الرسائل الفقهيّة - ج ٢

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٢
الجزء ١ الجزء ٢

أيضا أن المقام كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لاصقا بالبيت ، وان عمر بن الخطاب هو الذي أزاله عن موضعه في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعاده الى موضعه في الجاهلية ، وهو الموضع الذي هو فيه الان ، فاذا كان الامر على هذه الصورة كيف تصح الصلاة؟ مع أن الامر بالصلاة قد عين فيه مقام ابراهيم : المشهور عند أصحابنا أن موضع المقام حيث هو فيه الان ، ولا عبرة بمن خالف ذلك (١).

أقول : هذا الجواب مما لا يعجبني ، فان تغيير مكان المقام على ما كان عليه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نقله جماعة من أصحابنا ، وابن الجريري أيضا من العامة ، وابن الجوزي في كتاب اثارة عزم الساكن الى أشرف الاماكن ، ونقله الازرقي في تاريخ مكة ، وغيرهما من مصنفي العامة ، ودل عليه كثير من الاخبار.

كرواية محمد بن مسلم ، قال : سألته عن حد الطواف بالبيت الذي من خرج منه لم يكن طائفا بالبيت ، قال : كان الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطوفون بالبيت والمقام ، وأنتم اليوم تطوفون بين المقام وبين البيت ، فكان الحد من موضع المقام اليوم ، فمن جازه فليس بطائف والحد قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت ومن نواحي البيت كلها ، فمن طاف فتباعد من نواحيه أكثر من مقدار ذلك ، كان طائفا بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد ، لانه طاف في غير حد ولا طواف له (٢).

فان فيها اشارة الى أن موضع المقام الذي هو فيه الان غير موضعه الذي كان فيه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانه كان في زمنه أقرب الى البيت من موضعه الذي هو فيه اليوم ، والا لم يكن الحد اليوم وفي عهده واحدا ، ولقوله « من موضع المقام اليوم ».

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنائية ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

٢٤١

ويدل عليه ما في الفقيه ، قال زرارة لابي جعفر عليه‌السلام : قد أدركت الحسين عليه‌السلام؟ قال : نعم أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام يخرج الخارج فيقول : قد ذهب به السيل ، ويدخل الداخل فيقول : هو مكانه.

قال فقال : يا فلان ما يصنع هؤلاء؟ فقلت : أصلحك الله يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام ، قال : ان الله عزوجل قد جعله علما لم يكن ليذهب به ، فاستقروا.

وكان موضع المقام الذي وضعه ابراهيم عليه‌السلام عند جدار البيت ، فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية الى المكان الذي هو فيه اليوم ، فلما فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة رده الى الموضع الذي وضعه ابراهيم عليه‌السلام ، فلم يزل هناك الى أن ولي عمر فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال له رجل : أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي ، فقال : ايتني به ، فأتاه فقاسه ، ثم رده الى ذلك المكان (١).

فالصواب في الجواب أن يقال : مقام ابراهيم عبارة عن الحجر الذي قام عليه وغسل ، فانغمست قدماه وبقي أثره فيه ، فحيثما كان هذا الحجر من المسجد يصدق عليه أنه مقام ابراهيم ، فاذا صلى عنده يصدق عليه أنه اتخذ من مقام ابراهيم مصلى ، فيكون ممتثلا فيخرج عن عهدة التكليف.

وبالجملة تقرير الائمة عليهم‌السلام على الصلاة خلفه في هذا المكان من دون أن يغيره أمير المؤمنين عليه‌السلام في زمن خلافته وبسط يده ، أو يبين باقي الائمة عليهم‌السلام أن الصلاة في موضعه الاول يدل على أن موضع صلاة الطواف هو خلف المقام وأحد جانبيه أينما وقع في المسجد ، كما يفهم من ظاهر قوله تعالى « وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

٢٤٢

إِبْراهِيمَ مُصَلًّى » (١).

ويدل عليه أيضا صحيحة ابراهيم بن أبي محمود ، قال قلت للرضا عليه‌السلام : اصلي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام حيث هو الساعة ، أو حيث كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : حيث هو الساعة (٢).

وهذه مع صحتها وصراحتها فيما قلناه صريحة في تغيير مكان المقام على ما كان عليه في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومثلها في الدلالة صحيحة زرارة السابقة ، فان طريق الصدوق في الفقيه اليه صحيح ، كما يظهر من مشيخته ، وكأنا قد نقلناه في بعض المسائل السالفة.

فانكار العلامة قدس‌سره أمثال هذه الصحاح من الاخبار ، وعدم اعتباره لها وذهابه الى المشهور ، وقد قيل : رب مشهور لا أصل له ، مما لا وجه له ولا عبرة به وكأنه كان ذاهلا عنها وقت الجواب ، والا فلا باعث له عليه مع ظهور ما سبق من الجواب الصواب المستفاد من السنة والكتاب.

ثم لا يذهب عليك أن هذه الصحاح من الاخبار مع ما نقلناه من الخاصة والعامة صريحة في عدم ايمان الثاني بالله وبرسوله ، ومعاندته لهما ، وبقائه على ما كان عليه من الحمية الجاهلية ، وميله اليهم ودلالته عليهم ، فعليه وعليهم ما عليه وعليهم.

١٥ ـ مسألة

[ حكم حج المخالف لو استبصر ]

قال الفاضل الاردبيلي قدس‌سره في شرح الارشاد بعد نقله صحيحة بريد بن

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٥.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ١٣٧ ، ح ١٢٥.

٢٤٣

معاوية العجلي ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل حج وهو لا يعرف هذا الامر ثم من الله عليه بمعرفته والدينونة به عليه حجة الاسلام أو قد قضى فريضة ، فقال : قد قضى فريضة ، ولو حج لكان أحب الي.

قال : وسألته عن رجل وهو في بعض هذه الاصناف من أهل القبلة ناصب متدين ثم من الله عليه فعرف هذا الامر يقضي حجة الاسلام؟ فقال : يقضي أحب الي.

وقال : كل عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته ثم من الله عليه وعرفه الولاية ، فانه يؤجر عليه الا الزكاة فانه يعيدها ، لانه وضعها في غير مواضعها لانها لاهل الولاية. وأما الصلاة والحج والصيام ، فليس عليه قضاء (١).

وحسنة عمر بن اذينة ، قال : كتبت الى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن رجل حج ولا يدري ولا يعرف هذا الامر ، ثم من الله عليه بمعرفته والدينونة به ، أعليه حجة الاسلام أو قضى فريضة الله؟ قال : قد قضى فريضة الله والحج أحب الي.

وعن رجل وهو في بعض هذه الاصناف من أهل القبلة ناصب متدين ، ثم من الله عليه فعرف هذا الامر ، أيقضي عنه حجة الاسلام أو عليه أن يحج من قابل؟ قال : يحج أحب الي (٢).

وحسنة زرارة وبكير والفضيل ومحمد بن مسلم وبريد العجلي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما قالا : في الرجل يكون في بعض هذه الاهواء الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ، ثم يتوب ويعرف هذا الامر ويحسن رأيه ، أيعيد كل صلاة صلاها أو صوم او زكاة أو حج ، أو ليس عليه اعادة شي‌ء من ذلك؟ قال : ليس عليه اعادة شي‌ء من ذلك غير الزكاة ، فانها لا بد أن يؤديها ، لانه وضعها في

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٩ ، ح ٢٣.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ١٠ ، ح ٢٥.

٢٤٤

غير موضعها ، وانما موضعها أهل الولاية (١).

انها تدل على اسلام هذه الجماعة ، والا فلا معنى لصحة عباداتهم وخروجهم عن عهدة فريضة الله تعالى والاجر عليها ، وكذا على أنهم غير مخلدين في النار فتأمل ، وهو الظاهر (٢).

أقول : ان أريد أنها تدل على عدم خلودهم فيها بعد ما ماتوا على معرفتهم هذا الامر ، فمسلم ولا نزاع فيه. وان اريد أنها تدل عليه وهم قد ماتوا على ضلالتهم ، فغير مسلم دلالتها عليه.

فان قلت : انها دلت على اسلامهم وصحة عباداتهم ، فهم يستحقون عليها الثواب ، فاما أن يقدم على العقاب ، وهو مع استلزامه المطلوب وهو عدم الخلود لانه كما يتصور من الانتهاء كذلك يتصور من الابتداء ، باطل بالاتفاق ، أو بعكس وهو عين المدعى.

قلت : صحة عباداتهم واستحقاقهم عليها الثواب المستلزم لعدم الخلود موقوف على الاستبصار والولاية ، فان استبصروا صحت وإلا ردت ، وكلامه رحمه‌الله في أنها تدل على عدم خلودهم فيها وهم قد ماتوا على ضلالتهم ، وهذا غير مسلم ، وهو محل النزاع.

فان أصحابنا اختلفوا في من خالفونا في الامامة ، فمنهم من حكم بكفرهم ، لدفعهم ما علم من الدين ضرورة ، وهو النص الجلي على امامة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام مع تواتره. وقال الاخرون منهم : انهم فسقة. ثم اختلفوا على أقوال :

الاول : أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة بعد ايمانهم.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ٥٤ ، ح ١٤.

(٢) مجمع الفائدة ٦ / ٩٩ ـ ١٠١.

٢٤٥

الثاني : أنهم يخرجون منها اليها.

الثالث : أنهم يخرجون منها ، لعدم كفرهم الموجب للخلود ، ولا يدخلون الجنة لعدم ايمانهم المقتضي لاستحقاقهم الثواب ، والمسألة لا تخلو عن اشكال. وظاهر الاخبار الواردة في الطرفين يؤيد الاول ، فمنها ما صح واستفاض عند الفريقين من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية.

ومنها : ما في الكافي عن ابن أبي يعفور عن الصادق عليه‌السلام قال : سمعته يقول ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، من ادعى امامة من الله ليست له ، ومن جحد اماما من الله ، ومن زعم أن لهما في الاسلام نصيبا (١) وهذا صريح في كفرهم ، ولكنه قابل للتأويل.

ومنها : ما رواه الصدوق بأسانيد متعددة عن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليهما‌السلام أنه قال لنا : أي البقاع أفضل؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : أما أن أفضل البقاع بين الركن والمقام ، ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح في قومه ألف سنة الا خمسين عاما يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ، ثم لقى الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا (٢).

ومنها : ما ورد في طريق العامة عن أبي امامة الباهلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الله تعالى خلق الانبياء من أشجار شتى ، وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة ، فأنا أصلها وعلي فرعها وفاطمة لقاحها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا أوراقها ، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجى ومن زاغ هوى.

ولو أن عبدا عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ، ثم ألف عام ، ثم ألف عام حتى يصير كالشن البالي ، ثم لم يدرك محبتنا ، أكبه الله على منخريه في النار

__________________

(١) اصول الكافى ١ / ٣٧٣ ، ح ٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٢٤٥.

٢٤٦

ثم تلا « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » (١).

الى غير ذلك من الاخبار ، ونحن قد ذكرنا طرفا منها في أوائل رسالتنا الموسومة بجامع الشتات ، فليطلب من هناك.

١٦ ـ مسألة

[ لو أفتى بالادماء فعلى المفتى شاة ]

قال مولانا أحمد الاردبيلي رحمه‌الله في شرح الارشاد ، بعد أن نقل عن مصنفه أنه قال في المتن : لو أفتاه غيره في تقليم الظفر فقلم ظفره فأدماه ، وجب على المفتي شاة ، ولا يجب على المقلم شي‌ء ، للاصل.

ولرواية اسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل نسي أن يقلم أظفاره ، قال فقال : يدعها ، قال قلت : انها طوال ، قال : وان كانت ، قلت : فان رجلا أفتاه أن يقلمها وأن يغتسل ويعيد احرامه ففعل ، قال : عليه دم (٢).

والسند في التهذيب غير صحيح لاسحاق وعبد الله الكناني المجهول ، وان كانت صحيحة في الفقيه والكافي الى اسحاق ، وهو لا بأس به ، وانها ليست بمشتملة على الادماء ، وهو غير ظاهرة في الوجوب على المفتي.

ولرواية اسحاق الصيرفي ، قال قلت لابي ابراهيم عليه‌السلام : ان رجلا أحرم فقلم أظفاره وكانت اصبع له عليلة ، فترك ظفرها لم يقصه ، فافتاه رجل بعد ما أحرم فقصه فأدماه ، قال : على الذي أفتاه شاة (٣).

__________________

(١) كفاية الطالب ص ١٧٨.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٣١٤ ، ح ٨٠.

(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٣٣٣ ، ح ٥٩.

٢٤٧

وهذه صريحة في الوجوب على المفتى مطلقا ، سواء كان من أهل الافتاء أم لا ، محرما أو محلا بشرط الادماء ، وظاهرة في العدم على المقلم ، ولكن سندها غير واضح ، فتأمل (١).

أقول : لا يخفى عليك بعد ما سبق في المسألة السابقة أن اسحاق الراوي في الروايتين واحد ، وهو اسحاق بن عمار بن حيان الكوفي الصيرفي الامامي الثقة بقرينة المروي عنه ، وهو أبو ابراهيم في الثانية ، وأبو الحسن في الاولى ، وهما كنيتان للكاظم عليه‌السلام ، واسحاق هذا من أصحابه ، فسندهما في الفقيه والكافي في الوضوح وعدمه سيان.

فالقول بعدم وضوح سند الثانية دون الاولى تحكم بحت ، وخاصة على القول بالاتحاد والاشتراك ، كما عليه جماعة منهم الفاضل الشارح على ما سبق.

ثم ان عبد الله الكناني المذكور في كتب الرجال منحصر في عبد الله بن سعيد ابن حيان بن أبجر الكناني أبو عمرو الطبيب ، وهو شيخ من أصحابنا ثقة ، كما صرح به النجاشي في كتابه ، قال : وله كتاب الديات ، رواه عن آبائه وعرضه على الرضا عليه‌السلام والكتاب يعرف بين أصحابنا بكتاب عبد الله بن أبجر ثم أسنده باسناده اليه (٢) فالسند في التهذيب أيضا صحيح.

ثم لا بعد كثيرا في ارجاع ضمير عليه في الرواية الاولى الى المفتي لا الى المقلم ، وتقييد وجوب الدم عليه بالادماء لان الاولى مجملة مطلقة ، والثانية مفصلة مقيدة ، والمجمل والمطلق يحكم عليهما المفصل والمقيد ، كما هو المقرر عندهم ، فيكون مفاد هاتين الروايتين الصحيحتين المتحدين في الراوي والمروي عنه واحدا ، حتى في اطلاق المفتي الشامل للافراد الاربعة ، فتأمل فيه.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٧ / ٣٧ ـ ٣٨.

(٢) رجال النجاشى ص ٢١٧.

٢٤٨

١٧ ـ مسألة

[ القصر والاتمام ]

قال صاحب المدارك بعد نقله صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يقصر في ضيعته؟ فقال : لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام ، الا أن يكون له فيها منزل يستوطنه ، فقلت : ما الاستيطان؟ فقال : أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر ، فاذا كان كذلك يتم فيها متى دخلها (١).

وبهذه الرواية احتج الاصحاب على أنه يعتبر في الملك أن يكون قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا ، وهي غير دالة على ما ذكروه ، بل المتبادر منها اقامة ستة أشهر في كل سنة.

وبهذا المعنى صرح ابن بابويه في من لا يحضره الفقيه ، فقال بعد أن أورد قوله عليه‌السلام في صحيحة اسماعيل بن الفضل اذا نزلت قراك وأرضك فأتم الصلاة قال مصنف هذا الكتاب : يعنى بذلك اذا أراد المقام في قراه وارضه عشرة أيام ومتى لم يرد المقام بها عشرة أيام قصر ، الا أن يكون له بها منزل يكون فيه في السنة ستة أشهر ، فاذا كان كذلك أتم متى دخلها ، وتصديق ذلك ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع وأورد الرواية المتقدمة (٢) (٣).

أقول : فهم اشتراط اتمام المسافر الصوم والصلاة في المنزل باقامة فيه ستة

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٢١٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٨٨.

(٣) مدارك الاحكام ٤ / ٤٤٤.

٢٤٩

أشهر في كل سنة من هذه الرواية مما يحتاج الى الاستعانة بضرب من الرمل.

والظاهر أن المضارع هنا واقع موقع الماضي ، فانه قد يقع كذلك كما صرحوا به ، ويقتضيه أيضا احتجاج الاصحاب ، اذ لو حمل على معنى الاستقبال أو الحال ، لزم منه أن يكون اتمامه في المنزل بعد وصوله اليه موقوفا على اقامته فيه ستة أشهر استقبالية ، وهو كما ترى.

ويؤيد ما ذكرناه صحيحة سعد بن أبي خلف ، قال : سأل علي بن يقطين أبا الحسن عليه‌السلام عن الدار يكون للرجل أو الضيعة فيمر بها ، قال : اذا كان مما قد سكنه أتم الصلاة فيه ، وان كان مما لم يسكنه فليقصر (١).

فاكتفى في اتمامه الصلاة فيه سكونه فيه وقتا ما قبل أن يمر بها ويصل اليها ، فدل على أن كل من سكن دارا له أو ضيعة ستة أشهر وقتا ما ، فاذا وصل في سفره اليه وجب عليه فيه الاتمام من غير اعتبار أمر آخر ، كسكون كل سنة ودوام الاستيطان ونحوه ، فمن ادعاه فعليه البيان.

ثم أنت خبير بأن ما ذكره انما يتصور في من له منزلان يقيم في كل منهما في كل سنة ستة أشهر ، فاذا سافر من أحدهما ووصل في سفره الى الاخر أتم فيه.

وأما من له منازل متعددة ، أو منزل أقام في كل ستة أشهر فصاعدا ، ثم سافر منها سنة أو أكثر ، فاذا رجع من سفره هذا ووصل الى أحدها لزم مما ذكره أن يجب عليه أن يقصر فيه ، اذ لا يصدق عليه أنه أقام فيه في كل سنة ستة أشهر.

وهذا ينافيه قوله عليه‌السلام في صحيحة اسماعيل بن الفضل اذا نزلت قراك وأرضك فأتم الصلاة ، فاذا كنت في غير أرضك فقصر. فان إقامة ستة أشهر في كل

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

٢٥٠

قرية من تلك القرى في كل سنة مما لا يتصور.

وأما تأويله بأن المراد بذلك اذا أراد المقام في قراه عشرة أيام ، فبعيد غايته اذ لا يتصور حينئذ لقوله « اذا نزلت قراك » فائدة ، بل يصير لغوا ، فان على مريد اقامة العشرة أن يتم صلاته في موضع الاقامة ، سواء كان من قراه وأرضه أم لا.

وبالجملة للسفر قواطع ، منها : الاقامة في أثنائه ، ومنها : الوصول الى قرية له فيها ملك استوطنه ستة أشهر ، فأخذ أحدهما في الاخر يجعلهما قاطعا واحدا ، فتأمل.

واعلم أن المستفاد من الاخبار هو أن الوطن الذي يتم فيه هو كل موضع له فيه ملك قد استوطنه ستة أشهر من غير فرق فيه بين المنزل وغيره ، فيكون المنزل والقرية والضيعة ونحوها من أفراد الملك المطلق الشامل لها ولغيرها حتى الشجرة والنخلة الواحدة.

فذكر المنزل في بعض الاخبار ودلالته على أنه يتم في قرية أو ضيعة يكون له فيها منزل ، لا ينافي ما دل على أنه يتم فيها ، ولو لم يكن له فيها الا نخلة واحدة لان ذكر الشي‌ء لا ينفي ما عداه ، وليس في الاخبار ما يدل على قصر الحكم على المنزل.

وأما قوله عليه‌السلام بعد أن سئل عن الرجل يسافر فيمر بالمنزل في الطريق أيتم الصلاة أم يقصر؟ : يقصر انما هو المنزل الذي يوطنه. فالقصر فيه بالاضافة الى الاستيطان ، يعني لا يكفي في الاتمام مطلق المنزل ، بل لا بد وأن يكون مما قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا ، فالمضارع هنا أيضا واقع موقع الماضي ، بقرينة ما سبق من قوله عليه‌السلام « اذا كان مما قد سكنه أتم فيه الصلاة ».

وعلى هذا فدلالته على اعتبار دوام الاستيطان ، وكونه مما يناط به حكم الاتمام ممنوعة ، بل يبقى حكمه وان قطع استيطانه ، فهذا توجيه يمكن أن يجمع به بين

٢٥١

الاخبار من غير أن يطرح بعضها ، فهو الاولى بالاعتبار ، لان الجمع بينهما مهما أمكن أولى من اطراح بعضها رأسا ، ولهذا عمم العلامة ومن تأخر عنه في الملك ولم يفرقوا فيه بين المنزل وغيره.

واستدلوا عليه بموثقة عمار بن موسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يخرج في سفر ، فيمر في قرية له أو دار فينزل فيها ، قال : يتم الصلاة ، ولو لم يكن له الا نخلة واحدة ، ولا يقصر وليصم اذا حضره الصوم (١).

نعم الاحوط في كل بلد له فيه منزل قطع استيطانه أو لا منزل له فيه ، وان كان له فيه ملك أن ينوي الاقامة عشرة ليخرج بها عن الخلاف ، واذا لم يمكنه نية الاقامة لعلمه بخروجه غدا أو بعد غد ، فالاحوط أن يجمع فيه بين القصر والاتمام في الصلاة. وأما الصوم فيصوم فيه اذا حضره ، ثم يقضيه احتياطا.

فتأمل فيه وفي أصل المسألة ، فانها مما استشكله بعض الاصحاب ، ومن الله الهداية الى الصراط السوي والطريق الصواب.

١٨ ـ مسألة

[ يحول الامام من صلى على يساره الى يمينه ]

قال في المدارك بعد أن نقل ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسين بن يسار أنه سمع من سأل الرضا عليه‌السلام عن رجل صلى الى جانب رجل ، فقام عن يساره وهو لا يعلم كيف يصنع ، ثم علم وهو في الصلاة ، قال : يحوله عن يمينه (٢) وقد

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٢١١.

(٢) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٦.

٢٥٢

اشتمل هذا الحديث على فوائد تظهر بالتأمل (١) انتهى.

أقول : الاولى من تلك الفوائد استحباب وقوف المأموم عن يمين الامام اذا كان واحدا.

الثانية : عدم بطلان صلاة ذلك الواحد بوقوفه على يسار الامام لان المفروض أنه صلى طائفة من الصلاة ، ثم حوله الامام عليه‌السلام عن يمينه ، كما يدل عليه قوله « ثم علم وهو في الصلاة » فيدل على بطلان قول ابن الجنيد بالبطلان.

الثالثة : استحباب أن يحوله الامام من عن يساره الى يمينه اذا علم في أثناء الصلاة أنه اقتدى به وهو على يساره.

الرابعة : أن أمثال هذه الافعال والحركات لا تضر بالصلاة ، ولا تسمى بالفعل الكثير.

الخامسة : عدم اعتبار نية الامام الامامة في صحة الصلاة وتحقق الجماعة ، لانه كان قد دخل في الصلاة بنية الانفراد ، ثم علم في أثنائها وقد ذهبت طائفة من الصلاة أنه امام وان الصلاة صلاة جماعة.

السادسة : تحقق الجماعة باثنين أحدهما الامام. ويفهم من تخصيص الحكم وهو استحباب القيام عن يمين الامام برجل واحد ، أن ما فوق الواحد ليس حكمه كذلك ، بل يستحب لهم أن يقوموا خلفه ، وتدل عليه صريحا صحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : الرجلان يؤم أحدهما صاحبه يقوم عن يمينه ، فان كانوا أكثر من ذلك قاموا خلفه (٢). وهو السابعة.

الثامنة : يفهم من تخصيص الحكم بالرجل أن المرأة ليس حكمها كذلك ، بل يستحب لها التأخر عن الامام اذا كان رجلا ، كما هو المفروض في السؤال.

__________________

(١) المدارك ٤ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٦.

٢٥٣

وتدل عليه صريحا رواية أبي العباس ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يؤم المرأة؟ قال : نعم تكون خلفه (١).

التاسعة : يستفاد منه أن الامام اذا علم قبل شروعه في الصلاة أن القائم عن يساره يريد الافتداء به ، استحب له اعلامه باستحباب قيامه عن يمينه.

لا يقال : بعض ذلك يستفاد من كلام السائل أو بانضمامه.

لانا نقول : تقرر المسؤول له عليه يدل على كونه حقا حجة شرعا ، موافقا لما عليه المسؤول عنه ، والا وجب عليه اعلامه بما يخالفه ، لئلا يلزم اغراؤه على الجهل فتدبر.

واعلم أن هذا الحديث مجهول السند بعلي بن أحمد بن أشيم الواقع في طريقه ، فلا عبرة بأصله ، فكيف بما يستفاد منه ، ولكن له ولما يستفاد منه مؤيدات من الاخبار ، كما أشير الى نبذة منها ، ولعله قدس‌سره لذلك ذكره ، فتأمل.

١٩ ـ مسألة

[ الصلاة فى المكان المغصوب ]

قال الشيخ في المبسوط : لو صلّى في مكان مغصوب مع الاختيار ، لم تجز الصلاة فيه ، ولا فرق بين أن يكون هو الغاصب ، أو غيره ، ممن أذن له في الصلاة ، لانه اذا كان الاصل مغصوبا لم تجز الصلاة فيه (٢).

أقول : ظاهره يفيد عدم جوازها فيه مطلقا ، أذن له المالك في الصلاة فيه أم لم يأذن ، ودليلهم أيضا يعمه ، لانهم استدلوا على بطلانها فيه بأن الحركات

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٦٧.

(٢) المبسوط ١ / ٨٤.

٢٥٤

والسكنات الواقعة فيه منهي عنها ، فلا تكون مأمورا بها ، ضرورة استحالة كون شي‌ء مأمورا به ومنهيا عنه ، فاستثناؤهم من أذن له في الصلاة يحتاج الى دليل.

وأما قولهم « لو أذن المالك للغاصب أو غيره في الصلاة ارتفع المنع لارتفاع النهي » فممنوع ، لانا لا نسلم ارتفاعه به ، اذ الصلاة في المكان المغصوب انما كانت منهيا عنها لكونه مغصوبا.

كما يشعر به تعليق الحكم على الوصف في قولهم « لا تصح أو لا تجوز الصلاة في المكان المغصوب » أي : لاجل كونه مغصوبا ، ولذلك قال الشيخ : اذا كان الاصل مغصوبا لم تجز الصلاة فيه ، أي : لاجل الغصب ، واذن المالك للصلاة فيه لا يرفع عنه صفة الغصب ما دام مغصوبا ، فيكون النهي باقيا لبقاء علته.

وبالجملة البطلان تابع للنهي لانه مفسد ، والنهي موجود هنا لوجود علته وهي الغصب ، والخصم معترف بوجودها وبقائه كما سيأتي ، فللشيخ أن يقول : مقتضى الدليل بطلان الصلاة فيه لكونه مغصوبا منهيا عنه من غير تعليل النهي بأنه تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، حتى اذا أذن له ارتفع به النهي.

فلعل علته خصوصية الغصب ، وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حق ، أو أمر آخر لا نعلمه نحن ، فان كثيرا من الحكم والمصالح لا تبلغه عقولنا ، فمن ادعى حصر العلة في عدم جواز التصرف في ملك الغير فعليه البيان.

بل نقول : لو كانت علة النهي عن الصلاة في المكان المغصوب مجرد عدم جواز التصرف في مال الغير بلا اذنه ، كما ظنه الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الارشاد.

حيث قال : واعلم أن سبب بطلان الصلاة في الدار المغصوب مثلا هو النهي عن الصلاة فيها ، المستفاد من عدم جواز التصرف في مال الغير (١).

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ / ١١٠.

٢٥٥

لم يكن لذكر الغصب في ذلك مدخل ، فان في صورة عدم الغصب أيضا لا يجوز التصرف فيه بدون اذنه ، فكان من الواجب عليهم أن يقولوا : كل مكان مملوك أو مأذون فيه تجوز الصلاة فيه ، مغصوبا كان أم غير مغصوب ، وكل ما ليس كذلك لا تجوز فيه ذلك كذلك.

فما فائدة ذكر الغصب وتعليق الحكم عليه بخصوصه بعد اشتراطهم الاذن في مكان المصلي ، اذا لم يكن مملوكا له في قولهم تجوز الصلاة في كل مكان مملوك أو ما في حكمه ، كالمأذون فيه صريحا أو فحوى أو بشاهد الحال ، وتبطل في المكان المغصوب مع العلم بالغصب ، فان هذا صريح في أن الغصب اما وحده ، أو هو مع عدم الاذن علة للبطلان ، والا لكان ذكر الغصب وتعليق الحكم عليه بعد الاشتراط المذكور لغوا مستدركا.

واذا ثبت أن الغصب وحده ، أو هو مع عدم الاذن علة لبطلانها ، لا مجرد عدم الاذن ، فما دام يكون مغصوبا تكون الصلاة فيه باطلة ، أذن أم لم يأذن.

فيفهم منه أن اذنه له في الصلاة فيه مما لم يفده اباحة ، اذ لا يرتفع معه النهي لوجود علته ، فلا يرتفع به المنع ، بل بمثل هذا يمكن الحكم ببطلان صلاة المالك فيه أيضا. ولذا اشتهر من السيد الداماد رحمه‌الله أنه كان لا يصح صلاة مالك المكان المغصوب فيه.

هذا وقال صاحب المدارك فيه بعد نقل كلام الشيخ : الظاهر أن مراده بالاذن اذن الغاصب ، كما ذكره العلامة ، وان كان الوهم لا يذهب الى احتمال الجواز مع اذنه ، اذ لا يستقيم ارادة المالك للقطع بجواز الصلاة مع اذنه ، وان بقي الغصب في الجملة.

وقال المصنف في المعتبر : ان مراده بالاذن هنا المالك (١). وهو بعيد جدا ،

__________________

(١) المعتبر ٢ / ١٠٩.

٢٥٦

اذ لا وجه للبطلان على هذا التقدير.

ووجهه الشهيد في الذكرى ، بأن المالك لما لم يكن متمكنا من التصرف ، لم تفد اذنه الاباحة ، كما لو باعه فان البيع يكون باطلا ، ولا يجوز للمشتري التصرف فيه (١) ، ولا ريب في بطلان هذا التوجيه ، لمنع الاصل وبطلان القياس (٢) انتهى.

وأنت خبير بأن ما ذكره العلامة ، وتبعه فيه صاحب المدارك ، من أن مراده بالاذن اذن الغاصب ، مما يجعل كلامه لغوا غير مفيد كما اعترفوا به ، وذلك أن قوله « ممن أذن له » أي : الغاصب في الصلاة ، ثم تعليله بأنه اذا كان الاصل مغصوبا لم تجز الصلاة فيه ، يصير حينئذ عديم الفائدة.

ومن ذا الذي يتوهم أن اذن الغاصب يؤثر في الاباحة ، حتى يحتاج في دفعه الى دليل ، وأي حق له في هذا المكان؟ مع فرض أن يده فيه من يد العدوان حتى يحتاج الى اذنه ، وكيف يتصور من مثل الشيخ أمثال هذه الارادات وتحرير هذه الافادات ، وهي ممن له أدنى معارفة في هذا الشأن بعيد غايته.

والظاهر من كلامه رحمه‌الله ما أومأنا اليه ، لان اذن المالك لما كان مظنة التأثير في الاباحة نفاه أولا ، ثم علله بأن أصل المكان لما كان مغصوبا ، لم يؤثر في اباحته اذن المالك ، فلم تجز الصلاة فيه ، أذن له في الصلاة أم لم يأذن ، لان بقاء الغصب مع اذنه ، كما اعترفوا به ، دليل على بقاء حكمه ، وهو النهي عن الصلاة فيه ، ضرورة بقاء المعلول ببقاء علته.

وقد سبق أن البطلان تابع للنهي ، لانه في العبادات مفسد ، ومعه يلزم اجتماع الامر والنهي على شي‌ء واحد ، فيكون مأمورا به ومنهيا عنه ، وقد مر أنه ضروري

__________________

(١) الذكرى ص ١٥٠.

(٢) مدارك الاحكام ٣ / ٢١٨ ـ ٢١٩.

٢٥٧

الاستحالة ، فكيف يدعى القطع بجواز الصلاة فيه والحال هذه.

ومنه يظهر أن ما ذكره في المعتبر معتبر ، ولا بعد فيه ، لظهور وجه البطلان على هذا التقدير ، وان ارادة المالك مستقيمة من غير تكلف فيها بخلاف ارادة الغاصب فانها غير مستقيمة ، لا يزيدها التكليف لا تكلفا وتعسفا ، وما أنا من المتكلفين ولا المتعسفين ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على سيد المرسلين وعترته هداة الدين.

٢٠ ـ مسألة

[ مساواة موضع الجبهة لموضع القدم ]

قال صاحب المدارك بعد نقل قول المصنف « الثالث : أن ينحني للسجود حتى يساوي موضع جبهته موقفه ، الا أن يكون علوا يسيرا بمقدار لبنة لا أزيد » : هذا هو المعروف من مذهب الاصحاب ، وأسنده في المنتهى الى علمائنا مؤذنا بدعوى الاجماع عليه.

وقال المصنف في المعتبر : ولا يجوز أن يكون موضع السجود أعلى من موقف المصلي بما يعتد به مع الاختيار ، وعليه علماؤنا ، لانه يخرج بذلك عن الهيئة المنقولة عن صاحب الشرع ، وقيد الشيخ حد الجواز لبنة ومنع ما زاد (١) هذا كلامه رحمه‌الله ، ومقتضاه أن هذا التقدير مختص بالشيخ.

وربما كان مستنده ما رواه عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال سألته عن السجود على الارض المرتفعة ، فقال : اذا كان موضع جبهتك مرتفعا عن

__________________

(١) المعتبر ٢ / ٢٠٧.

٢٥٨

موضع بدنك قدر لبنة ، فلا بأس (١).

وجه الدلالة أنه عليه‌السلام علق نفي البأس على الارتفاع بقدر لبنة ، فيثبت مع انتفاء الشرط ، وهو حجة ، لكن يمكن المناقشة في سند الرواية ، بأن من جملة رجالها النهدي ، وهو مشترك بين جماعة منهم من لم يثبت توثيقه ، مع أن عبد الله بن سنان روى في الصحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن موضع جبهة الساجد أيكون أرفع من مكان مقامه؟ قال : لا ولكن يكون مستويا. ومقتضاها المنع من الارتفاع مطلقا ، وتقييدها بالرواية الاولى مشكل (٢).

أقول : النهدي مشترك بين هيثم بن أبي مسروق ، ومحمد بن أحمد بن خاقان وداود بن محمد. والاول فاضل كما صرح به الكشي في ترجمة عبد الله النهدي أبي مسروق أبيه (٣).

وقال النجاشي : هيثم بن أبي مسروق كوفي قريب الامر ، له كتاب النوادر قال ابن بطة : حدثنا محمد بن علي بن محبوب عنه (٤).

وقد عد بعضهم كل واحد من هذين الوصفين ، وهما الفاضل وقريب الامر من ألفاظ التعديل ، فاذا اجتمعا معا في واحد من اثنين من أئمة الرجال ، يغلب به الظن على تعديله ، خلافا للشهيد الثاني رحمهما‌الله في دراية الحديث ، فانه جعل فيه كلا منهما أعم منه.

ثم قال نعم كل واحد منهما يفيد المدح ، فيلحق حديث المتصف به بالحسن ولعل نظر العلامة الى الاول ، حيث أنه حكم بصحة طريق هو فيه.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ٣١٣.

(٢) مدارك الاحكام ٣ / ٤٠٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٦٧٠.

(٤) رجال النجاشي ص ٤٣٧.

٢٥٩

والثاني مختلف فيه ، فنقل الكشي عن أبي النضر محمد بن مسعود أنه كوفي فقيه ثقة خير (١) ، وذكر في ترجمة محمد بن ابراهيم الحضيني ما يدل على ظهور اعتبار كلامه وافادته (٢).

وقال ابن الغضائري : انه كوفي ضعيف يروي عن الضعفاء ، ومثله ما قال النجاشي : انه كوفي مضطرب له كتب ، ثم ذكر الاسناد اليه (٣).

والظاهر أن أحدهما تبع الاخر في ذلك ، فلا بعد في ترجيح تعديله على الجرح ، لان أبا النضر أقدم منهما ، وأعلم وأفضل وأبصر بأحوال الرجال ، وله يد طولاء وقدم راسخة في أكثر الفنون ، ولا سيما في الاخبار ، فانه مضطلع بها وقد صنف أكثر من مائتي مصنف ، وكان له مجلس للخاصي ومجلس للعامي ، وهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة. يظهر كل ذلك المناظر فيما نقل في ترجمته من أوصافه الشريفة ، فارجع اليه ثم انظر واذعن بما هو الحق من ذلك.

والثالث ثقة له كتاب يرويه عنه الصفار ويحيى بن زكريا اللؤلؤي.

اذا تمهد هذا فنقول : روى الشيخ في التهذيب عن محمد بن علي بن محبوب عن النهدي ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن السجود على الارض المرتفعة الحديث (٤).

والسند كما دريت : اما صحيح ، أو حسن ، لان المراد بالنهدي فيه هيثم بن أبي مسروق ، بقرينة رواية ابن محبوب عنه ، فهذه مما يقطع الشركة فيه ، فالقول باشتراكه في السند المذكور انما شاء من عدم الرجوع الى الرجال ، وعدم التدبر

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨١٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨٣٥.

(٣) رجال النجاشي ص ٣٤١.

(٤) تهذيب الاحكام ٢ / ٣١٣.

٢٦٠