غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

فيه احتمل الخلاف. وعبارة التحرير كالقواعد ، الا انه زاد فيه : فإن جاء المشتري فيه لزم البيع ، والا تخير البائع ، وقال الشهيد : وخامسها خيار ما يفسده المبيت ، وهو ثابت للبائع عند انقضاء النهار.

إذا عرفت هذا ، فظاهر هذه العبارات الاختلاف في حكمين :

الأول : في محل الخيار ، وظاهر عبارة النهاية والسرائر والقواعد والتحرير دالة على ثبوت الخيار في ظرف اليوم ، وكذلك عبارة فخر الدين ، لأنه قال في شرحه قول أبيه : فإن تلف فيه احتمل الخلاف. وجه الاحتمال انه تلف في مدة الخيار ، فكان كالثلاثة ، ومن حيث عدم النص عليه ، والأصح العدم ، وهذا آخر كلامه ، وهو دال على ثبوت الخيار في ظرف اليوم ، لأن الضمير في قول العلامة : ( فإن تلف فيه ) ، عائد إلى اليوم ، وقد نص فخر الدين انه مدة الخيار ، الا ان تعليل فخر الدين رحمه‌الله ينقض بعضه بعضا.

بيان المناقضة انه قال : وجه الاحتمال انه تلف في مدة الخيار فكان كالثلاثة ، وعنى بالثلاثة المسألة السابقة التي اختلف الأصحاب فيها مع تلف المبيع في طرف الثلاثة ، هل يكون من مال البائع أو المشتري؟ وقد أجمع الأصحاب على عدم ثبوت الخيار في الثلاثة ، بل البيع فيها لازم وانما يثبت الخيار بانقضائها ، فقوله رحمه‌الله : ( كالثلاثة ) ينقض قوله : ( لأنه تلف في مدة الخيار ) ، لأن الثلاثة ليست مدة الخيار إجماعا ، فقد ظهرت المناقضة.

واما عبارة الدروس فهي دالة على لزوم البيع الى الليل ، وكذلك عبارة عميد الدين في شرحه للمسألة التي شرحها فخر الدين ، وذكرنا عبارة فخر الدين. أما عبارة عميد الدين ، فقال : يريد إذا تلف في ذلك اليوم احتمل في ذلك ما ذكرناه (٦١) من الخلاف في الثلاثة ، بمعنى انا ان قلنا بقول المفيد ان التلف في

__________________

(٦١) من « م » وفي الباقي : ذكره.

٤١

الثلاثة من المشتري ، فهنا إذا تلف في اليوم كان من المشتري ، إذ العلة واحدة وهي لزوم البيع في تلك المدة ، أعني اليوم أو الثلاثة ، وان قلنا بقول الشيخ ـ وهو الأصح ـ فالتلف من البائع ، لأنه لم يقبض.

وهذا آخر كلامه ، وهو دال على لزوم البيع الى الليل ، لكنه غير مطابق لكلام العلامة الذي هذا شرحه ، لأن العلامة لم يذكر لزوم البيع الى الليل ، بل ظاهره عدم اللزوم ، ولهذا قال فخر الدين انه تلف في مدة الخيار ، لأن عبارة القواعد دالة على ثبوت الخيار في ظرف اليوم ، فعميد الدين شرح على مدلول آخر كلام العلامة وأغفل اوله ، وفخر الدين بالعكس ، فلهذا حصل عليهما (٦٢) الاعتراض.

وأحسن عبارات الأصحاب في هذه المسألة عبارة المصنف في هذا الكتاب المشروح ، لأنه اقتصر على معنى الرواية ، والرواية هي رواية محمد بن يعقوب ، عن أبي حمزة أو غيره ، عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « فيمن يشتري ما يفسد من يومه ثمَّ يتركه حتى يأتيه بالثمن ، فان جاء فيما بينه وبين الليل ، وإلا فلا بيع له » (٦٣) ، وهذه الرواية وان كانت مرسلة فهي مؤيدة بعمل الأصحاب.

الثاني : في حكم البيع بعد انقضاء اليوم ، وظاهر النهاية والشرائع بطلانه بانقضاء اليوم ، وهو مدلول الرواية ، لقوله عليه‌السلام فيها : « فان جاء فيما بينه وبين الليل ، والا فلا بيع له » ونفي البيع يدل على بطلانه ، وعبارة السرائر والتحرير والدروس مصرحة بثبوت الخيار للبائع بعد دخول الليل ، وهو يدل على عدم بطلان البيع.

ويمكن الجمع بين عبارات الأصحاب في هذا الحكم بحمل نفي البيع بعد

__________________

(٦٢) في « ن » : عليه وفي « ر ١ » : عليها.

(٦٣) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١١ ، أبواب الخيار ، حديث ١ ، مع اختلاف يسير.

٤٢

دخول الليل على نفي اللزوم دون البطلان ، وأما الجمع في الحكم الأول الذي هو محل الخيار فهو مشكل.

وانما طولنا البحث في هذه المسألة لاختلاف عبارات الأصحاب فيها فأحببنا أن نورد عباراتهم ليطلع على اختلافهم ، ويظهر تحقيق هذه المسألة لمن له قلب سليم ، واسال الله المعونة والتوفيق والهداية إلى التحقيق.

والشهيد طرد الحكم في كل ما يسرع اليه الفساد ولم يقيد بالليل ، بل القيد عنده حصول الفساد ، وهو يحصل بنقص الوصف وقلة الرغبة ، كما في الخضروات واللحم والرطب والعنب.

وهل ينزل فوات السوق منزلة الفساد؟ فيه نظر ينشأ من تطرق الضرر بنقص السعر ، ومن اقتضاء العقد اللزوم والتفريط من البائع بترك اشتراط العقد.

قال رحمه‌الله : خيار المجلس لا يثبت في شي‌ء من العقود عدا البيع وخيار الشرط يثبت في كل عقد غير النكاح والوقف ، وكذا الإبراء والطلاق والعتق ، إلا على رواية شاذة.

أقول : المقصود من هذه المسألة تبيين العقود التي يثبت فيها الخيار وما لا يثبت فيه ، ونحن نذكر ان شاء الله كل خيار على حدة ، ونبين ما يثبت فيه الخيار وما لا يثبت على حسب الطاقة ، والله الموفق والمعين :

الأول : خيار المجلس ، ولا يثبت في شي‌ء من العقود عدا البيع خاصة فهو ثابت فيه مطلقا ، ويجامع خيار الرؤية وخيار الحيوان ، إلا في شراء القريب فإنه لا خيار فيه مطلقا لا للمجلس ولا لغيره ، ولا للبائع ولا للمشتري لعلمهما بحصول العتق بنفس العقد ، وهو مبني على التغليب.

فرع : إذا أنشأ العقد (٦٤) من بعد مفرط بحيث يسمع كلا منهما لفظ صاحبه

__________________

(٦٤) من « ن ».

٤٣

صح العقد قطعا ، وهل يثبت خيار المجلس؟ يحتمل ذلك ، لعموم (٦٥) ثبوته ما لم ينتقلا من موضع العقد غير مصطحبين ، ويحتمل المنع ، لأنهما لم يجمعهما مجلس عرفا.

الثاني : خيار الحيوان ، وهو شامل للأناسي وغيرها ، إلا في شراء القريب كما قلناه ، وهو يحصل بالبيع دون الصلح والإجارة والصداق ، وغير ذلك من المعاوضات ، لأن الأصل في العقود اللزوم إلا ما أخرجه النص ، وهو لم يثبت إلا في البيع ، فيبقى الباقي على الأصل.

الثالث : خيار الشرط ، وهو ثابت في البيع والإجارة والصلح ان وقع معاوضة دخله خيار الشرط ، وان وقع على ما في الذمم مع جهالته أو على إسقاط الدعوى ، قبل ثبوتها لم يثبت فيه خيار الشرط ، لأن مشروعيته لقطع المنازعة فقط واشتراط الخيار لعود الخصومة ينافي مشروعيته ، وكل شرط ينافي مشروعية العقد غير جائز ، والرهن لا يدخله خيار الشرط للمرتهن ، لأنه جائز من طرفه ، وفي الراهن اشكال من أصالة الجواز ، وعموم قوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (٦٦) ، خرج منه ما نص على عدم دخوله ، ومن منافاته لعقد الرهن ، لأنه وثيقة لدين المرتهن ، ومع حصول الخيار تنتفي الفائدة لاحتمال الفسخ بالخيار ، فيخرج المال عن الوثيقة ، والمعتمد الأول ، لأن خروج المال عن الوثيقة مستندا الى فعل المرتهن ، وهو الرضا بالشرط ، فهو كما لو لم يشترط الرهن ولا شك في جواز عدم اشتراط الرهن والحوالة والضمان يدخلها خيار الشرط ، وكذلك المساقاة والكتابة المشروطة يدخلها خيار الشرط للعبد والمولى

__________________

(٦٥) المصدر المتقدم.

(٦٦) الوسائل ، كتاب النكاح ، باب ٢٠ من أبواب المهور ، حديث ٤ ، والمستدرك ، كتاب التجارة ، باب ٥ ، أبواب الخيار ، حديث ٧.

٤٤

دون المطلقة لحصول الحرية فيها بمقدار ما يدفعه من مال الكتابة ، والصرف يدخله خيار الشرط خلافا للشيخ ، وعقد السبق والرماية يدخله خيار الشرط ، ( والصداق يدخله خيار الشرط ) (٦٧).

والعقود الجائزة كالشركة والوكالة والمضاربة والعارية والوديعة والجعالة جوز الشيخ دخول الخيارين فيها ، خيار المجلس وخيار الشرط ، وتبعه ابن البراج وابن إدريس ، ومنع في الخلاف من دخول خيار المجلس دون خيار الشرط.

والعلامة منع من دخول الخيارين في هذه العقود ؛ لأنها عقود جائزة ، لكل منهما الفسخ في كل آن ، فلا معنى لدخول الخيار فيها ، بل لو شرطا عدم الفسخ لم يصح ، فلا فائدة في شرط الخيار ، فهذه العقود كلها يدخلها خيار الشرط ، والذي لا يدخله فهو النكاح والطلاق والخلع والوقف ، على خلاف يأتي ان شاء الله تعالى في بابه ، والعتق الا على رواية إسحاق بن عمار ، وهي التي أشار إليها المصنف ، والإقالة والإجارة والشفعة والهبة والإبراء ، وكل ما لا يدخله خيار الشرط لا يدخله خيار غيره.

الرابع : خيار المغبون ، وهو يثبت في كل عقد يشتمل على المعاوضة ، كالبيع والصلح ، إلا إذا وقع على ما في الذمم ، وكان مجهولا ، فهذا لا يثبت فيه خيار الغبن إذا علم بعد عقد الصلح وظهر غبن أحدهما ، وكذلك إذا وقع على إسقاط دعوى قبل ثبوتها ثمَّ ظهر حقية ما يدعيه ، وكان مغبونا فيما صالح عنه ، فلا خيار له ، لما قلناه في خيار الشرط ، ويثبت في الإجارة والمزارعة والمساقاة ، وما شاكل ذلك مع شروطه المعتبرة من جهالة المغبون ، وكون الغبن لم تجر به العادة بالتغابن بمثله ، واما خيار عدم التقابض وخيار الرؤية فهو مقيد بما يحصل هذان الشرطان فيه ،

__________________

(٦٧) لم يرد في « ن ».

٤٥

فلا يفتقر الى تفصيل.

قال رحمه‌الله : المبيع يملك بالعقد ، وقيل : به وبانقضاء الخيار ، والأول أظهر.

أقول : الأول هو المشهور بين الأصحاب ؛ لأن العقد سبب (٦٨) انتقال الملك يدور معه وجودا وعدما ، ولعدم منافاة الخيار للملك ، والثاني مذهب الشيخ ، وظاهر ابن الجنيد ، لقصور العقد المشترط فيه الخيار عن غير المشترط فيه ، والقصور سبب عدم (٦٩) افادة الملك ، والا لزم المساواة وهو باطل ، والحق عدم المساواة ، لأن العقد المشترط فيه الخيار غير لازم ، بل هو متزلزل قابل للفسخ بخلاف غير المشترط فيه ، ففائدة الخيار عدم اللزوم لا عدم الملك.

قال رحمه‌الله : خيار الشرط يثبت من حين التفرق ، وقيل : من حين العقد ، وهو أشبه.

أقول : ثبوته من حين التفرق مذهب الشيخ وابن إدريس ، لثبوت خيار المجلس قبل التفرق ، فلو ثبت خيار الشرط قبل التفرق لزم اجتماع المثلين ، وهو غير جائز ، والمشهور ثبوته من حين العقد ، وهو المعتمد ، لأن إطلاق المدة يقتضي الاتصال بالعقد كغيره من الأزمنة المشترطة في العقود ، ويلزم من قول الشيخ الجهالة بالمبتدإ ، لأن وقت التفرق غير معلوم ، وجهالة أحد الطرفين توجب بطلان العقد ، واجتماع المثلين غير مانع ، لأن الخيار واحد وأسبابه مختلفة ، فلا مانع من ذلك ، كما لو ظهر عيب وهو في المجلس فان له الخيار بسبب العيب وسبب المجلس.

__________________

(٦٨) في « م » : ( يفيد ) بدل ( سبب ).

(٦٩) لفظة ( عدم ) ليست في « م » و« ن » و« ر ١ ».

٤٦

فروع :

الأول : إذا قيد الفسخ برد الثمن فليس له الفسخ بدون رده أو مثله ، ولو فسخ قبل ذلك كان لاغيا ، وان لم يقيد برد الثمن جاز الفسخ مع حضور الثمن وعدمه ، وكذا لو كان الخيار للمشتري ، فإن قيده برد المبيع أو مثله (٧٠) لم يجز الفسخ قبل الرد ويجوز مع الإطلاق ، ولو أتى ببعض الثمن أو ببعض المبيع لم يجز له الفسخ الا مع اشتراطه مع الإتيان بذلك البعض ، ثمَّ ان كانت المدة طرفا للفسخ والاسترجاع كان له الفسخ متى جاء بالثمن ووجب قبوله ، وان كانت غاية لم يجب عليه قبض الثمن قبل مضيّها ولا يجوز الفسخ قبل ذلك.

الثاني : إذا جعلا الخيار لعبد أحدهما ملك مولاه الخيار ، وان جعلاه لعبد أجنبي لم يملكه مولاه ، ولو مات العبد لم ينتقل الى مولاه ، وكذا لو مات الأجنبي لم ينتقل الى وارثه ، لأنهما لم يرضيا بغير نظره ، بخلاف ما لو كان لأحدهما ، فإنه ينتقل الى وارثه ، وإذا جعلا الخيار لعبد الأجنبي لم يتوقف على رضا مالكه ، الا ان يمنع شيئا من حقوقه ، فيتوقف حينئذ.

الثالث : لا يبطل الخيار بتلف المبيع ، فان كان مثليا طالب بالمثل مع الفسخ ، والا بالقيمة.

الرابع : يجوز اشتراط مدة متأخرة عن العقد ويلزم بينهما ، لأصالة الجواز ، ولعموم : « المؤمنون عند شروطهم » (٧١) ، ويحتمل العدم ، لأن الواجب لا ينقلب جائزا.

الخامس : لو جعل الخيار لاثنين ، فاختار أحدهما الإمضاء ، والآخر الفسخ انفسخ البيع ، وكان الحكم لمختار الفسخ ، لأن اختياره ناقل والآخر مقرر ،

__________________

(٧٠) في « ن » و« ر ٢ » بزيادة : إن كان مثليا.

(٧١) تقدم فيما سبق ص ٤٤.

٤٧

والناقل أولى من المقرر مع التعارض.

السادس : إذا جعل الخيار لأجنبي ولأحد المتابعين معا ، فاختلفا احتمل اختيار الأجنبي ، والا لم يكن لذكره فائدة ، واحتمل اختيار الفاسخ منهما ، لما قلناه أولا ، ولأنه مع اعتبار اختيار الأجنبي دون اختيار الآخر لم يكن في جعله للآخر مع الأجنبي فائدة أيضا ، وهذا هو المعتمد.

٤٨

في أحكام العقود

قال رحمه‌الله : ولو باع بثمن حال وبأزيد منه الى أجل قيل : يبطل ، والمروي انه يكون للبائع أقل الثمنين في أبعد الأجلين.

أقول : العمل بمضمون الرواية مذهب المفيد والسيد المرتضى ، والرواية إشارة الى ما رواه السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام (٧٢).

والبطلان مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره ابن إدريس والعلامة وأبو العباس ، لجهل (٧٣) الثمن حالة العقد ، فكان كما لو قال : بعتك هذا أو هذا بكذا ، وهو غير جائز ، وهذا هو المعتمد.

فرعان :

الأول : لو باعه بثمن واحد بعضه نقدا وبعضه نسيئة صح البيع قطعا ، وكذا لو باعه سلعتين في عقد واحد واشترط تأجيل أحدهما وحلول الآخر بشرط

__________________

(٧٢) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٢ ، أحكام العقود ، حديث ٢.

(٧٣) في « ي ١ » و« ر ٢ » : لتجهيل.

٤٩

تعيين المؤجل أو النقد.

الثاني : لو طال الأجل بحيث يعلمان عدم بقائهما إليه عادة كألف سنة مثلا ، احتمل بطلان العقد لخروج الثمن عن الانتفاع ، ويحتمل الصحة ، لأن الأصل مضبوط ويحل (٧٤) بموت المشتري ، وهذا اختيار الشهيد ، وأبطله فخر الدين.

قال رحمه‌الله : وان ابتاعه بجنس ثمنه بزيادة أو نقيصة ، فيه روايتان ، أشبههما الجواز.

أقول : عدم الجواز مذهب الشيخ في النهاية لرواية خالد بن الحجاج (٧٥) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، والجواز مذهب ابن إدريس ، واختاره المصنف والعلامة للأصل ، ولعموم قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٧٦) ولرواية عبيد بن زرارة (٧٧).

قال رحمه‌الله : فان امتنع من أخذه ثمَّ هلك من غير تفريط ولا تصرف من المشتري كان من مال البائع على الأظهر.

أقول : كل من عليه حق حال فدفعه الى من له الحق وجب على صاحب الحق قبضه ، فاذا امتنع من قبضه فعزله من عليه الحق ثمَّ تلف من غير تفريط ، هل يكون من مال من عليه الحق أو لا؟ قال الشيخ في النهاية بالثاني ، وبه قال المفيد وسلار وابن البراج وابن حمزة ، واختاره المصنف والعلامة في المختلف ، لأن الدين يتعين بتعيين المديون ، فاذا هلك بعد تعيينه كان من المدين.

وفي المبسوط دفعه الى الامام أو نائبه ليقبضه عن مالكه ، لأن الحاكم قائم

__________________

(٧٤) في « ر ٢ » : ويحتمل ، وفي « ن » : ويحمل.

(٧٥) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٢ ، من أبواب السلف ، حديث ٣.

(٧٦) البقرة : ٢٧٥.

(٧٧) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٢٦ من أحكام العقود ، حديث ٢.

٥٠

مقام المالك مع امتناع المالك من قبض الحق ، فان لم يدفعه الى الحاكم أو نائبه ثمَّ هلك كان من ضمان المديون ، فان الدين لا يتعين الا بقبض المدين أو نائبه ، والتقدير انه لم يقبضه هو ولا نائبه ، فيكون من ضمان المديون ، وهذا هو الحق مع القدرة على الحاكم أو نائبه ، والا اشهد على عزله وتعيينه ، فان تلف بعد ذلك من غير تفريط كان من مال المدين ، سمعناه مذاكرة.

قال رحمه‌الله : ومن اتباع شيئا بثمن مؤجل وأراد بيعه مرابحة فليذكر الأجل ، فإن باع ولم يذكر كان المشتري بالخيار بين رده وإمساكه بما وقع عليه العقد ، والمروي انه يكون للمشتري من الأجل مثل ما كان للبائع.

أقول : القائل بثبوت الخيار هو الشيخ في الخلاف والمبسوط ، وبه قال ابن إدريس ، والمصنف والعلامة ، لأن الأجل له قسط من الثمن في عرف المعاملة ، فلما باعه بالثمن الذي اشتراه ولم يذكر الأجل كان مدلسا ، فيثبت الخيار بين الرد والإمساك بجميع الثمن ، وذهب الشيخ في النهاية الى عدم الخيار ، ويثبت له من الأجل مثل ما للبائع ، لرواية هشام بن الحكم (٧٨) ، عن الصادق عليه‌السلام ، والأول هو المعتمد.

__________________

(٧٨) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٢٥ ، أحكام العقود ، حديث ٢.

٥١
٥٢

فيما يدخل في المبيع

قال رحمه‌الله : وفي دخول المفاتيح ، تردد ، ودخولها أشبه.

أقول : من انها ليست من المبيع ولا من اجزائه فلا تدخل ، لأصالة بقاء الملك على مالكه ما لم يعلم الانتقال ، ومن اقتضاء العادة دخولها ، ولأنها من حقوقها فيدخل في المبيع.

قال رحمه‌الله : ولو كان في الدار نخل أو شجر لم يدخل في المبيع ، فإن قال بحقوقها ، قيل : يدخل ، ولا أرى هذا شيئا.

أقول : القائل بالدخول هو الشيخ ، وتبعه ابن البراج وابن حمزة ، وهو ظاهر كلام ابن إدريس بناء على ان النخل والشجر من حقوق الدار ، فظاهر المصنف عدم الدخول الا ان يقول : ( وما أغلق عليه بابها ) ، وهو اختيار العلامة ، لأصالة بقاء الملك على بائعه (٧٩) ما لم يعلم السبب الناقل ، ولم يثبت ان النخل والشجر من حقوق الدار.

قال رحمه‌الله : ولو باع النخل ولم يكن مؤبرا فهو للمشتري على ما أفتى به

__________________

(٧٩) في « ن » : مالكه.

٥٣

الأصحاب.

أقول : لا خلاف في ان الثمرة للمشتري مع عدم التأبير ، وانما استند المصنف الى فتوى الأصحاب ، لأن هذا الحكم يثبت بإجماعهم إذا الروايات (٨٠) الدالة على هذا الحكم ليست مصرحة فيه ، بل هي دالة من حيث المفهوم ، ودلالة المفهوم ضعيفة ، لكن الإجماع عضدها ، فلذلك نسب الحكم الى فتوى الأصحاب لا الى الروايات الواردة فيه ، لضعف دلالتها عليه.

قال رحمه‌الله : الأحجار المخلوقة : في الأرض والمعادن تدخل في بيع الأرض ، لأنها من أجزائها ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه مما قاله المصنف : ( لأنها من اجزائها ) ، ومن عدم صدق اسم الأرض عليها ، لأنها مخالفة لها بالاسم وبالماهية ، والأصل بقاء الملك على مالكه.

__________________

(٨٠) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٣٢ من أحكام العقود.

٥٤

في التسليم

قال رحمه‌الله : إطلاق العقد يقتضي تسليم المبيع والثمن ، فإن امتنعا أجبرا ، وإن امتنع أحدهما أجبر الممتنع ، وقيل : يجبر البائع أولا ، والأول أشبه ، سواء كان الثمن عينا أو دينا.

أقول : إذا قال البائع : ( لا أسلم المبيع حتى اقبض الثمن ) ، : وقال المشتري : ( لا أسلم الثمن حتى اقبض المبيع ) ، قال الشيخ في ( المبسوط والخلاف ) : الأولى ان يقال : على الحاكم ان يجبر البائع على تسليم المبيع ، ثمَّ يجبر بعد ذلك المشتري على تسليم الثمن ، لأن الثمن تابع للمبيع ، وتبعه ابن البراج.

وذهب المصنف الى ان الحاكم يجبرهما معا مع الامتناع دفعة واحدة. واختاره العلامة والشهيد ، وهو المعتمد ، لأن حالة انتقال المبيع إلى المشتري هي حالة انتقال الثمن إلى البائع ، فلا أولوية.

وقوله : ( سواء كان الثمن عينا أو دينا ) ، أراد بالدين الموصوف في الذمة مع كونه حالا يجب تسليمه في الحال ، ولا يتوهم أحد ان مراده بالدين الموصوف بالذمة المؤجل ، لأن المؤجل لا يجب تسليمه الا مع حلول الأجل مع وجوب

٥٥

تسليم عوضه حالا ، فلا يتصور إجبارهما معا ، ولا يتصور كون الثمن والمثمن مؤجلين ، لأن ذلك بيع الدين بالدين فلا يجوز ، بل المراد ما قلناه.

قال رحمه‌الله : والقبض هو التخلية ، سواء كان المبيع مما لا ينقل كالعقار ، أو مما ينقل ويحوّل كالثوب والجوهر والدابة. وقيل : فيما ينقل القبض باليد أو الكيل فيما يكال أو الانتقال في الحيوانات ، والأول أشبه.

أقول : التفصيل هو المشهور بين الأصحاب ، ذكره الشيخ في المبسوط ، وبه قال ابن البراج وابن حمزة ، واختاره العلامة وأبو العباس ، وهو المعتمد ، لأنه المتعارف بين الناس وعادة الشرع رد الناس الى ما يتعارفونه فيما لم ينص على مقصوده باللفظ كالأحياء ، ويؤيده صحيحة معاوية بن وهب (٨١) ، عن الباقر عليه‌السلام.

وقيل : هو التخلية بعد رفع اليد مطلقا ، واختاره المصنف.

قال رحمه‌الله : وإذا تلف المبيع قبل تسليمه الى المشتري فهو من مال بائعه ، وكذا ان نقصت قيمته بحدث فيه كان للمشتري رده ، وفي الأرش تردد.

أقول : منشؤه من انه لو تلف اجمع لكان من مال البائع ، فكذا أبعاضه وصفاته ، لأن المقتضي لثبوت الضمان في الجميع ـ وهو عدم القبض ـ موجود في الصفات والأبعاض فثبت الحكم ، ومن أصالة عدم ثبوت الأرش.

وانما أوجبنا الخيار بين الرد والقبول بجميع الثمن لدفع الضرر اللاحق بإيجاب القبول ، والأول مذهب الشيخ في النهاية وابن البراج وأبو الصلاح ، واختاره العلامة وفخر الدين ، وهو المعتمد ، والثاني مذهب الشيخ في الخلاف ، واختاره ابن إدريس.

__________________

(٨١) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٦ من أحكام العقود ، حديث ١١ ، لكن الرواية فيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٥٦

قال رحمه‌الله : إذا اختلط المبيع بغيره في يد البائع اختلاطا لا يتميز ان دفع الجميع إلى المشتري جاز ، وإن امتنع البائع قيل : ينفسخ البيع لتعذر التسليم ، وعندي أن المشتري بالخيار إن شاء فسخ وإن شاء كان شريكا للبائع ، كما إذا اختلطا بعد القبض.

أقول : وجوب القبول مع دفع الجميع مذهب الشيخ ، لأنه زاده فضلا فلا يتسلط على الفسخ ، لزوال العيب بزوال الشركة ، والمعتمد عدم وجوب القبول ، لأن الزيادة تكون هبة والهبة لا يجب قبولها ، ويثبت الخيار بين الفسخ ـ لحصول العيب بالشركة ـ وبين الإمضاء ويكون شريكا ، ولو كان الامتزاج بعد القبض لزم العقد ولم يثبت الفسخ وكان شريكا ، فان علمت حصة كل واحد منهما كانا شريكين بالنسبة ، والا وجب ان يصطلحا ، وهذا حكم مطرد في جميع ما يحصل معه الشركة.

قال رحمه‌الله : ولو باع شيئا فغصب من يد البائع ، فإن أمكن استعادته في الزمن اليسير لم يكن للمشتري الفسخ ، وإلا كان له ذلك ولا يلزم البائع أجرة المدة ، على الأظهر.

أقول : إذا لم يمكن استعادة العين الا بعد فوات شي‌ء من منافعها ثبت خيار الفسخ ، فاذا لم يفسخ هل له ان يطالب البائع بالأجرة؟ يحتمل ذلك ، لأنه ضامن للعين قبل القبض ، فيكون ضامنا للمنافع ، ومن أصالة براءة الذمة ، ولأنه لو لم يغصب وبقيت في يد البائع مدة طويلة لم يكن ضامنا للأجرة ما لم يطلبها المشتري فيمنعه فيضمن حينئذ ، لأنه كالغاصب ، وقبل ذلك لا يضمن شيئا ، سواء كانت في يده أو غصبت منه ، وذهب المصنف ، والعلامة في التحرير ، والشهيد الى عدم الضمان.

قال رحمه‌الله : إذا ابتاع متاعا ولم يقبضه ، ثمَّ أراد بيعه كره ذلك إن كان مما

٥٧

يكال أو يوزن ، وقيل : إن كان طعاما لم يجز ، والأول أشبه. وفي رواية : يختص التحريم بمن يبيعه بربح ، أما التولية فلا.

أقول : في هذه ثلاثة أقوال :

الأول : المنع في جميع ما يكال أو يوزن ، وهو مذهب ابن ابي عقيل.

الثاني : اختصاص المنع بالطعام ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط.

الثالث : الجواز في الجميع على كراهة فيما يكال أو يوزن ، ويكون قبض المشتري نائبا عن قبض البائع ، لأصالة الجواز ، ولعموم ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٨٢) ، وهو مذهب الشيخ في النهاية والمفيد ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، ورواية علي بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام : « عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه إذا كان بربح ، والجواز إذا كان تولية » (٨٣). وبمضمونها أفتى العلامة في التحرير.

قال رحمه‌الله : وكذا إذا دفع اليه مالا ، وقال : اشتر به طعاما ، فإن قال : اقبضه لي ثمَّ اقبضه لنفسك ، صح الشراء دون القبض ، لأنه لا يجوز أن يتولى طرفي العقد (٨٤) ، وفيه تردد.

أقول : إذا دفع من عليه طعام الى ديانه مالا ، وقال : ( اشتر به طعاما ) ، فان قال : ( اشتره لنفسك ) بطل الشراء ، لأنه لا يجوز ان يشتري الإنسان لنفسه بمال غيره.

وان قال : ( اشتره لي واقبضه لنفسك ) ، جاء الخلاف السابق في جواز بيع الطعام قبل قبضه ، اما الشراء للآمر فلا إشكال في صحته ، لأنه وكيل ، واما

__________________

(٨٢) البقرة : ٢٧٥.

(٨٣) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٦ من أحكام العقود ، حديث ٩.

(٨٤) في الشرائع : القبض.

٥٨

القبض لنفسه ففيه الخلاف ؛ لأنه قبضه عوضا عما له عليه قبل ان يقبضه صاحبه.

وان قال : ( اقبضه لي ثمَّ اقبضه لنفسك ) ، صح الشراء والقبض بلا خلاف ، واما قبضه لنفسه من نفسه ، فهو مبنى على جواز تولي الواحد طرفي العقد وعدمه ، وقد مضى الخلاف فيه في باب البيع ، وقد منعه هنا الشيخ وابن البراج ؛ لأن الإيجاب والقبول لا بد ان يكونا صادرين عن اثنين فلا يجوز فعلهما من واحد ، والمعتمد الجواز.

قال رحمه‌الله : لو أسلفه في طعام بالعراق ، ثمَّ طالبه بالمدينة ، لم يجب عليه دفعه ، ولو طالبه بقيمته ، قيل : لم يجز (٨٥) ؛ لأنه بيع الطعام ( على من هو عليه ) (٨٦) قبل قبضه ، وعلى ما قلناه يكره ، ولو كان قرضا جاز أخذ العوض بسعر العراق ، فإن كان غصبا لم يجب دفع المثل ، وجاز دفع القيمة بسعر العراق ، والأشبه جواز مطالبة الغاصب بالمثل حيث كان ، وبالقيمة الحاضرة عند الإعواز.

أقول : هنا ثلاث مسائل :

الأولى : إذا أسلفه في طعام في العراق مثلا ، ثمَّ طالبه بالمدينة مثلا وهذا لا يجب عليه (٨٧) الدفع ، لاختلاف القيمة في موضع الاسلاف وموضع المطالبة ، ولو اتفقا على الدفع جاز ، فكما لا يجب على من عليه الطعام دفعه كذا لا يجب على من له الطعام قبضه ؛ لأنه في حمله مئونة ، ولو طالبه بالقيمة لم يجب دفعها ، قال الشيخ : ولا يجوز ، بناء على مذهبه من عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه ، والمعتمد الجواز على كراهية.

الثانية : إذا أقرضه طعاما في العراق فطالبه في المدينة ، فالحكم فيه كما

__________________

(٨٥) في « ي » : لم يجب.

(٨٦) من الشرائع المطبوع.

(٨٧) هذه اللفظة ليست في « ن » و« ر ٢ ».

٥٩

سلف ، إلا في أخذ القيمة ، فلا خلاف في جواز أخذها بسعر العراق ، ويجبر المقترض على دفعها إليه ؛ لأنه يجب عليه دفع حق المقرض مع المطالبة ، وقد تعذر المثل لعدم وجوب دفعه في المدينة ، فيجب القيمة بسعر العراق.

الثالثة : لو غصبه طعاما في العراق ، ثمَّ طالبه في المدينة ، فعند الشيخ وابن البراج حكمه كالقرض سواء ، وذهب المصنف الى جواز مطالبة الغاصب بالمثل ، ومع تعذر المثل يجب القيمة بسعر موضع المطالبة ، واختاره العلامة ، وهو المعتمد ؛ لان الغاصب مخاطب بأشق الأحوال ففي أي موضع طالبه برد المغصوب وجب عليه ، فان أعوز كان عليه قيمة موضع الإعواز.

٦٠