غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

فإذا عرفت هذا فأجرة هذا الأجير من أصل الثمرة كما قاله المصنف ، لأن عمله لهما ، أما كونه للعامل فلأن جميع العمل واجب عليه ، وهذا قد عمل بعضه ، وأما كونه للمالك فلأن العمل لمصلحته ليسلم ما له من الخيانة ، إذ لو لا مصلحته لما جاز ضم هذا الأجير إلى العامل ، وإذا كان العمل لهما كانت الأجرة عليهما.

ويحتمل كون الأجرة من خاص العامل ، لأن العمل واجب عليه ، وقد تعذر استيفاؤه منه بسبب خيانته ، فيجب عليه بذل العوض ، وهو اجرة العامل ، وهو قوي.

أما لو ضم المالك إليه أمينا حافظا من غير ان يعمل شيئا ولا يرفع يد العامل عن شي‌ء كانت أجرته على المالك خاصة ، لأن عمله له خاصة.

ولو عجز العامل عن القيام بالعمل أو بعضه مع كونه أمينا استؤجر من يعمل جميع العمل أو بعضه ، وكانت الأجرة من خاص العامل ، لأن مجموع العمل له.

فرع : لو لم يمكن الأمين الحفظ لكون العامل قويا باطشا لا يمكن التحرز منه رفعت يده عن الجميع ، والزم اجرة عامل يقوم مقامه ليحصل الجمع بين العمل وحفظ مال المالك.

قال رحمه‌الله : وقيل له الرجوع على العامل بالجميع ان شاء ، لأن يده عادية ، والأول أشبه ، إلا بتقدير ان يكون العامل عالما به.

أقول : مذهب المصنف ، وهو الرجوع على العامل بالنصف خاصة ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، لأنه لم يقبض الثمرة كلها ، وانما كان حافظا لها نائبا عن الغاصب.

وقيل : يرجع عليه بالجميع لما قاله المصنف : ( لأن يده عادية ) ثمَّ يرجع على الغاصب ، لأنه غرّه ، واختاره العلامة ، وهو المعتمد ، لأن الأيدي إذا تعاقبت

٢٨١

على المغصوب تخيّر المالك في تضمين من شاء.

٢٨٢

كتاب الوديعة

٢٨٣
٢٨٤

في العقد

قال رحمه‌الله : ولو عين له موضع الاحتفاظ ، اقتصر عليه ، ولو نقلها ضمن الا الى الأحرز أو مثله على قول.

أقول : إذا دفع إليه الوديعة لا يخلو إما ان يعين له الحرز أو لا يعينه ، بل جعل النظر اليه أو يعين حرزا ولم ينهه عن النقل عنه أو نهاه ، وأطلق أي لم يقل : وان تلفت ، أو قال : ولا ينقلها عنه وان تلفت ، فالأقسام أربعة :

الأول : ان لا يعين موضع الحفظ ، فاذا تركها في موضع جاز له نقلها الى غيره ، سواء كان مثل الأول أو أعلى أو أدون إذا كان حرز مثلها ؛ لأن الإيداع اقتضى حفظ الوديعة في حرز مثلها ، والمالك قد وكل النظر اليه ورضي باجتهاده حيث لم يعين موضع الحفظ ، فله الوضع حيث شاء بشرط ان يكون حرز مثلها ، ولا ضمان عليه في ذلك.

الثاني : عين الحرز ولم ينهه عن النقل عنه ، قال الشيخ في المبسوط : فان نقلها الى ما يماثله لم يضمن ؛ لأن صاحبها رضي بأن يكون في ذلك الموضع أو مثله ، فصار كما لو استأجر أرضا ليزرعها طعاما فله ان يزرع ما يكون ضرره

٢٨٥

مثل ضرر الطعام أو دونه.

واختاره المصنف والعلامة في القواعد ، واختار في المختلف عدم جواز النقل والضمان به ، بناء على ان الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضده. هذا مع عدم الخوف عليها في ذلك الموضع الذي عينه المالك ، أما مع الخوف فإنه يجب نقلها ولو ترك النقل مع المكنة ضمن ان تلفت.

الثالث : ان يعين الموضع ويمنعه من النقل الى غيره ، ويطلق المنع ، أي لم يقل : وان تلفت ، هذا يضمن بالنقل ، سواء كان الى الأعلى أو الأدنى أو المثل ؛ لأن صاحبها قطع اجتهاد المستودع حيث عين الموضع ونهاه عن النقل.

ولو حصل خوف من نهب أو لص أو حريق وجب النقل ، فلو لم ينقلها مع الخوف احتمل الضمان ؛ لأنه كان مأمورا بالنقل ولم يفعله ، فيكون ضامنا وهو المعتمد.

ويحتمل عدم الضمان ؛ لأن المالك نهاه عن النقل ، فاذا امتثل امره لم يكن ضامنا.

الرابع : إذا قال : لا تنقلها وإن تلفت ، فحصل الخوف ، جاز نقلها وتركها ، ولو تلفت في أحد الوجهين فلا ضمان ؛ لأن الشارع أذن له بالنقل عند الخوف ، والمالك أذن له بالترك عنده ، فهو كما لو سلطه على تلفه ، فلا ضمان مع اتباع أحد الأمرين.

فرع : قال الشيخ في المبسوط : إذا ادعى الودعي النقل خوف الحريق أو النهب أو الغرق ، فإنه لا يقبل قوله إلا بالبينة ؛ لأن مثل ذلك لا يخفى ، وكل موضع يدعي السرقة أو الغصب أو يقول : تلفت من غير تفريط ، فإنه لا يقبل قوله إلا مع اليمين ، والفرق إمكان إقامة البينة على الأول دون الثاني.

وقال العلامة : يقبل قوله مطلقا ، سواء ادعى أمرا خفيا أو ظاهرا ، لما رواه

٢٨٦

الحلبي في الحسن ، عن الصادق عليه‌السلام « قال : صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان » (١).

قال رحمه‌الله : ولو كان الغاصب مزجها بماله ، ثمَّ أودع الجميع فإن أمكن المستودع تمييز المالين رد عليه ماله ومنع الآخر ، وان لم يمكن تميزهما وجب إعادتهما على الغاصب.

أقول : هذه المسألة مخالفة للأصل ، لأنها تتضمن دفع مال الغير الى غير مالكه مع كونه غاصبا ، وهو غير جائز إلا أن عمل أكثر الأصحاب على ذلك.

قال ابن إدريس : ولو كانت الوديعة من حلال وحرام لا يتميز أحدهما عن الآخر ردّ جميعها الى المودع متى طلبها بدليل إجماع أصحابنا. فقد ظهر ان المسألة إجماعية ، والعلامة حكم في القواعد بما هو فتوى الأصحاب ، ثمَّ استشكل ذلك.

قال فخر الدين : منشؤه من قول الأصحاب ، ثمَّ نقل قول ابن إدريس هذا الذي نقلناه ، ثمَّ قال : ومن انه رد الغصب الى الغاصب وهو لا يجوز ، والأولى رده الى الحاكم. هذا كلامه رحمه‌الله ، ولا بأس بالعمل على ما اجتمعت عليه الأصحاب ، لأن الإجماع حجة.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الوديعة ، باب ٤ ، حديث ١.

٢٨٧
٢٨٨

في اللواحق

قال رحمه‌الله : إذا أنكر الوديعة أو اعترف وادعى التلف أو الردّ ولا بينة ، فالقول قوله ، وللمالك إحلافه على الأشبه ، أما لو دفعها الى غير المالك وادعى الإذن ( فأنكر ، فالقول قول المالك مع يمينه ، وان صدقه على الاذن ) ) لم يضمن وان ترك الاشهاد على الأشبه.

أقول : في هذا الكلام مباحث :

الأول : إذا ادعى عليه الوديعة فأنكر ، كان القول قوله مع اليمين بلا خلاف ، لقوله عليه‌السلام : « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (٣).

الثاني : إذا اعترف بالوديعة ثمَّ ادعى التلف كان القول قوله ، وظاهر المصنف قبول قوله مطلقا ، كما هو مذهب العلامة. والشيخ فرّق بين ان يدعي التلف بسبب ظاهر كالنهب والحرق والغرق ، وبين ان يدّعيه بسبب خفي كالسرقة وما شابه ذلك ، وحكم بعدم قبول قوله بالأول من غير بينة ، لإمكان إقامتها على

__________________

(٢) ما بين القوسين لم يرد في الشرائع.

(٣) المستدرك ، باب ٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعاوي ، حديث ٤.

٢٨٩

ما يدعيه ، ولقبولها بالثاني من غير بينة مع اليمين ، وقد أشرنا الى ذلك فيما مضى.

الثالث : إذا اعترف بالوديعة ثمَّ ادعى الرد ، قال المصنف فالقول قوله ، وللمالك إحلافه على الأشبه ، وظاهر قوله : ( على الأشبه ) عائد إلى احتمال عدم إحلافه ، وليس كذلك ، لأنه لا خلاف في إيجاب اليمين عليه على القول بأن القول قوله ، بل عائد إلى قوله : ( فالقول قوله على الأشبه وللمالك إحلافه ).

إذا عرفت هذا : فالقول بأن القول قوله هو المشهور بين الأصحاب ، وعليه فتوى الجميع وان استشكله بعضهم بعد الفتوى ، لاحتمال ان يكون القول قول المالك ، لأنه منكر ، وقد قال عليه‌السلام : « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (٤) ، ولم أجد قائلا بهذا الاحتمال ، بل الفتاوي متطابقة على ان القول قول الودعي ، لأنه أمين قبض المال لمصلحة المالك ، فيكون قوله مقبولا بالرد ، وهو المعتمد.

تنبيه : انما يقبل قوله بالرد على من ائتمنه خاصة ، أما لو مات المالك فادعى الودعي الرد على وارثه لم يقبل إلا بالبينة ، لأنه غير أمين للوارث ، وكذا لو مات الودعي فادعى وارثه الرد على المالك ، لأنه لم يكن أمينا للمالك ، ولو أراد السفر فأودعها ثقة لتعذر المالك والوكيل والحاكم ، فادعى الثقة ردها على المالك لم يقبل إلا ببينة لما قلناه ، ولو ادعى ردها الى المستودع الأول ، قبل قوله مع اليمين ، لأنه ادعى على من ائتمنه ، ولو ادعى من طير الريح ثوبا الى داره رده الى مالكه لم يقبل إلا بالبينة ، لأنه لم يكن أمينا له باختياره.

ولو قال المالك : ( إذا سافرت أو دعها فلانا ) ، فأودعه ، فادعى الرد على المالك قبل قوله مع اليمين ، لأنه ادعى الرد الى من ائتمنه ، ولو ادعى دفعها الى المستودع الأول لم تقبل إلا بالبينة ، لأنه لم يكن أمينا له ، بل هو أمين للمالك.

__________________

(٤) تقدم ص ٢٨٩.

٢٩٠

وإذا ادعى الاذن بالدفع الى غيره فصدقه على الاذن وأنكر الدفع ، قال المصنف : ( لم يضمن وان ترك الاشهاد على الأشبه ) ، واختاره العلامة في القواعد ، لأنه قال : ولو صدق الإذن وأنكر التسليم فكدعوى الرد أي كدعوى الرد على المالك ، وقد اختار ان القول قول المستودع في الرد ، وجزم في التحرير بعدم الضمان وان ترك الاشهاد ، ووجهه كونه أمينا ، والاحتمال الوارد في دعوى الرد على المالك وارد هنا ، فلهذا قال : ( على الأشبه ).

وفرّق الشيخ بين ان يكون الأمر بالدفع الى الغير على سبيل الإيداع له ، وبين ان يكون على سبيل الإبقاء ، وقوى في الأول عدم الضمان مع ترك الاشهاد ، وحكم في الثاني الضمان مع تركه ، لأن الإذن بقضاء الدين للبراءة منه ، وهي لم تحصل بدون الإشهاد ، بخلاف الوداعة فإنها مبنية على الإخفاء ، ولا يشترط الإشهاد.

قال رحمه‌الله : إذا أقام المالك البينة على الوديعة بعد الإنكار فصدقها ثمَّ ادعى التلف قبل الإنكار لم تسمع دعواه ( وعدم قبول بينته ) ) ، لاشتغال ذمته بالضمان ، ولو قيل : تسمع دعواه وتقبل بينته كان حسنا.

أقول : عدم سماع دعواه وعدم قبول بينته مذهب الشيخ رحمه‌الله ، لأنه بإنكار الوديعة مكذب لدعوى الهلاك ولا تقبل هذه الدعوى ، وإذا كانت الدعوى غير مسموعة لم تقبل البينة بها ، لأن البينة فرع الدعوى.

وقال ابن الجنيد : يقبل دعواه ، لأن إنكاره يجوز ان يكون عن سهو أو نسيان. والمعتمد ان كان صورة الإنكار نفي الإيداع لا تقبل دعواه ولا يسمع بينته.

قال رحمه‌الله : إذا اعترف بالوديعة ثمَّ مات ، وجهلت عينها ، قيل : تخرج

__________________

(٥) لم يرد في الشرائع.

٢٩١

من أصل تركته ، ولو كان له غرماء وضاقت التركة حاصّهم المستودع ، وفيه تردد.

أقول : إذا حضرته الوفاة وعنده وديعة كان حكمها كما لو أراد السفر وعنده وديعة ، وهو ردها الى مالكها أو وكيله ، فان فقدهما فالى الحاكم ، فان تعذر الجميع وجب عليه إظهار أمرها والإشهاد عليها والإيصاء بها الى الثقة ليدفعها الى صاحبها ، فان لم يفعل ذلك يكون قد أتلفها على صاحبها ، لانتقال التركة إلى الورثة بالموت ، وقولهم مقبول بعدم الوديعة فلو لم يوص كان ضامنا ، وكذا لو اوصى الى الفاسق.

إذا عرفت هذا فاذا اعترف بالوديعة ووصفها بصفتها المميزة لها عن غيرها ثمَّ مات ، وجهلت عينها ، هل يخرج من أصل تركته ويكون صاحبها شريكا للغرماء لو كان عليه ديون؟ تردد المصنف في ذلك ، والظاهر ان تردد المصنف من احتمال الضمان وعدمه.

ووجه الضمان انه اعترف بوجود الوديعة عنده ، والأصل بقاؤها ، وجهل عينها لا يوجب عدم الضمان ، لعموم قوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (٦).

ووجه احتمال عدم الضمان ان الودعي أمين لا يضمن إلا مع التعدي أو التفريط ، والأصل عدمه لاحتمال تلف الوديعة من غير تفريط ، والأصل براءة الذمة.

واعلم ان العلامة ذكر هذه المسألة في موضعين من القواعد ، قال في الأول : أما لو قال : ( عندي ثوب ) ولم يوجد في التركة ثوب ، لم يضمن تنزيلا على التلف قبل الموت على إشكال ، وفي الثاني : لو مات المستودع ولم توجد الوديعة في

__________________

(٦) المستدرك ، كتاب الوديعة ، باب ١ وجوب أداء الأمانة ، حديث ١٢.

٢٩٢

تركته ، فهي والدين سواء على اشكال ، فعميد الدين رحمه‌الله لم يفرق بينهما ، وجعل منشأ الإشكال فيهما من احتمال الضمان وعدمه ، وفخر الدين رحمه‌الله فرق بينهما ، وجعل منشأ الإشكال في الأول من احتمال الضمان وعدمه ، وجعل موضوعها أصل الضمان ، وجعل موضوع الثانية كيفية الضمان ، بمعنى ان الوديعة ، هل تقدم على الدين ويخرج قيمتها أو لا والنقص يدخل على الغرماء أو حكمها حكمه؟ ثمَّ اختار تقديمها عليه لتعلقها بعين التركة كالرهن.

ولمانع ان يمنع حجة فخر الدين ، لأن الدين متعلق بعين التركة أيضا بلا خلاف ، وانما الخلاف في صفة تعلقه ، هل هو كتعلق الدين بالرهن أو كتعلق الأرش برقبة الجاني؟ وإذا ثبت ان الدين متعلق بالتركة فلا ترجيح ، والقياس على الرهن باطل ، لأن تقديم صاحب الرهن لتعلق حقه بعين مشخصة مميزة عن غيرها ، بخلاف الوديعة ، لأنها غير متميزة ولا مقطوع ببقائها فافترقا ، فكما لو كان الرهن مقبوضا بيد المالك ثمَّ مات ولم يوجد في التركة فإنه لا يختص بقيمته فكذا في الوديعة ، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تأمل.

وقطع العلامة في التحرير بمشاركة الغرماء من غير تردد ، وهذا الحكم مختص فيما إذا اعترف بالوديعة حال موته إذا قامت البينة انه مات وهي عنده.

اما لو كان عنده وديعة حال حياته ، ثمَّ مات ولم يعترف بها ، ولا قامت البينة بأنه مات وهي عنده ، هل يكون ضامنا لها؟ استشكله في القواعد والتحرير ، من عموم قوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (٧) ، ومن أصالة البراءة ما لم يتحقق السبب ، وهو غير متحقق.

فروع :

الأول : لو وجد كيس مختوم في التركة وعليه مكتوب : بأنه وديعة فلان ، لم

__________________

(٧) ص ٢٩٢ المصدر المتقدم.

٢٩٣

يجب تسليمه اليه إلا بالبينة ، لاحتمال ان يكون اشتراه من مالكه ، وترك العلامة عليه.

الثاني : لو قال : ( عندي ثوب وديعة ) ، ولم يصفه ، وفي تركته أثوابا ، كان ضامنا لتفريطه بعدم التمييز ، فهو كما لو خلط الوديعة بغيرها.

ولو وجد في التركة ثوب واحد احتمل تنزيل الوصية عليه ، ويجب دفعه الى الموصى له ، ويحتمل الضمان لعدم التبيين ، وعدم وجوب دفع الثوب الموجود ، لاحتمال ان يكون غير الموصى به ، وهو قوي.

الثالث : يجب ان يميزها حالة الوصية ، إما بالإشارة إلى عينها بحضرة الشهود ، أو بذكر الجنس والوصف الرافع للجهالة ، فلو قال : ( عندي وديعة ) ، ولم يميزها بما ذكرناه فهو كما لو لم يوص لعدم الفائدة حينئذ ، ويكفي ذكر الجنس من دون الوصف ، ويكفي الإشارة وان لم يذكر الجنس والوصف.

قال رحمه‌الله : إذا فرط واختلفا في القيمة ، فالقول قول المالك مع يمينه ، وقيل : القول قول الغارم مع يمينه ، وهو أشبه.

أقول : قال الشيخان : القول قول المالك ، لأن المستودع صار خائنا ، فلا يكون قوله مسموعا. وقال أبو الصلاح : القول قول المستودع. وبه قال ابن حمزة وابن إدريس ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لأنه غارم ، والأصل براءة ذمته.

٢٩٤

كتاب العارية

٢٩٥
٢٩٦

في المستعير

قال رحمه‌الله : ولو استعار من الغاصب وهو لا يعلم ، كان الضمان على الغاصب ، وللمالك إلزام المستعير بما استوفاه من النفقة ، ويرجع على الغاصب ، لأنه أذن له في استيفائها بغير عوض ، والوجه تعلق الضمان بالغاصب حسب.

أقول : يحتمل تعلق الضمان بالغاصب حسب وليس للمالك ان يرجع على المستعير بشي‌ء مع جهله بالغصب ، لأنه تصرف تصرفا مشروعا في ظاهر الشرع ، فلا يتعقبه ضمان ، وإلا لزم تكليف العاقل ، وهو محال ، والمعتمد كونه مخيرا بتضمين المنافع والعين مع تلفها بين ان يضمن الغاصب أو المستعير ، لأن كل يد تترتب على الغاصب يد ضمان ، فان ضمن الغاصب لم يرجع على المستعير مع جهله ، ويرجع عليه مع علمه ، ولو ضمن المستعير لم يرجع على الغاصب مع علمه ، ويرجع عليه مع جهله ، لأنه غيره.

فرع : إذا استعار من الغاصب وهو جاهل بالغصب استقر الضمان على الغاصب ، لأنه لو رجع على المستعير رجع المستعير على الغاصب ، فلو كانت العين ذهبا أو فضة أو شرط الغاصب الضمان على المستعير ، هل يستقر الضمان على

٢٩٧

المستعير مع جهله؟ يحتمل ذلك ، لأنه دخل على انه ضامن ، ويحتمل العدم لظهور فساد الشرط لوقوعه من غير المالك ، والفاسد لا يترتب عليه اثر ، والضمان أثر الشرط ، وقد بان فساده.

والمعتمد استقرار ضمان العين ان تلفت على المستعير ، لأنه دخل على ان يكون ضامنا لها مع التلف ، وقد حصل ، فلا يكون مغرورا.

وأما ضمان المنافع ونقص العين بالاستعمال ، فهو يستقر على الغاصب ، لأن المستعير دخل على عدم الضمان فيهما.

٢٩٨

في العين المعارة

قال رحمه‌الله : ويصح استعارة الأرض للزرع والغرس والبناء ، ويقتصر المستعير على القدر المأذون فيه ، وقيل : يجوز ان يستبيح ما دونه في الضرر ، كأن يستعير أرضا للغرس فيزرع ، والأول أشبه.

أقول : قال ابن إدريس : فإذا أذن صاحب الأرض للمستعير في الغراس أو البناء ، فزرع جاز ، لأن ضرر الزرع أخف من ضرر ما اذن فيه. وهو اختيار العلامة في القواعد ، قال : ولو أذن له في زرع الحنطة تخطى الى المساوي والأدون لا الأضر.

والمصنف اقتصر على مورد الإذن ، لأن التصرف في مال الغير بغير اذنه غير جائز ، وإذا تصرف في غير المأذون فيه يصدق عليه انه تصرف بمال الغير بغير اذنه.

تنبيه : لا يجب في العارية تعيين جهة الانتفاع وان تعددت وتفاوتت ، فاذا أعاره أرضا وأطلق ، جاز البناء والغرس والزرع ، وان عين الغرس وأطلق غرس ما شاء من الأشجار والنخل ، ولا يجوز البناء لاختلاف ضررهما ، لأن

٢٩٩

ضرر الغراس تحت الأرض أكثر لانتشار عروقه في الأرض ، وضرره فوق الأرض أقل من البناء ، لأنه يمكن الزرع تحته ، والبناء بالعكس ، لأنه لا يمكن الزرع تحته فيكون ضرره فوق الأرض أكثر وليس له عروق تمتد تحت الأرض ، فيكون ضرره تحت أقل.

ولو أذن في الزرع وأطلق ، زرع ما شاء وليس له الغرس ، وإذا انتهى الزرع لم يكن له ان يزرع غيره إلا بإذن جديد ، قال في التذكرة : وفيه نظر ، لأن للمستعير الانتفاع بالعارية المطلقة ما لم ينهه المالك.

قال رحمه‌الله : ولو أذن له بالبناء والغرس ، ثمَّ أمره بالإزالة ، وجبت الإجابة ، وكذا في الزرع ، ولو قبل إدراكه على الأشبه ، وعلى الآذن الأرش.

أقول : فرق الشيخ وابن إدريس بين الزرع وبين البناء والغرس ، وجوز الرجوع في إذن البناء والغرس بعد الفعل ، لأنهما للتأبيد ، فلا يجب على المعير الصبر في ذلك ، ولم يجوز الرجوع في إذن الزرع بعده قبل انتهائه ، لأن له وقتا ينتهي اليه ، فلا يجوز الرجوع قبله ، لما في ذلك من الضرر على المستعير.

والمصنف اختار عدم الفرق ، وهو مذهب العلامة وابنه ، لأن العارية ليست لازمة ، فللمعير الرجوع متى شاء والضرورة تزول ببذل الأرش ، وهو التفاوت بين قيمته قائما وبين قيمته مقلوعا.

والتحقيق : انه لا يخلو اما ان يكون الرجوع في الاذن قبل الفعل أو بعده ، فان كان قبل الفعل ، ثمَّ زرع أو غرس أو بنى بعد ذلك ، كان حكمه حكم الغاصب إذا كان عالما بالرجوع ، ولو لم يعلم بالرجوع فبنى أو غرس أو زرع بعده ، فهل للمالك الإزالة من غير أرش؟ يبنى على ان المأذون في أمر ، هل يبطل تصرفه مع رجوع الإذن وان لم يعلم المأذون له بالرجوع؟ يأتي ذلك إنشاء الله تعالى في باب الوكالة (١).

__________________

(١) يأتي ص ٣٣٩.

٣٠٠