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورا».

٤ ـ (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) الفلك اسم للسفينة الواحدة وللكثير.

ودلالتها على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء وقانون الثقل في الأجسام ، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هى العمدة في سير السفن الكبرى فى هذا العصر.

وكل ذلك يجرى على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام ، هى قوة الإله الواحد العليم ، كما قال : «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ».

ودلالتها على الرحمة قد بينه سبحانه بقوله «بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» أي ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم ، فهى تحمل أصناف المتاجر من صقع إلى صقع ، ومن قطر إلى آخر ، فتجعل العالم كله مشتركا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها.

وجاءت هذه المنة عقب اختلاف الليل والنهار لاحتياج المسافرين إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به ، ومن احتياج ربابنة السفن إلى معرفة علم النجوم (الجغرافية الفلكية) ومن ثم قال تعالى :

«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ».

٣٥

٥ ـ (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) وقد وصف الله تعالى في آية آخري كيف ينزل المطر قال : «اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم : إن المطر يتوالد من تصاعد بخار الماء بوساطة حرارة الهواء التي تنشأ في مياه البحار من احتكاك بعض ذراتها ببعض ، ومن احتكاك الهواء بسطح البحر ، وحين تصعد في الجو تتكاثف وتتكون سحبا يسقط الماء من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله.

(فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات ، وبه أمكن معيشة الحيوان على سطحها ، وهذا هو الإحياء الأول الذي أشير إليه بقوله في آية أخرى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» أي ان السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلا بعض أجزائها بيعض ففتقناهما فانفصل جرم الأرض من جرم السماء وصارت الأرض قطعة مستقلة ملتهبة وكانت مادة الماء (الأوكسجين والإيدروجين) تبخر من الأرض فتلاقى في الجو طبقة باردة تحيلها سحابا فتنزل على الأرض فتبرد حرارتها ، وما زالت هذه حالها حتى صارت كلها ماء ، وتكونت بعد ذلك الأرض اليابسة وحرج النبات وعاش الحيوان.

وأما الإحياء المستمر المشاهد في جميع بقاع الأرض فهو المشار إليه بقوله : «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فكل أرض لا ينزل عليها المطر ولا تجرى فيها المياه من الأرضين الممطورة تكون خالية من النبات والحيوان.

فنزول الماء على هذا النحو المشاهد ، وكونه سببا في حياة الحيوان والنبات من أعظم الأدلة على وحدانية المبدع ، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع يدل على الرحمة الإلهية الشاملة.

٣٦

٦ ـ (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي توجيه الرياح وتصريفها بحسب الإرادة ووفق النظام على السنن الحكيمة ، فمنها الملقحة للنبات كما قال تعالى : «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» ومنها العقيم ، وهى في الأغلب تهب من جهة من الجهات الأربع ، وقد تكون متناوحة : أي تهب من كل ناحية ، وتارة تأتى نكباء بين بين ، يدل على وحدة مصدرها ورحمة مدبرها.

٧ ـ (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي الغيم الذي ذلل وسحب فى الجواء لإنزال الأمطار في مختلف البلاد ، وتكوّن بنظام ، واعترض بين السماء والأرض بحسب السنة الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها وعلوها وهبوطها ، مما يدهش لرؤيته الناظر قبل أن يألفه ويأنس به.

(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي في كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر في الأسباب ، ليدرك الحكم والأسرار ، ويميز بين النافع والضار ، ويستدل بما فيها من الإتقان والإحكام ، على قدرة مبدعها وحكمته ، وعظيم رحمته ، وأنه المستحق للعبادة دون غيره من خلقه.

وفي الحديث «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» المج : قذف الريق ونحوه من الفم ، والمراد عدم الاعتبار والاعتداد بها ، إذ من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه.

وقال بعض العلماء : إن لله كتابين كتابا مخلوقا هو الكون ، وكتابا منزلا هو القرآن ، ويرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك ، بما أوتيناه من العقل ، فمن اعتبر بهما فاز ، ومن أعرض عنهما خسر الدنيا والآخرة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ

٣٧

الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

تفسير المفردات

الأنداد واحدها ندّ وهو المماثل ، والتبرؤ المبالغة في البراءة وهى التنصل والتباعد ممن يكره قربه وجواره ، والأسباب واحدها سبب وهو الخبل الذي يصعد به النخل وأمثاله ، ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد من المقاصد المعنوية ، والكرّة العودة والرجوع إلى الدنيا ، والحسرة شدة الندم والكمد بحيث يتألم القلب ويتحسر مما يؤلمه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما تقدم ظواهر الكون الدالة على توحيد الخالق ورحمته ، ذكر هنا حال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامها برهانا على وحدانيته ، ومن ثم جعلوا لله أندادا يلتمسون منهم الخير ، ويدفعون بهم النقمة ، ويأخذون عنهم الدين والشّرعة

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) أي ومن الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت أوصافه الجليلة أندادا وأمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون ، يحبونهم كحب الله ويسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم ، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه ، إذ هم لا يرجون من الله شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربا من التوسط الغيبى فيه ، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحّد.

٣٨

وللمشرك أنداد متعددون ، وأرباب متفرقون ، فإذا حزبه أمر ، أو نزل به ضرّ لجأ إلى بشر أو صخر ، أو توسل بحيوان أو قبر؟ أو استشفع بزيد أو عمرو ، لا يدرى أيهم يسمع ويسمع ، ويشفع فيشفّع ، فهو دائما مبلبل البال ، لا يستقر من القلق على حال.

وقد عظمت فتنة متخذى الأنداد بهم ، حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله ، إذ أنهم لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم مثله ، فهم يلتجئون إليهم عند الحاجة كما يلتجئون إلى الخالق سبحانه.

وليس من اتخاذ الأنداد طلب المسببات من أسبابها ، وقد تخفى علينا أحيانا ويعمى علينا طريق معرفتها ، فعلينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ إلى الله ، لعله برحمته يلهمنا إلى طريقها ، مع بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب ، حتى لا يبقى فى الإمكان شيء بعد ذلك.

فالدين يحظر علينا أن ننفر إلى الحرب والدفاع عن الأوطان ونحن عزل أو حاملو سلاح دون سلاح العدو المعتدى اتكالا على الله واعتمادا على أن النصر بيده ، بل يأمرنا بإعداد العدة ، ثم الاتكال بعد ذلك في الهجوم والإقدام على عناية الله ، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله ، كما أن من التجأ إلى ما ليس بسبب كإنسان مكرّم أو ملك مقرّب ، أو ما دون ذلك كصنم أو تمثال فهو مشرك بالله ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب ، أو طالبا ما هو أعجل منه ، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى لأحد أقار به أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية طلبا للتعجيل بالشفاء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من كل ما سواه ؛ إذ حبهم له خاص به لا يشركون فيه غيره ، إذ هم يعتقدون أن ملكوت السموات والأرض بيده ، وهو الذي له القدرة والسلطان على جميع الأكوان ، فما ينالهم من خير كسبى فهو بهدايته وتوفيقه ،

٣٩

وما يجيئهم بغير حساب فهو بعنايته وفضله ، وما تعذر عليهم من الأمور يفوضونه إليه ، ولا يعوّلون إلا عليه.

ثم ذكر بعد هذا وعيد متخذى الأنداد قال :

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) أي ولو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك ، وظلم الناس وغشهم ، بحملهم على أن يحذو حذوهم ، ويتخذوا الأنداد مثلهم ، حين يرون العذاب في الآخرة ، فتقطع بهم الأسباب ، ولا تغنى عنهم الأنداد والأرباب ، أن القوة لله وحده ، بها يتصرف في كل موجود ، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هى عين القوة التي تدبر عالم الدنيا ، وأنهم كانوا ضالين حين لجئوا إلى سواها ، وأشركوا معها غيرها ، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم.

وأمثال هذا العذاب على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثير في القرآن والسنة الصحيحة ، وعليه جرى السلف الصالح ، وهو حجة على من يعمل بأقوال أناس من الموتى ممن لا يعرف له تاريخ يوثق به ، ولا رواية يصح الاعتماد عليها ، مع تركهم لكلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف.

ثم بين حال التابعين والمتبوعين يوم القيامة حتى ينكشف الغطاء ، ويرى الناس بأعينهم العذاب ، فقال :

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) أي حين يتبرأ الرؤساء المضلون الذين اتّبعوا من أتباعهم الذين أغووهم في الدنيا ويتنصلون من إضلالهم ، لأنه قد ضاعف عذابهم وحملهم أوزارا فوق أوزارهم ، وتتقطع الروابط التي كانت بينهم في الدنيا ؛ ولكن ذلك لا يجديهم نفعا ؛ فهو إنما حصل لرؤيتهم العذاب ماثلا أمام أعينهم ، بما اقترفوا من السيئات وجنوه من الآثام ، فأنّى يفيدهم التبرؤ مما صنعوا؟.

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) أي وقال التابعون : ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبع سبيل الحق ، ونأخذ بالتوحيد الخالص ، ونهتدى بكتاب

٤٠