أقول : جواز الرجوع لكل من الزوجين على صاحبه مذهب الشيخ وابن إدريس ، واختاره المصنف لرواية محمد بن مسلم المتقدمة ، فإنه حكم فيها بجواز الرجوع في حق غير ذوي الرحم ، وهو عام وليس الزوج رحما.
ونقل الشيخ في الخلاف عن بعض الأصحاب تحريم الرجوع ، واختاره العلامة في التذكرة ، وفخر الدين في شرح القواعد وأبو العباس في المقتصر ، لرواية زرارة الصحيحة ، عن ابي عبد الله عليهالسلام : « قال : ولا يرجع الرجل فيما يهبه لزوجته ، ولا المرأة فيما تهبه لزوجها خيرت أو لم تخر ، أليس الله تعالى يقول ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ) (٥) ، وقال تعالى ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) (٦) وهذا يشمل الصداق والهبة » (٧).
فرع : استقرب العلامة في القواعد والتحرير عدم انتقال حق الرجوع بالهبة إلى الوارث ، واختاره فخر الدين ، لأن الموهوب قد ملك الهبة بالقبض واستحقاق الرجوع على خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على مورد النص ، وانما ورد في الواهب خاصة ، فلا يستحق غيره ذلك.
__________________
(٥) البقرة : ٢٢٩.
(٦) النساء : ٤.
(٧) الوسائل ، كتاب الهبات ، باب ٧ أحكام الهبات ، حديث ١.
في حكم الهبات
قال رحمهالله : ولو تلفت والحال هذه أو عابت لم يضمن الموهوب له ، لأن ذلك حدث في ملكه ، وفيه تردد.
أقول : إذا اشترط عليه الثواب ولم يثبه حتى تلفت العين أو عابت ، هل يضمن المتهب قيمة العين في صورة التلف ، والأرش في صورة العيب؟ تردد المصنف في ذلك بعد الفتوى بعدم الضمان ، ومنشأ التردد من ان التلف أو التعيب حصل في العين المملوكة للمتهب بغير عوض لازم له ، لأنه مخير بين دفع العوض وبين عدم دفعه فلا يلزم ضمان ، ومن انه لم يملكها مجانا ، بل بشرط دفع العوض ، ولو كان العوض غير لازم له قبل التلف وقد صار لازما له بعده ، لأن المالك يتسلط على استرجاع العين مع عدم دفع العوض إذا كانت باقية ، وهذا التسلط قد تعذر بتلف العين فيتحتم العوض إذا كانت العين باقية ، وهكذا التسلط ، وكذا الأرش لحصول النقص في يده ، وهذا هو المعتمد ، فحينئذ لا يخلو إما ان يكون العوض مقدارا أو غير مقدر ، فان كان مقدرا كان عليه أقل الأمرين من المقدر ومن قيمة العين ، لأنه ان كانت القيمة أقل فهي اللازمة له ، لأن العوض غير لازم له ، لأنه كان مخيرا بين دفع العوض وبين عدم دفعه ، فيتسلط المالك على العين ،
وان كان العوض أقل من قيمة العين فقد رضي المالك به عوضا عن عينه فليس له أزيد منه.
فان قيل : إذا كان العوض غير مقدر تخير المتهب بدفع ما شاء ، وان قل ، نص عليه المصنف والعلامة مع بقاء الدين ، فكيف يتحتم مع التلف قيمة المثل؟
قلنا : الجواب : الفرق بين الصورتين حاصل ، فان في صورة بقاء العين إذا دفع ما شاء يتخير المالك بين قبوله وبين استرجاع العين إذا كان أقل من القيمة ، فإذا اختار القبول فقد رضي بترك الزائد مع قدرته على أخذه باسترجاع العين ، أما في صورة تلف العين فقد تعذر الاسترجاع فتتعين القيمة ، لأنه قبضها على انها مضمونة عليه ، وضمان القيمي بقيمته ، فهذا فرق بين الصورتين.
قال رحمهالله : إذا وهب في مرضه المخوف فبرأ صحت الهبة ، وان مات في مرضه ولم يجز الورثة اعتبرت من الثلث على الأظهر.
أقول : منجزات المريض تلزم مع البرء إجماعا ، فإذا مات في ذلك المرض اختلف في خروجها من الثلث أو الأصل ، وسيأتي البحث في تحقيق ذلك إنشاء الله تعالى في باب الوصية.
فرع : حكم الهدية حكم الهبة ، والمشهور افتقارها إلى الإيجاب والقبول والقبض كالهبة ، ومن دون الإيجاب والقبول نطقا يباح للمهدي إليه التصرف فيها مع بقائها على ملك المهدي ، فلو كانت جارية لم يجز له وطؤها ، لأن الاستمتاع لا يحل بالإباحة ، فمن أراد تمليك المهدى اليه وكل رسوله في الإيجاب والإقباض ، ويحتمل عدم الحاجة الى الإيجاب والقبول نطقا ، ويكفي الفعل الدال عليها ، لأن الهدايا كانت تحمل الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم ينقل انه راعى العقد ، وكان يتصرف فيها تصرف المالك ، وعلى هذا الناس في سائر الأمصار والأعصار ، وهذا الاحتمال ظاهر العلامة في التحرير.
كتاب السبق والرماية
في الألفاظ المستعملة فيه
قال رحمهالله : فالسابق هو الذي يتقدم بالعنق والكتد ، وقيل : بإذنه ، والأول أكثر.
أقول : الكتد ـ بفتح التاء وكسرها والأول أشهر ـ مجمع الكتفين من أصل العنق والظهر ، والسبق به مذهب الشيخ وابن إدريس ، واختاره المصنف والعلامة ، واعتبار الاذن مذهب ابن الجنيد ، لقوله عليهالسلام : « بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما يسبق الآخر بإذنه » (١).
__________________
(١) مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٣٣١.
في عقد المسابقة
قال رحمهالله : عقدا المسابقة والرماية يفتقر إلى إيجاب وقبول ، وقيل : هي جعالة ، فلا يفتقر الى قبول ، فيكفي البذل.
أقول : اختلف في عقد المسابقة هل هو لازم أم جائز؟ قال ابن إدريس : انه لازم ، وهو اختيار المصنف في المختصر ، وظاهره هنا اختيار اللزوم أيضا لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) ، وقال الشيخ انه جائز ، واختاره العلامة ، لأصالة عدم اللزوم ، لأنه نوع جعالة ، لأن قوله : ( من سبق فله كذا ) هو عين الجعالة.
قال رحمهالله : وهل يشترط التساوي في الموقوف ، قيل : نعم ، والأظهر لا ، لأنه مبني على التراضي.
أقول : المشهور بين الأصحاب عدم اشتراط التساوي في الموقف ، واختاره المصنف والعلامة وأبو العباس ، وهو المعتمد ، لأنه مبني على التراضي كما قاله المصنف ، وقيل بالاشتراط ، لأنه أقرب الى العدل.
__________________
(٢) المائدة : ١.
قال رحمهالله : وفي اشتراط المبادرة والمحاطة تردد ، والأظهر أنه (٣) لا يشترط.
أقول : المبادرة مثل من سبق إلى إصابة خمسة من عشرين فقد نضل صاحبه ، فان كان الرشق عشرين والإصابة خمسة ، أو شرطا المبادرة ، فمن بدر إلى إصابة الخمسة قبل صاحبه فقد نضله ، ولا يجب الإكمال.
والمحاطة (٤) إسقاط ما تساويا فيه شيئا بشيء حتى ينتهي العدد.
إذا عرفت هذا ، هل يشترط المبادرة أو المحاطة في العقد؟ تردد المصنف ثمَّ اختار عدم الاشتراط ، ومنشأ التردد من أصالة الصحة ، وحمل الإطلاق على المحاطة ، واختاره أبو العباس في مقتصره ، ومن حصول الجهالة المفضية إلى التنازع.
__________________
(٣) في الشرائع : والظاهر.
(٤) من « ن » و« ر ٢ » وفي باقي النسخ : المحاطاة.
في أحكام النضال
قال رحمهالله : ولو شرط في العقد إطعامه لحربه لم أستبعد صحته.
أقول : قال الشيخ في الخلاف : يكون النضال صحيحا والشرط باطلا ، وقال في المبسوط : النضال باطل ، وظاهر المصنف صحة النضال والشرط معا ، واختاره العلامة.
كتاب الوصايا
في الوصيّة
قال رحمهالله : ولا ينتقل منفردا عن القبول على الأظهر.
أقول : ذهب الشيخ في الخلاف الى انتقالها بالموت منفردا عن القبول ؛ لأنه لا يمكن بقاء الموصى به على ملك الميت ؛ لأن الميت لا يملك ولا يمكن انتقاله الى الوارث ، لقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (١) ، جعل الميراث لهم بعد الوصية ، ولم يقل بعد وصية الموصي وقبول الموصى له ، فكانت ملك الموصى له بنفس الموت وان لم يقبل.
ونقل في المبسوط ثلاثة أقوال :
أحدها : انتقال الملك بموت الموصي وقبول الموصى له ، فإذا وجد الشرطان انتقل الملك عقيب القبول.
والثاني : أنه من ادعى أنه قبل الوصية تبيّنا أنه انتقل إليه بوفاة الموصي ، وإن لم يقبل تبيّنا أنه انتقل إلى الورثة.
والثالث : أنه ينتقل الى الموصى له بوفاة الموصي كالميراث ،
والمعتمد ان نقول : الوصية إن كانت لمن لا يمكن حصرهم كالفقراء
__________________
(١) النساء : ١٢.
والمساكين ، أو لقبيلة منتشرة كبني هاشم ، أو كانت للمساجد والمدارس وشبه ذلك ، فإنها تنتقل بنفس الموت ، لعدم اعتبار القبول هنا ، وإن كانت لمعيّن لم تنتقل إلا بالموت والقبول معا ، لأن القبول هنا معتبر ، فلا يحصل الملك قبله كسائر العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول ، ولا يشترط القبول لفظا ، بل يكفي الفعل الدالّ عليه.
قال رحمهالله : ولو قبل قبل الوفاة جاز ، وبعد الوفاة آكد.
أقول : نقل ابن إدريس عن بعض علمائنا عدم الاعتداد بالقبول قبل الوفاة ، واختاره العلامة في المختلف ، لأنه أوجب له بعد الموت ، فقبله ليس محلا للقبول فهو كما لو قبل [ قبل ] الإيجاب.
وقال في القواعد : وقبوله بعد الموت لا اثر له لو تقدم. فهو موافق لمذهبه في المختلف ، ثمَّ رجع عنه في ثاني سطر الى اختيار المصنف هنا ، قال : فلو قبل بعد الموت بمدة أو في الحياة بعد مدة صح. وهو مذهبيه في التحرير والإرشاد.
وهو المعتمد ، لعدم اشتراط مقارنته للإيجاب ، فهو كما يجوز تأخيره عن الموت يجوز تقديمه عليه ، إذ لا مانع من ذلك ، وهو اختيار ابن إدريس أيضا.
قال رحمهالله : ولو ردّ بعد الموت والقبول وقبل القبض ، قيل : تبطل ، وقيل : لا تبطل وهو أشبه.
أقول : قال الشيخ في المبسوط وابن حمزة : تبطل الوصية إذا ردها قبل القبض بعد الموت والقبول ، لأن ملكه لا يستقر إلا بالقبض كالموقوف عليه.
وقيل : لا تبطل ، واختاره المصنف والعلامة وفخر الدين.
وهو المعتمد ، لحصول الملك بالموت والقبول فلا يزول إلا بسبب ناقل ، والرد ليس شيئا ناقلا للملك عن مالكه.
في الموصي
قال رحمهالله : ولا الصبي ما لم يبلغ عشرا ، فإن بلغها فوصيته جائزة في وجوده المعروف لأقاربه وغيرهم على الأشهر إذا كان بصيرا ، وقيل : تصح وإن بلغ ثمانيا ، والرواية شاذة.
أقول : الصحة مع بلوغ العشر مذهب الشيخ وأبي الصلاح ، والصحة مع بلوغ الثمان مذهب ابن الجنيد ، وعدم الصحة قبل البلوغ مذهب ابن إدريس ، وعليه عمل المتأخرين ، للحجر عليه قبل البلوغ ، ودليل المجوّزين الروايات (٢).
__________________
(٢) الوسائل ، كتاب الوصايا ، باب ٤٤ في أحكام الوصايا ، وباب ١٥ من أبواب الوقوف والصدقات ، حديث ٣.
في الموصى به
قال رحمهالله : وإجازة الوارث تعتبر بعد الوفاة ، وهل تصح قبل الوفاة؟ فيه قولان : أشهرهما أنه يلزم الوارث.
أقول : اختلف الأصحاب في اعتبار الإجازة ولزومها قبل الوفاة.
قال المفيد وسلّار وابن إدريس بعدم اللزوم ، واختاره فخر الدين ، لأن الورثة قبل الوفاة لا يستحقون شيئا ، فلا تعتبر إجازتهم فيما لا يستحقونه.
وقال الشيخ وابن حمزة وابن الجنيد والعلامة في المختلف بلزومها ، وهو ظاهر المصنف ، واختيار ابي العباس والمقداد.
وهو المعتمد ، لأن الرد حق الورثة ، فإذا رضوا بالوصية سقط حقهم.
ولما رواه منصور بن حازم في الصحيح (٣) ، ومحمد بن مسلم في الحسن (٤) ، عن أبي عبد الله عليهالسلام : « في رجل اوصى بوصية وورثته شهود ، فأجازوا ذلك ، فلما مات الرجل نقضوا الوصية ، هل لهم أن يردوا ما أقروا به؟ قال : ليس لهم ذلك ، الوصية جائزة عليهم إذا أقروا بها في حياته » ، وبمعناها روايات (٥).
__________________
(٣) الوسائل ، كتاب الوصايا ، باب ١٣ في أحكام الوصايا ، حديث ٢ ( مع اختلاف في المتن ).
(٤) المصدر المتقدم ، حديث ١.
(٥) الوسائل ، كتاب الوصايا ، باب ١١ حديث ١٩ ، وباب ١١ ، أيضا حديث ١ و١٦ و١٧ و١٨.
وادعى الشيخ الإجماع على ذلك.
قال رحمهالله : ولو أوصى الى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن الربح بينه وبين ورثته نصفان صحّ ، وربما يشترط كونه قدر الثلث فأقل ، والأول مرويّ.
أقول : المشهور بين الأصحاب صحّة هذه الوصية إذا كان الأولاد صغارا ودليلهم الروايات (٦).
وقال ابن إدريس : الوصية لا تنفذ إلا بالثلث قبل موته والربح قد تجدد بعد موته فلا تنفذ فيه وصية ، وقد سبق البحث في هذه في باب المضاربة.
قال رحمهالله : ولو أوصى بثلثه لواحد ، وبثلثه لآخر كان ذلك رجوعا عن الأول إلى الثاني.
أقول : هذا مذهب الشيخ في الخلاف ، وادعى عليه الإجماع ، وبه قال ابن إدريس والمصنف ، لأن الإنسان لا يستحقّ في ماله بعد موته غير الثلث ، فإذا أوصى به لزيد ثمَّ أوصى به بعد ذلك لعمرو ، فقد نقل الثلث الذي يستحقه من زيد إلى عمرو ، ولأنه يعلم أنه لا يستحقّ في ماله غير الثلث ، فتكون الوصية الثانية ناسخة للأولى.
وقيل : لا يكون رجوعا ، واختاره العلّامة في المختلف ، وفخر الدين في شرح القواعد ، لأصالة بقاء الوصية الاولى ، والثانية لا تنافيها ، لأنه مع الإجازة تصح الوصيتان إجماعا ، فلو كانت الثانية ناسخة للأولى لم تؤثر الإجازة فيها ، لأنها تنعقد بفعل (٧) الموصي لا (٨) ابتداء عطية ، فلو اوصى لزيد بشيء ثمَّ رجع عنه وأجاز
__________________
(٦) الوسائل ، كتاب الوصايا ، باب ٩٢ في أحكام الوصايا ، حديث ١ و٢.
(٧) من « ر ٢ » وفي الباقي : لفعل.
(٨) في « ن » : له.