غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

عليه قبضه من الوكيل ولا معنى لهذا الاختلاف ، وان قال استوفيته وتلف من غير تفريط ، وأنكر الموكل الاستيفاء احتمل ان يكون القول قول الموكل ، لأصالة بقاء الحق فلا يقبل تصادق الوكيل والغريم إلا ببينة ، لأن قولهما على خلاف الأصل ، ويحتمل ان يكون القول قول الوكيل ، لأنه اختلاف في التصرف المأذون فيه ، وهو أمين فيكون قوله مقبولا فيه.

وفتوى الأصحاب على ان القول قول الموكل في هذه المسألة إلا فخر الدين ، فإنه اختار ان القول قول الوكيل ، واتفقت فتاويهم على ان القول قول الوكيل ، إذا اختلفا في التصرف المأذون فيه.

الثانية : إذا أمره ببيع سلعة وتسليمها إلى المشتري وقبض الثمن منه فادعى أنه باعها وقبض ثمنها ثمَّ تلف الثمن من غير تفريط ، فأنكر الموكل قبض الثمن من المشتري ، فالقول قول الوكيل على ما تطابقت عليه فتاوي الأصحاب ، لأن الوكيل لا يجوز ان يسلم المبيع حتى يتسلم الثمن ، فلو فعل ذلك كان مفرطا فيصير ضامنا فإذا أنكر الموكل قبض الوكيل للثمن بعد ثبوت قبض المشتري للسلعة يكون قد ادعى خيانة الوكيل وتفريطه حيث قدم على فعل غير جائز ، وهو تسليم المبيع قبل قبض الثمن ، والأصل عدم الخيانة والتفريط.

قال المصنف : ( وفي الفرق نظر ) ، وجه النظر ان الدعوى هنا على المشتري أيضا ، كما ان الدعوى هناك على الغريم ، ووجه قبول قول الموكل في صورة استيفاء الدين كون الدعوى على غير الوكيل وهي هنا كذلك. هذا وجه عدم الفرق الذي نظره رحمه‌الله ، وهو ضعيف ، لأنه لو قلنا ان القول قول الموكل هنا ، وتعذر استيفاء الثمن من المشتري رجع على الوكيل لتفريطه بخلاف صورة استيفاء الدين فإنه إذا تعذر استيفاؤه من الغريم ليس على الوكيل شي‌ء ، فالفرق ظاهر.

قال رحمه‌الله : ولو ظهر في المبيع عيب ، ردّها على الوكيل دون الموكل ،

٣٦١

لأنه لم يثبت وحول الثمن اليه ، ولو قيل برد المبيع على الموكل كان أشبه.

أقول : وجوب رده على الوكيل مذهب الشيخ رحمه‌الله ، وذهب المصنف والعلامة وفخر الدين الى رده على الموكل ، وهو المعتمد ، لأنه ملك للموكل فيكون الرد عليه مع ثبوت الوكالة شرعا ، لأنه قد صار في يد وكيله ، فهو كما لو كان في يده ، لأن يد الوكيل يد الموكل ، والمخاصمة بين المشتري والموكل إذا تحققت الوكالة ، فلا وجه لرده على الوكيل.

فرع : إذا رده على الوكيل لجهل المشتري بالوكالة ، فان صدقه الوكيل على سبق العيب لزمه قبوله ولا يمضي تصديقه على الموكل ، فان صدقه الموكل أيضا أو قامت بذلك بينة رده الوكيل على الموكل ، وان كذبه وكان الغيب مما يمكن حدوثه ولا بينة ، كان القول قول الموكل ، فإذا أحلفه لم يملك الوكيل رده عليه ، وان كذب الوكيل المشتري حلف ، فان نكل الوكيل عن اليمين وحلف المشتري رده على الوكيل ، وهل يملك الوكيل رده على الموكل؟ فان قلنا ان اليمين المردودة على المدعى كإقرار الخصم لم يملك رده على الموكل ، وان قلنا انها كالبينة كان له رده عليه.

٣٦٢

كتاب الوقوف والصدقات

٣٦٣
٣٦٤

في العقد

قال رحمه‌الله : ولو قال : حبست وسبّلت ، قيل : يصير وقفا وإن تجرد ، لقوله عليه‌السلام : « حبس الأصل ، وأطلق الثمرة » ، وقيل : لا يكون وقفا إلا مع القرينة ، إذ ليس ذلك عرفا مستقرا بحيث يفهم من الإطلاق ، وهذا أشبه.

أقول : القول بحصول الوقف بقوله : ( حبست وسبلت ) مجردا عن القرينة ، قول الشيخ في الخلاف ، وبه قال السيد المرتضى وابن زهرة ، واختاره العلامة في القواعد ، فالصريح عندهم ثلاثة : ( وقفت وحبست وسبلت ) ؛ لأن ( حبست وسبلت ) ثبت لهما عرف الاستعمال بين الناس ، وللخبر الذي ذكره المصنف.

وقال الشيخ في المبسوط : الذي يقوى في نفسي ان صريح الوقف قول واحد وهو : ( وقفت ) لا غير ، وبه يحكم بالوقف ، واما غيره من الألفاظ فلا يحكم به الا بدليل ، واختاره ابن إدريس والمصنف ، والعلامة في الإرشاد ، وقواه في التحرير ، وبه قال فخر الدين والشهيد ، وهو المعتمد ، لأصالة بقاء الملك على صاحبه ما لم يتحقق السبب المزيل ، وهو غير متحقق هنا ، والموضوع للقدر المشترك لا دلالة له على التخصيص ، ولفظ ( حبست وسبلت ) موضوع للتأبيد وغير التأبيد فهو

٣٦٥

مشترك ، فلا يحمل على التأبيد من غير قرينة دالة عليه ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه تصدق بداره في بني زريق ، وكتب :

« بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما تصدق به أمير المؤمنين على بن ابي طالب ، وهو حي سوي ، وتصدق بداره التي في بني رزيق صدقة لا تباع ولا توهب حتى يرثها الله الذي يرث السموات والأرض ، واسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهن ، وإذا انقرضوا فهي لذوي الحاجة من المسلمين » (١).

فغير لفظ الوقف يحتاج إلى قرينة دالة على التأبيد ، كما في كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام مثل : « لا تباع ولا توهب حتى يقبض الله الأرض ومن عليها » ، وبالجملة كل ما يدل على التأبيد.

وألفاظ الوقف ستة : ( وقفت وحبست وسبلت وحرمت وتصدقت وأبدت ) وكلها تفتقر إلى القرينة عدا ( وقفت ).

قال رحمه‌الله : أما لو وقف في مرض الموت ، فان أجاز الورثة ، وإلا اعتبر من الثلث كالهبة والمحاباة في البيع ، وقيل : يمضي من أصل التركة. والأول أشبه ، ولو وقف ووهب وأعتق وباع فحابى ولم يجز الورثة ، فإن خرج ذلك من الثلث صح ، وان عجز بدئ بالأول فالأول حتى يستوفي قدر الثلث ، ثمَّ يبطل ما زاد ، وهكذا لو أوصى بوصايا ، ولو جهل المتقدم قيل : يقسم على الجميع بالحصص.

أقول : يأتي تحقيق البحث في هذه إنشاء الله تعالى في باب الوصايا (٢).

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب ٦ أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ٤.

(٢) ص ٤٥١ من هذا الجزء ، تصرفات المريض.

٣٦٦

في الشرائط

قال رحمه‌الله : وهل يصح وقف الدنانير والدراهم؟ قيل : لا ، وهو الأظهر ، لأنه لا نفع لها الا التصرف فيها ، وقيل : يصح ، لأنه قد يفرض لها نفع مع بقائها.

أقول : الذهب والفضة إذا كان حليا صح وقفه إجماعا ، والخلاف انما هو في الدراهم والدنانير ، ونقل في المبسوط الإجماع ، إلا ممن شذ على عدم جواز وقفها ، وهو المشهور بين الأصحاب ، لأن نفعها في إخراجها ، وهو مناف للوقف.

وقيل : يصح مع تقدير المنفعة الحكمية كالتحلي بها. قال العلامة في التحرير : ولو سوغناه ففي جواز عمله حليا للموقوف عليه نظر ، والمعتمد عدم الجواز على القول بالصحة ، لأنه يؤدي الى تغيير عين الوقف ، وهو غير جائز ، ويحتمل الجواز ، لأنه نوع انتفاع مع بقاء العين.

قال رحمه‌الله : ولو وقف ما لا يملكه لم يصح وقفه ، ولو أجاز المالك ، قيل : يصح ، لأنه كالوقف المستأنف ، وهو حسن.

أقول : استقرب العلامة في القواعد صحة الوقف مع الإجازة ، وهو ظاهر

٣٦٧

الإرشاد ومنع منه في التحرير ، وهو مذهب الشهيد رحمه‌الله ، وقواه فخر الدين ، قال : لعدم صحة التقرب بمال الغير.

قال رحمه‌الله : وفي وقف من بلغ عشرا تردد ، والمروي جواز صدقته ، والأولى المنع.

أقول : جواز وقف من بلغ عشرا مذهب الشيخ رحمه‌الله وابي الصلاح وابن الجنيد ، لرواية زرارة (٣) عن الصادق عليه‌السلام المتضمنة جواز صدقته والوقف صدقة ، والمنع مذهب سلار وابن إدريس والمصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لعموم الحجر عليه قبل البلوغ (٤).

قال رحمه‌الله : ولو بدأ بالمعدوم ثمَّ بعده بالموجود ، قيل : لا يصح ، وقيل : يصح على الموجود ، والأول أشبه.

أقول : إذا كان الوقف منقطع الابتداء متصل الانتهاء ، كأن يقف أولا على من لا يصح الوقف عليه ، ثمَّ على من يصح ، كأن يقف على نفسه أو عبده أو المجهول كأحد هذين ، أو المعدوم ، ثمَّ على الفقراء والمساكين ، قال الشيخ في الخلاف : يبطل الوقف فيمن بدأ بذكره ، لأنه لا يصح الوقف عليه ويصح (٥) في حق الباقين ، لأنه يصح الوقف عليهم وقواه في المبسوط ، لأنه ذكر نوعين أحدهما لا يصح الوقف عليه والآخر يصح الوقف عليه فيبطل في حق من لا يصح الوقف عليه ، ويصح في حق من يصح في حقه ، لأن تفريق الصفقة جائز ، فلا مانع من صحة هذا الوقف ، واختار المصنف البطلان ، وهو مذهب العلامة

__________________

(٣) الوسائل ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب ١٥ في أحكام والوقوف والصدقات ، حديث ١.

(٤) الوسائل ، كتاب الحجر ، الباب ١ ، حديث ٤.

(٥) من « ن » ، وفي « ر ٢ » : وهل يصح ، وباقي النسخ : فيبطل.

٣٦٨

وفخر الدين ، وهو المعتمد ، لأنه لا مقر له في الحال ، فيكون باطلا.

فروع :

الأول : إذا قلنا بصحة الوقف فيمن يصح في حقهم ، هل تصرف منفعة الوقف إليهم في الحال؟ قال الشيخ في المبسوط : ينظر فان كان الذي بطل الوقف في حقه لا يمكن انقراضه كالمعدوم والميت فإن منفعة الوقف تصرف الى من يصح في حقهم في الحال ، ويكون أولئك بمنزلة المعدوم الذي لم يذكر في الوقف ، فان كان الموقوف عليه أولا يمكن انقراضه كالعبد ، فمنهم من قال يصرف إليهم في الحال ، لأنه لا مستحق غيرهم ، وهو الأصح ، ومنهم من قال لا يصرف إليهم في الحال ، لأنه انما جعل منفعة الوقف لهم بشرط انقراض من قبلهم ، والشرط لم يوجد ، فيصرف الى الفقراء والمساكين مدة بقاء الموقوف عليه أولا ، ثمَّ إذا انقرض رجعت إليهم ، هذا جميعه قول الشيخ في المبسوط ، وهذا الفرع ساقط سقوط أصله.

الثاني : لو انقطع وسط الوقف ، [ احتمل الصحة في الطرفين ] كما لو وقف على زيد ثمَّ على عبده ثمَّ على الفقراء والمساكين ، احتمل الصحة في الطرفين فيصرف (٦) منفعته في الوسط الى الواقف أو وارثه ولو كان منقطع الطرفين ، فهو كمنقطع الأول.

الثالث : إذا وقف على ما ولده سنة ثمَّ على الفقراء والمساكين صح ، لأنه مؤبد في طرفيه ووسطه.

الرابع : إذا وقف على أولاده وشرط ان يكون غلة العام الأول لزيد ، والعام الثاني لعمرو ، وهكذا ، وبعدهم على الفقراء والمساكين ، العام الأول لعلمائهم ، والثاني لزهادهم ، والثالث لعبادهم ، صح ولزم الشرط.

قال رحمه‌الله : ولو وقف على المؤمنين انصرف الى الاثني عشرية ، وقيل :

__________________

(٦) من « ن » ، وفي « ر ٢ » : وتصرف ، وفي الباقي من النسخ : وصرف.

٣٦٩

إلى مجتنبي الكبائر ، والأول أشبه.

أقول : لا خلاف في انصرافه إلى الاثني عشرية القائلين بإمامة الاثني عشر عليهم‌السلام ، وانما الخلاف في اشتراك الجميع أو اختصاص مجتنبي الكبائر منهم.

قال الشيخ في النهاية والمفيد وابن البراج وابن حمزة : باختصاص مجتنبي الكبائر منهم ، وقال سلار وابن إدريس : باشتراك الجميع ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لأن الفسق لا يخرج المؤمن عن إيمانه.

وقال العلامة في المختلف : والتحقيق ان الإيمان ان جعلناه مركبا من الاعتقاد القلبي والعمل بالجوارح لم يكن الفاسق مؤمنا ، وان جعلناه عبارة عن الأول كان مؤمنا ، قال : وهو الحق عندي.

قال رحمه‌الله : ويشترك الذكور والإناث المنتسبون إليه من جهة الأب نظرا إلى العرف ، وفيه خلاف للأصحاب.

أقول : إذا قال : وقفت على الهاشميين أو العلويين أو الحسينيين ، كان لمن انتسب الى هاشم أو علي أو الحسين بن علي ، ويشترك الذكور والإناث في ذلك ما لم يحصل التفصيل ، وهل يشترط الانتساب بالأب أو يدخل المنتسب بالأم؟.

اختلف الأصحاب في ذلك ، والمشهور اختصاص المنتسب بالأب والأم أو الأب خاصة دون المنتسب بالأم خاصة ، وقال السيد المرتضى : يدخل المنتسب بالأم خاصة ، ويشارك أهل الوقف ، وقد مضى تحقيق ذلك في باب الخمس (٧) فلينظر من هناك.

قال رحمه‌الله : ولو وقف على جيرانه يرجع إلى العرف ، وقيل : لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا ، وهو حسن ، وقيل : إلى أربعين دارا من كل جانب ، وهو

__________________

(٧) تقدم في الجزء الأول ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٣٧٠

مطرح.

أقول : هنا ثلاثة أقوال :

الأول : الرجوع الى العرف ، وهو مذهب المصنف والعلامة ، لأن مع تعذر الحقيقة الشرعية يرجع الى العرف.

الثاني : مذهب الشيخين وسلار وابن البراج وابن حمزة وابن زهرة وابن إدريس.

الثالث : قول بعض الأصحاب ، وهو منقول عن عائشة ، وهو متروك.

فروع :

الأول : هل يشترط ملك الجار للدار ، حتى لو كان مستأجرا أو مستعيرا لم يستحق من الوقف شيئا؟ يحتمل ذلك ، لأن الجار الحقيقي هو مالك (٨) الدار دون مستعيرها ومستأجرها. ويحتمل استحقاق المستعير والمستأجر لصدق اسم المجاورة عرفا ، اما الغاصب فالأقرب عدم دخوله ، لأنه مأمور بالخروج في كل آن فلا يصدق عليه المجاورة ، وعلى القول باستحقاق المستأجر والمستعير لو خرجا خرجا عن الوقف.

الثاني : إذا باع الملك (٩) خرج عن الوقف ويصير للمشتري لصيرورته جارا.

الثالث : لو لم تكن الدار مسكونة ، هل يستحق مالكها شيئا من الوقف؟ يحتمل ذلك لصدق اسم المجاورة بالملك ، فإنه يجوز ان يقال : فلان جار فلان إذا كانت داره الى جانب داره وان لم تكن مسكونة ، ويحتمل العدم ، لأن المجاورة في العرف انما تكون مع السكنى به دون الملك ، ولهذا يصدق على المستأجر والمستعير

__________________

(٨) من « ن » ، وفي النسخ : المالك.

(٩) من « ن » ، وفي النسخ : مالك.

٣٧١

بأنه جار.

الرابع : لو كان في داره اثنان فصاعدا دخلوا في الوقف لصدق المجاوزة.

الخامس : لا يخرج صاحب الدار عن الوقف بسفره المتقطع ، ولا في تردده بالسكنى بينها وبين غيرها.

قال رحمه‌الله : ولو وقف على بني تميم صح ويصرف الى من يوجد منهم ، وقيل : لا يصح لأنهم مجهولون ، والأوّل هو المذهب.

أقول : قال الشيخ في المبسوط والخلاف : إذا وقف على بني تميم أو بنى هاشم صح الوقف ، وان كانوا غير محصورين كالفقراء والمساكين ، قال : وفي الناس من قال : انه لا يصح ، لأنه مجهول. وقال ابن حمزة : لا يجوز الوقف على بنى فلان ، وهم غير محصورين في البلاد ، والمشهور الجواز ، وهو المعتمد لوقوع الإجماع على صحة الوقف على الفقراء والمساكين وعلى المسلمين والمؤمنين ، ولا شك في انتشارهم وعدم انحصارهم.

ويجب إعطاء ثلاثة فما زاد ولا يجزي أقل من ثلاثة ، ولا يجب الزائد عليها ، وكذا حكم كل قبيلة منتشرة ، ولا يجب التسوية بين المدفوع إليهم ، بخلاف المحصورين فإنه يجب التسوية والاستيعاب (١٠) ، ولو كانوا منحصرين ثمَّ انتشروا وجب استيعاب ما أمكن ، لأن الواقف أراد التسوية والتعميم في ابتداء وقفه لكونه ممكنا لانحصار الموقوف عليه ، فاذا تعذر بعد ذلك وجب العمل بما أمكن بخلاف المنتشرين ابتداء ، لأن الواقف لم يقصد التعميم ولا التسوية لتعذره في حق المنتشرين ، فلا يجب أكثر من أقل الجمع ، ولا يكفي دونه.

قال رحمه‌الله : ولو وقف على الذمي جاز ، لأن الوقف تمليك فهو كإباحة المنفعة ، وقيل : لا يصح ، لأنه يشترط فيه نيّة القربة إلا على أحد الأبوين ، وقيل :

__________________

(١٠) في « ن » : الاستيعاب.

٣٧٢

يصح على ذوي القرابة ، والأوّل أشبه ، وكذا يصح على المرتد ، وفي الحربي تردد ، أظهره (١١) المنع.

أقول : هنا ثلاث مسائل :

الأولى : في جواز الوقف على الذمي ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك على أربعة أقوال :

الأول : الجواز مطلقا ، وهو مذهب المصنف والشهيد ، لقوله تعالى ( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) (١٢).

الثاني : انه يصح على ذي الرحم دون الأجنبي ، وهو مذهب الشيخين للحث على صلة الأرحام.

الثالث : يصح على الوالدين دون غيرهم ، واختاره ابن إدريس ، لقوله تعالى ( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) (١٣) ، وللحث على برّهما ، ثمَّ رجع بعد ذلك الى مذهب الشيخين ، وهو يدل على اضطرابه في هذه المسألة.

الرابع : المنع مطلقا ، واختاره فخر الدين لقوله تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) (١٤) الآية وهي دالّة على النهي عن مودة الكافر وان كان أبا.

الثانية : في المرتد عن غير فطرة ، ذهب المصنف والعلامة في القواعد الى جواز الوقف عليه ، ووجه الصحة كون الوقف صدقة ، وهي جائزة على المرتد

__________________

(١١) في بعض النسخ : أشبهه.

(١٢) الممتحنة : ٨.

(١٣) لقمان : ١٥.

(١٤) المجادلة : ٢٢.

٣٧٣

من غير فطرة ، لأنه له أهلية التمليك ، ولعموم : « على كل كبد حرى أجر » (١٥). ويحتمل المنع لكونه كافرا ، واختاره فخر الدين.

الثالثة : في الحربي ، لا خلاف في عدم جواز الوقف على الأجانب ، وانما الخلاف في جوازه على الأقارب ، قال الشيخان : بجوازه عليهم سواء كانوا أبوين أو غيرهما من ذوي الأرحام ، وكذا أبو الصلاح وابن حمزة ، وقال سلار : ووقف المؤمن على الكافر باطل ، وقد روي انه ان كان الكافر أحد أبوي الواقف أو من ذوي رحمه كان جائزا ، والأول لم يثبت ، ومثله قال ابن البراج.

وجزم المصنف في المختصر بعدم جواز الوقف على الحربي ، وهو مذهب العلامة ، ووجه الجواز والمنع ما تقرر في الذمي.

قال رحمه‌الله : وكذا لو جعله لمن ينقرض غالبا ، كأن يقفه على زيد ويقتصر أو يسوقه الى بطون تنقرض غالبا ، أو يطلقه في عقبه ولا يذكر ما يصنع به بعد الانقراض ، ولو فعل ذلك ، قيل : يبطل الوقف ، وقيل : يجب إجزاؤه حتى ينقرض المسمّون ، وهو الأشبه فإذا انقرضوا رجع الى ورثة الواقف ، وقيل : إلى ورثة الموقوف عليهم ، والأوّل أظهر.

أقول : هنا مسألتان :

الأولى : من شرط في الواقف التأبيد فإذا جعله لمن ينقرض غالبا ، كما وصفه المصنف ولم يسقه بعد ذلك الى من لا ينقرض كالفقراء والمساكين والمساجد والمشاهد ، هل يصح ذلك؟ قال الشيخ في المبسوط والخلاف : إذا وقف على من يصح انقراضه في العادة مثل ان يقف على ولده وله ولد وسكت ، فمن أصحابنا من قال : لا يصح الوقف ، ومنهم من قال : يصح ، والمشهور الصحة ، وهو مذهب الشيخين وابن الجنيد وسلار وابن إدريس وابن حمزة ، واختاره المتأخرون ،

__________________

(١٥) عوالي اللئالي ١ : ٩٥ ، حديث ٣.

٣٧٤

ويكون حبسا أو سكنى أو عمرى بلفظ الوقف ؛ لأنه نوع تمليك وصدقة ، فيتبع اختيار المالك في التخصيص وغيره ، ولأن تمليك الأخير ليس شرطا في تمليك الأول ، وإلا لزم الدور ، لأن تمليك الأول شرط في تمليك الثاني ، فلو كان تمليك الثاني شرطا في تمليك الأول لزم الدور.

واحتج المانعون بأن الوقف مقتضاه التأبيد ، فإذا كان منقطعا صار وقفا على مجهول ، فلا يصح كما لو وقفه على مجهول في الابتداء.

الثانية : إذا انقرض الموقوف عليهم ، هل يرجع الوقف إلى ورثة الواقف أو ورثة الموقوف عليهم أو الى وجوه البر؟ فيه ثلاثة أقوال :

الأول : الى ورثة الواقف ، وهو مذهب الشيخ وابن البراج وسلار ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لأنه حبس في الحقيقة لانقراض أربابه ، وحكم الحبس رجوعه الى ورثته عند انقراض المحبس عليهم لعدم خروجه عن ملكه بالكلية.

الثاني : الى ورثة الموقوف عليهم ، وهو مذهب المفيد ( وابن إدريس ) (١٦) ، لأن الوقف خرج عن ملك الواقف فلا يعود اليه ولا الموقوف عليه تملك الوقف فينتقل الى ورثته بعد موته.

والجواب عدم انتقال الرقبة إلى الموقوف عليه هنا لما بينا من انه حبس في الحقيقة ، وانما ينتقل الوقف الى الموقوف عليه في صورة التأبيد.

الثالث : قال ابن زهرة : ينتقل الى وجوه البرّ لانتقال الوقف عن الواقف وزواله عن ملكه ، ومال إليه العلامة في المختلف.

قال رحمه‌الله : ولو وقف على أولاده الأصاغر فقبضه يكون قبضه عنهم ، وكذا الجد للأب ، وفي الوصي تردد ، أظهره الصحة.

__________________

(١٦) لم يرد في « ن ».

٣٧٥

أقول : منشؤه : من انه قائم مقام الأب والجد مع فقدهما ، فيكون حكمه حكمهما ، ومن انه لا يجوز ان يتولى طرفي العقد عند الشيخ وابن إدريس ، وهذا عقد ، والمعتمد الجواز.

قال رحمه‌الله : ولو وقف على نفسه لم يصح ، وكذا لو وقف على نفسه ثمَّ على غيره ، وقيل : يبطل في حق نفسه ويصح في حق غيره ، والأول أشبه.

أقول : هذا منقطع الابتداء ، وقد مضى (١٧) البحث فيه.

قال رحمه‌الله : وقيل : إذا وقف على أولاده الأصاغر جاز أن يشرك معهم وإن لم يشترط ، وليس بمعتمد.

أقول : الجواز مذهب الشيخ في النهاية ، وتبعه ابن البراج لرواية عبد الله بن الحجاج (١٨) ، عن الصادق عليه‌السلام ، والمشهور المنع ، وهو المعتمد لعدم جواز تغيير الوقف ، ولرواية جميل بن دراج (١٩) ، عن الصادق عليه‌السلام.

__________________

(١٧) ص ٣٦٨.

(١٨) الوسائل ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب ٥ أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ٣.

(١٩) الوسائل ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب ٤ في أحكام الوقوف والصدقات حديث ٢ و٧.

٣٧٦

في اللواحق

قال رحمه‌الله : ولو وقف حصته من عبده ثمَّ أعتقه لم يصح العتق لخروجه عن ملكه ، ولو أعتقه الموقوف عليه لم يصح أيضا لتعلق حق البطون به ، ولو أعتقه الشريك مضى العتق في حصته ولم يقوم عليه ، لأن العتق لا ينفذ فيه مباشرة ، فالأولى أن لا ينفذ فيه سراية ، ويلزم من القول بانتقاله الى الموقوف عليهم افتكاكه من الرق ، ويفرق بين عتقه مباشرة وعتقه سراية بأن العتق مباشرة يتوقف على انحصار الملك في المباشر أو فيه وفي شريكه ، وليس كذلك افتكاكه فإنه إزالة للرق شرعا فيسري في باقيه ويضمن الشريك القيمة ، لأنه يجري مجرى الإتلاف ، وفيه تردد.

أقول : منشأ التردد من عدم ترجيح احد الاحتمالين وقد بين وجههما ، وعدم نفوذ العتق مباشرة وسراية مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره العلامة في مصنفاته ، وهو المعتمد ، وعلى القول بالانتقال الى الله تعالى لا يتوجه احتمال الافتكاك ، وانما يتوجه على القول بانتقاله الى الموقوف عليهم.

قال رحمه‌الله : إذا وقف مملوكا كانت نفقته في كسبه ، اشترط ذلك أو لم

٣٧٧

يشترط ، ولو عجز عن الاكتساب كانت نفقته على الموقوف عليهم ، ولو قيل في المسألتين كذلك كان أشبه.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : نفقة العبد الموقوف في كسبه إذا لم يشترط أو شرطها في الكسب ، لأن الغرض بالوقف انتفاع الموقوف عليه ، وانما يمكن ذلك ببقاء عينه ، وانما يبقى بالنفقة ، فمقتضى العقد يوجب كون النفقة في كسبه ، هذا إذا كان ذا كسب ، واما إذا عجز عن الكسب فالنفقة على الموقوف عليهم على القول بانتقال الملك إليهم ، وعلى القول بانتقاله الى الله تعالى فهي من بيت المال مع عجز العبد عن التكسب.

وظاهره ترجيح كون النفقة على الموقوف عليهم ، سواء كان ذا كسب أو لم يكن لكونه مملوكا لهم والنفقة تابعة للملك ، واختاره العلامة ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : لو جنى العبد الموقوف عمدا لزمه القصاص. الى آخر المسألة.

أقول : هنا مسألتان :

الأولى : إذا جنى العبد الموقوف ، فان كانت الجناية عمدا فلا خلاف في جواز الاقتصاص منه وبطلان الوقف ، وإذا كانت خطأ لم يتعلق برقبته ، لأنه انما يتعلق برقبته من يباع بالأرش ، أما رقبة من لا يباع بالأرش فلا يتعلق بها ، وهذا إجماع وانما الخلاف في محل الدية ، هل هو كسب العبد أو مال الموقوف عليه أو مال الواقف أو بيت المال؟ فيه أقوال :

الأول : تعلقها بمال الموقوف عليه ، وهو بناء على انتقال الملك إليه ، وقد تعذر استيفاء الدية من رقبة المملوك لعدم جواز بيعه ، ولا سبيل إلى إهدار الجناية فيكون في مال المالك.

الثاني : تعلقها بمال الواقف ، وهو بناء على انتقال الملك الى الله تعالى ، لأنه

٣٧٨

الذي منع الرقبة من تعلق الأرش بها بالعتق ، فيكون ضامنا.

الثالث : تعلقها ببيت المال كالحر المعسر ، وهو بناء على انتقال الملك الى الله تعالى أيضا.

الرابع : تعلقها بكسبه ، لأنه أقرب الأشياء الى رقبته ، فاذا تعذر تعلقها برقبته تعلقت بما هو أقرب الأشياء إليها ، وهذا هو المعتمد ، لأنه لا يجوز إهدار الجناية ولا تعلقها برقبة العبد لعدم جواز بيعه بها ولا بمال المولى ، لأن المولى لا يعقل عبدا ، فوجب تعلقها بالكسب ، وقال العلامة في المختلف : ويحتمل تعلقها بالرقبة وتباع فيه كما تقبل في العمد والبيع أدون من القتل ، وهذا الاحتمال لم يقل به احد ، ولو لم يكن له كسب كان الاحتمال قويا.

فرع : لو كانت الجناية عمدا هل يتخير المجني عليه بين القتل والعفو والاسترقاق كما يتخير في الطلق أو يتحتم القتل أو العفو دون الاسترقاق؟ يحتمل ذلك لوجوب دوام الوقف بدوام الحياة في الحيوان ، لأنه يقتضي التأبيد ، وهو مانع من تملك غير الموقوف عليه للوقف ما دام موجودا ، ويحتمل جواز الاسترقاق ، لأن له ابطال الوقف بقتله ، فإبطاله مع بقاء الحياة أولى ، لأنه عفو ، وهو حسن ، والأول أقوى.

الثانية : في الجناية على العبد الموقوف ، فاذا جنى عليه فلا خلاف في وجوب أرش الجناية على الجاني ، وانما الخلاف في مصرفها ، قال الشيخ في المبسوط : قال قوم يشتري بها عبدا آخر ويقام مقامه ، سواء قيل بانتقال الملك الى الله تعالى أو الى الموقوف عليه ، لأن حق البطون الأخر متعلق برقبة العبد ، فاذا فاتت أقيم غيرها بقيمتها مقامها ، ومنهم من قال بنقل القيمة إليه ، قال : وهو الأقوى ، لأنا قد بينا ان ملكه له ، والوقف لم يتناول القيمة. هذا كلامه في المبسوط ، وهو يدل على اختياره انتقال القيمة إلى الموقوف عليه ، ويكون ملكا

٣٧٩

له كالنماء ، واختاره المصنف.

والعلامة اختار ان يشتري بها غيره ويقام مقامه ، لأن البطن الأول لا يملك الوقف على الخصوص ، ولهذا ان البطن الثاني يتلقى الوقف من الواقف لا من البطن الأول.

وهنا فروع :

الأول : على القول بتملك البطن الأول للقيمة يجوز لهم العفو ، وعلى القول بوجوب شراء بدله ليس لهم العفو.

الثاني : على القول بوجوب الشراء يتولاه الناظر الخاص ، وهو الذي جعل الواقف النظر اليه ، ومع فقده يتولاه الناظر العام ، وهو الامام عليه‌السلام أو من يقوم مقامه ، وهو حاكم الشرع ، ومع التعذر يتولاه الموقوف عليه.

الثالث : لا يفتقر هذا العبد المشترى الى وقف جديد ، بل يصير وقفا بنفس الشراء ، لأنه بدل من الوقف ، لأنه انما اشتري ليكون وقفا فلا يفتقر الى وقف ، وهو مذهب فخر الدين ، والشهيد في شرح الإرشاد.

الرابع : يجب ان يكون البدل من جنس المبدل ، ويجب المماثلة ما أمكن حتى في الذكورة والأنوثة.

الخامس : لو لم تف قيمة الأول بعبد اشترى بها شقص عبد يكون وقفا ، ولو فضل عن قيمة العبد اشترى بها شقص (٢٠).

قال رحمه‌الله : إذا كان له موال من أعلى ـ وهم المعتقون له ـ وموال من أسفل ـ وهم الذين أعتقهم ـ ثمَّ وقف على مواليه ، فإن علم أنه أراد أحدهما انصرف إليه ، وإن لم يعلم انصرف إليهما.

أقول : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وهو مذهب الشيخ وابن إدريس

__________________

(٢٠) كذا.

٣٨٠