غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

والمصنف ، لأن الاسم متناولهما ، وذهب العلامة إلى البطلان عند عدم القرينة الدالة على إرادة أحدهما ، لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر ، فلا يمكن حمله عليهما ، لأن الاسم يقع عليهما بمعنيين مختلفين كالاسماء المشتركة مثل العين ، والاسم المشترك لا يمكن حمله على جميع مسمياته ، وحمله على البعض دون البعض من غير قرينة ترجيح (٢١) من غير مرجح ، فيبطل ، لأنه يجري مجرى الوقف على احد هذين.

قال رحمه‌الله : ولو وقف على أولاده انصرف الى أولاده لصلبه ولم يدخل معهم أولاد الأولاد ، وقيل : بل يشترك الجميع ، والأول أظهر.

أقول : إذا قال : ( وقفت على أولادي ) ، فلا يخلو إما ان يحصل قرينة دالة على اختصاص البطن الأول ، مثل ان يقول : ( على أولادي لصلبي أو الذي يلوني ) ، أو تحصل قرينة دالة على التشريك ، كما لو قال : ( وقفت على أولادي ) ، وليس له أولاد لصلبه ، بل أولاد أولاد ، أو قال : ( ويفضل أولاد الأكبر أو الأعلم على غيرهم ) ، أو قال : ( فإذا خلفت الأرض من عقبي فهو للمساكين ) ، أو قال : ( أو يفضل أولاد الذكور على أولاد الإناث ) ، أو قال : ( ويفضل الأعلى من يليه ) ، أو ما شابه ذلك من القرائن الدالة على التشريك ، أو يتجرد اللفظ عن القرائن الدالة ، ولا شك في وجوب اتباع القرائن في التخصيص والتشريك.

والبحث انما هو مع تجرد اللفظ عن القرائن ، وهنا قال الشيخ في المبسوط وابن الجنيد بتخصيص البطن الأول ، واختاره المصنف ، والعلامة في القواعد والمختلف ، وهو المعتمد ، لأن اللفظ إذا أطلق حمل على الحقيقة دون المجاز ، ولا يجوز ان يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير قرينة دالة على المجاز وليس.

ولا شك في ان الولد حقيقة هو ولد الصلب المتكون من نطفته دون ولد

__________________

(٢١) في « ن » ، وفي باقي النسخ : ترجح.

٣٨١

الولد ، لأن إطلاق اسم الولد عليه مجاز ، ولهذا يصح سلبه عنه ، فإنه يصح ان يقال : ( هذا ليس : بولدي ، بل ولد ولدي ) ، وصحة النفي من علامات المجاز.

وقال المفيد وابن البراج وابن إدريس يشترك الأولاد وأولاد الأولاد ، واختاره العلامة في التحرير ، لأن اسم الولد شامل للولد من الصلب ولولد الولد ، ولقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (٢٢) ، وهو شامل لأولاد البنين وإن سفلوا ، ولقوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ) (٢٣) ، وهو شامل للبنت وبنت البنت وان نزلت ، ومثل هذا كثير في القرآن ، والمطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن قرينة ينبغي ان يحمل على المطلق من كلام الله تعالى ، ومطلق كلام الله تعالى دال على دخول أولاد الأولاد في لفظ الأولاد ، فيحمل عليه كلام الآدمي.

قال رحمه‌الله : ولو قال : على أولادي فإذا انقرضوا وانقرض أولاد أولادي فعلى الفقراء ، فالوقف لأولاده ، فإذا انقرضوا ، قيل : يصرف إلى أولاد أولاده ، فإذا انقرضوا فإلى الفقراء ، وقيل : لا يصرف إلى أولاد الأولاد ، لأن الوقف لم يتناولهم لكن يكون انقراضهم شرطا لصرفه إلى الفقراء ، وهو أشبه.

أقول : القولان نقلهما الشيخ في المبسوط عن قوم ، ثمَّ قوى الأول ، لأنه شرط انقراض أولاد الأولاد ، وذلك بظاهره يدل على انه وقف عليهم ، فهو كما لو صرح به ، والمصنف ذهب الى الثاني ، وهو مذهب العلامة ، وهو المعتمد ، ووجهه ما قاله المصنف فيكون الوقف منقطع الوسط ، ففي حال انقطاعه تصرف غلته الى الواقف ، ان كان ، وإلا إلى ورثته.

قال رحمه‌الله : وإذا وقع بين الموقوف عليهم خلف بحيث يخشى خرابه جاز

__________________

(٢٢) النساء : ١١.

(٢٣) النساء : ٢٣.

٣٨٢

بيعه ، ولو لم يقع خلف ولا يخشى خرابه ، بل كان البيع أنفع ، قيل : يجوز بيعه ، والوجه المنع ، ولو انقلعت شجرة من الوقف ، قيل : يجوز بيعهما لتعذر الانتفاع الا بالبيع ، وقيل : لا يجوز لإمكان الانتفاع بالإجارة للسقف وشبهه ، وهو أشبه.

أقول : هنا مسألتان :

الأولى : في جواز بيع الوقف إذا وقع بين الموقوف عليهم خلف وخشي خرابه ، وتحقيق البحث ان الأصحاب قد اختلفوا هنا على ستة أقوال :

الأول : جواز بيعه إذا حدث (٢٤) للموقوف عليهم ما يمنع الشرع عن معونتهم والقربة الى الله تعالى بصلتهم ، وهو قول المفيد رحمه‌الله ، وهو محمول على ان الواقف قصد معونة الموقوف عليهم لصلاحهم وديانتهم ثمَّ يخرج أربابه عن هذا الوصف الى حد الكفر ، فحينئذ يمكن خروجهم عن الاستحقاق ، ولأن الوقف صدقة والصدقة يشترط التقرب بها الى الله تعالى ، فمن لا يصح التقرب عليه لا يصح الوقف عليه ، فيبطل الوقف في حقهم ويرجع طلقا.

الثاني : جواز بيعه إذا كان البيع انفع لهم وأردف وارد (٢٥) عليهم من تركه ، وهو قول المفيد أيضا ، وكأنه عول على رواية جعفر بن حسان ، « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وقف غلة على قرابته من أبيه وقرابته من امه ، فللورثة أن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا أو اختلفوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلة؟ قال : نعم إذا رضوا كلهم وكان البيع خيرا باعوا » (٢٦) ، فهذه الرواية دالة على جواز البيع إذا كان انفع لهم من بقائه.

__________________

(٢٤) في « ر ٢ » : أحدث.

(٢٥) في « ن » و« ر ٢ » : وارف.

(٢٦) الوسائل ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب ٦ أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ٨ مع ، وفيه ( حنان ) بدل ( حسان ).

٣٨٣

الثالث : جواز بيعه إذا حصل لأربابه ضرورة شديدة إلى ثمنه ، ولا يجوز لهم ذلك مع فقد الضرورة ، وهو قول السيد المرتضى والمفيد وسلار وابن حمزة ، لأن الواقف قصد بالوقف نفع الموقوف عليهم ودفع حاجتهم ، وإذا لم يمكن دفع حاجتهم الا بالثمن جاز بيعه.

الرابع : جواز بيعه إذا وقع بين أربابه فتنة وخشي خرابه ، ولا يمكن انسدادها بدون بيعه ، وهو قول الشيخين ، واختاره العلامة ، وهو ظاهر المصنف ، لأن المقصود من الوقف استيفاء منفعته فاذا تعذرت جاز بيعه تحصيلا للغرض ، ولأن الجمود على العين مع تعطيلها تضييع للمال وتعطيل لغرض الواقف ، ولرواية علي بن مهزيار (٢٧).

الخامس : التفصيل ، وهو ان كان الوقف مؤبدا لم يجز بيعه بحال ، وان كان حبسا على أقوام معينين ، وليس فيه ما يقتضي تأبيده جاز بيعه عند خوف هلاكه ، وإفساده إذا كان بأربابه حاجة ضرورية ، وهو قول ابن البراج ، وابي الصلاح ومحمد بن بابويه ، ويمكن استدلالهم برواية جعفر بن حسان المتقدمة التي استدللنا بها على مذهب المفيد ، لأن مفهومها دال على عدم التأبيد.

السادس : عدم جواز البيع مطلقا ، وهو مذهب ابن الجنيد وابن إدريس ، واختاره فخر الدين لما رواه علي بن راشد ، « قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام ، قلت : جعلت فداك اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي ، فلما وزنت المال خبرت ان الضيعة وقف ، قال : لا يجوز شراء الوقف ولا يدخل الغلة في مالك ، ادفعها الى من أوقفت عليه ، قلت : لا اعرف لها ربا ، قال : تصدق بغلتها » (٢٨) ،

__________________

(٢٧) الوسائل ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب ٦ أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ٦.

(٢٨) الوسائل ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب ٦ أحكام الوقوف والصدقات ، حديث ١ ، وفي المصدر ( أبي علي ) بدل ( علي ).

٣٨٤

وما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطيلها ، والمعتمد مذهب المصنف والعلامة.

الثانية : إذا انقلعت نخلة من الوقف ، قال الشيخ : يجوز بيعها ، لأنه لا يمكن الانتفاع بهذه النخلة إلا على هذا الوجه ، وقال ابن إدريس : يمكن الانتفاع بهذه النخلة من غير بيعها بأن يعمل جسرا أو زورقا (٢٩) ، إلى غير ذلك من المنافع مع بقاء عينها ، ومنع من بيعها ، والمعتمد جواز بيعها مع خروجها عن المنافع بالكلية ، وعدم الجواز مع فرض المنفعة.

تنبيه : إذا بيع الوقف بحيث يجوز بيعه ما يصنع بثمنه؟ قال المرتضى والمفيد : يدفع الى الموجودين ينتفعون به ، وقال العلامة : والأقوى عندي ان أمكن شراء شي‌ء بالثمن يكون وقفا على أربابه كان أولى ، فإن اتفق مثل هذا الوقف كان اولى ، وإلا جاز شراء مهما كان مما يجوز وقفه ، وان لم يكن (٣٠) صرف الثمن الى التابعين (٣١) ينتفعون به مهما شاءوا ، ولأن فيه جمعا بين التوصل الى غرض الواقف من نفع الموقوف عليه على الدوام ، وبين النصف الدال على عدم جواز مخالفة الواقف حيث شرط التأبيد.

وإذا لم يمكن تأبيده بحسب الشخص وأمكن بحسب النوع وجب ، لأنه موافق لغرض الواقف وداخل تحت الأول الذي وقع العقد عليه ، ومراعاة الخصوصية بالكلية تفضي إلى فوات الغرض بأجمعه ، ولأن قصر الثمن على التابعين يقتضي خروج باقي البطون عن الاستحقاق بغير وجه ، مع انهم

__________________

(٢٩) في النسخ : ردنوقا ، وما أثبتناه من السرائر ج ٣ ص ١٦٧.

(٣٠) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : يمكن.

(٣١) في « ر ٢ » : البائعين.

٣٨٥

يستحقون من الوقف كما يستحق البطن الأول ، تعذر وجودهم حالة الاستحقاق. الى هنا كلام العلامة ، وهو المعتمد.

ويتولى البيع والشراء البطن الذي اشترطه الواقف ، فان لم يكن فالحاكم فان لم يكن فالموقوف عليهم ، ويصير وقفا بنفس الشراء على ما اختاره فخر الدين والشهيد ، ولا يفتقر إلى إحداث عقد الوقف بعد الشراء.

قال رحمه‌الله : ولو آجر البطن الأول الوقف إلى مدة ثمَّ انقرضوا في أثنائها. إلى آخر المسألة.

أقول : ( على القول ) (٣٢) بأن الموت لا يبطل الإجارة ، واختار (٣٣) المصنف والعلامة وابنه بطلانها هنا ، ووجهه ما قاله المصنف ، وقد سبق البحث في هذه في باب الإجارة (٣٤) ، واختيار المصنف هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وهل تصير أم ولد؟ قيل : نعم وتنعتق بموته وتؤخذ القيمة من تركته لمن يليه من البطون ، وفيه تردد.

أقول : إذا وطأ الأمة الموقوفة أحد من أرباب الوقف فأحبلها ، فلا يخلو إما أن يكون الوقف عاما كالوقف على الفقراء والمساكين ، أو خاصا كالوقف على أقوام معينين وعلى عقبهم وما تعاقبوا ، وعلى التخصيص لا يخلو إما ان يكون في طبقة الواطئ أو غيره أو لم يكن ، فالأقسام ثلاثة :

الأول : ان يكون الوقف عاما كالوقف على الفقراء والمساكين فيطأها أحدهم فيحبلها ، فهنا لا تصير أم ولد إجماعا ، ولو كان هناك شبهة وجب المهر جميعه على الفقير الواطئ يقبضه الحاكم ، وله دفعه الى غيره من الفقراء ، ويجوز

__________________

(٣٢) كذا ، وفي « ر ٢ » : لم يرد.

(٣٣) في « ر ٢ » : واختيار.

(٣٤) ص ٣١٢.

٣٨٦

ان يدفع اليه بعضه لكونه فقيرا ولا يجوز دفع جميعه إليه ، لأن الوقف العام لا يجوز صرف غلته إلى أقل من ثلاثة.

الثاني : ان يكون الوقف خاصا ولا يكون في طبقة الواطي غيره ، فهنا لا يلزمه عقر (٣٥) ، لأنه لا يتعلق بذمته شي‌ء لنفسه ، فإذا أحبلها هل تصير أم ولد أم لا؟ فيه إشكال ينشأ من انها ملكه ، وقد علقت منه فتصير أم ولد ، ومن أدائه إلى بطلان حق باقي البطون بعتقها بموت مولاها ، واختار فخر الدين صيرورتها أم ولد ، لأن الاستيلاد مبني على التغليب ، وعلى القول به تنعتق بموت مولاها ويؤخذ قيمتها من تركته ، لأنه أتلفها على من بعده من البطون بعد موته ، وهذا على القول بعدم اختصاص البطن الأول بعوض الموقوف ، وعلى القول بالاختصاص لا يؤخذ شي‌ء لاستحالة غرمه لنفسه ، قاله الشهيد في شرح الإرشاد ، وهو معارض بأن الغرم انما يتحقق بعد موته ، وهو لا يملك شيئا حينئذ ، فلا يتصور غرمه لنفسه بل لغيره من البطون ، وهو مذهب فخر الدين ، وهو لا يتوجه إلا على القول بأن السبب إذا كان عدوانا ضمن فاعله ما يتلف به ، وان كان بعد موته كمن حفر بئرا عدوانا في ملك غيره ، فوقع فيها إنسان بعد موت الحافر فإن الدية تؤخذ من تركة الحافر على ما هو مشهور بين الأصحاب.

وقال عميد الدين : انما يتوجه عتقها بعد موت سيدها ، ويؤخذ ثمنها من تركته إذا كان ولده منها داخلا في الوقف ، فاما إذا كان لم يكن داخلا في الوقف فإنها تعتق لعدم انتقالها الى الولد ، بل الى البطون ، ومذهب فخر الدين عتقها بعد موت الواطئ وأخذ قيمتها من تركته مطلقا ، سواء كان ولدها داخلا في الوقف أو لم يكن.

وجرى بين السيد عميد الدين وبين الشهيد بحث في هذه المسألة ذكره

__________________

(٣٥) في « م » : عرقه.

٣٨٧

الشهيد في شرح الإرشاد ، قال : قلت له ان الأصحاب أطلقوا انها تصير أم ولد ، وحكم أمهات الأولاد العتق بموت المولى من نصيب الولد ، فقال : إذا لم يكن له نصيب منها ، فكيف يقال انها تعتق من نصيبه؟! فقلت : إذا حكم بأنها أم ولد اقتضى موت المولى جري (٣٦) المواريث فيها فصار له فيها نصيب وتعتق من نصيبه ، وطول البحث هنا.

والمعتمد اختيار فخر الدين ، فان كان الولد غير داخل في الوقف جعلت في نصيبه لصيرورتها أم ولد ، وأم الولد موروثة بعد موت المولى وان كان داخلا في الوقف ، هل يحسب القيمة من نصيبه؟ يحتمل ذلك لعموم النص (٣٧) ، واختاره فخر الدين.

ويحتمل العدم ، لأن الوقف صح فيها ولا ينفك إلا بخروجها عن صلاحية الملك ، وهذا الاحتمال ذكره فخر الدين ، وهو ضعيف.

الثالث : ان يكون الوقف خاصا ويكون في طبقة الواطئ غيره ، والحكم على القول بنفوذ الاستيلاد دفع قيمة حصص الشركاء إليهم في الحال أو يشتري به شي‌ء يكون وقفا ، ولا يجب الصبر الى بعد الوفاة ، وأما حصة الواطئ فالإشكال فيها بعد وفاته كما تقدم ، ويجب عليه حصص الشركاء من المهر يختصون به ، لأنه كان كالمنافع ، وكذا حصصهم من قيمة الولد يوم سقوطه حيا.

__________________

(٣٦) في « ن » : كون.

(٣٧) الوسائل ، كتاب التدبير والمكاتبة والاستيلاء ، احاديث الباب ٦.

٣٨٨

في العطيّة

قال رحمه‌الله : ولا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض سواء عوّض عنها أو لم يعوض ، لرحم كانت أو لأجنبي ، على الأصح.

أقول : المشهور بين الأصحاب عدم جواز الرجوع في الصدقة بعد القبض ، سواء كانت فرضا أو نفلا ، وقال الشيخ في المبسوط : صدقة التطوع بمنزلة الهبة في جميع الأحكام ، فكل موضع يجوز الرجوع في الهبة يجوز الرجوع في الصدقة.

والمعتمد الأول لما قاله المصنف : من ان المقصود منها الثواب ، وقد حصل فهي كالمعوض عنها ، وادعى ابن إدريس الإجماع على ذلك ، ولا فرق بين الرحم والأجنبي.

٣٨٩
٣٩٠

كتاب السكنى والحبس

قال رحمه‌الله : فيلزم بالقبض ، وقيل : يلزم ان قصد به القربة ، والأول أشهر.

أقول : المشهور بين الأصحاب والمعول عليه عندهم اللزوم بالقبض بعد الإيجاب والقبول ، ولا يجوز الرجوع بعد القبض مطلقا ، سواء نوى القربة أو لم ينو ، وهذه الأقوال التي نقلها المصنف ، نقلها العلامة في كتبه ، وفخر الدين وعميد الدين في شرحيهما ، وأبو العباس في المهذب ، كما نقلها المصنف من غير إشارة إلى تخصيص القائل ، ولم ينسبوا شيئا من هذه الأقوال إلى شخص معين ، ونسب المقداد رحمه‌الله في شرح المختصر القول بعدم اللزوم مطلقا الى الشيخ ، ونسب القول باللزوم مع القربة الى ابي الصلاح ، والمعتمد ما هو مشهور بين الأصحاب.

قال رحمه‌الله : ولو قال لك سكنى هذه الدار ما بقيت أو حييت ، جاز وترجع الى المسكن بعد موت الساكن على الأشبه.

أقول : حكى الشيخ رحمه‌الله في المبسوط أن في هذه المسألة قولين : أحدهما بطلان الوقف ، والآخر الصحة ، ثمَّ القائلون بالصحة اختلفوا فمنهم من

٣٩١

قال : يكون للعمر مدة حياته ولورثته بعده ، ومنهم من قال : يكون له مدة حياته ، فاذا مات رجعت الى المعمر أو ورثته ان كان مات ، ثمَّ قال : وهذا هو الصحيح على مذهبنا. هذا قوله رحمه‌الله في المبسوط ، ولم أجد في هذه المسألة خلافا لأصحابنا ، والخلاف الذي ذكره رحمه‌الله للجمهور ، ذكره شارح مختصر الشافعي.

قال رحمه‌الله : ولو قال أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك ، كان عمرى ولم تنتقل الى المعمر ، وكان كما لو لم يذكر العقب.

أقول : إذا قال : ( أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك ) ، هل يرجع الى المالك بعد انقراض العقب أو يصير ملكا للمعمر ولا يرجع الى المالك الأول؟ المشهور رجوعها الى المالك بعد انقراض المعمر وعقبه ، لأصالة بقاء الملك على مالكه ، وظاهر الشيخ في المبسوط وابن البراج في المهذب ان المعمر يملكها ولا يرجع الى المالك ، لأنه أعطى إعطاء يجري فيه الإرث ، وانما يورث المملوك ، ولما رواه جابر : « ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أيّما رجل عمر عمرى له ولعقبه ، فإنما هي للذي يعطاها ، ولا يرجع الى الذي أعطاها ، فإنه أعطاها إعطاء وقعت فيه المواريث » (٣٨).

قال رحمه‌الله : ولا تبطل بالبيع ، بل يجب أن يوفى للمعمر ما شرط له.

أقول : هذه العبارة تقتضي جواز البيع مطلقا سواء كان مقرونا بالمدة أو بالعمر ، ولا خلاف في جواز البيع إذا كان الإسكان مقرونا بالمدة ، وكذلك الحبس إذا كان الى مدة معلومة ، ومع عدم العلم يتخير المشتري ، اما إذا كان الحبس أو الإسكان مقرونا (٣٩) بالعمر ، هل يجوز بيعه أم لا؟ قال ابن الجنيد بالجواز ، وهو

__________________

(٣٨) صحيح مسلم ٢ : ٦٤ ، كتاب الهبات ، باب ٤ حديث ٢٢ مع اختلاف في المتن.

(٣٩) من « ن » و« ر ٢ » وفي الباقي : غير مقرون.

٣٩٢

ظاهر المصنف لإطلاقه الجواز.

وأطلق العلامة في الإرشاد كإطلاق المصنف هنا ، ورواية الحسن بن ابي نعيم (٤٠) ، عن ابي الحسن الكاظم عليه‌السلام دالة على جواز البيع ، وهي حجة القائلين به. واستشكل العلامة صحة البيع في القواعد والمختلف ، واستقرب في التحرير عدمه ، واستشكله الشهيد أيضا ، ومنشؤه جهالة وقت الانتفاع ، ولأنهم قد منعوا من بيع المسكن الذي تعتد فيه المرأة بالأقراء بجهالة وقت الانتفاع ، وهذه العلة سارية هنا.

وجواز الشيخ في المبسوط بيع العبد الموصى بخدمته على التأبيد ، ويلزم منه جواز البيع هنا ، ومنع العلامة في القواعد من بيعه ، ويلزم منه عدم جواز البيع هنا.

والذي سمعناه من مشايخنا جواز البيع على المحبس عليه والمعمر دون الغير ، ولعل وجهه انتفاء المانع ، وهي جهالة وقت الانتفاع ، لأن المنافع مملوكة في الحال ، فاذا ملك الرقبة صارت المنافع والرقبة ملكا له مقبوضة في يده ، فلا مانع حينئذ ، وهو حسن.

__________________

(٤٠) الوسائل ، كتاب السكنى والحبس ، باب ٢ ، حديث ٢.

٣٩٣
٣٩٤

كتاب الهبات

٣٩٥
٣٩٦

في الحقيقة

قال رحمه‌الله : ولو وهب ما في الذمة ، فإن كان لغير من عليه الحق لم يصح على الأشبه.

أقول : ذهب الشيخ وابن إدريس والعلامة في المختلف إلى صحة هبة الدين بغير من هو عليه لصحة بيعه والمعاوضة عليه كالعين فيصح هبته. نعم يشترط في اللزوم القبض ، فاذا قبضه الموهوب له ممن هو عليه لزمت الهبة ، وذهب المصنف والعلامة في القواعد والإرشاد والتحرير الى عدم الجواز على غير من هو عليه ، والدليل ما ذكره المصنف في المتن ، وهو اشتراط القبض ، وهذا الدليل غير ناهض بمطلوبهم ؛ لأن القبض كما هو ممكن في العين هو ممكن في الدين فالفرق ضعيف ؛ لأنه كما هو شرط في العين وهو شرط في الدين ، فلو جعلوا دليلهم حصول الجهالة لعدم التعيين كان أقوى ؛ لأن الدين غير متعين قبل قبضه ولو وهبه شيئا غير معين كشاة من قطيع أو أحد العبدين بطلت الهبة إجماعا ، نصوا على ذلك في مصنفاتهم ، وعللوا بحصول الجهالة ، وهي سارية في الدين ولم يعللوا بها ، بل بما لا يصلح أن يكون علة.

٣٩٧

قال رحمه‌الله : ولا يشترط في الإبراء القبول على الأصح.

أقول : ذهب الشيخ في المبسوط وابن زهرة وابن إدريس إلى اشتراط القبول في الإبراء لاشتماله على المنة ، ولا يجبر على قبولها كالعين فلو لم يعتبر قبوله أجبر على قبول المنة ، وذهب المصنف والعلامة الى عدم اشتراط القبول ، واستدل القائلون بعدم اشتراط القبول بقوله تعالى ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) (١) ، ومن العجب استدلالهم بهذه الآية على عدم القبول ، وهم اجمعوا على اشتراط القبول في الصدقة ، وإذا كان الإبراء صدقة اشترط فيه القبول ، والآية وان كانت مطلقة فإنها دلت على ان الإبراء صدقة ، وقد ثبت افتقار الصدقة إلى القبول والقرآن مخصص بالإجماع ، وقد اجمعوا على افتقار الصدقة إلى القبول ، فلا تكون الآية دليلا ، والدليل ان الإبراء إسقاط حق ، فلا يفتقر الى القبول كالعتق والطلاق بخلاف الهبة ، فإنها تمليك ، والتمليك يفتقر الى القبول.

قال رحمه‌الله : ولو وهب ما هو في يد الموهوب له صح ، ولا يفتقر إلى إذن الواهب في القبض ولا مضي زمان يمكن فيه القبض ، وربما صار الى ذلك بعض الأصحاب.

أقول : الصائر الى ذلك الشيخ في المبسوط ، ومذهب المصنف هو المعتمد ، لأن إقرار يده عليه بعد العقد دليل على الرضا بالقبض السابق.

قال رحمه‌الله : وإذا قبضت الهبة فإن كانت للأبوين لم يكن للواهب الرجوع إجماعا ، وكذا إذا كان ذا رحم غيرهما ، وفيه خلاف.

أقول : عبارة المصنف هنا وفي المختصر دالة على اختصاص الإجماع بالمنع من الرجوع بالهبة إذا كانت لأحد الأبوين أولهما ، ويفهم منه وقوع الخلاف إذا كانت الهبة للأولاد لتخصيص الإجماع بالأبوين ، وكذلك عبارة العلامة في

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

٣٩٨

التحرير ، لأنها كعبارة المصنف هنا.

وقال العلامة في المختلف : وإذا وهب ولده الصغير أو الكبير واقبضه لم يكن للأب الرجوع في الهبة إجماعا ولو كانت لغير الولد من ذوي الأرحام للشيخ قولان ، وهذه العبارة دالة على عدم وقوع الخلاف إذا كانت الهبة من الأب للأولاد ، ودالة على وقوع الخلاف إذا كانت الهبة من الأولاد لآبائهم ، وهو عكس مذهب المصنف.

والشهيد قصر الإجماع بعدم الرجوع على هبة الأب لولد الصغير ، ويفهم منه وقوع الخلاف في الكبير وفي الآباء ، والمقتضي للجمع بين الأقوال وقوع الإجماع على عدم جواز الرجوع إذا كانت لأحد الأبوين وان علا والأولاد وان نزلوا ، وهو مذهب ابن حمزة.

وأما غير العمودين من ذوي الأرحام ففيه خلاف ، قال الشيخ في المبسوط والخلاف : بجواز الرجوع ، وهو مذهب السيد المرتضى وابن الجنيد ، واختاره ابن إدريس ، وقال الشيخ في النهاية والمفيد وسلار وابن البراج بعدم جواز الرجوع ، واختاره المصنف والعلامة والشهيد وأبو العباس ، وهو المعتمد لرواية محمد بن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام : « قال : الهبة والنحلة يرجع فيها صاحبها حيزت أو لم تحز ، إلا لذي رحم ، فإنه لا يرجع فيها » (٢).

قال رحمه‌الله : وهل يلزم بالتصرف ، قيل : نعم ، وقيل : لا ، وهو الأشبه.

أقول : اللزوم مع التصرف مذهب الشيخ في النهاية ، واختاره ابن حمزة وابن البراج وابن إدريس والعلامة ، وأبو العباس في المقتصر ، وقال سلار وأبو الصلاح بجواز الرجوع ما دامت العين باقية وان تصرف ، واختاره المصنف والعلامة ، والمعتمد الأول ، لأن المتهب قد ملك الهبة بالعقد والإقباض ، وقد ظهر

__________________

(٢) الوسائل ، كتاب الهبات ، باب ٣ في أحكام الهبات ، حديث ٣.

٣٩٩

أثر الملك بالتصرف ، فيقوى وجود السبب وكان تاما ، وإذا ملك ملكا تاما افتقر في خروجه عنه الى سبب ، والرجوع هنا ليس سببا لاستقرار الملك بالتصرف ، ولهم عليه روايات (٣).

واستدل المجوزون برواية محمد بن مسلم المتقدمة (٤) في مسألة ذوي الأرحام ، وإطلاق التصرف أعم من ان يكون مخرجا للعين عن الملك كالبيع والهبة ، أو لا يكون مخرجا كالرهن والكتابة ، وسواء غير صفته كقصارة الثوب وعمل الخشب بابا أو سريرا ، أو لم يغير صفته كاستخدام العبد والوطئ ولبس الثوب ، وبالجملة كل تصرف يفتقر الى الملك واذن المالك فإنه مانع من الرجوع على إطلاق الشيخ وابن إدريس والعلامة في القواعد والمختلف والإرشاد ، وقسم ابن حمزة التصرف غير المخرج عن الملك الى ما يحصل معه تغيير الصفة ، كقصارة الثوب ونسج الغزل ، والى ما لا يحصل معه التغيير كالرهن والكتابة ، ومنع الرجوع في الأول ، وجوزه في الثاني.

تنبيه : انما تملك الهبة وتلزم بالقبض ان كانت لرحم ، وبالتصرف ان كانت لأجنبي إذا تمت بشروطها من الإيجاب والقبول والقبض ، فلو كانت معاطاة من غير عقد لم يحصل الملك ، بل يباح التصرف ، وللمالك الرجوع ما دامت العين باقية سواء كانت لرحم أو لأجنبي ، فلو نقلها الى غيره بعقد لازم أو أتلفها سقط الرجوع ، وقد أشار العلامة في القواعد الى ذلك ، قال : ولا يكفي المعاطاة ولا الأفعال الدالة على الإيجاب ، نعم يباح التصرف.

قال رحمه‌الله : ويكره الرجوع فيما تهبه الزوجة لزوجها والزوج لزوجته ، وقيل : يجري مجرى ذوي الرحم ، والأول أشبه.

__________________

(٣) الوسائل ، كتاب الهبات ، باب ٨ في أحكام الهبات ، حديث ١.

(٤) ص ٣٩٩.

٤٠٠