غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

وأجاز المفيد والسيد بيعه إذا كان أنفع لأرباب الوقف من بقائه.

والمصنف اشترط في الجواز حصول الخراب مع إبقائه ، واختاره العلامة وأبو العباس. وهو المعتمد ؛ لأنّ الغرض الأقصى من الوقف تحصيل منافعه ، وقد تعذرت ، فيجوز بيعه ، ويشترى بثمنه ملك يستغله (٣٢) الموقوف عليهم ، ومهما أمكنت المماثلة بينه وبين الوقف كان أولى ، ولا يجوز صرف ثمنه في غير ذلك مع التمكن.

قال رحمه‌الله : ولا يجوز بيع أم الولد ما لم يمت ، أو في ثمن رقبتها ، مع إعسار مولاها ، وفي اشتراط موت المالك تردد.

أقول : منشؤه من عموم النهي عن بيع أمهات الأولاد ، خرج منه جواز بيعها في ثمن رقبتها إذا مات مولاها ولم يخلف سواها ، يبقى الباقي على المنع ؛ ولأن مع حياة المولى للمال محل ، وهو ذمة المولى. ومن إطلاق الأصحاب جواز بيعها عند الإعسار بثمنها. وصرح ابن الجنيد بجواز بيعها في حال حياة سيدها مع الإعسار بثمنها ، ولرواية زرارة (٣٣) ، عن الباقر عليه‌السلام ، وهذا هو المعتمد.

تنبيه : يجوز بيع أم الولد في أماكن :

الأول : في هذه الصورة المذكورة في هذا الكتاب.

الثاني : إذا مات ولدها جاز بيعها عند الخاصة. والعامة يثبتون لها حكم الاستيلاد مع موت ولدها.

الثالث : إذا أسلمت تحت الذمي بيعت عليه على المختار.

الرابع : إذا مات سيدها ، وعليه دين يحيط بالتركة وإن لم يكن ثمنا لها.

الخامس : إذا حملت بعد الارتهان ؛ لسبق حق المرتهن على الأقرب.

__________________

(٣٢) من « م » وفي الباقي من النسخ : يشغله.

(٣٣) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٢٤ من بيع الحيوان ، حديث ٣.

٢١

السادس : تباع في الجناية.

السابع : إذا أعسر مولاها عن نفقتها دفعا للضرورة.

الثامن : تباع إذا حملت بعد التفليس والحجر على أمواله ؛ لسبق حق الغرماء على الاستيلاد.

التاسع : تباع على من تنعتق عليه بالملك على الأقرب ؛ لحصول المطلوب ، وهو العتق.

العاشر : تباع إذا ارتد ولدها عن فطرة ؛ لمساواة الارتداد للموت.

الحادي عشر : تباع إذا كان ولدها كافرا وهناك ورثة مسلمون ؛ لعدم إرثه منها.

الثاني عشر : تباع إذا كان ولدها قاتلا عمدا ، لعدم ميراثه منها أيضا. وبالجملة : كل موضع يمنع ولدها من الإرث فإنه يجوز بيعها ؛ لأنها إنما تنعتق من نصيب ولدها ، فإذا لم يكن له نصيب لم تنعتق وجاز بيعها.

قال رحمه‌الله : ولا يمنع جناية العبد في بيعه ولا عتقه ، عمدا كانت الجناية أو خطأ ، على تردد.

أقول : البحث هنا في موضعين :

الأول : في بيع الجاني ، ولا خلاف في جواز بيعه إذا كانت الجناية خطأ أو شبه العمد ، ويضمن المولى أقل الأمرين من قيمته ودية الجناية ، ولو امتنع كان للمجني عليه أو وليه (٣٤) انتزاع العبد ، فيبطل البيع ، وكذا ولو كان المولى معسرا ، وللمشتري الفسخ مع الجهالة ؛ لتزلزل ملكه ما لم يفده المولى.

وإذا كانت الجناية عمدا ، قال الشيخ : لا يصح بيعه ؛ لأنه مستحق للقتل.

والمشهور الجواز ؛ لأنه لم يخرج باستحقاقه للقتل عن ملك مالكه ، ولأصالة

__________________

(٣٤) في « م » و« ي ١ » : أولوية.

٢٢

الصحة ، ولعدم إسقاطه (٣٥) لحق المجني عليه ، فلا مانع منه. وإذا باعه كان مراعى ، فإن قتل أو استرق بطل البيع ، وإن عفى الولي أو صالح على مال التزمه (٣٦) المالك لزم البيع.

الموضع الثاني : في جواز عتق العبد الجاني ، وقد اختلف الفقهاء في ذلك.

قال الشيخ في المبسوط : الذي يقتضيه مذهبنا أن الجنابة إن كانت عمدا نفذ العتق ؛ لأن حق المجني عليه من القود لا يبطل بصيرورته حرا ، وإن كانت خطأ لم ينقض ؛ لأنها تعلقت برقبته ، والعتق يمنع الاسترقاق. وقال في النهاية بجواز عتقه إذا كانت خطأ ، ويلزم المعتق الدية ؛ لأنه عاقلة العبد. وابن إدريس قوّى مذهب المبسوط.

وقال العلامة في المختلف : المعتمد أن يقول : إن كانت عمدا لم يصح عتقه إلا أن يجيز أولياء المقتول ، وإن كانت خطأ وكان موسرا جاز ، وإلا فلا.

وفي القواعد أجاز العتق إن كانت خطأ بشرطين : إما دفع الدية قبل العتق ، أو يضمنها ويرضى الولي بالضمان لا بدونهما. وهو يدل على عدم جواز عتقه في العمد والخطأ معا ؛ لأن مع حصول أحد الشرطين لا كلام في صحة العتق ؛ لزوال تعلق الجناية برقبة العبد ، أما مع أداء المال فظاهر. وأما مع الضمان فلأن الضمان مع رضي الولي ناقل للأرش من رقبة العبد إلى ذمة المولى ، فلا كلام في جواز العتق بعد أحد هذين الشرطين. وهذا هو المعتمد.

أما عدم جوازه في العمد ؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط حق المجني عليه ؛ لأنه مخيّر بين قتله وبيعه واسترقاقه ، والعتق يمنع من البيع والاسترقاق ، وكل تصرف يمنع حق الغير فهو باطل.

__________________

(٣٥) هامش « ر ٢ » : استحقاقه.

(٣٦) في « ن » و« ر ١ » : ألزمه.

٢٣

وأما عدم جوازه في الخطأ [ فـ ] لأن الجناية متعلقة برقبته ، ومع عدم افتكاك المولى له ، فهو مخير بين البيع والاسترقاق ، والعتق يمنع من ذلك فيكون باطلا.

قال رحمه‌الله : ولو باع ما يتعذر تسليمه إلا بعد مدة ، فيه تردد ، ولو قيل بالجواز مع ثبوت الخيار للمشتري كان قويا.

أقول : منشؤه من أصالة الصحة ، وكونه مالا مملوكا مقدورا على تسليمه بعد مدة فيصح بيعه ، ويثبت الخيار للمشتري مع عدم العلم. وهو المعتمد. ومن أن القدرة على تسليمه شرط في صحة البيع ، وهو غير مقدور على تسليمه في الحال ، فلا يصح بيعه.

قال رحمه‌الله : فلو باع بحكم أحدهما لم ينعقد ، ولو تسلمه المشتري فتلف ، كان مضمونا عليه بقيمته يوم قبضه ، وقيل : بأعلى القيم من يوم قبضه إلى يوم تلفه ، وإن نقص فله أرشه ، وإن زاد بفعل المشتري كان له قيمة الزيادة وإن لم يكن غنيّا.

أقول : إذا باع بحكم أحدهما أو ثالث ، كان البيع باطلا ، فإن قبضه المشتري كان للبائع انتزاع العين مع بقائها ، فإن تلفت كانت مضمونة على المشتري.

وهل يضمنها بأعلى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف ، أو بقيمتها يوم قبضها؟ اختلف الأصحاب في ذلك.

ذهب الشيخ إلى ضمانها بالصحة يوم قبضها ؛ لأنه وقت الحيلولة.

وذهب ابن إدريس إلى ضمانها بأعلى القيم ؛ لأنها مضمونة عليه في جميع الحالات ؛ لعدم انتقالها عن ملك البائع بالقبض ، وعدم دخولها في ملك المشتري ، ومن جملة الحالات الحالة العليا ، فتكون مضمونة عليه بقيمتها تلك الحالة. وهذا هو المعتمد.

٢٤

وإذا انتزع العين مع بقائها ، هل يرد عليه ما زاد بفعله ، سواء كان أثرا كتعليم الصنعة أو عينا كالصبغ؟ قولان :

أحدهما : لا يرد عليه شيئا ؛ لأنه وضعه في ملك غيره بغير إذنه ، ولا يمكن انفصاله ، فلا شي‌ء له ، سواء كان أثرا أو عينا.

وقيل : يكون شريكا بنسبة الزيادة ، سواء كانت عينا أو أثرا ؛ لأنه لم يتبرع (٣٧) بها ، ولم يخرج عن ملكه بإضافتها إلى ملك الغير ، والمنع من التصرف لا يرفع الملك عن مستحقه. اما لو كانت الزيادة لا بفعله كالسمن فإنه لا يكون شريكا بشي‌ء قطعا. وهذا هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو اختلفا فيه ، فالقول قول المبتاع مع يمينه ، على تردد.

أقول : إذا شاهد المشتري المبيع ، ثمَّ اشتراه بعد مدة يمكن فيها تغيره عن الصفات التي شاهده عليها ، ثمَّ اختلفا في تغير الصفات ، احتمل أن يكون القول قول البائع ؛ لأصالة بقاء الصفات المعلومة بينهما. واحتمل أن يكون القول قول المشتري ، لوجوب تسليم المبيع على تلك الصفات المعهودة ، ولم يثبت ، فيكون القول قوله ؛ لأصالة عدم وصول حقه اليه.

قال رحمه‌الله : وهل يصح شراؤه من غير اختبار ولا وصف على أن الأصل الصحة؟ فيه تردد ، والأولى الجواز.

أقول : قال الشيخان : كل شي‌ء من المطعوم والمشروب يمكن للإنسان اختباره من غير إفساد له ، كالأدهان الطيبة المستخبرة بالشم ، وصنوف الطيب ، والحلاوات ، والحموضات ، فإنه لا يجوز بيعه بغير اختبار (٣٨) ، وبه قال أبو الصلاح والقاضي وابن حمزة وسلّار ؛ لان الاختبار شرط في صحة البيع مع إمكانه ، وهذا

__________________

(٣٧) في بعض النسخ : ينزع.

(٣٨) في « ي ١ » و« م » : إلا بعد اختباره.

٢٥

يمكن اختباره ، فلا يصح بيعه من غير اختبار.

وذهب المصنف إلى صحة البيع وثبوت الخيار مع خروجه معيبا ، واختاره العلامة ، لأصالة الصحة ، ولأنها عين مشاهدة فيصح بيعها ، ولأنه لو باعها بالوصف مع غيبتها صح البيع ، وثبت الخيار مع ظهورها على غير وصفها ، فمع مشاهدتها يكون صحة البيع أولى ، لزيادة العلم بالعين مع الحصول على العلم بالوصف مع الغيبة ، فالفرق غير لائق. وهذا هو المعتمد ، لكن إذا تصرف ثمَّ ظهر معيبا ثبت الأرش دون الرد ، ولا فرق في ذلك بين الأعمى وغيره ، خلافا لسلّار حيث أثبت للأعمى الرد وإن تصرف.

قال رحمه‌الله : ولا يجوز بيع سمك الآجام وإن كان مملوكا ، لجهالته وإن ضم إليه القصب أو غيره ، على الأصح.

أقول : جواز بيعه منضما إلى القصب أو غيره مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن البراج وابن حمزة.

وعدم جوازه مطلقا مذهب الشيخ في المبسوط ، وأختاه ابن إدريس والمصنف ، لأن المجهول إذا أضيف إلى المعلوم أو بالعكس حصل جهالة الجميع ، فيبطل البيع ، لاشتراط العلم بالمبيع.

وفصّل العلامة في المختلف ، قال : « إن كان المقصود بالبيع هو المضاف إلى السمك ، ويكون السمك تابعا صح البيع ، وبالعكس لا يصح » ، واختاره أبو العباس. وهو المعتمد ، لأن المعلوم إذا كان هو المقصود من البيع لا يضر جهالة الضميمة ، كالحامل مع حملها ، والأرض مع البذر الذي فيها قبل نباته ، وما شابه ذلك.

قال رحمه‌الله : وكذا الجلود والأصواف والأوبار والشعر على الأنعام ، وإن ضم إليه غيره ، وكذا ما في بطونها ، وكذا إذا ضمهما ، وكذا ما يلقح الفحل.

أقول : أما بيع الأصواف والأوبار والشعر على ظهور الأنعام ، فقد منع منه

٢٦

الشيخ وأبو الصلاح وابن البراج إلا مع الضميمة. والمصنف جزم بالمنع وإن ضم إليه غيره.

وجوّزه المفيد وابن إدريس وإن لم يضم اليه غيره ، واختاره العلامة.

وهو المعتمد ، لأصالة الجواز ، ولصدور العقد من أهله في محله ، والمانع إنما هو الجهالة لا غير ، والجهالة [ غير ] متيقنة ، لحصول المشاهدة الرافعة للجهالة.

لا يقال : إنه موزون ، ولا يعرف وزنه وهو على ظهور الانعام ، فلا يصح بيعه ، لجهالته من حيث الوزن.

لأنا نقول : الوزن إنما يكون شرطا فيه بعد جزّه لا قبله ، كالتمرة ، فإنه يجوز بيعها على رؤوس النخل مع المشاهدة ، وهي مما يكال ويوزن.

وقوله : ( وكذا ما في بطونها وكذا إذا ضمهما ).

الضمير في ( ضمهما ) عائد إلى ( ما في البطون ، وما على الظهور ) ، وليس مراده عدم جواز ضمهما إلى ذوات البطون والظهور ، لأن ذلك جائز قطعا ، بل مراده عدم جواز شراء ما على ظهور الأنعام منضما الى ما في بطونها من غير أن تكون الأنعام داخلة في البيع ، لأن انضمام المجهول الى المجهول لا يصير معلوما.

وقال الشيخ بالجواز لما رواه إبراهيم الكرخي : « قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل اشترى من رجل أصواف مائة نعجة وما في بطونها من حمل بكذا وكذا درهما؟ قال : لا بأس بذلك إن لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله [ في ] الصوف » (٣٩).

وابن إدريس والمصنف والعلّامة لم يعولوا على هذه الرواية.

قال رحمه‌الله : المسك طاهر ، ويجوز بيعه في فأره وإن لم تفتق ، وفتقه أحوط.

__________________

(٣٩) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٠ ، عقد البيع وشروطه ، حديث ١.

٢٧

أقول : البحث هنا في موضعين :

الأول : في طهارته ، وهو المشهور بين الأصحاب ، لأن الغزال تلقيه كما تلقي الولد ، والدم النجس انما هو الدم المسفوح ، لأن الكبد حلال طاهر وهو دم.

الثاني : في بيعه في فأره مع عدم الفتق ، وإن كان الفتق أحوط ، وهو قول الشيخ رحمه‌الله ، وتابعه بقية الأصحاب ، لأن البقاء في فأره مصلحة له ، لأنه يحفظه رطوبته وذكاء رائحته. ومنع أكثر أصحاب الشافعي من بيعه قبل فتقه ، لبقائه وبقاء رائحته مع خروجه من فأره ، فلا يصح بيعه مستورا في فأره لجهالة صفته.

قال رحمه‌الله : والرابح على المؤمن إلا مع الضرورة.

أقول : يجوز الريح من غير كراهية في أماكن :

أحدها : حال ضرورة البائع.

الثاني : أن يشتري بأكثر من مائة درهم شرعية ، وفي هذين يربح عليه ( قوت يومه وليلته لا غير ، والزيادة على ذلك مكروه.

الثالث : إذا اشترى المؤمن للتجارة ، فهنا لا يكره الربح عليه ) (٤٠) ولا يتقدر بقدر إلا أنه يستحب له أن يرفق به.

قال رحمه‌الله : الزيادة في السلعة وقت النداء ، ودخول المؤمن في سوم أخيه على الأظهر ، وأن يتوكل حاضر لباد ، وقيل : يحرم ، والأول أشبه.

أقول : هنا ثلاث مسائل :

الأولى : الزيادة وقت النداء ، قال الشيخ في النهاية : فإذا نادى المنادي على المتاع ، فلا يزيد في المتاع ، فاذا سكت المنادي زاد حينئذ إن شاء. وظاهر هذا

__________________

(٤٠) ما بين القوسين لم يرد في « ن ».

٢٨

الكلام تحريم الزيادة في السلعة وقت النداء عليها ، لما رواه الشعيري (٤١) عن الصادق عليه‌السلام ، « قال : إذا نادى المنادي فليس لك أن تزيد ، فإذا سكت فلك أن تزيد » (٤٢) ، والمشهور الكراهية للأصل. وابن إدريس منع من الكراهية والتحريم معا.

الثانية : الدخول في سوم المؤمن ، وحرمه الشيخ في المبسوط ، لقوله عليه‌السلام : « لا يسوم أحدكم على أخيه » (٤٣). والمشهور الكراهية للأصل.

تنبيه : التحريم أو الكراهية على الخلاف ، انما يكون بعد تراضيهما على الثمن وقطع المزايدة والمجاذبة بينهما ، فإذا استقر البيع على ثمن وما عاد إلا إيقاع العقد بينهما ، فحينئذ يحرم الدخول أو يكره على الخلاف.

وقيل : ذلك لا يحرم ولا يكره ، لعموم قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٤٤). وللأصل.

الثالثة : في توكل الحاضر للبادي ، والبحث هنا في موضعين :

الأول : في أنه هل هو محرم أو مكروه؟ وبالتحريم قال الشيخ في الخلاف ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يبيعن حاضر لباد » (٤٥) ، وظاهر النهي التحريم. والمشهور الكراهية للأصل.

الثاني : في تفسيره ، قال في المبسوط : ولا يتبع حاضر لباد ، ومعناه أن لا يكون سمسارا له ، بل يتركه أن يتولى بنفسه ليرزق الله بعضهم من بعض ، فإن

__________________

(٤١) في المصدر الشعيري.

(٤٢) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٤٩ ، آداب التجارة ، حديث ١ ، وليس فيه قوله : « فاذا سكت. إلخ ».

(٤٣) مستدرك الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٣٧ ، آداب التجارة ، حديث ١.

(٤٤) البقرة : ٢٧٥.

(٤٥) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٣٧ ، آداب التجارة ، حديث ١.

٢٩

خالف أثم وكان بيعه صحيحا ، وينبغي أن يتركه في المستقبل ، هذا إذا كان ما معهم يحتاج أهل الحضر إليه ، وفي فقده إضرار لهم ، فأمّا إذا لم يكن لهم حاجة ماسة ، فلا بأس أن يبيع له. هذا آخر كلامه رحمه‌الله.

قيّد النهي بحاجة أهل البلد الى ما عند البدوي. ومنع في الخلاف ، سواء كان في الناس حاجة أو لم يكن. وابن حمزة قيده في البدو دون الحضر (٤٦).

ولابن إدريس هنا كلام طويل تركنا إيراده حذرا من أن يطول الكتاب.

والمعتمد ما قاله المصنف ، ولا فرق بين الحضر والسفر ، ولا بين أن يكون في الناس حاجة أو لم يكن ، لعموم النهي.

قال رحمه‌الله : ولا يثبت للبائع خيار ، إلا أن يثبت الغبن الفاحش ، والخيار فيه على الفور مع القدرة ، وقيل : لا يسقط إلا بالإسقاط وهو الأشبه ، وكذا حكم النجش ، وهو أن يزيد لزيادة من واطأه البائع.

أقول : هنا مسألتان :

الأولى : في تلقي الركبان ، وجزم المصنف هنا بالكراهية ، وصحة البيع ولزومه إلا مع الغبن ، فيثبت الخيار على الفور. وقيل : لا يسقط إلا بالإسقاط لثبوته بظهور الغبن ، والأصل بقاؤه ما لم يسقطه مستحقه. والأول هو المعتمد ، لأن ثبوت الخيار على خلاف الأصل ، لأن الأصل في العقود اللزوم ، فإذا ثبت الخيار بالغبن دفعا للضرر المنفي ، ثبت على الفور ، لحصول الاتفاق على جواز الخيار حالة العلم بالغبن ، فيقتصر عليه ، لأن جوازه بعد ذلك مشكوك فيه ، فلا يرجع عن الأصل المتيقن إلا إلى متيقن مثله ، لا إلى ما هو مشكوك فيه.

وقال ابن إدريس : التلقي محرم ، والبيع صحيح ، ويتخير البائع.

وقال ابن الجنيد : يمضي بيع من يلقى الركبان خارجا عن المصر بأربعة

__________________

(٤٦) في « ي ١ » : البدوي دون الحضري.

٣٠

فراسخ.

فظهر أن مذهب ابن إدريس تحريم التلقي وصحة البيع مع ثبوت الخيار فيه مطلقا ، سواء كان فيه غبن أو لم يكن. ومذهب ابن الجنيد التحريم وعدم صحة البيع. وذهب العلامة الى ما اختاره المصنف ، وهو كراهية التلقي وصحة البيع ولزومه الا مع الغبن ، فيثبت الخيار. وهو المعتمد.

الثانية : في النجش : وهو أن يزيد الإنسان في سلعة وهو لا يريد الشراء ، بل قصدا لتغرير الغير ببذل الزيادة ، وعدّه المصنف هنا من المكروهات ، وأكثر فتاوي الأصحاب على التحريم ، قال أبو العباس : ولا أعلم لتحريمه خلافا.

وأما البيع مع النجش فقد أبطله ابن الجنيد إذا كان من البائع ، قال : لأنه يجري مجرى الغش والخديعة ، فإذا كان من الواسطة لزم البيع ، ولزمه الدرك إن أدخله على المشتري. وفي الخلاف أطلق ثبوت الخيار ، قال : لأنه عيب ، ولم يقيد بالغبن وعدمه ، ثمَّ قال بعد الإطلاق : وإن قلنا لا خيار ، لأن العيب ما تعلق بالمبيع وهذا ليس كذلك ، كان قويا. والمعتمد ثبوت الخيار مع الغبن وإلا فلا. والخيار مع ثبوت (٤٧) الغبن على الفور ، كما ذهب إليه الشيخ وابن إدريس ، واختاره العلامة لما قلناه في المسألة السابقة. وفخر الدين اختار ما رجحه المصنف ، وهو ثبوته ما لم يسقطه مستحقه.

قال رحمه‌الله : الاحتكار مكروه ، وقيل : حرام ، والأول أشبه ، وإنما يكون في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن ، وقيل : وفي الملح بشرط أن يستبقيها للزيادة في الثمن ولا يوجد باذل ، وشرط آخرون أن يستبقيها في الغلاء ثلاثة أيام ، وفي الرخص أربعين يوما ، ويجبر المحتكر على البيع ، وقيل : يسعر عليه ، والأول أظهر.

__________________

(٤٧) ما بين القوسين لم يرد في « ن ».

٣١

أقول : البحث هنا في مسائل :

الأولى : في الاحتكار ، هل هو محرم أو مكروه؟ وبالتحريم قال محمد بن بابويه وابن البراج ، وهو ظاهر ابن إدريس. وبالكراهية قال الشيخان ، واختاره المصنف والعلّامة. واستدل الفريقان بالروايات (٤٨) ، مع اعتضاد الكراهية بأصالة عدم التحريم.

الثانية : في محله ، قال الشيخ في النهاية : إنما يكون في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن. وتبعه ابن البراج وابن إدريس على الاقتصار على هذه الخمسة. وأضاف ابن حمزة الملح إلى هذه الخمسة. واختاره ( العلامة في القواعد ، وابن بابويه أضاف إلى الخمسة الزيت دون الملح ، وظاهر المصنف اختيار مذهب النهاية. كذلك ) (٤٩) العلامة في المختلف.

الثالثة : في حدّ الاحتكار ، وحدّه الشيخ في الغلاء بثلاثة أيام ، وفي الرخص بأربعين يوما ، وتبعه ابن البراج. والمفيد لم يحدّه بشي‌ء ، بل أطلق كراهيته مع الغلاء ، وجوازه من غير كراهية في الرخص ، واختاره المصنف والعلامة.

الرابعة : يجبر المحتكر على البيع عند الحاجة إليه إجماعا. وهل يسعر عليه؟ فيه خلاف ، وفي القواعد قال : يسعر عليه إن أجحف لا مع عدم الإجحاف ، وهو مذهب ابن حمزة ، واختاره أبو العباس. وهو المعتمد ، ومستند الجميع الروايات (٥٠).

__________________

(٤٨) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٢٧ ، ٢٩ ، آداب التجارة.

(٤٩) ما بين القوسين من « م » و« ر ٢ » و« ن ».

(٥٠) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٢٩ ، ٣٠ ، آداب التجارة.

٣٢

في الخيار

قال رحمه‌الله : ويسقط باشتراط سقوطه في العقد ، وبمفارقة كل واحد صاحبه ولو بخطوة ، وبإيجابهما إياه أو أحدهما ورضى الآخر.

أقول : معنى الإيجاب هنا الالتزام بالعقد بعد وقوعه ، بأن يقولا : التزمنا بالعقد أو يقول أحدهما ويرضى الآخر ، وإنما سمي الالتزام إيجابا ، لأنه يوجب عليهما التمسك به ، فهو من باب الواجب ، وهو الإلزام للمكلف ، لا من باب الإيجاب الموضوع لنقل الأعيان مع القبول.

تنبيه : إذا التزما بالعقد بعده ، سقط خيار المجلس ، وخيار الثلاثة في الحيوان ، وخيار الشرط ، إذا التزما بعده ، ولا يسقط خيار الغبن ولا خيار العيب ولا خيار الرؤية ، والفرق أن خيار المجلس وخيار الثلاثة في الحيوان أثبته الشارع للإرفاق بالمكلّف ، بحيث يتروى بما هو أصلح له ، فيعمل عليه ، فإذا أسقطاه بعد علمهما بثبوته لهما فقد اختارا ترك هذا الإرفاق فيسقط ، لأن الإنسان مسلّط على حقه ، إن شاء أسقطه وإن شاء أبقاه ، وكذلك خيار الشرط أيضا ، لأنه ثبت لهما أو لأحدهما باختيارهما ، فإذا اختارا إسقاطه سقط ، وأمّا خيار العيب

٣٣

والغبن والرؤية ، فإن الشارع قد أثبته دفعا للضرر ، ولا يعلمان بثبوته حالة العقد ، فلا يسقط بالالتزام حينئذ ، ولو شرطا في العقد سقوط هذه الثلاثة ، بطل الشرط والعقد على الخلاف ، أمّا بطلان الشرط فلما يتضمن من الغرر المفضي إلى الضرر ، وأمّا بطلان العقد فلعدم الرضى بدونه.

قال رحمه‌الله : ولو قال : اختر ، فسكت ، فخيار الساكت باق ، وكذا الآخر وقيل فيه : يسقط ، والأول أشبه.

أقول : عدم السقوط مذهب الشيخ في الخلاف والمبسوط ، واختاره المصنف والعلامة. وهو المعتمد ، لعموم قوله عليه‌السلام : « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » (٥١) ، ولأنه خيره فلم يختر ، فلم يؤثر الخيار.

وقيل : يسقط خيار القائل ، لما روي عنه عليه‌السلام أنه قال : « البيعان بالخيار ما لم يفترقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر » (٥٢) ، ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه من الخيار ، فيسقط خياره ، ولا فرق بين قوله : اختر الفسخ أو الإمضاء ، أو اختر واقتصر.

قال رحمه‌الله : ولو كان العاقد واحدا عن اثنين كالأب والجد ، كان الخيار باقيا ما لم يشترط سقوطه ، أو يلتزم به عنهما بعد العقد ، أو يفارق المجلس الذي عقد فيه على قول.

أقول : هذا القول نقله الشيخ في المبسوط ولم يسم قائله ، وابن البراج نقل لفظ الشيخ بعينه ، والعلّامة نقل لفظ المصنف هنا ، وظاهرهما ترجيح هذا القول ، وفرع العلّامة احتمال ثبوت الخيار دائما وعدم ثبوته أصلا. فأمّا وجه ثبوته دائما ، [ فـ ] لأن العاقد عن اثنين قائم مقامهما ، وخيار المجلس ما داما مصطحبين ، وهو

__________________

(٥١) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١ ، أبواب الخيار ، حديث ٣.

(٥٢) المستدرك ، كتاب التجارة ، باب ٢ ، أبواب الخيار ، حديث ٣.

٣٤

مصاحب لنفسه دائما ، فيثبت الخيار دائما ما لم يسقطه أو يلتزم بالبيع.

وأمّا وجه سقوطه أصلا كون الخيار على خلاف الأصل ؛ لأن الأصل في العقود اللزوم ، وإنما يثبت خيار المجلس للمتبايعين ، والعاقد هنا واحد ، فلا خيار في عقده لتقييد (٥٣) الخيار بالاثنينية ، وهي منتفية هنا. ووجه سقوطه بمفارقة مجلس العقد ؛ لأنه قائم مقام اثنين وقد فارق المجلس ، فيبطل الخيار ؛ لسقوطه بمفارقة المجلس إلا مع الاصطحاب ، والاصطحاب هنا ممتنع ؛ لكونه بين اثنين فصاعدا ، فيمتنع بقاء الخيار. وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : خيار الحيوان : والشرط فيه كله ثلاثة أيام للمشتري خاصة دون البائع على الأظهر.

أقول : اختصاصه بالمشتري مذهب الشيخين وسلّار وابن بابويه وابن الجنيد وابن البراج وابن إدريس والمصنف والعلّامة.

وهو المعتمد ، لأن حكمة ثبوته أن عيب الحيوان قد يخفى ولا يظهر كظهوره في غير الحيوان ، فأثبت الشارع فيه الخيار مدة ثلاثة أيام ، لإمكان ظهور عيب خفي في مدة الثلاثة ، وهذه الحكمة منتفية عن البائع ، لاطلاعه على عيوبه دون المشتري ، فيختص الخيار بالمشتري دون البائع.

وقال المرتضى : إنه مشترك بينهما ، لأنه أحد المتبايعين فكان له الخيار كالآخر ، وفي الطرفين روايات (٥٤).

فرع : إذا باعه حيوانا بحيوان ، فعلى مذهب السيد لكل منهما الخيار ولا بحث ، وعلى المشهور من اختصاصه بالمشتري ، هل يختص به هنا؟

__________________

(٥٣) في « ن » : لتقيد.

(٥٤) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١ من أبواب الخيار ، ١ و٣ و٥ ، وباب ٣ حديث ١ ، ٢ ، ٣ ، ٩ ، وباب ٤.

٣٥

يحتمل ذلك ، لعموم قولهم : للمشتري (١) ، دون البائع ، فيكون المشتري منشئ القبول ، ويحتمل ثبوت الخيار لهما ، لاشتراكهما في الحكمة الموجبة ثبوت الخيار في الحيوان ، وهي التروي مدة ثلاثة أيام ، لإمكان الظهور فيها على عيب خفي في الحيوان لا يظهر حالة العقد ، وإذا اشتركا في العلة الموجبة لثبوت الخيار اشتركا في الخيار. وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ومن اشترى شيئا ، ولم يكن من أهل الخبرة ، وظهر فيه غبن لم تجر العادة بالتغابن به ، كان له فسخ العقد إذا شاء ، ولا يسقط ذلك بالتصرف إذا لم يخرج عن الملك ، أو يمنع مانع من ردّه ، كالاستيلاد في الأمة والعتق ، ولا يثبت به أرش.

أقول : هذه المسألة لم يتردد المصنف فيها ، ولكنها من المسائل الجليلة التي تفتقر الى كشف وإيضاح ، فهي مشتملة على مباحث :

« أ » : حقيقة الغبن نقص قيمة أحد العوضين عن العوض المسمّى في العقد نقصا لا يتسامح بمثله عادة ، مع جهل من صار إليه الناقص ، وإنما يثبت به الخيار دون الأرش ، لأن الأرش عوض عن جزء فائت في العين أو صفاتها ، والغبن ليس كذلك ، فلهذا لم يثبت الأرش.

« ب » : ثبوت الخيار مع الغبن هو المشهور بين الأصحاب ، ويظهر من كلام ابن الجنيد عدم ثبوته ، لأن البيع مبني على المكاسبة (٥٥) والمغالبة ، وثبوت الخيار مع الغبن ينفي ذلك. وقال الشهيد في الدروس : وربما قال المحقق ( في الدرس ) (٥٦) بعدم خيار الغبن ، إشارة إلى مصنف هذا الكتاب المشروح. والمعتمد الثبوت.

__________________

(١) الوسائل ـ كتاب التجارة ـ باب ٣ من أبواب الخيار.

(٥٥) في « ن » : المكايسة.

(٥٦) من « ن ».

٣٦

« ج » : لا يبطل هذا الخيار بالتصرف غير الناقل واللازم من المغبون ، ولا يبطل بالتصرف الصادر من الغابن مطلقا.

وتحقيق البحث أنّ التصرف لا يخلو إمّا أن يكون من الغابن فيما غبن فيه ، أو من المغبون فيما غبن فيه.

الأول : أن يكون من الغابن في عوض ما دفعه إلى المغبون ، بأن يشتري عينا رخيصة ويتصرف فيها ، والتصرف لا يخلو إمّا أن يكون ناقلا أو غير ناقل ، وعلى التقديرين لا يخلو ، إما أن يتعلق بالعين أو بالمنافع ، فالأقسام أربعة :

« أ » : أن يتعلق بالعين ويكون ناقلا لازما كالبيع بعد الخيار ، والهبة مع القبض ، والوقف والعتق وما شابه ذلك ، وهذا التصرف لا يسقط حق المغبون من الفسخ ، لكنه يسقط حقه من العين ، ويثبت له مع الفسخ القيمة للحيلولة ، ولو كان خيار المجلس أو الحيوان أو الشرط باقيا أو الهبة لم تقبض ، ألزم الغابن بالفسخ ، ليأخذ المغبون عين ما له ، وللمغبون أن يفسخ بنفسه ، لتعلق حقه بالعين مع إمكان انتزاعها وهو ممكن هنا ، ولا يتوقف على إذن الغابن.

« ب » : أن يتعلق بالعين ولا يكون ناقلا ، كوطي الأمة مع عدم الإحبال ، وقصارة الثوب وصبغه وخياطته ، وهذا التصرف غير مانع من أخذ العين ، ويكون شريكا بنسبة الزيادة التي حصلت بفعله ، سواء كانت عينا كالصبغ والتطريز ، أو أثرا كتعليم الصنعة.

« ج » : أن يتعلق بالمنافع ، ويكون ناقلا لازما كالإجارة ، وهذا التصرف لا يمنع من الفسخ ، ومع الفسخ لا يسقط حق المستأجر ، بل يفيد نقل العين الى المغبون ، ويكون عليه الصبر مجانا حتى تنقضي مدة الإجارة ، ويجب عليه رد العوض عاجلا من حين الفسخ لانتقال العين إليه بالفسخ ، فلا يجب على الغابن الصبر بالعوض ، ولا يجوز له تأخير الفسخ إلى حين انقضاء مدة الإجارة ، لأنه

٣٧

على الفور.

« د » : أن يتعلق بالمنافع ولا يكون لازما كالعارية ، فللمغبون الفسخ وانتزاع العين.

الثاني : أن يكون التصرف من المغبون في عوض ما غبن فيه ، وهو لا يخلو عن الأقسام الأربعة السابقة ، لكن الحكم مختلف ، فالتصرف إن كان لازما أسقط الخيار ، سواء كان واردا على العين ، كالبيع بعد مضي الخيار ، والهبة مع القبض ، والعتق والوقف وما شابه ذلك ، أو على المنافع كالإجارة إلا إذا لم يعلم بالغبن إلا بعد انقضاء مدة الإجارة فله الفسخ ، وسواء كان ناقلا للعين والمنافع ، كالأمثال المتقدمة أو للعين خاصة ، كمن باع واستثنى المنافع مدة معلومة ، أو للمنافع خاصة ، كالحبس مدة معلومة ، أو كان لازما غير ناقل للعين ولا للمنافع ، كالإحبال للأمة ، فهذه الصور كلها مسقطة للفسخ ، ولا يسقط بغير اللازم ، سواء ورد على العين ، أو المنافع ، كالبيع في مدة الخيار ، والهبة قبل القبض والعارية.

والضابط : كل موضع يتمكن من دفع العين حالة الفسخ ، فالخيار ثابت ، وما لا فلا ، ولا يسقط الخيار بدفع الغابن التفاوت لثبوته بظهور الغبن ، فلا يسقط إلا باختيار المغبون.

خيار التأخير

قال رحمه‌الله : من باع ولم يقبض الثمن ، ولا سلّم المبيع ، ولا اشترط تأخير الثمن ، فالبيع لازم ثلاثة أيام ، فإن جاء المشتري بالثمن ، وإلا كان البائع أولى بالمبيع ، ولو تلف كان من مال البائع في الثلاثة وبعدها ، على الأشبه.

أقول : لا خلاف في لزوم البيع إلى تمام ثلاثة أيام ، وإنما الخلاف في موضعين :

الأول : هل يبطل العقد بعد الثلاثة ، أو يصير الخيار للبائع ، بين إبقاء العقد

٣٨

وفسخه؟ قال ابن الجنيد بالأول ، لرواية زرارة (٥٧) ، عن الباقر عليه‌السلام ، والمشهور الثاني ، وهو المعتمد ، لوقوع العقد صحيحا ، والأصل بقاؤه ما لم يحصل الفسخ.

الثاني : لو تلف المبيع قبل القبض فان كان بعد الثلاثة كان من مال البائع إجماعا ، لأن الشارع قد جعل له مندوحة الفسخ والانتفاع بعينه فلم يفعل ، فكان التفريط مستندا اليه ، ولعموم قوله عليه‌السلام : « كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » (٥٨).

وان تلف في الثلاثة فقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فذهب الشيخ وأكثر المتأخرين إلى انه من مال بائعه ، وهو المعتمد ، لعموم الخبر ، وقال المفيد : من مال المشتري ، لانتقال المبيع اليه بنفسه العقد ، ومنع البائع من التصرف فيه ، ولأنه لو حصل نماء كان للمشتري ، وقال عليه‌السلام : « الخراج بالضمان » (٥٩).

واعترض عليه ابن إدريس بأن هذا لازم له بعد الثلاثة أيضا ، لأنه في ملك المشتري ما لم يفسخ البائع والنماء له أيضا.

وقد يجاب عن المفيد بأنه بعد الثلاثة ممنوع من التصرف في العين وهو ممنوع في الثلاثة ، فافترق الحكم بينهما ، وقال ابن حمزة : وهو من مال البائع ، الا ان يكون البائع عرض التسليم على المبتاع فلم يتسلمه ، فيكون التلف حينئذ من مال المشتري ، قال العلامة في المختلف : ولا بأس بقول ابن حمزة.

تنبيه : شروط هذا الخيار ان يكون المبيع معينا فلو اشترى موصوفا في الذمة لم يطرد الحكم فيه ، وان لا يحصل قبض احد العوضين ، فلو قبض أحدهما لم

__________________

(٥٧) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٩ من الخيار ، حديث ١.

(٥٨) المستدرك ، كتاب التجارة ، باب ٩ من الخيار ، حديث ١.

(٥٩) المستدرك ، كتاب التجارة ، باب ٧ من الخيار ، حديث ٣.

٣٩

يطرد الحكم ، وللشيخ قول بجواز فسخ البائع في كل موضع يتعذر فيه قبض الثمن ، سواء قبض المشتري المبيع أو لم يقبضه ، وقواه الشهيد ، ولا بد ان يكون العقد حالا ، فلو كان أحد العوضين مؤجلا سقط هذا الخيار.

فروع :

الأول : لو قبض الثمن ثمَّ ظهر مستحقا ، فكلا قبض ، ولا يسقط خياره بعد الثلاثة لفساد القبض.

الثاني : لو ظهر في المقبوض عيب يوجب الرد فلا فسخ ، لحصول القبض الصحيح ، والرد بالعيب لا يوجب فساد القبض.

الثالث : لو قبض بعض الثمن أو قبض بعض المعيب ، فالخيار ثابت في الجميع.

الرابع : لو جاء بالثمن بعد الثلاثة قبل فسخ البائع ، قال العلامة لم يجز له الفسخ لزوال السبب ، ويحتمل ثبوته ، لأنه قد ثبت بمضي الثلاثة ، والأصل بقاؤه.

قال رحمه‌الله : وان اشترى ما يفسد من يومه ، فان جاء بالثمن قبل الليل ، والا فلا بيع له.

أقول : أورد الأصحاب هذه المسألة بعبارات مختلفة ، قال الشيخ في النهاية : وإذا باع الإنسان ما لا يصح عليه البقاء كالخضرة وغيرها ، ولم يقبض المباع ولا قبض الثمن كان الخيار فيه يوما ، فان جاء المبتاع بالثمن في ذلك اليوم ، والا فلا بيع له.

وابن إدريس نقل عبارة الشيخ ، إلا انه قال : فان جاء المبتاع بالثمن في ذلك اليوم ، والا فصاحبه بالخيار بين ان يفسخ البيع (٦٠) وبين ان يطالبه بثمنه. قال العلامة في القواعد : ولو اشترى ما يفسد ليومه ، فالخيار فيه الى الليل ، فان تلف

__________________

(٦٠) من « ن ».

٤٠