غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

في الشرط

قال رحمه‌الله : ويجوز ابتياع المملوك ، بشرط أن يعتقه أو يدبره أو يكاتبه ولو شرط ان لا خسارة ، أو شرط أن لا يعتقها أو لا يطأها ، قيل : يصح البيع ويبطل الشرط.

أقول : البحث هنا في مقامين :

الأول في اشتراط فعل احد هذه الأمور الثلاثة :

« أ » : ان يشترط عليه العتق ، ولا خلاف بين علمائنا في جواز هذا الشرط ، لأنه غير مخالف للكتاب ولا السنة فيجب الوفاء به ، فاذا باع بشرط العتق وجب الوفاء به ، وهل يكون حقا لله ، أو للعبد ، أو للبائع؟

يحتمل الأول ، لأنه كالملتزم بالنذر في حقهما ، ولأنه شرط يقتضي زوال الملك عن جميع الملاك ، فلا يكون حقا لغير الله.

ويحتمل الثاني : لأن غايته ملك العبد نفسه وخروجه عن الرق وتسلطه على تصرفات الأحرار وتملكه لكسبه ، فكان حقا له.

ويحتمل الثالث ، لأنه ثبت بفعل البائع لتعلق غرضه به ، وربما تسامح لأجل

٦١

هذا الشرط ببعض الثمن فيكون حقا له ، وهو مذهب العلامة في القواعد ، وهو ظاهر التحرير ، لأنه استقرب عدم إجبار المشتري على العتق ، وهو يدل على انه حق للبائع لا لله ، وظاهر الشهيد انه حق لله.

فعلى القول بأنه حق لله تكون المطالبة للحاكم ويجبره مع الامتناع ، ولا يسقط بإسقاط البائع.

وعلى القول بأنه للبائع تكون المطالبة له ويسقط بإسقاطه ولا يجبر المشتري ، ومع الامتناع يتخير البائع بين الفسخ والإمضاء.

وعلى القول بأنه للعبد يكون هو المطالب بالعتق ، ومع الامتناع يرافعه الى الحاكم ليجبره على ذلك ، وكسبه قبل العتق للمشتري على جميع التقادير.

ويتفرع هنا فروع :

الأول : لو مات العبد أو قتل ، قبل العتق فالخيار بحاله ، فإن فسخ رد الثمن الذي أخذه وطالب المشتري بالقيمة يوم القبض ، لأنه وقت انتقال الضمان إلى المشتري ، ويحتمل يوم التلف ، لأنه قبله كان يجب رد العين ، وانما وجبت القيمة بعد التلف ، وان امضى رجع بما يقتضيه شرط العتق ، فاذا قيل : ( قيمته لو بيع مطلقا مائة ، وبشرط العتق خمسة وسبعون ) ، زيد على الثمن مثل ثلثه ، هذا مذهب العلامة في القواعد ، واستضعفه الشهيد ، لأن الشروط لا توزع عليها الثمن ، ومع الفسخ يتبين انه مات على ملك البائع ، فمئونة التجهيز عليه ، والمحاكمة له لو كان قتيلا ، ومع عدم الفسخ ينعكس الحكم.

الثاني : هل يجوز إعتاقه عن الواجب على المشتري كالكفارة والنذر ، كما لو نذر عتق نسمة غير معينة؟ نقول : ان اشترط ( البائع عتقه عن الواجب جاز ذلك قطعا ، ويكون فائدة هذا الشرط تخصيص هذا العبد بالعتق ، وان اشترط ) (٨٨)

__________________

(٨٨) ما بين القوسين لم يرد في « ن ».

٦٢

العتق مطلقا لم يجز ، لوجوب العتق عليه بمقتضى الشرط ، فلا يجزي عن واجب غيره.

الثالث : اثبت العلامة في القواعد الولاء للمشتري ، وهو مشكل ، لأنه عتق واجب ، والعتق الواجب لا يثبت فيه ولاء.

وقد يجاب بأن مذهب العلامة انه حق للبائع ، فلا يجبر المشتري على العتق ، بل هو مخير ان شاء أعتق وان شاء ترك ، فيتخير البائع حينئذ ، فإذا أعتق كان عتقه تبرعا ، لكونه غير معين عليه لجواز الإخلال به ، اما على القول بأنه حق لله فلا يثبت فيه الولاء ، لإجباره على العتق لو أخل به.

الرابع : لو نكل به عتق ، ولم يجز (٨٩) عن الشرط فيتخير البائع بين الفسخ والإمضاء ، كما لو مات ، أو قتل ، وقد سبق (٩٠) البحث فيه.

الخامس : لو باعه أو وقفه تخير البائع ، فإن اختار الإمضاء نفذت العقود ، وان اختار الفسخ بطلت العقود ، لوقوعها في غير ملك تام ، ولو قلنا انه حق لله وقعت العقود باطلة من رأس ، لتحتم العتق ، فلا ينفذ تصرف غيره.

السادس : لو باعه بشرط العتق احتمل الصحة ، لحصول غرض البائع وهو العتق ، واحتمل البطلان ، لأن العتق حق واجب عليه ، فلا يجوز نقله الى غيره.

السابع : لو اشترى من ينعتق عليه بالملك بشرط العتق لم يصح ، لتعذر الوفاء بالشرط وهو العتق بعد الملك ، وهذا ينعتق عليه بنفس الملك من غير إعتاق بل قهرا.

« ب » : لو باعه بشرط التدبير ، صح هذا الشرط بلا خلاف ووجب الوفاء به ، فان دبره فلا بحث ، وان امتناع من تدبيره تخير البائع بين الفسخ واسترجاع

__________________

(٨٩) في « ي ١ » : يخرج.

(٩٠) ص ٦٢.

٦٣

العبد ورد الثمن وبين الإمضاء ، فيرجع بالتفاوت بين قيمته لو بيع مطلقا وقيمته بشرط التدبير ، وهل يجوز الرجوع ( في هذا التدبير؟ يحتمل ذلك ، لأن التدبير عقد جائز يجوز الرجوع فيه ) (٩١) فيتسلط البائع على الفسخ كما لو لم يدبره ، ويحتمل العدم ، لوجوب الوفاء بالشرط ، ولأنه تدبير واجب بمقتضى العقد فهو كالمنذور ، فلا يجوز الرجوع فيه ، ولأنه إبطال حق الغير وهو غير جائز.

ج : لو باعه العبد بشرط ان يكاتبه فإن أطلق الشرط تخير في المكاتبة بأي قدر شاء ، وإن عيّن قدرا (٩٢) تعين ، فلو كاتبه بأزيد تخير بين الإجازة والفسخ ، وله إلزامه بالكتابة بالقدر المشترط ، وكذا لو كاتبه في صورة الإطلاق (٩٣) بأزيد من القيمة ، ولم يرض العبد ، فللبائع الخيار بين الفسخ والإمضاء ، وبين إلزامه بالمكاتبة بالقيمة. فإن امتنع تعين الفسخ أو الإمضاء ، ولا يجب على المشتري المكاتبة بأقل من القيمة إلا مع الشرط ، ومع الإطلاق يتخير بين المطلقة والمشروطة ، ولو عين أحدهما تعين.

المقام الثاني : لو اشترى جارية بشرط أن لا خسارة عليه لو باعها ، أو (٩٤) لا يطأها ولا يعتقها ، فهذا الشرط ينافي عقد البيع ، لأن مقتضاه التسلط على جميع التصرفات ، وأن الربح له والخسران عليه ، وإذا كان منافيا كان باطلا.

وإذا بطل الشرط ، هل يبطل البيع؟ ذهب العلّامة والشهيد إلى بطلانهما معا ، لأن الشرط يزيد الثمن باعتباره وينقص ، فإذا بطل الشرط بطل ما قابله من الثمن أو المثمن ، فيتطرق الجهالة إلى الباقي ، وجهالة أحد العوضين توجب بطلان

__________________

(٩١) ما بين القوسين من « ي ١ » ، وفي باقي النسخ كلمة : ( فيه ) بدل ما بين القوسين.

(٩٢) في « ن » : بقدر.

(٩٣) في « ي ١ » بزيادة : ويتخير.

(٩٤) في « ي ١ » : ( وأن ) بدل ( أو ).

٦٤

العقد ، ولعدم حصول الرضا بدون سلامة الشرط ، فمع بطلانه تكون تجارة عن غير تراض.

وقال الشيخ وابن البراج وابن الجنيد : يبطل الشرط دون العقد ، لأن الأصل صحة البيع ، ولعموم قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (٩٥) ، ولأن الشرط فرع على صحة البيع ، فلو كان الحكم بصحة البيع موقوفا على صحة الشرط لزم الدور.

تنبيه : قال العلامة في المختلف (٩٦) : المشهور بين علمائنا الماضين ومن عاصرناهم الا من شذّ انه يجوز بيع الشي‌ء اليسير بأضاعف قيمته بشرط ان يقرض البائع المشتري شيئا ، لأنهم نصوا على جواز ان يبيع الإنسان شيئا ويشترط الإقراض أو الاستقراض أو الإجارة أو السلف ، أو غير ذلك من الشروط السائغة ، وكان بعض من عاصرناه يتوقف في ذلك. الى هنا كلامه.

وأشار بالمتوقف الى شيخه المحقق نجم الدين ابن سعيد مصنف هذا الكتاب المشروح ، نص على انه المحقق ، صاحب الدروس ، قال : ولو باعه بأضعاف القيمة ليقرضه أو ليؤجل ما عليه صح ، وتوقف فيه المحقق ولا وجه له.

احتج القائل بالجواز بعموم قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٩٧) ، وهذا بيع فيكون داخلا في العموم ، وبإجماع على جواز بيع الشي‌ء بأضعاف قيمته وبدون قيمته ، وانضمام الشرط اليه لا يغير حكمه ، لأنه شرط سائغ يجوز انضمامه إلى سائر عقود المعاوضة ، فلا مانع منه ، لعموم قوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند

__________________

(٩٥) البقرة : ٢٧٥.

(٩٦) في « ر ١ » : التحرير.

(٩٧) البقرة : ٢٧٥.

٦٥

شروطهم » (٩٨).

ولهم على الجواز روايات (٩٩) كثيرة ، أعرضنا عنها لئلا يطول الكتاب.

واحتج المانع بالروايات الواردة بالمنع (١٠٠) عن القرض إذا جرّ نفعا.

وأجيب بأنه غير صورة النزاع ، لأن الممنوع منه هو القرض مع اشتراط البيع بالمحاباة ، والنزاع في العكس ، وهو البيع بالمحاباة مع اشتراط القرض ، فالمانع لا يصلح للمانعية.

فروع :

الأول : قال العلامة في التذكرة : لو باعه شيئا بشرط ان يبيعه إياه لم يصح ، سواء اتحد الثمن قدرا أو وصفا أو عينا أو لا ، والا جاء الدور ، لأن بيعه له يتوقف على ملكه المتوقف على بيعه له فيدور ، واما لو شرط ان يبيعه على غيره صح عندنا ، لعدم منافاته للكتاب والسنة.

لا يقال : ما الزمتموه من الدور وارد هنا.

لأنا نقول : الفرق ظاهر لجواز ان يكون جاريا على حد التوكيل أو عقد الفضولي ، بخلاف ما لو شرط البيع على البائع. هذا آخر كلامه رحمه‌الله ، وهو يشعر بعدم حصول الملك للمشتري قبل حصول الشرط ، لقوله في توجيه الدور : لأن بيعه له يتوقف على ملكه المتوقف على بيعه ، فدل هذا على عدم حصول الملك قبل حصول الشرط ، ( والا لم يتوقف على البيع الذي هو شرط (١٠١) ، ويدل أيضا

__________________

(٩٨) تقدم ص ٤٤.

(٩٩) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٦ ، أبواب الخيار.

(١٠٠) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٢ ، أبواب الربا.

(١٠١) في « ر ٢ » : مشروط.

٦٦

على عدم الانتقال قبل حصول الشرط ) (١٠٢).

قوله : ( جاريا على حد التوكيل أو عقد الفضولي ) ، دل هذا الكلام على عدم انتقال الملك اليه وبقائه على ملك البائع ، والا لم يكن في بيعه على الغير وكيلا ولا فضوليا ، وهذا واضح لا غبار عليه.

إذا ثبت هذا فالجمع بين تملك المشتري للنماء المتجدد بعد عقد البيع وقبل فعل الشرط ، واستقرار ملكه عليه لو فسخ البائع لأجل المخالفة بالشرط ، وأخذ البائع العين مجردة دون النماء ، وبين عدم ملكه للمبيع قبل فعل الشرط مشكل ، لأن النماء تابع للأصل ، فكيف يملك النماء ولا يملك الأصل مع كونه قابلا بهذه الأحكام ، ومع التحقيق يجب المصير إلى عبارة الدروس ، لأنه قال : ولو شرط بيع المبيع على البائع بطل لا للدور ، بل لعدم قطع نية الملك ، وهذا هو الصحيح الذي لا غبار عليه.

الثاني : لو صالح على إسقاط الشرط بعوض صح الا ان يكون عتقا ، وقلنا : انه حق لله ، ولو شرط في عقد آخر سقوط اللازم له بالعقد السابق صح أيضا ، ولو شرط تأجيل الدين الحال أو حلول الدين المؤجل لزم بنفس العقد.

الثالث : إذا شرط رهنا معينا أو ضمينا لزم الشرط ، فلو تلف الرهن أو مات الضمين ، فان كان بعد الرهن والضمان لم يؤثر ، وان كان قبله كان له الفسخ.

الرابع : يجوز اشتراط رهن المبيع على ثمنه ، ومنعه الشيخ ، ولا يكفي عقد البيع عن عقد الرهن ، ولو جمع بينهما في عقد واحد وقدم الرهن بطل ، وان قدم البيع ، مثل ان يقول : ( بعتك الدار بألف وارتهنت العبد بها ) ، فقال : ( اشتريت ورهنت ) ، فيه وجهان ، أقربهما المنع ، لعدم ثبوت الحق حال الرهن.

الخامس : لو شرط ان يبيعه على زيد ، فامتنع زيد من الشراء احتمل ثبوت

__________________

(١٠٢) ما بين القوسين لم يرد في « ن ».

٦٧

الخيار للبائع ، لعدم حصول الشرط ، واحتمل لزوم البيع ، إذا التقدير ان يبيعه على زيد ان اشتراه ، فاذا امتنع لزم العقد ، لأن الأصل في العقود اللزوم ، اما لو امتنع الضمين المشروط بعقد البيع كان له الفسخ ، لأن نفع الضمان عائد اليه ولم يرض بدونه ، وهو لم يحصل فتسلط على الفسخ.

قال رحمه‌الله : ولو باعه أرضا على أنها جربان معينة ، وكانت أقل ، فالمشتري بالخيار بين الفسخ وأخذها بحصتها من الثمن ، وقيل : بل بكل الثمن ، والأول أشبه. ولو زادت كان الخيار للبائع بين الفسخ والإجازة بالثمن.

أقول : إذا باعه عشرة أجربة مثلا ، فظهرت خمسة ، قال الشيخ في النهاية : يتخير بين الفسخ وأخذها بحصتها من الثمن ، وتبعه أكثر الأصحاب ، واختاره المصنف والعلامة في المختلف ، وقال في المبسوط بتخير المشتري بين فسخ البيع وبين الإمضاء بجميع الثمن ، ( وتبعه ابن البراج ، واختاره العلامة في القواعد وفخر الدين في شرحه وأبو العباس في مقتصره ، وهو المعتمد ، لأن العقد وقع على المبيع بجميع الثمن ) (١٠٣) فليس له الا الفسخ أو الإمضاء بالجميع ، لوقوع العقد عليه.

واحتج الأولون بأنه وحده ناقصا فله مقابله من الثمن ، كما لو اشترى الصبرة على انها عشرة أقفزة فظهرت خمسة ، ولرواية عمر بن حنظلة ، عن الصادق عليه‌السلام ، وفي هذه الرواية : « ان كان للبائع أرض بجنب تلك الأرض لزم البائع ان يوفيه منها » (١٠٤).

واستقرب في القواعد ان الخيار في طرف النقيصة للمشتري بين الفسخ والإمضاء بجميع الثمن في متساوي الأجزاء ومختلفها ، وفي طرف الزيادة للبائع الخيار كذلك في المتساوي والمختلف ، والمشهور ان متساوي الأجزاء يسقط الثمن

__________________

(١٠٣) ما بين القوسين لم يرد في « ن ».

(١٠٤) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٤ من أبواب الخيار ، حديث ١.

٦٨

على اجزائه في الزيادة والنقصان.

فرع : على القول بأنه يرجع بالقسط من الثمن ، هل يثبت للبائع الخيار؟ يحتمل ذلك ، لأنه إنما رضي بيعها بالثمن أجمع ، فإذا لم يصل اليه كان له خيار الفسخ ، فلو بذل المشترى جميع الثمن لم يملك الفسخ حينئذ لوصول ما رضيه إليه.

٦٩
٧٠

في أحكام العيوب

قال رحمه‌الله : التصرية تدليس يثبت بها الخيار بين الرد والإمساك ، ويرد معها مثل لبنها أو قيمته مع التعذر ، وقيل : يرد ثلاثة امتداد من طعام ، وتختبر بثلاثة أيام وتثبت التصرية في الشاة قطعا ، وفي الناقة والبقرة تردد.

أقول : التصرية تحقين الشاة وجمع لبنها في ضرعها بأن يتركها أوقاتا لا يحلبها ثمَّ يخرج بها الى السوق ، فيراها المشتري فيرغب في شرائها لظنه ان هذا قدر حلبها ، ولا خلاف في جواز ردّها مع تحقق ذلك ، وانما الخلاف في موضعين :

الأول : في حكم اللبن المحتلب منها ، والمشهور رده ان كان موجودا ، ومثله ان كان مفقودا ، وقيمته مع التعذر ، وهذا هو المعتمد ، لأن اللبن من ذوات الأمثال ، فعند حضوره يجبر البائع على أخذه ، لأنه عين ماله ، ومع فقده يجب مثله ، فان تعذر المثل وجبت القيمة كغيره من الأعيان المضمونة.

وقال الشيخ في الخلاف والمبسوط يرد صاعا من تمر أو بر على ما نص (١٠٥)

__________________

(١٠٥) راجع الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٣ ، أبواب الخيار ، حديث ٢ ، ٣ وليس فيهما البر ، والمستدرك باب ١١ ، أبواب الخيار ، حديث ١ ، ٣ ، ٤ ، ٥.

٧١

عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، فإن الأخبار الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تضمنت البر أو التمر ، فمن قال بغيرهما فعليه الدلالة ، ومثله قال في المبسوط ، ثمَّ قال فيه : فان تعذر ـ يعني الصاع ـ وجبت قيمته وان أتى على قيمة الشاة ، ثمَّ تردد مع بقاء عين اللبن بين إجباره على أخذه ، لأنه عين ما له ، وبين العدم وإلزام المشتري بالصاع لعموم النص.

وجزم ابن البراج في المهذب على عدم إجبار البائع على أخذ عين اللبن ، وحمله العلامة في المختلف على تغير صفات اللبن ، لأن من شأنه التغير ، وهو يدل على انه مع التغير لا يجب على البائع أخذه ، والشهيد الزم أخذه (١٠٦) مع الأرش ، وهو فتوى القواعد ، وهو المعتمد.

وقيل : رد معها ثلاثة أمداد من طعام ، رواه الحلبي « فيمن اشترى شاة فأمسكها ثلاثة أيام ثمَّ ردها وقد شرب لبنها » (١٠٧) ، ولم يذكر المصراة ، ومثله قال الشيخ في النهاية. وابن إدريس قيده بالمصراة.

الثاني : في ثبوته في الناقة والبقرة ، وبعدم ثبوته قال الشيخ في المبسوط وابن البراج وابن الجنيد وابن إدريس ، وادعى الشيخ الإجماع ، واختاره العلامة في القواعد والتحرير ، وتوقف في المختلف ، لأصالة لزوم العقد وسقوط الخيار مع التصرف ، خرج منه الشاة لوقوع الاتفاق ، يبقى الباقي على الأصل ، وهو اختيار فخر الدين.

احتج المثبتون باتحاد العلة.

تنبيه : مدة خيار التصرية ثلاثة أيام ، وهل هي الثلاثة الثابتة للحيوان ، أو

__________________

(١٠٦) في « ن » : إجباره.

(١٠٧) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٣ ، من الخيار ، حديث ١.

٧٢

هي ثابتة للتصرية؟ نص الشيخ على الأول ، وهو ظاهر التحرير ؛ لأنه قال فيه : مدة الخيار في المصراة ثلاثة أيام كغيرها من الحيوانات ، وروى العامة انها ثابتة للتصرية (١٠٨).

وتظهر الفائدة لو أسقط خيار الحيوان ، فان قلنا بالمغايرة فخيار التصرية باق ، وان قلنا بالاتحاد سقط.

والتصرية تثبت بإقرار البائع ، وبنقص حليبها في الثلاثة عن الحلبة الأولى ، فإن تساوت الحلبات ، أو زادت الأخيرة فلا خيار ، واستشكل في التحرير بثبوته قبل انقضاء الثلاثة بعد فتواه بعدم الثبوت.

وقال في القواعد : ولو علم بالتصرية قبل الثلاثة تخير على الفور ، ولعل فتوى التحرير أقرب ، لعدم ثبوت الخيار إلا بعد تحقق التصرية ولا تتحقق الا بنقص حليبها في الثلاثة عن الحلبة الاولى ، فلا بد من الاختبار مدة الثلاثة ، وتحمل فتوى القواعد على حصول العلم بإقرار البائع ، فحينئذ تتحقق التصرية ويثبت الفسخ.

ولو تصرف بغير الحلب سقط الرد ولا يثبت بالتصرية أرش ؛ لأنها تدليس ، ( وهو لا يثبت الأرش ، بل الخيار بين الرد والإمساك ، ويسقط خيار التدليس ) (١٠٩) بالتصرف عدا حلب المصراة.

قال رحمه‌الله : تحمير الوجه ووصل الشعر تدليس يثبت به الخيار دون الأرش ، وقيل : لا يثبت به خيار ، والأول أشبه.

أقول : قال الشيخ في الخلاف : لو بيض وجهها بالطلاء ، ثمَّ أسمر ، أو حمر خديها بالذمار وهو الكلكون ، ثمَّ اصفر لم يكن له خيار ، وقال في المبسوط :

__________________

(١٠٨) سنن البيهقي ٥ : ٣١٨ ـ ٣١٩.

(١٠٩) ما بين القوسين سقط في « م ».

٧٣

يثبت له الخيار ، ثمَّ قال : ولو قلنا ليس له الخيار ، لأنه لا دليل في الشرع على كونه عيبا يوجب الرد ، كان قويا.

وقال ابن البراج : له الخيار بين الرد والإمساك ، واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لأنه تدليس فأوجب الخيار كغيره ، ولأن الأغراض تختلف ، فربما شاهده المشتري على صفته ، فرغب اليه لتلك الصفة ، ولم يسلم له ، فيثبت له الخيار.

فرع : لو أشبع الشافة فامتلأت خواصرها فظنها المشتري حبلى ، أو سود أنامل العبد أو ثوبه ، فظنه كتابا فلا خيار ، لأنه لا يتعين في الجهة التي ظنها ، إذ قد يسود أنامل غير الكاتب وتمتلئ خاصرة غير الحبلى.

قال رحمه‌الله : إذا حدث العيب بعد العقد وقبل القبض ، كان للمشتري رده ، وفي الأرش تردد. ولو قبض بعضه وحدث في الباقي حدث ، كان الحكم كذلك فيما لم يقبض.

أقول : اما منشأ التردد في حدوث العيب بعد العقد وقبل القبض ، فقد مضى في باب قبض المبيع فلا وجه لإعادته ، واما قوله : لو قبض بعضه وحدث في الباقي حدث كان الحكم كذلك فيما لم يقبض فغير مسلّم ، بل يتخير في الجميع ، لعدم جواز تبعيض الصفقة.

٧٤

في المرابحة والمواضعة

قال رحمه‌الله : فلو باع مرابحة فبان رأس ماله أقل ، كان المشتري بالخيار بين رده وأخذه بالثمن وقيل : يأخذه بإسقاط الزيادة ، ولو قال اشتريته بأكثر ، لم يقبل منه ولو أقام بينة ، ولا يتوجه على المبتاع يمين الا أن يدعي عليه العلم.

أقول : البحث هنا في موضعين :

الأول : إذا بان الثمن انقص مما وقع عليه العقد ، قال الشيخ في المبسوط وابن الجنيد : يأخذه بإسقاط الزيادة. واختلفا بما قابل الزيادة من الربح ، فالشيخ أسقطه تبعا لمقابله من الأصل ، وابن الجنيد أثبته ان كان درهما معينا ، لأنه باع برأس ماله وربح هذا المعين ، فاذا ظهر الكذب في رأس المال سقطت الزيادة ، ولا يسقط شي‌ء من الربح ، لأن الربح مقابل رأس المال ، والزيادة ليست من رأس المال ، فلا يقابلها شي‌ء من الربح ، فان كان الربح غير معين بالدراهم ، بل يجزئ من الثمن بأن يقول : بعتك برأس مالي وهو مائة مثلا وربح ثلث الثمن ثمَّ ظهرت الزيادة سقطت هي ومقابلها من الربح ، والمشهور ثبوت الخيار بين الفسخ والإمضاء بجميع ما وقع عليه العقد ، وهو المعتمد ، لأن العقد يتناول هذا القدر ،

٧٥

وقد رضي المشتري به وانعقد البيع على ذلك ، وظهور النقيصة لا يوجب البطلان ، بل يثبت الخيار.

الثاني : إذا ادعى الغلط وان رأس ماله أكثر مما ذكره ، فالمصنف لم يتردد في عدم قبول دعواه ولا بينته للتكذيب ، وقال الشيخ في المبسوط : ( ولو قال وكيلي كان اشتراه بأزيد ) واقام بذلك بينة ، قبلت بينته ، قال : ولو قلنا انها لا تقبل ، لأنه كذبها بالقول الأول كان قويا ، والشهيد اختار قبولها إذا أقامها على مشتري الوكيل ، واختار العلامة في المختلف قبولها مطلقا ، لأنه لو صدقه المشتري قبل ، فله إقامة البينة مع التكذيب ، وفي القواعد لم يتردد بعدم القبول ، بل نقل عبارة الشرائع كما هي ، وكذلك في التحرير ، الا انه زاد فيه ما قابله الشيخ في دعوى شراء الوكيل.

قال رحمه‌الله : إذا حطّ البائع بعض الثمن ، جاز للمشتري أن يخبر بالأصل ، وقيل : ان كان قبل لزوم العقد ، صحت ولحق بالثمن ، وأخبر بما بقي ، وإن كان بعد لزومه كانت هبة مجدّدة وجاز الإخبار بأصل الثمن.

أقول : التفصيل مذهب الشيخ في المبسوط بناء على مذهبه من ان المبيع لا ينتقل إلا بعد مدة الخيار ، والمشهور عدم التفصيل ، وهو المعتمد ، لأن العقد ناقل ، ومضي مدة الخيار سبب اللزوم ، لا سبب النقل ، ولا لها مدخل فيه ، فالإسقاط بعد العقد هبة مجدّدة ، سواء كان في مدة الخيار أو بعدها.

٧٦

في الربا

قال رحمه‌الله : فيجوز بيع المتجانس وزنا بوزن نقدا ، ولا يجوز مع زيادة ، ولا إسلاف أحدهما في الآخر على الأظهر.

أقول : إذا تماثل الثمن والمثمن في الجنس ، وكانا ربويين جاز البيع نقدا من غير زيادة في أحدهما بلا خلاف ، والمشهور بين الأصحاب عدم جواز اسلاف أحدهما في الآخر وان لم تحصل الزيادة. قال العلامة في المختلف : ولا أعرف في ذلك خلافا الا قولا شاذا للشيخ ذكره في الخلاف ، فإنه قال فيه : ويجوز بيع الجنس بعضه ببعض مماثلا يدا بيد ، ويكره نسيئة. قال : لكن الشيخ قد يطلق على المحرم اسم المكروه ، كما قال في هذا الكتاب : يكره الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة ، وقصده التحريم.

قال رحمه‌الله : وإذا اختلف الجنسان جاز التماثل (١١٠) والتفاضل نقدا ، وفي النسيئة تردّد ، والأحوط المنع.

أقول : إذا اختلف أجناس الربويات جاز البيع مع التفاضل نقدا بلا

__________________

(١١٠) من الشرائع المطبوع.

٧٧

خلاف ، وهل يجوز نسيئة؟ قال الشيخ في النهاية : يجوز ، وهو قول ابن حمزة ، وقال المفيد وسلار بالكراهة ، وهو اختيار ابن إدريس والعلامة وأبي العباس في المقتصر.

احتج ابن حمزة بقوله عليه‌السلام : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (١١١).

واحتج المانعون بقوله عليه‌السلام : « انما الربا في النسيئة » (١١٢).

واحتج القائلون بالكراهة بأنه جمع بين الأدلة.

وإذا كان الثمن والمثمن عوضين غير ربويين كالثياب والعبيد جاز البيع مع التفاضل بلا خلاف ، وهل يجوز نسيئة؟ منعه الشيخ في النهاية والخلاف ، وهو قول ابن ابي عقيل وابن الجنيد ، وقال في المبسوط : انه مكروه ، وابنا بابويه أطلقا الجواز ، واستند الجميع الى الروايات (١١٣).

قال رحمه‌الله : والحنطة والشعير جنس واحد في الربا على الأظهر ، لتناول اسم الطعام لهما.

أقول : هذا مذهب الشيخين وسلار وأبي الصلاح وابن البراج وابن حمزة ، واختاره المصنف والعلامة والشهيد ، وهو المعتمد ، ولهم عليه روايات (١١٤) كثيرة.

وقال ابن الجنيد وابن أبي عقيل : انهما نوعان ، واختاره ابن إدريس ، لاختلافهما صورة وا سما وطعما.

قال رحمه‌الله : والحمام جنس واحد ، ويقوى ان كل ما يختص باسم واحد.

__________________

(١١١) المستدرك ، كتاب التجارة ، باب ١٢ ، أبواب الربا ، حديث ٤.

(١١٢) كنوز الحقائق ، ص ٧٥.

(١١٣) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٣ من الربا.

(١١٤) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٨ من الربا.

٧٨

فهو جنس على انفراده (١١٥) كالفخات والورشان وكذا السموك.

أقول : هنا مسئلتان :

الأولى : في الحمام ، ويحتمل ان يكون جنسا واحدا لشمول اسم الحمام له ، ويحتمل ان كل ما يختص باسم فهو جنس على انفراده ، لاختلاف لحوم الحيوان باختلاف أسمائه مع شمول اسم الحيوان لها ، والأول اختيار العلامة والشهيد ، وانما يتصور الربا في الطير إذا بيع لحمه وزنا.

الثانية : في السموك ، وقوى الشيخ انها جنس واحد ، وقواه الشهيد ، وجزم به العلامة في القواعد ، وقال في التحرير : كل ما اختص باسم وصفة فهو صنف مخالف للصنف الآخر.

قال رحمه‌الله : ويجوز التفاضل بينهما نقدا وفي النسيئة تردد.

أقول : قد سبق (١١٦) البحث في ذلك.

قال رحمه‌الله : ولو كان معدودا كالثوب بالثوبين والثياب ، والبيضة بالبيضتين والبيض نقدا ، وفي النسيئة تردد.

أقول : قد سبق (١١٧) البحث فيه أيضا.

قال رحمه‌الله : ويثبت في الطين الموزون كالأرمني على الأشبه.

أقول : هذا مذهب الشيخ في المبسوط ، وبه قال ابن البراج ، واما ما يدخل في الأدوية من الطين الأرمني والخراساني ، فلا يجوز بيعه ، لأنه حرام ، فلا معنى لدخول الربا فيه ، والمعتمد الأول ، لأن تحريم الأكل لا يستلزم تحريم البيع إذا كان فيه منفعة ، وإذا جاز بيعه دخل الربا فيه إذا بيع وزنا ، والأرمني قيل : انه طين قبر

__________________

(١١٥) ( على انفراد ) من الشرائع.

(١١٦) ص ٧٧.

(١١٧) ص ٧٨.

٧٩

الإسكندر ، وقيل : انه طين احمر يجلب من الأرمن يعالج به الأطباء.

قال رحمه‌الله : والاعتبار بعادة الشرع مما يثبت انه مكيل أو موزون في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبني عليه ، وما جهلت الحال فيه رجع الى عادة البلد ، ولو اختلفت البلدان فيه كان لكل بلد حكم نفسه ، وقيل : نغلب جانب التقدير ونثبت التحريم عموما.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : المماثلة شرط في الربا ، وانما تعتبر المماثلة بعرف العادة بالحجاز على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاذا كانت العادة فيه الكيل لم يجز الا كيلا في سائر البلاد ، وما كان العرف فيه الوزن لم يجز الا وزنا في سائر البلاد ، والمكيال مكيال أهل المدينة ، والميزان ميزان أهل مكة ، هذا كله بلا خلاف ، فان كان مما لا يعرف عادته في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمل ذلك على عادة البلد الذي فيه ذلك الشي‌ء ، فإذا ثبت ذلك الشي‌ء فما عرف كيلا لا يباع الا كيلا ، وما عرف فيه الوزن لا يباع الا وزنا ، وتبعه ابن البراج ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لأن لكل بلد عرفا خاصا ، فاذا انتفى العرف في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انصرف الى عرف ذلك البلد ، ولأصالة عدم التحريم ، فان كان عرف ذلك البلد بيعه جزافا جاز فيه التفاضل ، وان كان عرفه كيلا أو وزنا ، حرم فيه التفاضل.

وقال المفيد : يحكم بالأغلب عند الاختلاف ، فان كان الأغلب فيه الجزاف جاز فيه التفاضل ، وان كان الأغلب فيه الكيل أو الوزن لم يجز ، وتبعه ابن إدريس ، لأن المعلوم من عادة الشرع اعتبار الأغلب واطراح النادر.

وفي النهاية غلب جانب التقدير وحرم التفاضل في الجميع ، لأن الأصل في الأشياء التقدير ، وللاحتياط حذرا من الوقوع في الربا ، وتبعه سلار.

قال رحمه‌الله : ولو باع لحما نيا بمقدّر متساويا ، جاز وكذا لو باع بسرا

٨٠