غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

بلزومه له ، وهو المعتمد.

الرابع : حق غير لازم ، ولكن يئول الى اللزوم كمال الجعالة قبل الشروع في العمل ، هل يصح ضمانه أم لا؟ أطلق الشيخ في المبسوط جواز ضمانه ، واختاره المصنف ، وجزم به العلامة في القواعد والتحرير ، وهو المعتمد للأصل ، ولعموم : « الزعيم غارم » (١٤) ، ولأنه مما ليس تمس الحاجة إليه ، كما لو قال : الق متاعك في البحر وعليّ ضمانه.

ويحتمل عدم الجواز قبل الشروع بالعمل ، لأنه ضمان ما لم يجب ، لأن العقد غير لازم ، والمال غير ثابت في الذمة فلا يصح ضمانه.

إذا عرفت هذا ، فمال السبق والرماية إن قلنا ان العقد لازم صح ضمانه من غير تردد ، وإن قلنا انه عقد جائز كان حكمه حكم مال الجعالة ، والمعتمد جواز ضمانه أما لو ضمن العمل في الجعالة أو السبق والرماية فإنه لا يصح قطعا.

فرعان :

الأول : المنافع الثابتة في الذمة يجوز ضمانها كالأموال بخلاف ما لو كانت غير ثابتة في الذمة ، بل متعلقة بعين المؤجر ، كما لو استأجر عبدا معينا للخدمة مدة معينة ، أو دابة معينة لحمل شي‌ء معين ، فان هذه المنفعة لا يجوز ضمانها ، لعدم جواز استيفائها من غير العين المشخصة.

الثاني : لو ضمن المهر قبل الدخول فارتدت المرأة أو فسخت لعيب ، فان كان قبل أن يؤدي الضامن شيئا سقط المال عنه وعن الأصيل ، وان كان بعد الأداء رجع الضامن على الأصيل إن كان الضمان بإذنه ، ويرجع الأصيل على

__________________

(١٤) تقدم ص ١٩٤.

٢٠١

المرأة.

قال رحمه‌الله : وفي ضمان الأعيان المضمونة ، كالغصب والمقبوضة بالبيع الفاسد تردد ، والأشبه الجواز.

أقول : منشأ التردد من انه مال مضمون على القابض فجاز ضمانه ، ولأصالة الجواز ، ومن انه غير ثابت في ذمة المضمون عنه ، ولا يمكن انتقاله إلى ذمة الضامن ، لأن المضمون هي الأعيان المشخصة ، والواجب رد أعيانها ، فهي غير ثابتة في الذمة ، فلا يصح ضمانها ، وهو مذهب فخر الدين ، ومذهب المصنف والعلامة جواز ذلك ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولا يشترط العلم بكمية المال ، ولو ضمن ما في ذمته ، صح على الأشبه ، ويلزمه ما تقوم البيّنة به.

أقول : للشيخ قولان في هذه المسألة : أحدهما الصحة ، وهو قوله في النهاية ، وبه قال المفيد في المقنعة وابن الجنيد وسلار وأبو الصلاح وابن زهرة ، وابن البراج في الكامل ، واختاره المصنف والعلامة وأبو العباس ، وهو المعتمد ولأصالة الصحة ، لعموم قوله تعالى ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (١٥) ، وأشار إلى حمل البعير ، والأصل عدم تعينه ، وعموم قوله عليه‌السلام : « الزعيم غارم » (١٦).

وقال في المبسوط والخلاف : لا يصح ، وبه قال ابن البراج في المهذب ، واختاره ابن إدريس ، لأن ضمان المجهول غرر ، لأنه لا يدري كم المال الذي عليه.

وأجاب العلامة بأن الغرر إنما هو في المعاوضات التي تفضي إلى التنازع ، أما الإقرار والضمان وشبههما فلا ، لأن الحكم فيها معين ، وهو الرجوع الى المقر في

__________________

(١٥) يوسف : ٧٢.

(١٦) تقدم ص ١٩٤.

٢٠٢

الإقرار ، والى البينة في الضمان ، فلا غرر حينئذ.

وقد يمكن للشيخ الجواب عن جواب العلامة : بأنا لا نسلم زوال الغرر مع الرجوع الى ما قامت فيه البينة ، لاحتمال قيامها بما يعجز عنه الضامن ، فيحصل الضرر المستند الى الغرر.

وقد يمكن للعلامة الجواب عن هذا الجواب : بأن هذا الضرر هو الذي أدخله على نفسه فهو مستند الى فعله ، وهو ضمانه للمجهول مع علمه بهذا الاحتمال ، وقد قدم على ذلك ، فيكون كما لو ضمن المعلوم مع عجزه عنه فاذا ضمن ما في ذمة زيد ، قال المصنف : ( يلزمه ما تقوم به البينة ).

وقال أبو الصلاح : أو أقر به الغريم ، وقال المفيد : أو يحلف على ما يدعيه ، والمعتمد هو مذهب المصنف ، وهو اختيار العلامة ، والإقرار لا يلزم غير المقرر ، وأما مع عدم البينة ونكول الغريم عن اليمين ، وحلف المدعي ان قلنا ان يمينه هنا كالبينة وجب على الضامن دفع ما حلف عليه المدعي ، كما لو أقام البينة ، وان قلنا هي كإقرار الخصم ، لم يلزم الضامن شي‌ء.

قال رحمه‌الله : إذا ضمن عهدة الثمن ، لزمه دركه في كل موضع يثبت فيه بطلان البيع من رأس ، أما لو تجدد الفسخ بالتقابل ، أو تلف المبيع قبل القبض ، لم يلزم الضامن ورجع على البائع ، وكذا لو فسخ المشتري بعيب سابق ، أما لو طالب بالأرش رجع على الضامن ؛ لأنه استحقاقه ثابت عند العقد ، وفيه تردد.

أقول : معنى ضمان العهدة هو انه إذا باع الإنسان شيئا وخشي ان يظهر الثمن مستحقا أو خشي بأن يظهر المبيع مستحقا ، جاز لكل منهما ان يضمن رجلا على درك الثمن والمثمن إن ظهر مستحقا رجع المضمون له على الضامن من متى شاء الضامن أو المضمون عنه ، فيكون هذا الضمان ضم ذمة إلى ذمة ، سواء قلنا انه ناقل أو غير ناقل ، لعدم إمكان انتقال الحق هنا حالة الضمان ، وانما يصح ضمان

٢٠٣

عهدة الثمن بعد قبضه لا قبل القبض إذا كان الضمان عن البائع للمشتري ، فإذا خرج المبيع مستحقا طالب أيهما شاء ، وان كان الضمان عن المشتري للبائع وكان الضامن لثمن المبيع قبل ان يتسلمه البائع ولعهدة الدرك بعد ان يتسلمه ، فالضمان في الحالين لعهدة الثمن سواء كان للبائع أو للمشتري.

والعهدة ، قال في التحرير : هي اسم للكتاب الذي يكتب فيه ووثيقة البيع ، ويذكر فيه الثمن فنقل الى الثمن المضمون ، وقال صاحب الصحاح : يقال في الأمر عهدة ، وفي العقل عهدة أي ضعف ، وألفاظ ضمان العهدة ان تقول : ضمنت عهدته أو دركه ، أو يقول للمشتري : ضمنت خلاصك منه.

ولو ضمن خلاص المبيع لم يصح ؛ لأنه لو خرج حرا لم يجز تخليصه.

إذا عرفت هذا ، فاذا ضمن العهدة رجع على الضامن في كل موضع يثبت فيه بطلان البيع من أصله ، دون ما تجدد بسبب الفسخ ، كما قاله المصنف.

أما إذا كان الرد بسبب العيب السابق على العقد ، فقد جزم المصنف هنا بعدم جواز الرجوع على الضامن ، واختاره العلامة في التحرير.

ولو طالب بالأرش تردد المصنف في الرجوع على الضامن بعد أن حكم بالرجوع عليه ، واختار العلامة في التحرير عدم جواز الرجوع عليه.

ومنشأ التردد من أصالة براءة الذمة وان ضمان العهدة يستلزم الرجوع على الضامن مع خروج الثمن مستحقا وفساد البيع من أصله ، والأمر ليس كذلك ومن أن أجزاء المبيع مقابلة لأجزاء الثمن ، فاذا ظهر في المبيع عيب سابق يقتضي نقص القيمة تبينا ان تلك النقيصة ليست مستحقة للبائع وقد قبضها من غير استحقاق ، فكان البيع باطلا في مقابلها من الثمن ، فيجوز له الرجوع على الضامن بتلك النقيصة ، لاستحقاقه لها حالة العقد ؛ لأن الأرش بدل جزء فائت حالة العقد ، فيكون له الرجوع فيه على الضامن ، وهو مذهب المصنف ، والعلامة في القواعد ،

٢٠٤

وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : إذا ضمن ضامن للمشتري ، درك ما يحدث من بناء أو غرس لم يصح ؛ لأنه ضمان ما لم يجب ، قيل : وكذا لو ضمنه البائع ، والوجه الجواز ؛ لأنه لازم بنفسه العقد.

أقول : ذكر المصنف وجهي الصحة والبطلان ، واستشكل العلامة صحة ضمان البائع في القواعد ، وأبطله فخر الدين ، والعلامة في التحرير ؛ لأنه ضمان ما لم يجب.

قال رحمه‌الله : إذا ضمن المريض في مرضه ومات فيه ، خرج ما ضمنه من ثلث تركته ، على الأصح.

أقول : ضمان المريض صحيح فإن برأ أو أجاز به الورثة خرج من الأصل ، ولو مات كان خروجه من الأصل أو الثلث مبنيا على تبرعاته ، هل هي من الأصل أو الثلث؟ وسيأتي البحث في ذلك إنشاء الله تعالى.

قال رحمه‌الله : ولو كان الدين مؤجلا وضمنه حالا لم يصح ، وكذا لو كان الى شهرين وضمنه الى شهر ؛ لأن الفرع لا يرجّح على الأصل ، وفيه تردد.

أقول : اختار المصنف مذهب الشيخ في المبسوط ، لأن الفرع لا يرجح على الأصل معناه ان الضامن (١٧) فرع المضمون عنه ، والمال غير حال على المضمون عنه ، فلا يجوز ان يحل على فرعه ، وهو الضامن لعدم جواز رجحان الأضعف على الأقوى ، لأن الأصل أقوى من الفرع.

واختاره فخر الدين ، قال : لأن الحلول زيادة في الحق ، ولهذا يختلف الثمن به ، وهذه الزيادة غير لازمة للمديون ولا ثابتة في ذمته ، فيكون ضمان ما لم يجب ، فلا يصح عندنا.

__________________

(١٧) في « ر ١ » : الضمان.

٢٠٥

وتردد المصنف لاحتمال الصحة ، لأن المضمون عنه يصح له أن يدفع المؤجل حالا ، فكذا الضامن ، لأن الضمان كالقضاء ، وهو المعتمد ، واليه ذهب العلامة رحمه‌الله.

وبقي هنا بحث ، وهو إذا ضمن المؤجل حالا ، هل له مطالبة الأصيل قبل حلول الأجل؟ فيقول : لا يخلو اما ان يكون الضمان بسؤاله أو غير سؤاله ، فإن كان الثاني فليس له الرجوع مطلقا ، وإن كان الأول فلا يخلو إما أن يأمره بالضمان مطلقا أو حالا ، فإن أمره بالضمان مطلقا فضمن حالا لم يحل على الأصيل إلا بعد حلول الأجل ، وان أمره بالضمان حالا فضمن كذلك ، لزم الغرم عاجلا ، لأنه أسقط حقه من الأصل بالأمر بالضمان حالا ، فهو كما لو قضاه من نفسه ، وإلا لزم تضرر الضامن وقد قال عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (١٨).

__________________

(١٨) الوسائل ، كتاب الشفعة ، باب ٥ ، حديث ١.

٢٠٦

في الحوالة

قال رحمه‌الله : ويشترط فيها رضى المحيل والمحال عليه والمحتال ومع تحققها يتحول المال الى المحال عليه ، ويبرأ المحيل وإن لم يبرأه المحتال على الأظهر.

أقول : هنا مسألتان :

الأولى : في اعتبار رضى الثلاثة ، وهو المشهور بين الأصحاب ، وقال المصنف في المختصر : وربما اقتصر بعض على رضى المحيل والمحتال ، قال أبو العباس في شرحه : اعتبار رضى الثلاثة هو المشهور ، واقتصر ابن إدريس على رضى المحيل والمحتال ، وهو ظاهر المفيد هذا كلامه في المقتصر.

وفي المهذب مثله أسند الاقتصار على رضى المحيل والمحتال الى ابن إدريس ، مع ان مذهب ابن إدريس اعتبار رضى الثلاثة ، وهذه عبارته : والثلاثة يعتبر رضاهم في صحة عقد الحوالة ، لأنه إذا حصل رضاهم هؤلاء أجمع ، صحت الحوالة بلا خلاف ، وإلا لم يحصل فيه خلاف. وهذا كلامه.

ثمَّ تتبعت باب الحوالة في كتابه من أوله إلى آخره فلم أجد له قولا يخالف

٢٠٧

هذا القول.

والمقداد رحمه‌الله أسند الاقتصار على رضى المحيل والمحتال إلى أبي الصلاح.

وقال العلّامة في المختلف : وقال ابن حمزة : تصح الحوالة بشروط عشرة. إلى أن قال : ورضى المحال عليه على الصحيح. وهو يشعر بوجود قول لبعض أصحابنا أنه لا يعتبر ، هذا كلامه رحمه‌الله.

وهو دال على عدم وقوف العلّامة على ذلك القول إلا من ظاهر كلام ابن حمزة ، وظاهر كلام المفيد ، لأنه استدل بظاهر كلامه أيضا على عدم اعتبار رضى المحال عليه ، ولو كان ذلك قول ابن إدريس لأسند ذلك إليه ، لأن الإسناد إلى الصريح أولى من الإسناد إلى الفحوى.

الثانية : في اشتراط إبراء المحتال للمحيل ، وهو مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن البراج وابن حمزة وأبو الصلاح وابن الجنيد ، وهو أن يقول : ( أبرأتك مما لي عليك ) ، ودليلهم رواية زرارة الحسنة (١٩) ، عن أحدهما عليهما‌السلام.

وأنكر ابن إدريس ذلك ، واختاره المصنف والعلّامة.

وهو المعتمد ، لأن الحوالة تقتضي تحويل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، والإبراء إسقاط لما في الذمة ، فإن وقع قبل الحوالة سقط ما في ذمّة الغريم ، فلا معنى للحوالة بعد ذلك ، وإن وقع بعد الحوالة ، فقد انتقل المال إلى ذمة المحال عليه وبرأت ذمة المحيل ، فلا فائدة ، في الإبراء.

أما على القول بعدم اشتراط رضى المحال عليه وجواز الرجوع على المحيل ، يتصور للإبراء فائدة وهو عدم جواز الرجوع بعد الإبراء ، والعمل على غير ذلك.

قال رحمه‌الله : ويصح أن يحيل على من ليس عليه دين ، لكن يكون ذلك

__________________

(١٩) الوسائل ، كتاب الضمان ، باب ١١ ، حديث ٢.

٢٠٨

بالضمان أشبه.

أقول : ذهب الشيخ وابن البراج وابن حمزة الى عدم جواز الحوالة على من ليس عليه دين ، لأنها نوع معاوضة عندهم ، وذهب المصنف والعلامة إلى الجواز ، لأصالة الصحة ، لكنها تشبه الضمان ، لأنه تحمل للمال عمن ليس له عليه مال ، فالحوالة مشابهة له.

قال رحمه‌الله : ويشترط تساوي المالين جنسا ووصفا تفصيا من التسلط على المحال عليه ، إذ لا يجب أن يدفع إلا مثل ما عليه ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه من انه لو لم يعتبر تساوي الحقين لأدى إلى تسلط المحتال على المحال عليه بإلزامه بأداء الحق من غير الجنس الذي عليه وهو غير جائز ، إذ لا يجب عليه الدفع إلا من الجنس الذي لزمه بالعقد السابق.

ومن أصالة الجواز ، ولأنه يجوز الحوالة على غير من عليه حق ، فعلى من عليه بالمخالف أولى ، والضرر مدفوع باعتبار رضاه ، لأنا نشترط رضى المحال عليه في صحة الحوالة ، فإذا رضي أن يدفع من غير الجنس الذي عليه فلا مانع ، كما لو تراضيا بقبض غير الجنس ، وهذا هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وتصح الحوالة بمال الكتابة بعد حلول النجم ، وهل تصح قبل حلوله؟ قيل : لا يصح.

أقول : منع الشيخ رحمه‌الله من الحوالة على العبد بمال الكتابة ، بناء على مذهبه من ان للعبد ان يعجز نفسه عند الحلول ، فيظهر عدم الاستحقاق ، وعلى القول بلزوم العقد يجوز قبل الحلول وبعده ، لأنه مال ثابت في ذمته ، فيجوز الحوالة به كغيره من الديون.

قال رحمه‌الله : إذا قال أحلتك عليه ، فقبض ، وقال المحيل : قصدت الوكالة ، وقال المحتال : إنما أحلتني بما عليك ، فالقول قول المحيل ، لأنه أعرف

٢٠٩

بلفظه ، وفيه تردد.

أقول : إذا اتفقا على إيقاع لفظ الحوالة ، ثمَّ ادعى المحيل قصد الوكالة ، قال المصنف : ( كان القول قوله ) ، ثمَّ تردد في ذلك من حيث انه أعرف بلفظه وقصده ، والأصل بقاء حق المحيل في ذمة المحال عليه ، وبقاء حق المحتال في ذمة المحيل ما لم يتفقا على الانتقال ولم يحصل.

ومن احتمال كون القول قول المحتال بشهادة اللفظ له ، لأنه أتى بلفظ موضوع للحوالة المقتضية لنقل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، فلا يقبل دعواه في غير ذلك.

والأول هو المعتمد ، وهو اختيار العلامة في القواعد ، وبه قال الشيخ ، والثاني اختيار العلامة في التحرير. وعلى التقديرين ان كان الحق قد تلف بعد قبضه ، فقد برئ كل منهما من صاحبه وان كان التلف بتفريط القابض ، لأن المحتال إن كان محقا فقد أتلف ماله.

وان كان مبطلا ثبت لكل منهما في ذمة الآخر مثل ما للآخر في ذمته فيتقاصّان وان كان بغير تفريط فالمحتال يقول : قبضت حقي وبرء المحيل بالحوالة والمحال عليه بالتسليم ، والمحيل يقول : تلف المال في يد وكيلي من غير تفريط فلا ضمان ، وان لم يتلف المال في يد المحتال كان للمحيل الرجوع على المحتال ودفع حقه إليه من غيره ، لأنه مخير في قضاء الدين من أي مال شاء إذا كان من جنس الحق ، ولا يجوز للمحتال ان يقاصه بما قبضه إلا مع الامتناع من دفعه حقه.

قال رحمه‌الله : إذا كان له دين على اثنين ، وكل منهما كفيل لصاحبه ، وعليه لآخر مثل ذلك ، فأحاله عليهما صح وإن حصل الرفق في المطالبة.

أقول : المراد بالكفالة هنا كفالة المال ، لا كفالة البدن وكفالة المال ناقلة له من ذمة المكفول عنه إلى ذمة الكفيل ، وهي ضمان بالحقيقة.

٢١٠

إذا عرفت هذا قال الشيخ في المبسوط : إذا كان له على رجلين ألف ، ولرجل عليه ألف ، فأحال بها على الرجلين وقبل الحوالة كانت جائزة ، فإن كان كل واحد منهما ضامنا عن صاحبه فأحاله عليهما لم يصح ، لأنه يستفيد بها مطالبة الاثنين كل واحد منهما بالألف ، وفي هذا زيادة في حق المطالبة بالحوالة ، وذلك لا يجوز ، وليس له ان يطالب كل واحد منهما بالألف ، وانما يقبض الألف من أحدهما دون الآخر.

قوله : ( وان حصل الرفق في المطالبة ) إشارة إلى ما قاله الشيخ وهو حصول الزيادة في حق المطالبة ، لأنه قبل الحوالة كان يستحق مطالبة واحد ، فصار بسبب الحوالة يستحق مطالبة اثنين ، وهذا هو معنى الرفق في المطالبة.

والتحقيق أن نقول : ان كفالة المال ناقلة ، فاذا كفل كل من الرجلين صاحبه ، لا يخلو اما ان يرضى المكفول له بكفالتهما أو لا يرضى ، أو يرضى بكفالة أحدهما دون الآخر ، فان رضي بهما معا أو لم يرض بشي‌ء لم يكن له مطالبة أحد منهما بأكثر من النصف ، اما على تقدير عدم الرضى فظاهر ، وأما على تقديره فلانتقال ما في ذمة كل واحد منهما إلى ذمة الآخر ، فهو كما لو لم يكن كفالة ، وان رضي بضمان أحدهما دون الآخر كان له مطالبته بألف ، فليس له على الآخر سبيل ، فلا يتصور التخيير بمطالبة كل واحد بالألف بحيث يحصل الإرفاق في أحدهما دون الآخر ، بل المعتمد ما حققناه.

قال رحمه‌الله : إذا أحال المشتري البائع بالثمن ، ثمَّ رد المبيع بالعيب السابق ، بطلت الحوالة ، لأنها تبع للبيع ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه من ان الحوالة تبع للمبيع ، وقد بطل فتبطل الحوالة ، لاستحالة وجود التابع بدون متبوعه ، ومن ان الحوالة ناقلة للمال وقد تحققت ، فيتحقق انتقال المال من ذمة المشتري الى ذمة المحال عليه ، فلا يسقط بالفسخ

٢١١

المتعقب ، والأول مذهب الشيخ ، واختاره العلامة بناء على بطلان الحوالة وعدمه على انها هل هي استيفاء أو اعتياض؟ ثمَّ حكم بالبطلان على القول بالاستيفاء ، وبعدمه على القول بالاعتياض ، ووجه كونها استيفاء عدم اشتراط التقابض في المجلس لو كان الحقان من الأثمان ، ولأنه لو كان اعتياضا لكان بيع الدين بالدين ، ووجه كونها اعتياضا انه يقبض ما في ذمة المحال عليه مقابل ما في ذمة المحيل ، وهو معنى الاعتياض.

ووجه البطلان على القول بالاستيفاء انها نوع إرفاق ، وإذا بطل الأصل بطل هبة الإرفاق ، ولأنه لو اشترى دراهم مكسورة فدفع اليه صحاحا ، كان دفع الصحاح إرفاقا ، فإذا فسخ البيع رجع بالصحاح ، فيبطل الإرفاق.

ووجه عدم البطلان على القول بأنها اعتياض لزوم المعاوضة ، كما لو أخذ ثمن المبيع ثوبا به عيب ، ثمَّ رد المبيع بالعيب ، فإنه يرجع بالثمن الذي وقع عليه العقد لا بالثوب الذي أخذه عوضا عن المبيع ، والمعتمد بطلان الحوالة.

ويتفرع على القول بالبطلان وعدمه :

فروع :

الأول : على القول بعدم البطلان يرجع المشتري على البائع خاصة دون المحال عليه ، ولا يتعين حقه فيما قبضه البائع من المحال عليه ، لأنه صار ملكه فله دفعه ودفع غيره.

الثاني : لو لم يقبض البائع الحق من المحال عليه ، هل للمشتري الرجوع عليه قبل القبض؟ يحتمل ذلك ، لأنه إذا أحاله بالثمن كان كما لو أقبضه إياه ، ولهذا لا يجوز حبس المبيع بعد الحوالة على الثمن ، ويحتمل العدم ، لأن التغريم انما هو للمقبوض ولو لم يحصل حقيقة القبض ، وهذا الفرع على القول بعدم البطلان ، ولو قلنا به كان له المطالبة ، وان لم يقبض.

٢١٢

الثالث : لو قلنا بعدم البطلان ومنعنا من المطالبة قبل القبض ، هل له إلزام البائع بالقبض من المحال عليه ليقبض المشتري من البائع؟ يحتمل ذلك ؛ لأنه إذا ردّ المشتري المبيع ومنعناه من مطالبة المحال عليه ـ لانتقال ما كان له عليه إلى البائع ، ومنعناه من مطالبة البائع لعدم القبض من المحال عليه ، ولم يوجب على البائع القبض من المحال عليه ـ ليرجع المشتري عليه لأدى ذلك الى بطلان حق المشتري ، وهو غير جائز ، ويحتمل العدم ؛ لأنه ليس للإنسان أن يجبر غيره على قبض حق نفسه ، والتقدير ان الحق صار للبائع فلا يجبر على قبضه.

الرابع : على القول بالبطلان ، فان كان البائع قبض ما أحاله المشتري به رده على المشتري ، ولا يرده على المحال عليه ويتعين حق المشتري في المقبوض ؛ لأنا تبيّنا بقاءه على ملك المشتري وعدم استحقاق البائع له ، لبطلان البيع فإن تلف في يده كان مضمونا عليه ؛ لأنه قبضه لنفسه ، ولو لم يقبضه لم يجز قبضه ، ورجع المشتري على المحال عليه.

قال رحمه‌الله : أما لو أحال البائع أجنبيا بالثمن على المشتري ، ثمَّ فسخ المشتري بالعيب السابق أو بأمر حادث ، لم تبطل الحوالة ؛ لأنها تعلقت بغير المتبايعين ، أما لو ثبت بطلان البيع ، بطلت الحوالة في الموضعين.

أقول : هنا مسألتان :

الأولى : فيما إذا أحال البائع ثالثا بالثمن ، وقد جزم المصنف بعدم بطلان الحوالة ، وهو مذهب الشيخ رحمه‌الله ، وادعى عليه الإجماع ، لتعلق حق الغير بالثمن ، ويحتمل البطلان ؛ لأن استحقاق المحال فرع على استحقاق المحيل ، وقد بطل الأصل ، فيبطل الفرع.

الثانية : فيما إذا ظهر فساد البيع من أصله ، فهنا تبطل الحوالة في الموضعين ، موضع أحاله المشتري للبائع بالثمن ، وموضع أحاله البائع للأجنبي لظهور فساد

٢١٣

الحوالة ، لتعلقها بما لا يستحقه المحيل.

٢١٤

في الكفالة

قال رحمه‌الله : وتصح حالّة ومؤجلة على الأظهر.

أقول : اشترط المفيد والشيخ في النهاية الأجل في الكفالة ، ولم يشترطه في المبسوط ، واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة وأبو العباس ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو قال : ( فان لم أحضره كان علي كذا ) لم يلزمه إلا إحضاره دون المال ، ولو قال : ( علي كذا إلى كذا إن لم أحضره ) وجب عليه ما شرط من المال.

أقول : هذه المسألة إجماعية ، وليس الفرق من حيث تقدم حرف الشرط وتأخيره ؛ لأن ذلك لا يوجب افتراق الحكم عند أهل العربية ، وانما الفارق النص الوارد في ذلك ، وهو ما رواه أبو العباس عن الصادق عليه‌السلام « قال : سألته عن رجل تكفل بنفس رجل الى أجل ، فان لم يأت به فعليه كذا وكذا درهما؟ قال : ان جاء به الى الأجل فليس عليه مال وهو كفيل بنفسه أبدا إلا ان يبدأ بالدراهم ، فان بدأ بالدراهم فهو لها ضامن ان لم يأت به الى الأجل الذي

٢١٥

أجله » (٢٠).

قال رحمه‌الله : ومن أطلق غريما من يد صاحب الحق قهرا كان عليه إحضاره ، أو أداء ما عليه ، ولو كان قاتلا ، لزمه إحضاره أو دفع الدية.

أقول : هذه المسألة إجماعية أيضا ، ووجه الحكم انه رفع اليد المستولية على ما استحقت الاستيلاء عليه ، فكان عليه اعادة الاستيلاء بإعادة الغريم والتمكين منه ، أو دفع الحق الذي بسببه تثبت اليد ، فان كان قاتلا ولم يحضره ، دفع الدية وان كان القتل عمدا ؛ لأن القصاص إنما يجب على المباشر ، وقد تعذر استيفاؤه ، فيجب الدية على المانع منه.

هنا فروع :

الأول : لو دفع الدية ثمَّ حضر القاتل كان لولي المقتول قتله ، ويدفع الدية الى من أخذها منه ؛ لأنه أخذها للحيلولة وقد زالت.

الثاني : لو تمكن من استيفاء القصاص بعد أخذ الدية من المخلص ولم يقتص ، وجب عليه دفع ما أخذه من المخلص ؛ لأنه أخذ المال للحيلولة وقد زالت ، فيجب رده الى مالكه.

الثالث : لو تراضى الوارث والمخلص بهذا المدفوع على ما يستحقه الوارث في ذمة القاتل من القصاص أو الدية لم يكن بعد ذلك للوارث مطالبة القاتل بشي‌ء ؛ لأنه رضي بما صار إليه من المخلص مقابل حقه ، فيسقط ما يدعيه عن القاتل به ، وانما يتسلط على القاتل بعد الأخذ من المخلص إذا كان الأخذ غرامة بسبب الحيلولة لا للرضى بكونه عوضا عن حقه ، وكما لا يجوز رجوع الوارث على القاتل مع التراضي بالمأخوذ ولا يجوز للمخلص أيضا ؛ لأنه أدى دين الغير بغير اذنه ، فلا يجوز الرجوع عليه بشي‌ء.

__________________

(٢٠) الوسائل ، كتاب الضمان ، باب ١٠ من أبواب الحكام الضمان ، حديث ٢.

٢١٦

أما لو أخذ منه للعجز عن القاتل بسبب الحيلولة ولم يحصل التراضي بينهما في المأخوذ ، فإنه يجوز للمخلص الرجوع على الذي خلصه قصاصا.

قال رحمه‌الله : إذا أحضر الغريم قبل الأجل وجب تسلّمه إذا كان لا ضرر عليه ، ولو قيل : لا يجب كان أشبه.

أقول : إذا كفله مؤجلا ثمَّ أحضره قبل الأجل ، هل يجب على المكفول له تسليمه؟ قال الشيخ في المبسوط ـ وتبعه ابن البراج ـ : ان كان لا ضرر في تسليمه وجب ، وذهب المصنف الى عدم الوجوب ، واختاره العلامة ، وهو المعتمد ؛ لأن حقه تسليمه في الأجل ، فلا يجب عليه ان يقبض غير حقه ؛ لأن المقبوض قبل الأجل ليس حقه ، فلا يجب عليه قبضه.

قال رحمه‌الله : إذا تكفل بتسليمه مطلقا انصرف إلى بلد العقد ، فان عين موضعا لزم. ولو دفعه في غيره لم يبرأ ، وقيل : إذا لم يكن في نقله كلفة ، ولا في تسليمه ضرر وجب تسليمه ، وفيه تردد.

أقول : القول المحكي هو قول الشيخ رحمه‌الله في المبسوط ، وتبعه ابن البراج ، وتردد المصنف من ان الشرط اقتضى تسليمه في موضع معين فلا يجب عليه ان يتسلمه في غيره ، كما قلنا في الأجل ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : إذا تكفل رجلان برجل ، فسلمه أحدهما لم يبرأ الآخر ، ( ولو قيل بالبراءة كان حسنا ).

أقول : الأول قول الشيخ رحمه‌الله وابن البراج وابن حمزة ، والمعتمد ما استحسنه المصنف ؛ لأن المكفول لو سلم نفسه برء الكفيل ، فكذا لو سلم أحدهما ؛ لأن المقصود التسليم وقد حصل.

قال رحمه‌الله : لا تصح كفالة المكاتب ، ( على تردد ) (٢١).

__________________

(٢١) لم ترد في الشرائع.

٢١٧

أقول : عدم جواز كفالة المكاتب مذهب الشيخ رحمه‌الله بناء على أصالة عدم لزوم الكتابة ، والمعتمد الجواز ؛ لأنها عقد لازم عند الأكثر.

تنبيه : المشهور بين الأصحاب عدم جواز الكفالة ببدن من عليه الحد ، سواء كان الله كالزنا وشرب الخمر ، أو لآدمي كالقذف ؛ لأن الكفالة انما تصح في موضع إذا تعذر الحضور وجب على الكفيل أداء الحق الذي على المكفول ، وحق الحد لا يمكن استيفاؤه من غير من وجب عليه ، وجوزوا (٢٢) الكفالة ببدن الزوجة لمن يدعي زوجيتها ، مع انه لا يمكن استيفاء الحق الذي على الزوجة ، وهو تسليمها نفسها الى الزوج من غيرها.

وفي الجميع بين الحكمين تناقض ظاهر ، واعتمدوا في حكم الزوجة على وجوب حضورها مجلس الحكم ، وهذا الوجوب لازم لمن عليه الحق أيضا.

__________________

(٢٢) في « ن » و« ر ٢ » : ويجوز.

٢١٨

كتاب الصلح

٢١٩
٢٢٠