غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

وخص المنع من البيع على غير من هو عليه ، يدل بمفهومه على جواز البيع على من هو عليه ، فلهذا قلنا انه يجوز بيعه على من هو عليه ، وتجويز العلامة بيعه على غير من هو عليه يدل على جوازه على من هو عليه بطريق الأولى ، وهو عكس ما نقله صاحب الدروس.

والظاهر ان سبب سهو الشهيد غلط نسخة المختلف التي نقل منها مذهب ابن إدريس ، ومذهب العلامة ، ولهذا قال : وجواز الفاضل بيعه على من هو عليه.

ومراده بالفاضل العلامة ، مع انه مذهبه في المختلف جواز بيعه على غير من هو عليه ، وهذه عبارته : قال ابن إدريس : الدين المؤجل لا يجوز بيعه على غير من هو عليه بلا خلاف والوجه عندي الكراهية ، للأصل الدال على الجواز ، والإجماع ممنوع. هذا كلامه رحمه‌الله في المختلف ، وهو دال على جواز بيعه على غير من هو عليه.

لكن الظاهر ان النسخة التي نقل منها الشهيد محذوف منها ( غير ) من كلام ابن إدريس سهوا من الناسخ ، فحصل الغلط في نقله عن ابن إدريس ، وعن العلامة.

وأبو العباس تابع الشهيد على سهوه في النقل عنهما رحمهم‌الله جميعا وجزاهم الله عنا خيرا ، ونسأل من الله العصمة من الزلل الموجب للخلل.

تنبيه : لو باع الدين بأقل من ثمنه ، قال الشيخ وابن البراج : لم يلزم الغريم ان يدفع الى المشتري أكثر مما دفع الى البائع ويبرأ من الباقي ، لرواية محمد بن الفضل ، « قال : قلت للرضا عليه‌السلام رجل اشترى دينا على رجل ، ثمَّ ذهب الى صاحب الدين ، فقال له : ادفع ما لفلان عليك فقد اشتريته منه ، فقال : يدفع إليه قيمة ما دفع الى صاحب الدين ويبرأ الذي عليه المال من جميع ما بقي

١٢١

عليه » (١٨٧).

وأنكر ابن إدريس هذا إنكارا عظيما ، والمعتمد صحة البيع ووجوب دفع الجميع إلى المشتري ، إذ لا خلاف في جواز بيع الدين بأقل من قيمته مع علم البائع بالقيمة.

فرع : إذا تعذر قبض المبيع من المديون لفلسه أو هربه أو دفعه للمشتري ، رجع على البائع بالثمن الذي دفعه اليه ، لعدم حصول العوض الذي قابله.

قال رحمه‌الله : إذا أسلف في شي‌ء وشرط أصواف نعجات ، قيل : يصح ، وقيل : لا ، وهو الأشبه. ولو شرط أن يكون الثوب من غزل امرأة معينة ، أو الغلة من قراح معينة ، لم يضمن.

أقول : هنا مسألتان :

الأولى : إذا أسلف في غنم واشترط أصواف نعجات معينة مشاهدة ، وقد منع منه ابن إدريس واختاره المصنف ، لأن السلم في المشاهد لا يجوز ، لأنه بيع مضمون إلى أجل ، والمشاهد ليس كذلك ، ولأن بيع الصوف على ظهور الغنم لا يجوز عنده للجهالة.

وجوزه الشيخ واختاره العلامة لجواز البيع بلفظ السلم عنده ، وعدم اشتراط الأجل ، وصحة بيع الصوف على ظهور الغنم لمشاهدته وانتفاء الغرر فيه ، فلا مانع من ذلك ، وهو المعتمد.

الثانية : إذا أسند السلف الى معين ، كما لو شرط الثوب من غزل امرأة معينة أو الغلة من قراح معين ، قال المصنف : لم يضمن ، وظاهره صحة البيع ، إلا انه لا يضمن من المعين ، وهو بناء على ان الشرط الفاسد لا يفسد العقد.

والمعتمد بطلان البيع ، وهو مذهب العلامة في قواعد ، والشهيد في دروسه ،

__________________

(١٨٧) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٥ من أبواب الدين والقرض ، حديث ٣.

١٢٢

لبطلان الشرط الموجب لبطلان البيع.

اما بطلان الشرط فلمنافاته العقد ، لأن السلف ابتياع مضمون في الذمة ، والمضمون في الذمة لا يتشخص من دون القبض ، فتشخيصه بأحد الأمور المذكورة خروج عن حقيقة السلم فيكون منافيا ، ولأنه يؤدي الى الغرر ، لاحتمال موت المرأة أو تلف غلة القراح ، فيتعذر التسليم ، إذ لا بد ان يكون وجود المسلم فيه عاما عند الحلول ، وهذا الشرط ينافيه.

واما بطلان البيع فلعدم الرضا بدون سلامة الشرط ، فيكون تجارة من غير تراض ، فتكون باطلة.

قال رحمه‌الله : إذا تقايلا رجع كل عوض إلى مالكه ، فإن كان موجودا أخذه ، وإن كان مفقودا ضمن بمثله إن كان مثليا ، وإلا بقيمته ، وفيه وجه آخر.

أقول : المراد بالوجه الآخر عدم صحة التقابل مع تلف العوض المتقايل عليه ، لفوات محل ما وقع عليه الإقالة.

قال رحمه‌الله : ولو شرط الصحاح عوض المكسرة ، قيل : يصح ، والوجه المنع.

أقول : الجواز مذهب الشيخ في النهاية وابن البراج وابي الصلاح وابن حمزة ، لرواية يعقوب بن شعيب في الصحيح ، « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغفلة فيأخذ الدراهم الطازجة طيبة بها نفسه؟ قال : لا بأس ، وذكر ذلك عن علي عليه‌السلام » (١٨٨) ، وليس في الحديث دلالة على ذكر الشرط.

والطازجة بالطاء المهملة والزاء المعجمة والجيم الدراهم البيض الجيدة ، ومنع ابن إدريس والمصنف من ذلك واختاره العلامة ، وهو المعتمد ، لما رواه

__________________

(١٨٨) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٢ أبواب الصرف ، حديث ٥.

١٢٣

الحلبي في الحسن ، عن الصادق عليه‌السلام : « قال : إذا أقرضت الدراهم ثمَّ أتاك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط » (١٨٩) ، وهو يدل على ثبوت البأس مع الشرط.

تنبيه : جوز العلامة اشتراط ان يبيع المقرض المقترض سلعة أو يؤجره دار بثمن المثل وأجرة المثل ، أو ان يقرضه المقترض أو يبيع المقرض على زيد مثلا أو يقرضه عمروا ، ولو عين الثمن في اشتراط البيع على زيد لزم وان كان أقل من ثمن المثل ، ولو اشترط الرهن أو الكفيل على القرض لزم ، ولو اشترطه على دين آخر جوزه في القواعد ، ومنعه في التحرير ، لما فيه من جر النفع ، وإذا فسد القرض بفساد الشرط كان مضمونا عليه ، لأنه قبضه على ان يكون ضامنا له ، وقال ابن حمزة : يكون أمانة ، لأنه لم يملكه فيكون أمانة ، لأصالة عدم الضمان.

قال رحمه‌الله : وما ليس كذلك ، يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم ، ولو قيل : يثبت مثله أيضا ، كان حسنا.

أقول : إذا اقترض المثلي وجب رد المثل إجماعا ، فإن تعذر المثل وجبت القيمة يوم القبض ، لأنه وقت ثبوته في الذمة ، ويحتمل وقت التعذر ، لأنه وقت الانتقال إلى القيمة.

وإذا اقترض القيمي وجب عليه القيمة يوم القرض على المشهور بين الأصحاب ، واستحسن المصنف رد المثل في القيمي أيضا ، وهو ظاهر الشيخ في الخلاف ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة أخرى ، وضمن عائشة إناء حفصة وطعامها بمثلها (١٩٠) ، وهو محمول على التراضي.

وانما يحصل المماثلة مع الاشتراك في جميع الصفات التي لها مدخل في القيمة ،

__________________

(١٨٩) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٢٠ من الدين والقرض ، حديث ١.

(١٩٠) سنن البيهقي ٦ : ٢١ و٩٦.

١٢٤

فاذا دفع المماثل في جميع الصفات وجب قبوله على قول المصنف ، ولا يجب على المشهور بين الأصحاب ولو تغيرت أسعار القيمي وجبت القيمة يوم القبض على المشهور ، وعلى قول المصنف يجب القيمة يوم دفع العوض.

قال رحمه‌الله : ويجوز اقتراض الجواري. وهل يجوز اقتراض اللئالي؟ قيل : لا ، وعلى القول بضمان القيمة ينبغي الجواز.

أقول : يجوز اقتراض المثلي إجماعا ، وكذا القيمي الذي يمكن السلف فيه ، وفي ما (١٩١) لا يضبطه الوصف ، ولا يجوز السلف فيه كاللآلي واللحم والجلود قولان ، مع اتفاقهم على جواز إقراض الخبز عددا ووزنا عملا بالعرف ، والمنع في الجواهر وشبهها مذهب الشيخ ، والجواز مذهب ابن إدريس ، لأصالة الجواز ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : القرض يملك بالقبض لا بالتصرف ؛ لأنه فرع التملك ، فلا يكون مشروطا به. وهل للمقرض ارتجاعه؟ قيل : نعم ، ولو كره المقترض ، وقيل : لا ، وهو أشبه ؛ لأن فائدة الملك التسلط.

أقول : ذهب الشيخ في الخلاف الى اشتراط التصرف في حصول الملك ، والمشهور حصوله بالعقد ؛ لأن التصرف فرع الملك ، فلو كان مشروطا به لزم الدور ، ويتفرع عليه جواز انتزاع العين ، فعلى اشتراط التصرف له ذلك قبله ، وليس له على عدم الاشتراط.

ويتفرع عليه أيضا عتق القريب بنفس القبض ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو شرط التأجيل في القرض لم يلزم ولو أجل الحال لم يتأجل ، وفيه رواية مهجورة.

أقول : الدين الحال لا يتأجل إلا بأحد أمور ثلاثة :

__________________

(١٩١) في « ر ١ » : وما.

١٢٥

الأول : ان يشترط التأجيل في عقد لازم ، مثل ان يقول : ( بعتك العبد مثلا بمائة على ان تؤجلني بالدين أو القرض أو المهر سنة مثلا ) ، فيقول : ( قبلت ) ، وكلما يجوز تأجيله في العقد اللازم يجوز إسقاط الأجل فيه أيضا ، ولو أقرضه واشترط تأجيل الحال عليه أو حلول المؤجل على المقترض لم يصح وبطل القرض.

الثاني : يتأجل بالوصية ، فإذا أوصى بتأجيل ما على فان سنة مثلا تأجل ، ولا يحتسب الدين من الثلث ، لعدم خروجه عن ملك الورثة بالتأجيل ، بل يخرج من الثلث ما قابل الأجل ، فيقال : لو بيع هذا الدين الذي قيمته مائة مثلا بمؤجل إلى سنة بكم يباع؟ فاذا قيل بمائة وخمسين علمنا ان قسط الأجل ثلث الثمن ، فيخرج ثلث الدين من الثلث وهكذا ؛ لأنه مقدار الفائت بالوصية ، فيقتصر عليه.

الثالث : يتأجل بالنذر والعهد واليمين.

قال رحمه‌الله : من كان عليه دين ، وغاب صاحبه غيبة منقطعة ، يجب أن ينوي قضاءه ، وأن يعزل ذلك عند وفاته ويوصي به ليصل الى ربه ، أو إلى وارثه إن ثبت موته ، وإن لم يعرفه اجتهد في طلبه ، ومع اليأس ، يتصدق به على قول.

أقول : ما حكاه المصنف مذهب الشيخ في النهاية ، وهو مشتمل على أحكام :

الأول : وجوب نية القضاء.

الثاني : العزل عند الوفاة ، وهو واجب عند الشيخ والمصنف ، وأنكره ابن إدريس وادعى الإجماع على عدم وجوبه.

الثالث : وجوب الوصية بدونه ، وهذا لا خلاف فيه.

الرابع : وجوب الصدقة مع اليأس من الوارث ، وهو مذهب الشيخ وابن البراج ، واختاره المصنف وأبو العباس ، لئلا يتعطل المال ويخرج عن الانتفاع ،

١٢٦

ولاحتياج من هو عليه الى تفريغ الذمة ، ولا سبيل غير الصدقة ، فإن ظفر بالوارث بعد ذلك قضاه دينه إذا لم يرض بالصدقة.

وقال ابن إدريس : يدفعه الى الحاكم إذا لم يعلم له وارثا ، فان قطع بعدم الوارث كان للإمام ، واختاره فخر الدين والمقداد ؛ لأن الإمام وارث من لا وارث له ، وقال العلامة : إذا لم يعلم انتفاء الوارث وجب حفظه ؛ لأنه مال معصوم فيجب حفظه على مالكه ، فإن أيس من وجوده والظفر به أمكن ان يتصدق به.

قال رحمه‌الله : إذا باع الدين بأقل منه ، لم يلزم المديون أن يدفع إلى المشتري أكثر مما بذله على رواية.

أقول : سبق (١٩٢) البحث في هذه فلا فائدة في الإعادة.

واعلم انه لو كان على الدين رهن انتقل إلى المشتري تبعا للدين ، نص عليه فخر الدين في شرح قواعد أبيه في باب الكفالة ، في قوله : ( والأقرب انتقال حق الكفالة إلى الوارث ) ، فلما قرر المسألة : قال : وظهر الفرق بين الكفالة والرهن ؛ لأن الرهن تابع لاستحقاق الدين لتعلق نفس الدين بالرهن ، فالى من انتقل الدين انتقل الرهن بأي وجه كان ، ففي الوارث انتقل لسببين بانتقال نفس الرهن بالإرث ، وبانتقال الدين إلى مشتري الدين بسبب واحد وهو انتقال الدين ، انتهى كلامه رحمه‌الله.

__________________

(١٩٢) ص ١٢١.

١٢٧
١٢٨

في دين المملوك

قال رحمه‌الله : المملوك لا يجوز له أن يتصرف في نفسه بإجارة ولا استدانة ولا في غير ذلك من العقود ، ولا بما في يده ببيع ولا هبة إلا بإذن سيده ، ولو حكم له بملكه ، وكذا لو أذن له المالك ان يشتري لنفسه ، وفيه تردد ، لأنه يملك وطئ الأمة المشاعة مع سقوط التحليل في حقه.

أقول : العبد محجور عليه في أنواع التصرفات بغير اذن سيده عدا الطلاق ، سواء قلنا : انه يملك أو أحلنا ذلك ، قال المصنف : ( وكذا لو اذن له المالك ان يشتري لنفسه ). وهذه من المسائل الغامضة التي لا يدركها غير المحصل لهذا الفن ، فان مراده انه إذا دفع اليه السيد ما لا ليشتري به العبد لنفسه فإنه لا يملك التصرف فيه أيضا ، لفساد الاذن على كلا التقديرين ، اما على تقدير انه لا يملك فقد اذن له بالمحال ، فيكون الاذن باطلا ، وأما على تقدير انه يملك فملكه محصور بما يملكه مولاه من فاضل الضريبة وأرش الجناية ، والسيد لم يملكه الثمن بل أمره ان يشتري بما هو مملوك للسيد لنفسه ، فكان الاذن باطلا ؛ لأنه يجري مجرى تمليكه لمال الغير ، وهو غير جائز.

١٢٩

وتردد المصنف في بطلان التصرف ؛ لأنه لو اذن له ان يشتري امة لنفسه فاشترى على ذلك الاذن ملك وطأها بسبب الاذن ، فلو لم يجز التصرف لما جاز الوطي ، لأن علة جوازه اذنه بالملك المستلزم للتسلط على جميع التصرفات ومن جملتها الوطي ، ولا يكون حل الوطي من جهة التحليل ، لأنه متعذر في حقه ، لأن الأصحاب على قسمين ، منهم من منع جواز تحليل السيد أمته لعبده ، ومنهم من جوز ذلك لكن شرط التعيين ، والأمر ليس كذلك ، لأنه قبل الشراء لم تكن معينة ولا مملوكة ، فلا وجه للتحليل ولم ينو غير الاذن.

قال العلامة : وهل يستبيح العبد البضع؟ الأقرب ذلك لا من حيث الملك ، بل لاستلزامه الاذن.

وصاحب الترددات جعل منشأ التردد من ان العبد لا يملك ، ومن انه يستبيح الوطي ولا سبيل غير الملك ، فيلزم انه يملك ، وهو غلط ، لأن قول المصنف : ( وكذا لو أذن له بالشراء لنفسه ) معطوف على المنع من التصرف وان حكم له بالملك ، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه ، فيكون المراد ما قلناه ، ويدل عليه قول العلامة : ( لا من حيث الملك ، بل لاستلزامه الاذن ).

ومما يدل على ما قلناه استشكال العلامة صحة الشراء لبطلان الاذن المستلزم لتمليك ما لا يصح تمليكه ، والمعتمد صحة الشراء وعدم حل الوطئ ، أما صحة الشراء فلأنه مشتري مأذون فيه ، وجعله للعبد لا يبطله ، لأن جميع ما للعبد فهو لسيده ، وأما عدم حل الوطئ فلانتفاء أسبابه ، لأن سببه العقد أو ملك الرقبة أو المنفعة ، وليس هاهنا شي‌ء منها ، فلا يباح بدون السبب المبيح له.

قال رحمه‌الله : فإن اذن له في الاستدانة ، كان الدين لازما للمولى إن استبقاه أو باعه ، وإن أعتقه ، قيل : يستقر في ذمة العبد ، وقيل : يكون باقيا في ذمة المولى ، وهو أشهر الروايتين.

١٣٠

أقول : كونه باقيا في ذمة المولى مذهب الشيخ في الاستبصار ، وبه قال ابن حمزة واختاره المصنف والعلامة في القواعد ، وأبو العباس في المقتصر ، لأن اذن السيد موجب لتعلق الدين في ذمته فلا ينتقل عنه بالعتق ، وقال في النهاية : يستقر في ذمة العبد إذا أعتقه ، لرواية عجلان (١٩٣) ، عن الصادق عليه‌السلام ، وتابعه ابن البراج ، واختاره العلامة في المختلف.

قال رحمه‌الله : ولو أذن له في التجارة دون الاستدانة ، فاستدان وتلف المال كان لازما لذمة العبد ، وقيل : يستسعى فيه معجلا.

أقول : السعي معجلا مذهب الشيخ في النهاية ، لأن السيد قد غر الناس بالإذن بالتجارة ، ولصحيحة أبي بصير (١٩٤) ، عن الصادق عليه‌السلام. والاستسعاء بعد العتق مذهبه في المبسوط ، واختاره ابن إدريس ، وهو المعتمد ، لأن سعي العبد لمالكه ، فتصرفه فيما لم يأذن فيه غير جائز.

وقال ابن حمزة : إن علم الديان أن المولى لم يأذن في الدين كان في ذمة العبد ، يتبع به بعد العتق ، وان لم يعلم استسعي العبد عاجلا.

وقال العلامة : إن كان الدين لضرورات التجارة لزم المولى ، لأن الاذن في التجارة يستلزم الاذن في الاستدانة لضرورتها ، وان كان لغير ذلك يتبع به بعد العتق ، وهو حسن ، لكن العمل على الصبر الى بعد العتق من غير تفصيل.

فرع : لا يثبت اذن العبد في التجارة بمجرد قوله ، لأصالة عدم الاذن ، وقوله غير حجة ، بل لا بد من البينة على الاذن أو الشياع على ما اختاره العلامة وابنه والشهيد ، لتعذر إقامة البينة عند كل معامل.

قال رحمه‌الله : وإذا باع واشترى ، فأجرة ما يبيع على الآمر ببيعه ، وأجرة

__________________

(١٩٣) الوسائل ، كتاب العتق ، باب ٥٤ من العتق حديث ١.

(١٩٤) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٣١ من الدين والقرض حديث ١.

١٣١

الشراء على الآمر بالشراء ، ولا يتولاهما الواحد.

أقول : السمسار في البيع والشراء فاذا باع كانت أجرته على البائع ، وإذا اشترى كانت أجرته على المشتري ، وقال المصنف هنا : ( ولا يتولاهما الواحد ) ، وفي المختصر : ولا يجمع بينهما لواحد ، وعبارة القواعد كعبارة المصنف هنا ، وهي دالة على المنع من تولي الواحد ، ودلالتي البيع والشراء في سلعة واحدة ، لأن الوكيل يجب عليه مراعاة الأصلح لموكله ، وهو ممتنع هنا ، والا لزم اجتماع الضدين ، ولأنه يكون موجبا قابلا ، وهو ممنوع عند بعضهم.

وأما عبارة المختصر النافع فهي دالة على عدم جواز أخذ الأجرتين لشخص واحد عن سلعة واحدة من البائع والمشتري ، بل يأخذ ممن هو وكيل له وعاقد عنه ، فإن أمره بالبيع والابتياع كانت الأجرة على السابق بالأمر ، وقيل : يأخذ منهما أجرة واحدة ، وكذا ان اقترنا في الأمر أو تعاقبا وكان الغرض مجرد العقد ، وان كان الغرض السمسرة لكل منهما كان للواسطة أجرتان على قدر عمله.

١٣٢

كتاب الرهن

١٣٣
١٣٤

في الرهن

قال رحمه‌الله : هل القبض شرط؟ قيل : لا ، وقيل : نعم ، وهو الأصح.

أقول : باشتراط القبض قال الشيخ في النهاية وابن البراج وأبو الصلاح والمفيد وابن الجنيد ، واختاره المصنف والشهيد ، لقوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١) ولرواية محمد بن قيس ، عن الباقر عليه‌السلام ، « قال : لا رهن الا مقبوضا » (٢).

وبعدم الاشتراط قال الشيخ في الخلاف ، واختاره ابن إدريس والعلامة وابنه وأبو العباس ، وهو المعتمد ، لأصالة عدم الاشتراط ، ولقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) ، وهذا عقد فيجب الوفاء به.

وأجابوا عن الآية بكونها بيانا للإرشاد إلى حفظ المال ، وهو لا يتم الا بالقبض ، وعن الرواية بضعف السند ، وعلى القول باشتراط القبض لا يشترط

__________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) الوسائل ، كتاب الرهن ، باب ٣ في أحكام الرهن ، حديث ١.

(٣) المائدة : ١.

١٣٥

دوامه إجماعا ، بل لو رده الى مالكه بعد القبض انعقد الرهن.

وقبضه كقبض المبيع الا انه يشترط فيه اذن الراهن بخلاف المبيع ، إذ لو قبضه بغير اذن البائع صح القبض ، والفرق بينهما ان القبض شرط في صحة العقد وهو من تمامه هنا ، فيقف على الرضى كالإيجاب والقبول ، بخلاف البيع إذ القبض ليس شرطا في انعقاده فلا يشترط اذن البائع ، لأنه قبض حقه ولا يفتقر إلى رضى البائع في ذلك.

ولا يشترط مقارنة القبض لعقد الرهن ، بل لو طالت المدة بعد العقد ثمَّ قبض انعقد الرهن.

ويتفرع على اشتراط القبض وعدمه فروع كثيرة لا فائدة في ذكرها لظهورها عند ورودها.

قال رحمه‌الله : ولو أقر الراهن بالإقباض ، قضي عليه ، ما لم يعلم كذبه ، ولو رجع لم يقبل رجوعه. ويسمع دعواه لو ادعى المواطاة على الإشهاد ، ويتوجه اليمين على المرتهن ، على الأشبه.

أقول : هذا فرع على اشتراط القبض فلو أقر الراهن قضي عليه ، قال المصنف : ( ما لم يعلم كذبه ) وذلك مثل ان يقول بمكة : رهنت اليوم زيدا داري بالمدينة فاقبضته إياها ، وهذا يعلم كذبه ، لأن خرق العادة يلحق بالمحال ، فيكون محالا ، فان رجع بعد إقراره الممكن ، وقال : أقررت مواطاة بيني وبينه ، لإقامة رسم القبالة ، أو لورود خط وكيلي ، ثمَّ ظهر الخلاف ، أو ظننت ان القول كاف من دون التسليم ، هل يقبل رجوعه بمعنى انه تكون دعوى صحيحة بحيث يطالب بالبينة ومع عدمها يحلف المرتهن ، أو تكون الدعوى باطلة لا يلتفت إليها؟

يحتمل الأول ، لأنه ادعى شيئا ممكنا قد جرت العادة به فيسمع ، ولأنه لو اعترف له المرتهن بما ادعاه ثبتت دعواه ، فمع عدم الاعتراف يطالب بالبينة ، فان

١٣٦

لم يكن حلف المرتهن.

ويحتمل الثاني ، لأنه مكذب ، لإقراره بحق الغير ، فلا يقبل دعواه ولا يكون لها حكم ، والأول هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولا يجوز تسليم المشاع إلا بإذن شريكه ، سواء كان مما ينقل أو لا ، على الأشبه.

أقول : قال الشيخ انما يعتبر اذن الشريك في المنقول كالجوهر والسيف ، والمعتمد اعتبار اذنه مطلقا ، لأن قبض المشاع انما يتم بتسليم الجميع ، فان كان مما ينقل فلا بد من نقل الجميع ، لعدم تمييز حق الشريك قبل القسمة ، وان كان مما لا ينقل فالقبض فيه التخلية ـ وهو ان يسلطه على التصرف بعد رفع يده عنه ـ وهو لا يتم الا بالتسليط على الجميع ، والتسليط على مال الغير بغير اذنه غير جائز ، فلا فرق بين المنقول وغيره.

تنبيه : إذا امتنع الشريك من الاذن في القبض ، فإن رضي المرتهن بكونه في يد أحدهما جاز ، وان امتنع أيضا نصب الحاكم عدلا من جهته يقبض لهما ، وحينئذ يسقط اعتبار رضى الجميع ، وهذا على القول باشتراط القبض أو بكونه مشروطا في العقد.

١٣٧
١٣٨

في شرائط الرهن

قال رحمه‌الله : وفي رهن المدبر تردد ، والوجه أن رهن رقبته إبطال لتدبيره. أما لو صرح برهن خدمته ، مع بقاء التدبير ، قيل : يصح التفاتا إلى الرواية المتضمنة جواز بيع خدمته ، وقيل : لا ، لتعذر بيع المنفعة المنفردة ، وهو أشبه.

أقول : إذا رهن المدبر قبل ابطال تدبيره ، قال الشيخ في الخلاف : فان لم يقصد في الرهن فسخ التدبير بطل الرهن ، ثمَّ قال : ولا دلالة على بطلان التدبر ، ولا دلالة على صحة الرهن ، فينبغي ان يكون باطلا ، ثمَّ قال بعد ذلك : ولو قلنا انه يصح التدبير والرهن ، لأنه لا دلالة على بطلان واحد منهما كان قويا.

وقال في المبسوط ـ بعد ان حكم ببطلان التدبير ـ : ولو قلنا الرهن صحيح والتدبير بحاله كان قويا ، ومثله قال ابن إدريس ، وتردد المصنف من هذه الحيثية ، ثمَّ اختار ان رهن الرقبة إبطال للتدبير ، وهو يدل على اختياره صحة الرهن ، وبه قال العلامة وهو المعتمد ، لأن المدبر مملوك يجوز التصرف فيه بأنواع التصرفات فلا مانع من صحة ورهنه ، والتدبير وصية بجواز الرجوع فيها ،

١٣٩

والرجوع أعم من ان يكون بالقول أو الفعل ، فالرهن يكون رجوعا في التدبير كما هو رجوع بالوصية ، لتعلق حق المرتهن فيه ، أما لو صرح برهن خدمته خاصة فقد ذكر المصنف وجهي الصحة والبطلان ، والبطلان هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو رهن المسلم خمرا ، لم يصح ، ولو كان عند ذمي. ولو رهنها الذمي عند المسلم ، لم يصح أيضا ، ولو وضعها على يد ذمي ، على الأشبه.

أقول : قال الشيخ في المبسوط والخلاف : إذا استقرض الذمي من مسلم مالا ورهن عنده بذلك خمرا على يد ذمي آخر يبيعها عند محل الحق ، فباعها واتي بثمنها جاز له أخذه ولا يجبر عليه ، لعدم الدليل على إجباره ، وله ان يطالب بما لا يكون عوضا عن محرم ، وفي هذا الكلام حكمان :

الأول : جواز ارتهان الخمر للمسلم إذا وضعه على يد ذمي ، والمعتمد عدم جوازه ، لأن يد الوكيل يد الموكل ، فكما لا يجوز له مباشرة لا يجوز توكيلا.

الثاني : عدم إجبار المسلم على قبض ثمن الخمر من الذمي ، والمعتمد وجوب القبض أو إبراء ذمته كما لو دفع من غير ذلك ، لأنه مال مملوك.

قال رحمه‌الله : ولو رهن مالا يصح إقباضه ، كالطير في الهواء ، والسمك في الماء ، لم يصح رهنه. وكذا لو كان ممن يصح إقباضه ولم يسلمه ، وكذا لو رهن عند لكافر عبدا مسلما أو مصحفا ، وقيل : يصح ويضع على يد مسلم ، وهو أولى.

أقول : جواز رهن المصحف والعبد المسلم عند الكافر إذا وضعا على يد مسلم مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره العلامة في القواعد وابنه في شرحه والشهيد في دروسه ، وهو المعتمد ، لأصالة الجواز ، والمانع انما هو ثبوت السبيل وهو منتف هنا ، لأن الرهن ليس تمليكا ولا يوجب استحقاقا ، بل يستلزم أشياء ، وهي غير مانعة :

الأول : ان يباع بالدين مع عدم الافتكاك ، وهو غير مانع ، لأن البائع هو

١٤٠