غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

قال في الإرشاد : وصرف المال في وجوه (٥) الخير ليس بتبذير مع بلوغه في الخير ، والظاهر ان الضمير في ( بلوغه ) عائد إلى الصارف ، اي مع بلوغ ذلك الصارف في الخير المبلغ الذي يصير أهلا أن يصرف جميع أمواله في الخير ، بأن يكون مبالغا في صنوف اعمال الخير من العلم والزهد والتقوى والمواظبة على جميع الطاعات والقيام بالواجبات والمندوبات ، فمن كان على هذه الصفة لا يكون صرفه جميع أمواله في الخير تبذيرا ، لأن همه اشتغاله في أمر آخرته ، وقد اعرض عن هذه الدنيا وكان رغبته فيما عند الله ، فأوجبت هذه الهمة وهذه الرغبة صرف جميع أمواله الى ما هو مطلوبه ومقصوده فلا يكون مبذرا.

أما لو كان تاجرا همه جمع الأموال في الكدح بالبيع والشراء والأسفار وغير ذلك من أصناف التكسبات ، فهذا إذا صرف أمواله في أفعال الخير كان مبذرا ، كما لو ألقاه في البحر ، لأنه صرفه بما ليس همته ولا مقصوده ، ولا هو أهل لذلك ، لأن عادته وهمته ومقصوده في جمع الأموال ، فاذا صرفه جميعه بما ليس بمقصود له ولا ملائم لطبعه ، كان سفيها مبذرا ، وكان ذلك اما لاختلال في عقله أو للرياء والسمعة ، فلا يكون لغرض صحيح ، وكل صرف لا يكون لغرض صحيح فهو تبذير ، ولا أرى لتأويل عبارة الإرشاد بغير هذا الوجه وجها.

ويحتمل ان يكون صرف التاجر وشبهه لجميع ما له في أفعال الخير لا يكون تبذيرا ، لأن المقصود من المال الانتفاع به ، ولا انتفاع أبلغ من صرفه في هذا الباب ، وهو ظاهر القواعد ، فإنه قال فيه : وصرف المال الى الخيرات ليس بتبذير ، وأطلق ، والأول هو المعتمد لما بيناه.

ويحتمل ان صرف الأول ـ وهو المبالغ في أفعال الخير ـ جميع ما له في الخير تبذير ، لقوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ

__________________

(٥) من « ر ٢ » ، وفي بعض النسخ : ( صنوف ).

١٨١

فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) (٦).

وهذا الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عظم مبالغته في أفعال الخير ، فقد نهي عن صرف جميع ماله في الخير ، فكيف من يكون قاصرا عنه في المبالغة في أفعال الخير؟! وقد أومى في التحرير إلى شي‌ء من هذا ، فقال : وصرف أكثر المال في صنوف الخير مع قناعته بالباقي ليس بتبذير ولا سرف ، وهو يدل بمفهومه على ان صرف الجميع يكون تبذيرا ، بل صرف الأكثر مع عدم القناعة بالباقي يكون تبذيرا وسرفا ، وليس بعيدا من الصواب.

والمراد بالقناعة هنا قدر الكفاية ، أي لا ترك الا قدر كفايته ، وليس المراد رضى النفس إذ قد لا ترضى بالجميع.

قال رحمه‌الله : وفي منعه من التبرعات المنجزة الزائدة على الثلث ، خلاف بيننا ، والوجه المنع.

أقول : يأتي البحث في هذا إنشاء الله تعالى في كتاب الوصايا.

__________________

(٦) الإسراء : ٢٩.

١٨٢

في أحكام الحجر

قال رحمه‌الله : لا يثبت حجر المفلس ، إلا بحكم الحاكم. وهل يثبت في السفيه بظهور سفهه؟ فيه تردد ، والوجه أنه لا يثبت إلا بحكم الحاكم ولا يزول إلا بحكمه.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : حجر السفيه لا يثبت الا بحكم الحاكم ولا يزول الا بحكمه ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لأن ثبوت الحجر على خلاف الأصل ، لأن الأصل صحة تصرفات البالغ العاقل ، فالمنع من ذلك يفتقر الى حكم الحاكم ، وإذا ثبت الحجر بحكمه لا يزول الا بحكمه ، لأصالة بقاء الحجر ، وزوال السفه أمر خفي ، فيفتقر الى نظر الحاكم كما يفتقر ثبوت الحجر اليه.

وقيل : يثبت الحجر بظهور السفه من دون حكم الحاكم ، لأن علة الحكم ظهور السفه فلا يحتاج الى الحكم بالحجر ، والا لما كان السفه علة وهو ممنوع ، فكلما وجد السفه وجد الحجر ، وكلما زال الحجر فلا يفتقر في دفعه الى حكم الحاكم مع زوال السفه ، لزوال (٧) السبب الموجب للحجر.

__________________

(٧) في « ر ٢ » بعض النسخ ، و« ن » : بزوال.

١٨٣

قال رحمه‌الله : فإذا حجر عليه ، فبايعه إنسان ، كان البيع باطلا. وإن كان المبيع موجودا استعاده البائع وان تلف وقبضه بإذن صاحبه كان تالفا ، وإن فك حجره. ولو أودعه وديعة ، فأتلفها ، ففيه تردد ، والوجه أنه لا يضمن.

أقول : التردد في ضمان الوديعة مع إتلافها انما هو إذا كان الإيداع بعد الحجر عليه ، أما إذا أودعه قبل الحجر ثمَّ أتلفه بعده كان مضمونا عليه قطعا ، ومنشأ التردد في الأول من اسناد التفريط الى المالك في إيداعه للمحجور عليه ، فلا يضمن المحجور عليه ، فهو كما لو أودع الصبي أو المجنون فأتلف ، ومن عموم ضمان المتلفات ، فإن الصبي والمجنون يضمنان ما أتلفاه من المال في مالهما ان كان لهما مال ، وكذلك السفيه إذا أتلف ما لا ضمنه ، فهنا يضمن أيضا.

والمعتمد عدم الضمان ، لحصول الفرق بين الاتلافين ، لأن المالك هنا قد عرض ماله للإتلاف بسبب التسليط عليه ، بخلاف ما إذا أتلف مالا من غير تسليط مالكه عليه ، والأصل براءة الذمة ، فهو كما لو قبضه المشتري ثمن ما اشتراه منه ثمَّ أتلفه ، فكما لا يضمن هناك لا يضمن هنا ، ولا فرق بين علم المشتري من السفيه والبائع عليه بالحجر وعدمه في عدم ضمان ما قبضه منهما باختيارهما عوضا عما دفعه إليهما ، قاله العلامة في القواعد والتحرير ، وفيه نظر من استحالة تكليف الغافل.

قال رحمه‌الله : إذا حلف انعقد يمينه ، ولو حنث ، كفّر بالصوم ، وفيه تردد.

أقول : لا خلاف في انعقاد يمين السفيه في موضع ينعقد فيه يمين غيره ، ولا في وجوب الكفارة عليه مع الحنث ، ولكن هل ينحصر الكفارة في الصيام دون غيره؟

تردد المصنف في ذلك من انه غير ممنوع من اليمين ولا من التكفير مع الحنث ، فيكون مخيرا في أنواع الكفارة كغيره ، ومن انه محجور عليه في جميع

١٨٤

التصرفات المتعلقة بإخراج المال ، وغير الصيام يتضمن إخراج المال فيكون ممنوعا منه ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ويختبر الصبي قبل بلوغه ، وهل يصح بيعه؟ الأشبه أنه لا يصح.

أقول : معنى الاختبار ان نفوض اليه تصرفات أمثاله يتصرف فيها ، فولد التاجر يفوض اليه البيع والشراء ، فان سلم من المغابنة علم رشده ، وأولاد الأشراف الذين يرتفع أمثالهم عن المعاملات يدفع الى الصبي منهم نفقته مدة بعضها في مصالحه ، فان كان حافظا لها يحاسب وكيله ويستوفي منه ويأمره بشراء ما يليق بحاله وينهاه عما لا يليق عرف رشده.

والمرأة تختبر بما لا يلائم حالها من حرف النساء ، فان كانت من أهل الغزل والنساجة اختبرت بهما ، وان كانت مرتفعة عن الصنائع اختبرت بالولاية على الخدم في خدمة البيت ، فإن أمرتهم ونهتهم في محل الأمر والنهي ، ومكنتهم فيما شأنهم التمكين فيه ، ومنعتهم عما من شأنهم الامتناع عنه ، علم رشدها ، فاذا علم رشد الصبي قبل بلوغه لم يفتقر الى اختبار بعد البلوغ.

إذا عرفت هذا ، فهل تصح العقود التي يختبر فيها قبل بلوغه أم لا؟ يبنى ذلك على ان بيع المميز وشراءه بأمر الولي هل هو صحيح أم لا؟

قال العلامة في التحرير : وقت الاختبار قبل البلوغ مع التمييز ، ومع اذن الولي يصح تصرفه وبيعه ، فقد جزم بصحة البيع ، وذهب المصنف هنا الى عدم صحة البيع ، وهو مذهب العلامة في الإرشاد ، قال فيه : ويختبر الصبي قبل بلوغه ولا يصح بيعه ، جزم بعدم صحة البيع ، وقال العلامة في القواعد : وفي صحة العقود حينئذ إشكال ، ولم ينص على الاختبار ، هل هو قبل البلوغ أو بعده ، بل استشكل في صحة العقود.

١٨٥

واختلف الشارحان في منشأ الاشكال بعد اتفاقهما على كون الاختبار بعد البلوغ ، قال فخر الدين : ان ظهر رشده حالة العقود صحت العقود قطعا ، وان ظهر سفهه أو لم يتبين شي‌ء بعد ، فهل يحكم بصحة العقود أو لا؟ والاشكال في هذين الموضعين.

ومنشؤه ان السفيه يصح تصرفه بإذن الولي ، وهذه العقود مأذون فيها شرعا ، ومن حيث بطلان تصرفات السفيه وهذا سفيه ، هذا كلامه رحمه‌الله. جعل منشأه من صحة بيعه بإذن الولي ، ومن عدم الصحة.

وقال عميد الدين : منشؤه من ان تصرفه موقوف على ثبوت رشده وقبله لم يكن رشده ثابتا ، فلا يكون تصرفه صحيحا ، ومن استبانة رشده عند وقوع العقد ، فكان صحيحا ، هذا تعليله رحمه‌الله.

قلت : الذي أوجب لهما الاختلاف في التعليل فهمهما وقوع الاختبار بعد البلوغ ، فعلل كل واحد منهما على قدر فهمه ، ومن العجب فهمهما كون الاختبار بعد البلوغ ، وقد نص العلامة في إرشاده وتحريره انه قبل البلوغ ، ونص عليه نجم الدين هنا.

وقال الشهيد في شرح الإرشاد : كونه بعد البلوغ مذهب بعض العامة ثمَّ منعه ، قال : ولو كان بعد البلوغ لأدى ذلك الى الحجر على البالغ الرشيد ، وهو خلاف الإجماع.

قلت : قول الشهيد هنا منقوض بعدم ثبوت الرشد الا بعد الاختبار.

فان قيل : إنهما تلامذة المصنف وربما انهما سمعا منه ان مراده في الاشكال إذا كان الاختبار بعد البلوغ.

قلنا : ان عبارة عميد الدين لا تدل على ذلك ، بل على ضده ، لأنه قال : قال صاحب الشرائع : يختبر الصبي قبل بلوغه ، وهل يصح بيعه؟ الأشبه انه لا

١٨٦

يصح ، تردد في صحة العقد الصادر منه قبل بلوغه ، والمصنف لم يفصل هل ذلك قبل البلوغ أو بعده ، والظاهر ان المراد ان بلغ الصبي وشك في رشده فإنه يختبر حينئذ بما يلائمه من التصرفات ، هذا كلامه رحمه‌الله. وهو دال على انه لم يفهم ذلك الا من إطلاق المصنف ، لأنه لو سمعه منه لأسنده إلى سماعة لا إلى الإطلاق ، وكأنه لم يقف على قول المصنف في الإرشاد والتحرير حالة شرحه لهذه المسألة ، والا لكان ذكر مذهبه فيهما كما ذكر مذهب الشرائع.

وعلى القول بان الاختبار بعد (٨) البلوغ يكون تعليل عميد الدين أنسب للحكم وأليق بمذهب المصنف ، وتعليل فخر الدين غير مذهب المصنف ، لأن مذهب المصنف في القواعد وغيرها جواز بيع السفيه بإذن الولي سواء وقع بعد الاذن أو قبله ثمَّ اجازه الولي ، ولم يتردد في ذلك ، فحمل هذا الاشكال عليه يخالف مذهبه رحمه‌الله ، بل حمل الاشكال على كون الاختبار قبل البلوغ كما نص عليه في الإرشاد والتحرير ، وكون منشأه من صحة بيعه إذا كان بإذن الولي كما هو مذهبه في التحرير في هذه المسألة المشروحة ، ومن عدم الصحة كما هو مذهبه في الإرشاد أولى ، لأن حمل إطلاقه في القواعد على ما قيدها في غيرها اولى من حمله على ما ليس بمذكور في مصنف من مصنفات أصحابنا المتداولة بيننا الآن ، وليس هو مذهبنا لهم ، بل لبعض الجمهور ، كما قاله الشهيد في شرح الإرشاد ، وإذا ثبت ان الاختبار قبل البلوغ ثبت ان منشأ الاشكال ما قلناه ، فلا يحتاج الى تعسف.

__________________

(٨) في « ر ٢ » : قبل.

١٨٧
١٨٨

كتاب الضمان

١٨٩
١٩٠

في تعريف الضمان

قال رحمه‌الله : وهو عقد شرّع للتعهد بمال أو نفس. والتعهد قد يكون ممن عليه للمضمون عنه مال ، وقد لا يكون. فهنا ثلاثة أقسام : القسم الأول في ضمان المال ممن ليس عليه للمضمون عنه مال. وهو المسمّى بالضمان بقول مطلق.

أقول : التعهد ان كان بالنفس فهو الكفالة ، وان كان بالمال ممن عليه للمضمون مال مثله فهو الحوالة ، وان كان ممن ليس عليه مال فهو الضمان بقول مطلق ، والى هذا أشار بقوله : ( فهنا ثلاثة أقسام ).

وقوله : ( بقول مطلق ) اي من غير تقييد بقولنا : ممن عليه مثله.

١٩١
١٩٢

في ضمان المال

قال رحمه‌الله : ولا يشترط علمه بالمضمون له ، ولا بالمضمون عنه ، وقيل : يشترط ، والأول أشبه.

أقول : هذا مذهب الشيخ في الخلاف واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لما روي : « ان عليا عليه‌السلام ضمن عن ميت درهمين » (١) ، وروي : « ان أبا قتادة ضمن عن ميت دينارين » (٢) ، وكان ذلك منهما بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يسألهما عن معرفة صاحب الدين ولا عن معرفة الميت ، بل لا بد من تمييز المضمون عنه ، كما قاله المصنف ليصح معه القصد الى الضمان عنه ، والمعرفة التي لا تشترط هي معرفة الاسم والنسب.

وقال في المبسوط : فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : يشترط معرفتهما ، وهو الأظهر ، أما معرفة المضمون له لينظر هل هو سهل المعاملة أولا؟ واما المضمون عنه لينظر هل يستحق ذلك عليه أم لا؟ حذرا من الغرر.

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الضمان ، باب ٣ في أحكام الضمان ، حديث ٢.

(٢) الوسائل ، كتاب الضمان ، باب ٣ في أحكام الضمان ، حديث ٣.

١٩٣

قال رحمه‌الله : ويشترط رضى المضمون له ، ولا عبرة برضا المضمون عنه ، لأن الضمان كالقضاء ، ولو أنكر بعد الضمان لم يبطل على الأصح.

أقول : مذهب الشيخ في الخلاف عدم اشتراط رضاهما معا ، لضمان علي عليه‌السلام وابي قتادة (٣) ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسأل عن رضى المضمون له ، ولا يمكن رضى المضمون عنه ، لأنه ميت.

وذهب في المبسوط إلى رضى المضمون له دون (٤) المضمون عنه ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد.

أما عدم اعتبار رضى المضمون عنه فلما قاله المصنف : من ان الضمان عنه كالقضاء ، فكما لا يعتبر رضاه في القضاء لا يعتبر رضاه في الضمان.

واما اعتبار رضى المضمون له ، لأن ذلك إثبات حق في الذمة بعقد فلا بد من رضى المتعاقدين فيما وقع العقد عليه كسائر الحقوق.

إذا عرفت هذا ، فإذا أنكر المضمون عنه الضمان اي لم يرض به هل يبطل أم لا؟ ذهب الشيخ في النهاية إلى بطلانه ، وبه قال المفيد في المقنعة ، وهو مذهب ابن البراج وابن حمزة ، وهو بناء على اشتراط الرضى بالضمان.

وقال ابن إدريس بعدم البطلان ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو بناء على عدم اشتراط رضى المضمون عنه ، لقوله عليه‌السلام : « الزعيم غارم » (٥) ، وهو عام.

قال رحمه‌الله : مع تحقق الضمان ، ينتقل المال إلى ذمة الضامن ، ويبرأ

__________________

(٣) الوسائل ، كتاب الضمان ، باب ٣ في أحكام الضمان ، حديث ٢ و٣.

(٤) في « ر ١ » : لا.

(٥) المستدرك ، كتاب الضمان ، باب ١ ، حديث ١ ، مع اختلاف في النص ، وهو موجود في سنن الترمذي ، باب ٣٩ ، وسنن ابي داود ، كتاب الإجارة ، باب تضمين العارية.

١٩٤

المضمون عنه ، وتسقط المطالبة عنه ، ولو أبرأ المضمون له المضمون عنه ، لم يبرأ الضامن ، على قول مشهور لنا.

أقول : قال العامة : الضمان هو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه ، فيجوز له حينئذ ( مطالبة أيهما شاء ) (٦). وقال أصحابنا : الضمان ناقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن.

إذا عرفت هذا ظهرت فائدة الخلاف في مسائل :

الأولى : إذا أبرأ المضمون له المضمون عنه ، كما قاله المصنف ، فعلى قول أصحابنا لا يبرأ الضامن ، لأن المال قد انتقل الى ذمته ( وبرأ المضمون عنه بنفس الضمان (٧) ، فقد أبرأه مما ليس في ذمته فكان الإبراء باطلا ، وعلى قول العامة يبرأ ، لعدم الانتقال إلى ذمة الضامن ، ولو ابرأ الضامن برءا عندنا ولا يبرءا عند العامة ، لأنه لم ينتقل المال الى ذمته ، فقد أبرأه مما ليس بلازم له.

الثانية : لو مات الضامن قبل الأداء بقي المال على المضمون عنه عندهم ، وعندنا يتعلق بتركة الضامن ، فان كان له تركة ، والا سقط حق المضمون له ، ولو مات المضمون عنه تخير المضمون له في الرجوع الى تركته ومطالبة الضامن عندهم ، وعندنا يتعين مطالبة الضامن ، وليس للمضمون له الرجوع على تركة المضمون عنه.

الثالثة : لو ضمن بغير سؤاله ثمَّ أدى بسؤاله رجع عليه عندهم ، لأنه أدى دينه بإذنه عندهم ، وعندنا لا يرجع عليه بشي‌ء ، لانتقال المال الى ذمته بنفس الضمان ، فاذن لا يرجع على الآذن بشي‌ء.

الرابعة : لو دفع الضامن الى المضمون له ، فأنكر فشهد المضمون عنه ،

__________________

(٦) في « ن » : مطالبته ان شاء.

(٧) ما بين القوسين لم يرد في « ن ».

١٩٥

فعندهم لا تقبل هذه الشهادة ، لأنها له فلا تقبل شهادته لنفسه ، وعندنا تقبل ما لم تحصل التهمة ، وهي تتصور في مواضع :

الأول : ان يحجر على الضامن للفلس ويكون المضمون عنه أحد غرمائه ، ويكون الضمان تبرعا بغير اذن المضمون ، فهنا تتحقق التهمة ، لأن شهادته بالأداء تمنع المضمون له من مخاصمة الغرماء وهو أحدهم.

الثاني : ان يدفع عن الحق عوضا أقل من قيمته ، فهنا تتحقق التهمة ، لأنه يرجع بقيمة المدفوع خاصة.

الثالث : ان يكون الضامن معسرا والمضمون له غير عالم بحاله ، فهنا تتحقق التهمة أيضا ، لأن شهادته بالأداء تمنع رجوع المضمون له عليه.

قال رحمه‌الله : والضمان المؤجل جائز إجماعا ، وفي الحالّ تردد ، أظهره الجواز.

أقول : قال الشيخ في النهاية : لا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل معلوم ، وهو قول المفيد في المقنعة ، وابن البراج في الكامل ومذهب ابن حمزة ، لأن الضمان إرفاق ، فيشترط فيه الأجل إذ الحالّ لا إرفاق فيه ، لأن الضمان الحالّ يسوغ تعجيل المطالبة بالحق المضمون فيتسلّط الضامن على مطالبة المضمون عنه ، فتنتفي فائدة الضمان وهي الإرفاق.

وقال الشيخ في المبسوط وابن البراج في المهذب بجواز الحالّ ، واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة وأبو العباس ، وهو المعتمد ، لأصالة الجواز ، وعموم قوله عليه‌السلام : « الزعيم غارم » (٨) ، وعموم ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (٩).

وأجيب عن حجة المانعين بعدم انحصار الفائدة في التأجيل ، بل في تفاوت الغرماء بحسن القضاء والتقاضي.

__________________

(٨) تقدم ص ١٩٤.

(٩) يوسف : ٧٢.

١٩٦

تنبيه : مراد الشيخ في النهاية ومن تابعه بالمنع من الضمان الحال الإطلاق ، أي سواء كان الدين حالا أو مؤجلا ، وليس مرادهم تخصيص المنع بما إذا كان الدين مؤجلا كما توهمه المقداد في شرح المختصر ، لأنه قسم الدين الى حال ومؤجل ، وقسم الضمان الى حال ومؤجل ، ثمَّ قال : الثاني ان يكون مؤجلا ويضمن حالا ، وهذا منعه الشيخ في النهاية ، والمفيد في المقنعة ، لأن الضمان وضع للإرفاق ، هذا كلامه رحمه‌الله.

حصر منع الشيخ والمفيد في النهاية والمقنعة فيما إذا كان الدين مؤجلا وهو سهو القلم ، لأن المراد هنا الإطلاق واختصاص المنع بالمؤجل وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، نقله العلامة عنه في المختلف ، وفي هذه المسألة مذهبه فيه الجواز ضد مذهبه في النهاية ، وفي النهاية اشترط تأجيل الضمان مطلقا ، وفي المبسوط اشترط تأجيله إذا كان الدين مؤجلا ، وجوز حلوله إذا كان الدين حالا وتابعه المصنف هنا على مذهبه فيه ، واختار في هذه جواز الحلول ، واختار فيما إذا كان الدين مؤجلا اشتراط التأجيل ، ذكر ذلك في آخر باب الضمان في المسألة التي تلي الحوالة ، فقد ظهر فساد ما توهمه المقداد.

ومما يدل على فساده قول العلامة في التحرير ، قال : وللشيخ قول بالمنع من الضمان الحالّ مطلقا ، وقول آخر بالمنع من الضمان المؤجل حالا. أشار بالإطلاق إلى قوله في النهاية الذي توهمه المقداد انه مختص بالمؤجل ، وأشار بالمختص بالمؤجل إلى قوله في المبسوط.

وانما نبهنا على ذلك ليحصل العلم بأن هذه المسألة (١٠) والتي بعدها مسألتان متغايرتان ، وان مذهب المصنف غير متناقض ، وعلى ما قاله المقداد تكون مسألة

__________________

(١٠) في « ن » بزيادة : واحدة.

١٩٧

واحدة ، فيلزم حينئذ التكرار (١١) لغير فائدة ، وحصول التناقض في قوليه ، لأنه اختار هنا جواز الضمان حالا واختار في التي بعدها عدم جوازه حالا ، وهو تناقض على القول بأنهما مسألة واحدة ، فقصدنا لهذا لتنبيه تحقيق ذلك ، ونسأل من الله المعونة والتوفيق ، ( والهداية إلى التحقيق والعصمة من الزلل الموجب للخلل في القول والعمل ) (١٢).

فروع :

الأول : إذا اشترط في عقد الضمان الأداء من مال بعينه صح الضمان والشرط ، لتفاوت الأغراض في أعيان الأموال ، فلو تلف المال قبل الأداء من غير تفريط من الضامن ، هل يبطل الضمان ويرجع على الأصل أو لا يبطل ويلزم الضامن بالأداء من غيره؟ يحتمل البطلان ، لفوات الشرط وهو الأداء من ذلك المال المتعين ، وقد تلف فيبطل الضمان ، ويحتمل عدم البطلان ، لأن الضمان ناقل للمال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ، واشتراط الضمان من مال بعينه لا ينافي ثبوته في ذمته ، وإذا كان ثابتا في الذمة لم يبطل بتلف المال المشترط أداء الدين منه.

والتحقيق : انه إذا اشترط الضمان من مال معين (١٣) ، هل يتعلق الدين بذلك المال تعلق الدين بالرهن أو تعلق الأرش برقبة الجاني؟ فعلى الأول لا يبطل الضمان كما لو تلف الرهن ، وعلى الثاني يبطل كما لو تلف العبد الجاني ، فإذا بطل رد على الأصل ، والأول مذهب فخر الدين ، وهو المعتمد.

الثاني : لو لم يف المال الذي اشترط أداء الدين منه بقيمة الدين ، هل يرجع

__________________

(١١) في « ن » : بغير.

(١٢) ليس في « ن » و« ر ٢ ».

(١٣) في « ن » : بعينه.

١٩٨

بالباقي على الضامن أو الأصيل؟ يبنى على الأصل الذي ذكرناه ، فان قلنا : انه يتعلق به تعلق الأرش برقبة الجاني لم يرجع على الضامن ، ويرجع على الأصيل ، لأن المال لم ينتقل إلى ذمة الضامن ، بل يتعلق بعين المال فلا يلزمه أكثر من قيمته ، كما لا يلزم السيد أكثر من قيمة الجاني.

وان قلنا : تعلق الدين بالرهن ، رجع على الضامن ، لأن المال قد انتقل الى ذمته بنفس الضمان ، فاذا قصر ما اشترط الأداء منه عن الدين تمم من غيره ، ورجع على المضمون عنه ان كان الضمان بسؤاله.

الثالث : لو بيع متعلق الضمان وهو المال الذي اشترط الأداء منه بأقل من قيمته لعدم الراغب احتمل الرجوع بتمام القيمة ، لأنه يرجع بما غرم ، ويحتمل الرجوع بالثمن خاصة ، لأنه القدر الذي قضاه ، قاله في القواعد.

وفي هذا الكلام دلالة على ان المديون يجب عليه بيع ما له بالدين وان كان بدون ثمن المثل ، والا لما احتمل الرجوع بتمام القيمة ، لأنه لو باع بأقل من ثمن المثل مع عدم وجوب البيع عليه كان متبرعا ببيع غير واجب ، والمتبرع لا يرجع بما يتبرع به قطعا.

وقوله : ( ويحتمل الرجوع بالثمن خاصة ) ، ليس لأن البيع غير واجب ، بل لما قاله ، لأنه القدر الذي قضاه ، والضامن يرجع بما قضاه لا بما ضمنه ، والمعتمد الأول ، لأن النقص حصل بسبب الضمان المأذون فيه ، إذ لو لا ذلك لما وجب عليه بيع ما له بأقل من ثمن المثل.

تنبيه : قال في القواعد : ولو ضمن كل من المديونين ما على صاحبه تعاكست الأصالة والفرعية فيهما إن أجازهما ويتساقطان ، فان شرط الضمان من مال بعينه وحجر عليه للفلس قبل الأداء ، رجع على الموسر بما أدى ، ويضرب الموسر مع الغرماء.

١٩٩

وهذه العبارة لا تخلو من إبهام وغموض ، وسبب الإبهام قوله : ( حجر عليه للفلس قبل الأداء ) ، ثمَّ قال : ( رجع على الموسر بما أدّى ويضرب الموسر مع الغرماء ) ، فاذا كان الحجر قبل الأداء فكيف يرجع بما أدّى وهو لم يؤد شيئا؟! وبيان ذلك أن نقول إذا شرط الضمان من مال بعينه ثمَّ حجر على ذلك الضامن للفلس اختص المضمون له بذلك المال دون سائر الغرماء ، لأن الضمان حينئذ إما ان يتعلق بذلك المال تعلق الدين بالرهن ، أو تعلق الأرش برقبة الجاني ، وكلاهما يوجب التخصيص ، فاذا اختص المضمون له بهذه العين رجع الضامن بقيمتها على المضمون عنه وتعلقت بها حقوق الغرماء ، ثمَّ يضرب الموسر بما أداه عن المفلس مع الغرماء ، ولا يجوز له ان يقاصصه للمفلس بقيمة تلك العين التي دفعها عنه ، لعدم تشخيص ما يستحقه في ذمة المفلس ، فهو شريك للغرماء في قيمة العين وغيرها ، فليس لهما التساقط وان اتفقا عليه لتعلق حقوق الغرماء بما يستحقه في ذمة الموسر.

قال رحمه‌الله : وكمال السبق والرماية ، على تردد.

أقول : اعلم ان الحقوق على أربعة أقسام :

الأول : حق لازم مستقر كالثمن بعد قبض المبيع ، ولزوم العقد والأجرة بعد العمل ، وهذا لا شك في جواز ضمانه.

الثاني : حق لازم ، ولكن غير مستقر كالثمن بعد قبضه وقبل انقضاء مدة الخيار كالمهر قبل الدخول ، وكالأجرة قبل العمل ، وهذا يجوز ضمانه أيضا وان جاز أن تسقط ، إذ جواز السقوط غير مانع من صحة الضمان ، وإلا لكان مانعا في المستقر أيضا ، لجواز سقوطه بالإبراء أو الرد بالعيب وغير ذلك.

الثالث : حق غير لازم ، ولا يئول الى اللزوم عند بعضهم ، كمال الكتابة ، وهذا لا يجوز ضمانه عند من قال انه غير لازم للعبد ، ويجوز ضمانه عند من قال

٢٠٠