الرسائل الفقهيّة - ج ٢

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٢
الجزء ١ الجزء ٢

على قميص موصوف بالصفات المذكورة. وفيه ما ادعاه سلار.

وأما ما دل على أن الكفن ثلاثة أثواب ، فمحمول عنده على الاستحباب ، والاصل وهو عدم وجوب الزائد معه ، كما أن الدال على الزائد على الثلاثة محمول عند غيره عليه.

ثم قال صاحب المدارك قدس‌سره : أما الميزر فقد ذكره الشيخان وأتباعهما وجعلوه أحد الاثواب الثلاثة المفروضة ، ولم أقف في الروايات على ما يعطي ذلك ، بل المستفاد منها اعتبار القميص والثوبين الشاملين للجسد أو الاثواب الثلاثة.

ثم قال : والمسألة قوية الاشكال ، ولا ريب أن الاقتصار على القميص واللفافتين أو الاثواب الثلاثة الشاملة للجسد مع العمامة والخرقة التي يشد بها الفخذان أولى (١).

أقول : في الكافي في رواية معاوية بن وهب ، عن الصادق عليه‌السلام قال : يكفن الميت في خمسة أثواب قميص لا يزر عليه ، وازار وخرقة يعصب بها وسطه ، وبرد يلف فيه ، وعمامة يعمم بها ويلقى فضلها على صدره (٢).

وفي التهذيب : على وجهه (٣).

والمراد بالازار هنا الميزر ، لان كلا منهما يطلق على الاخر ، فجعل أصل الكفن ثلاثة أثواب قميصا وميزر ولفافة بردية. وأما الخرقة والعمامة ، فقد علم أنهما ليستا من الكفن ، ولو كان المراد بالازار هنا لفافة اخرى ، لكان الظاهر أن يقال : وازار وبرد يلف فيهما.

__________________

(١) مدارك الاحكام ٣ / ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) فروع الكافى ٣ / ١٤٥ ، ح ١١.

(٣) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩٣ ، ح ٢٦.

١٤١

والظاهر من الشيخ أنه حمل الازار هنا على الميزر ، لانه نقل هذا الحديث في شرح قول المفيد ويعد الكفن ، وهو قميص وميزر وخرقة يشد بها سفله الى وركيه ولفافة وحبرة وعمامة.

وأما أن الازار يطلق على الميزر ، فيدل عليه ما في شرح الرسالة للسيد المرتضى : لا يحل الاستمتاع من الحائض الا بما فوق الميزر ، ثم احتج عليه بصحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام في الحائض ما يحل لزوجها منها ، قال : يتزر بازار الى الركبتين فتخرج سرتها ، ثم له ما فوق الازار.

وفي نهاية ابن الاثير : وفي الحديث « كان يباشر بعض نسائه وهي مؤتزرة في حالة الحيض » أي : مشدودة الازار.

وأما أن الميزر يطلق على الازار ، فلما في النهاية أيضا : وفي حديث الاعتكاف « كان اذا دخل العشر الاواخر أيقظ أهله وشد الميزر » الميزر الازار ، وكنى بشده عن اعتزال النساء انتهى (١).

فظني أن المستفاد من الاخبار هو أن القدر الواجب من الكفن ثوب واحد شامل للجسد كله ، وما زاد عليه. الى أن يبلغ خمسة أثواب سنة ، فيجوز الاقتصار على الميزر والقميص واللفافة ، وعلى القميص واللفافتين ، وعلى الاثواب الثلاثة الشاملة ، فان كل ذلك من أفراد السنة ، وبه يوفق بين الاخبار.

ومما قررنا يظهر أن حمل صحيحة زرارة ثلاثة أثواب وثوب تام على التقية مما لا وجه له ، فان من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أنه يجوز ان يزاد على الاثواب الثلاثة ثوب وثوبان ، حتى يبلغ العدد خمسة أثواب ، كما صرح به الصدوق في الفقيه (٢) ، ودلت عليه هذه الصحيحة ، فالوجه فيها ما قدمناه.

__________________

(١) نهاية ابن الاثير ١ / ٤٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٥٢.

١٤٢

ثم الاولى أن يستدل بها وبما شاكلها على ما ذهب اليه المتأخرون ، من استحباب كون الكفن زائدا على الثلاثة.

لا بصحيحة أبي مريم الانصاري ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاثة أثواب : برد أحمر حبرة ، وثوبين أبيضين صحاريين ، ثم قال وقال : ان الحسن بن علي عليهما‌السلام كفن اسامة بن زيد في برد أحمر حبرة وان عليا عليه‌السلام كفن سهل بن حنيف في برد أحمر حبرة (١).

ولا بحسنة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : كتب أبي في وصيته أن اكفنه بثلاثة أثواب ، أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة ، وثوب آخر ، وقميص ، فقلت لابي : لم تكتب هذا؟ فقال : أخاف أن يغلبك الناس ، فان قالوا : كفنه في أربعة أو خمسة فلا تفعل ، قال : وعممني بعد بعمامة ، وليس تعد العمامة من الكفن ، انما يعد ما يلف به الجسد (٢).

ولا بموثقة سماعة ، قال : سألته عما يكفن به الميت ، فقال : ثلاثة أثواب ، وانما كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين ، وثوب حبرة. والصحارية تكون باليمامة (٣).

كما فعله صاحب المدارك ، ثم اعترض عليهم بأن هذه الروايات انما تدل على استحباب كون الحبرة احدى الاثواب الثلاثة ، لا على استحباب جعلها زيادة على الثلاثة كما ذكروه.

ثم نقل عن أبي الصلاح وابن أبي عقيل أنهما قالا : السنة في اللفافة أن تكون حبرة يمانية ، وجعله مؤيدا لاعتراضه على المتأخرين.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩٦ ، ح ٣٧.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩٣ ، ح ٢٥.

(٣) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩١ ، ح ١٨.

١٤٣

ولا منافاة بين استحباب كون اللفافة حبرة ، واستحباب جعلها زيادة على الثلاثة كما ذكروه ، للاخبار الدالة عليه ، وذلك ظاهر فتأمل.

وفي حديث الخدري لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ، ثم ذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : ان الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها.

أقول : الثوب في اللغة اللباس ، كما في القاموس (١) وغيره.

وأما هنا فالمراد بثيابه أعماله الحسنة أو السيئة ، وصفاته الحميدة أو الذميمة وأخلاقه الفضيلة أو الرذيلة الحالة ، أو الملكة في النفس ، فان كل ما يدركه الانسان بحواسه يرتفع منه أثره الى روحه ، ويجتمع في صحيفة ذاته وخزانة مدركاته.

وكذلك كل مثقال ذرة من خير أو شر يعمله يرى أثره مكتوبا ثمة ، وخاصة ما رسخت بسببه الهيئات ، وتأكدت به الصفات وصار خلقا وملكة ، فانه مما يصير كثيابه المحيطة به اللازمة له ، قال الله تعالى ( بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) (٢).

لكنه اليوم مكتوم عن مشاهدة الابصار ، وانما يكشف بالموت ورفع ما تورده الشواغل الحسية ، فشبه صفاته واخلاقه في احاطتها بالنفس ، أو في فضيلتها ورذيلتها بالثياب في احاطتها وشمولها للبدن ، وفي جيادتها ورداءتها.

فالكلام اما تمثيل وتشبيه للمعقول بالمحسوس ، أو استعارة مصرحة ذكر فيه المشبه به وأريد به المشبه ، وقد جاء في تفسير قوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (٣) أي : ونفسك فطهرها من الذنوب والرذائل ، والثياب عبارة عنها ، فيكون بحذف

__________________

(١) القاموس ١ / ٤٢.

(٢) سورة البقرة : ٨١.

(٣) سورة المدثر : ٤.

١٤٤

المضاف ، أي : وذوات ( ثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) أي فأصلح ، يقال للرجل الصالح : طاهر الثياب والطالح خبيثها.

وفيه اشارة الى أن الانسان انما يبعث على الاعتقادات والملكات والاخلاق التي يموت عليها ، فهي مناط الحكم وملاكه ، فمدار الامر على حسن العاقبة وسوئها نعوذ بالله منه واليه يشير قول العارف الشيرازي :

مى ومستورى ومستى همه بر عاقبت است

كس ندانست كه آخر بچه حالت برود

كرد آخر عمر از مى ومعشوق ببر

حيف ايام كه يكسر به بطالت برود

وعلى القول بتجسد الاعمال والاخلاق ، لا بعد في القول بصيرورة تلك الاعمال والصفات والملكات الفضيلة أو الرذيلة ثيابا جيدة أوردية.

عن فيثاغورس الحكيم ، وهو من أعاظم الحكماء ومن الاقدمين : اعلم أنك ستعارض بأفكارك وأقوالك وأفعالك ، وسيظهر من كل حركة فكرية أو قولية أو فعلية صورة روحانية وجسمانية.

فان كانت الحركة غضبية شهوية صارت مادة شيطان ، يؤذيك في حياتك ، ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك. وان كانت الحركة أمرية عقلية ، صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك ، وتهتدي بنوره في اخراك الى جوار الله وكرامته.

وأمثال هذا مما يدل على تجسد الاعمال والاقوال والافعال في كلامهم كثيرة قد بسطنا الكلام فيه في رسالة لنا جيدة في تجسيد الاعمال ، فليطلب من هناك.

وعن الخطابي أنه قال : أما أبو سعيد ، فقد استعمل الحديث على ظاهره. وقد روى في تحسين الكفن أحاديث ، قال : وقد تأوله بعض العلماء على المعنى ، وأراد به الحالة التي يموت عليها من الخير والشر وعمله الذي يختم له به. يقال

١٤٥

فلان طاهر الثياب اذا وصفوه بطهارة النفس والبراءة من العيب.

وجاء في تفسير قوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) أي : عملك فاصلح ، ويقال : فلان دنس الثياب اذا كان خبيث الفعل والمذهب ، وهذا كالحديث الاخر يبعث العبد على ما كان عليه.

أقول : قول الخطابي « وقد روي في تحسين الكفن أحاديث » اشارة الى ما ورد من الحث على تجويده والترغيب في تحسينه في طريقهم وطريقنا.

فمما ورد في طريقنا موثقة يونس بن يعقوب قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان أبي أوصاني عند الموت : يا جعفر كفني في ثوب كذا وكذا وفي ثوب كذا وكذا واشتر لي بردا واحدا وعمامة وأجدهما ، فان الموتى يتباهون بأكفانهم (١).

وصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : تنوقوا في الاكفان فانكم تبعثون بها ، كذا في التهذيب (٢).

وفي الفقيه : فانهم يبعثون بها (٣). أي : تحسنوا فيها ، من تنوق في الامر أنق فيه ، وشي‌ء أنيق حسن عجيب.

ولا يخفى أنه ينافي ما ورد أنهم يحشرون حفاة عراة ، وظاهر قوله تعالى ( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (٤) فاما أن يحمل الحشر في الاكفان بالنسبة الى الناجين أو الصلحاء منهم ، أو يختلف بالنظر الى أحوالها ، بأن يحشروا عراة أولا ثم يكسوا.

والاولان بعيدان ، لما ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ان فاطمة بنت أسد سمعت

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ٤٤٩ ، ح ٩٨.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ٤٤٩ ، ح ٩٩.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٤٦.

(٤) سورة الاعراف : ٢٩.

١٤٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول : ان الناس يحشرون يوم القيامة عراة ، فقالت : وا سوأتاه ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاني أسأل الله أن يبعثك كاسية.

فانها من أكمل أفراد الناجين ، فلو كان الحشر في الاكفان بالنسبة اليهم ، لاخبرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك من غير حاجة الى أن يضمن لها أن يبعثها الله كاسية.

وفي الفقيه عنه عليه‌السلام : أجيدوا أكفان موتاكم فانها زينتهم (١).

ولا ريب أن هذا غير مراد في حديث أبي سعيد الخدري ، لان الاكفان غير الثياب التي يموت فيها الانسان ، ولذا نقل عن الهروي أنه قال : وليس قول من ذهب به الاكفان بشي‌ء ، لان الانسان انما يكفن بعد الموت.

أقول : ومما قررناه ونقلناه يظهر معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رب حامل فقه الى من هو أفقه منه. تأمل تعرف.

تم الاستنساخ والتصحيح في (٢١) رجب المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٤٦.

١٤٧
١٤٨

سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٤)

رسالة

فى جواز التداوى بالخمر عند الضرورة

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي

١٤٩
١٥٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على السراء والضراء الذي خلق الداء ، ثم جعل له الدواء ، ولم يجعل في شي‌ء مما حرمه دواء ولا شفاء ، والصلاة على سيد الانبياء محمد وعترته الائمة النجباء ما دامت الارض والسماء ، وتجدد الصباح والمساء.

وبعد : هذا مما كتبه أحوج عباد الله الى رحمته العبد الجاني محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل المازندراني اجابة للسيد السند النجيب الحسيب الفاضل البحر الزاخر سيدنا مير محمد طاهر زيدت توفيقاته ، فان وافق المسئول فهو المأمول ، والا فهو بستر العوار أولى ، وبسد خلل التقصير أحرى.

فقد اختلفت أقوال العلماء من المخالف والمؤالف في جواز التداوي عند الضرورة بالخمر ، وما فيه شي‌ء من المسكر ، فأردنا أن نشير الى ما هو أقوى عندنا من تلك الاقوال ، ليكون ذلك مرجعا لنا نرجع اليه عند الحاجة والضرورة.

فنقول : هل يجوز وقت الضرورة أن يتداوى المريض المكلف اذا كان مؤمنا بالانبذة والاشربة المسكرة ، وبالادوية التي فيها شي‌ء منها ، أكلا أو شربا

١٥١

أو اكتحالا؟ قيل : لا ، وقيل : نعم.

وقيل : يجوز اذا لم يكن لها بدل يقوم مقامها ويفيد مفادها ، وذلك انما يعلم باخبار طبيب مجتهد في فنه متتبع حاذق ، يفيد اخباره العلم أو الظن المتاخم له. ومنهم من خصه بتداوي العين وطرح غيره من البين.

ونحن نذكر ما ورد في ذلك من الاخبار ، ثم نتبعه بما يقتضيه ضرب من الاعتبار ، وذلك في فصول :

الفصل الاول

[ ما يدل على المنع مطلقا ]

قال الله تعالى في سورة المائدة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) ولا يختص الخمر بعصير العنب ، بل يعم كل شراب مسكر.

كما رواه عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب والبتع من العسل ، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر ورواه ثقة الاسلام في الكافي بسند صحيح (٢).

وروى شيخ الطائفة في التهذيب بسند صحيح أيضا عن علي بن يقطين ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : ان الله لم يحرم الخمر لاسمها ، ولكن حرمها

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٠.

(٢) فروع الكافى ٦ / ٣٩٢ ، ح ١.

١٥٢

لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر (١).

اذا عرفت هذا فنقول : وقد استدل بعض الفقهاء بقوله تعالى ( فَاجْتَنِبُوهُ ) على عدم جواز التداوي بالخمر ، ولو من خارج البدن كالاطلاء به ، وهو غير بعيد لاطلاق الامر بالاجتناب من غير تقييد بحال دون حال ، فيدخل التداوي الى أن يقوم الدليل على جوازه.

وسيأتي الكلام المستوفى في ذلك انشاء الله العزيز.

في الكافي عن أبي علي الاشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان ، عن ابن مسكان ، عن الحلبي ـ فالسند صحيح ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دواء عجن بالخمر ، فقال : لا والله وما أحب أن أنظر اليه ، فكيف أتداوى به ، أنه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير (٢) ، وان أناسا ليتداوون به (٣).

وهذا أي نهيه عليه‌السلام عن استعمال الدواء المعجون بالخمر يعم على اطلاقه حالتي الضرورة وعدمها ، أي : الاضطرار والاختيار ، والاكل والشرب ، والاكتحال وغيرها.

وفيه في رواية مرسلة عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : من اكتحل بميل من مسكر كحله الله بميل من نار (٤).

لا بد من تقييدها بغير وقت الاضطرار ، توفيقا بينها وبين سائر الاخبار ، كحسنة ابن حمزة ، بل صحيحته الاتية.

وفيه في مرسلة أبي بصير ، قال : دخلت أم خالد العبدية على أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ١١٢ ، ح ٢٢١.

(٢) الترديد من الراوى « منه ».

(٣) فروع الكافى ٦ / ٤١٤ ، ح ٤.

(٤) فروع الكافى ٦ / ٤١٤ ، ح ٧.

١٥٣

وأنا عنده ، فقالت : جعلت فداك أنه يعتريني قراقر في بطني ، وقد وصف لي الاطباء النبيذ بالسويق ، وقد وقفت وعرفت كراهيتك له ، فأحببت أن أسألك عن ذلك.

فقال : وما يمنعك من شربه؟ فقالت : قد قلدتك ديني فألقى الله حين ألقاه فأخبره أن جعفر بن محمد أمرني ونهاني.

فقال : يا أبا محمد ألا تسمع الى هذه المرأة وهذه المسائل؟ لا والله لا آذن لك في قطرة منه ، ولا تذوقي منه قطرة ، فانما تندمين اذا بلغت نفسك هاهنا ، وأومى بيده الى حنجرته ، يقولها ثلاثا أفهمت؟ قالت : نعم (١).

الظاهر أن الغرض من السؤال بقوله « وما يمنعك من شربه » اختبار مراتب عقلها وتدينها واظهاره على الحاضرين ، والا فمانعها من شربه قد علم من قولها « وقد عرفت كراهيتك له » فتأمل.

ويظهر منه أن النبيذ مع السويق ينفع قراقر البطن وربح البواسير ، كما سيأتي أيضا ، وذلك أنه عليه‌السلام لم يرد قولهم ووصفهم بكونه نافعا لها ، وانما نهاها عنه لكونه حراما موجبا للندامة والعقاب والمؤاخذة في يوم الحساب.

ومثله صحيحة الحلبي السابقة ، فانه عليه‌السلام لم ينف عما عجن بالخمر الدوائية والنفع ، بل سلم أنه دواء نافع ، وانما منع من التداوي به ، معللا بأنه بمنزلة لحم الخنزير في الحرمة ، فما لم تمس الحاجة والضرورة اليه لم يجز التداوي به.

ويستفاد منه جوازه عند الضرورة ، كما يجوز تناول لحم الخنزير لمن اضطر اليه غير باغ ولا عاد ، فانه لا اثم عليه فيه ، بل يستنبط منه أن التداوي به أضعف حرمة من تناوله ضرورة ، ضرورة ضعف المشبه فيما شبه به من المشبه به ، فتأمل.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤١٣ ، ح ١.

١٥٤

ثم الظاهر أن هؤلاء الاطباء الواصفين كانوا من المخالفين ، فان النبيذ على مذاهبهم حلال ، ولذلك جوزوا التداوي به ، وهو كما ورد في أخبارنا خمر استصغره الناس.

أو كانوا من المؤالفين ، ولكنهم كانوا جهلاء.

أو علماء فسقاء غير متدينين بدينهم ، كاكثر أطباء زماننا هذا ، فانهم يداوون المريض من غير مبالاة منهم ورعاية لقانون الشريعة المطهرة ، بل لقانون شيخهم ورئيسهم ابن سينا بأي دواء يزعمون أنه دواء نافع له ، حلالا كان أم حراما نجسا كان أم طاهرا.

ولذلك تراهم باحثين في كتبهم الطبية عن الخمر ومضارها ومنافعها وكيفية شربها وآلاته وأوقاته وماشا كل ذلك ، مشايعة منهم للفلاسفة وأطباء الازمنة الجاهلية.

هذا والمراد بالكراهة هنا الحرمة ، فانها كثيرا ما يطلق عليها في الاخبار.

وفيه في مرسلة (١) علي بن أسباط ، قال : أخبرني أبي ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال رجل : ان بي أرياح البواسير ، وليس يوافقني إلا شرب النبيذ.

فقال : وما لك ولما حرم الله ورسوله ، يقول ذلك ثلاثا ، عليك بهذا المريس الذي تمرسه بالليل وتشربه بالغداة ، وتمرسه بالغداة وتشربه بالعشي ، قال : هذا ينفخ البطن. قال : فأدلك على ما هو أنفع من هذا ، عليك بالدعاء فانه شفاء من كل داء ، قال : فقليله وكثيره حرام (٢).

وفيه دلالة على أن الدعاء أنفع للمريض من الدواء ، وذلك أن الداء والدواء

__________________

(١) هذا الحديث رواه الشيخ في التهذيب عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن علي بن أسباط ، وهو كما ترى ضعيف لا مرسل « منه ».

(٢) فروع الكافى ٦ / ٤١٣ ، ح ٣.

١٥٥

والشفاء كله من الله ، وهو الداوي والشافي ، فاذا دعي للشفاء ووافق حكمته ومصلحته شفاه من غير حاجة الى مئونة الدواء ، فالدواء والدعاء والصدقة كلها من أسباب الشفاء.

الا أن أقربها وسيلة الى الشفاء هو الدعاء ، ولذلك تراهم عليهم‌السلام وهم أطباء النفوس والابدان وضعوا لكل داء دعاء ، كما تشهد به كتب الادعية.

والدليل على أن الداء والدواء منه تعالى ما روي عن سيدنا الصادق عليه‌السلام أنه قال : كان فيما مضى يسمى الطبيب المعالج ، فقال موسى بن عمران عليه‌السلام : يا رب فممن الداء؟ قال : مني ، فقال : فممن الدواء؟ فقال : مني ، فقال : فما يصنع الناس بالمعالج؟ فقال : يطيب بذلك أنفسهم ، فسمي الطبيب بذلك طبيبا (١).

وفيه في مجهولة معاوية بن عمار ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخمر يكتحل منها؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما جعل الله في حرام شفاء (٢).

وفيه عن علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينه ـ فالسند حسن على المشهور ، وصحيح على ما تقرر عندنا ـ قال : كتبت الى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن الرجل يبعث له الدواء من ريح البواسير فيشربه بقدر أسكرجة من نبيذ صلب ليس يريد به اللذة انما يريد به الدواء ، فقال : لا ولا جرعة ، وقال : ان الله عزوجل لم يجعل في شي‌ء مما حرم دواء ولا شفاء (٣).

سكرجة بضم السين والكاف والراء والتشديد : اناء صغير يؤكل فيه الشي‌ء القليل من الادم ، وهي فارسية ، وأكثر ما يوضع فيها الكواميخ ونحوها ، كذا في نهاية ابن الاثير (٤).

__________________

(١) علل الشرائع ص ٥٢٥.

(٢) فروع الكافي ٦ / ٤١٤ ، ح ٦.

(٣) فروع الكافي ٦ / ٤١٣ ، ح ٢.

(٤) نهاية ابن الاثير ٢ / ٣٨٤.

١٥٦

الفصل الثانى

[ ما يدل على جواز التداوى ]

فان قلت : هذا ، أي عدم جعله تعالى في شي‌ء منه دواء ولا شفاء ، مع أنه خلاف الواقع والعيان ، وما دلت عليه التجربة والامتحان ، وما ذكره كثير من الاطباء من كونه دواء لكثير من الداء ، وقد سبقت اليه الاشارة والبيان.

ينافيه ما رواه في الكافي عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين والحسن بن موسى الخشاب ، عن يزيد بن اسحاق شعر ، عن هارون بن حمزة الغنوي.

فالسند صحيح على الظاهر ، اذ ليس فيه من لم يصرحوا بتوثيقه الا ابن اسحاق ولكنه وثقه الشهيد الثاني في شرح الدراية ، وهو غير بعيد ، ومع ذلك سماه في شرح الشرائع حسنا.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل اشتكى عينيه ، فنعت له كحل يعجن بالخمر ، فقال : هو خبيث بمنزلة الميتة ، فان كان مضطرا فليكتحل به (١).

فانه صريح في أن في الخمر ، وهي أم الخبائث ومن أكبر المحرمات دواء وشفاء ولذلك أبيح له الاكتحال به وقت الاضطرار والظاهر أن الامر هنا للاباحة ، بمعنى الاعم الشامل للوجوب ، لان الاضطرار قد يؤدي اليه اذا خاف فساد العين مثلا ، وكان الدواء منحصرا في الكحل المعجون بالخمر.

قلت : ليس المراد بعدم جعله تعالى فيه دواء ولا شفاء أنه سلبه عنه بالكلية حتى يقال انه خلاف الواقع ، بل المراد أنه تعالى منع عباده من التداوي به

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ١١٤ ، ح ٢٢٨ ، ولم أعثره فى الكافى.

١٥٧

أكلا وشربا ، ونهاهم عنه ولم يرخصهم أن يستفيدوا منه دواء ولا شفاء ، لكون مفاسده أكثر من مصالحه ، كما أشار اليه بقوله ( وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) (١)

ولما لم تكن المفاسد في صورة الاكتحال به ، لم يمنعهم من ذلك بل رخصهم ، كما هو صريح صحيح ابن حمزة ، فهو مخصص للعمومات ، ومقيد للاطلاقات ، ولذلك استثناه المحقق في الشرايع بقوله :

لا يجوز التداوي بالخمر ولا بشي‌ء من الادوية التي معها شي‌ء من المسكر أكلا ولا شربا ، ويجوز عند الضرورة أن يتداوى به للعين (٢) انتهى. والى هذا الجواز ذهب أكثر من قال بأخبار الاحاد.

وقال ابن ادريس بناء على أصله : لا يجوز التداوي به للعين ولا لغيرها ، وانما هذا خبر واحد من شواذ أخبار الاحاد ، وأورده شيخنا في نهايته ، ورجع عنه في مسائل خلافه ، حتى أنه حرم شربها عند الضرورة من العطش (٣).

حيث قال : اذا اضطر الى شرب الخمر للعطش أو الجوع أو التداوي ، فالظاهر أنه لا يبيحها أصلا ، وقد روي أنه يجوز عند الاضطرار الى أن يشرب ، فأما الاكل والتداوي فلا ، وبهذا التفصيل قال أصحاب الشافعي ، وقال الثوري وأبو حنيفة : يحل للمضطر الى الطعام والشراب ويحل للتداوي به.

ثم استدل عليه باجماع الفرقة وأخبارهم ، وبأن طريقة الاحتياط يقتضيه. وأيضا تحريم الخمر معلوم ضرورة ، واباحتها تحتاج الى دليل ، قال : وما قلناه مجمع عليه ، وليس على ما قالوه دليل (٤).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢١٩.

(٢) شرائع الاسلام ٣ / ٢٣١.

(٣) السرائر ٣ / ١٣١.

(٤) الخلاف كتاب الاطعمة ، مسألة : ٢٧.

١٥٨

أقول : الاجماع غير ثابت في موضع النزاع ، والدليل على ما قالوه أن الضرورات تبيح المحذورات ، والاخبار الواردة في المنع من التداوي بها محمولة على حال الاختيار ، فيجوز التداوي بها حال الاضطرار ، كما ذهب اليه جماعة من الاخيار.

وأما الاحتياط وليس من الادلة الشرعية ، فيقتضي أباحتها عند الضرورة ، لان حفظ البدن وأجزائه من الواجبات وتركه من المحرمات ، والاجتناب من الخمر وما شاكلها من المسكرات انما يجب اذا لم يؤد الى ما هو أشد منه تحريما ، ولذلك لم يجب حال التقية وخوف قتل النفس والضرر البدني والمالي الذي لا يحتمل مثله مثله.

هذا ، أقول : ومما يدل على جواز التداوي بالمحرم في حال الاضطرار ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار في باب ما يجب على المحرم اجتنابه في احرامه ، عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان بن يحيى ، عن اسماعيل بن جابر ، وكانت عرضت له ربح في وجهه من علة أصابته وهو محرم ، قال فقلت لابي عبد الله عليه‌السلام : ان الطبيب الذي يعالجني وصف لي سعوطا فيه مسك ، فقال : استعط به (١).

سعط الدواء ، وأسعطه اياه أدخله في أنفه ، والسعوط كصبور ذلك الدواء.

وجه الدلالة أن المحرم يحرم عليه في احرامه من الطيب أربعة أشياء : المسك والعنبر ، والورس ، والزعفران. وقد رخصه الامام عليه‌السلام أن يستعط وهو محرم بسعوط فيه مسك لضرورة ما كانت به من علة.

ويستفاد من هذا الحديث الصحيح جواز الرجوع الى الطبيب والعمل بقوله في المعالجات ، أفاد قوله الظن بما قال أم لم يفد ، مسلما كان أم كافرا ، عادلا كان

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٢٩٨ ، والاستبصار ٢ / ١٧٩.

١٥٩

أم فاسقا ، كما يفيده ظاهر الاطلاق.

والقول بأن هذا الطبيب لعله كان مسلما عادلا مفيدا قوله الظن بما قال ، أو كان الامام عليه‌السلام عالما بالحال ، وان هذا السعوط نافع لهذا المرض ، خلاف الظاهر ومدار الاستدلال على الظاهر ، ولا تدفعه الاحتمالات البعيدة ، كما تقرر في فن الاصول ، وقد حكم بأنه الاحرى بالقبول.

وقال في المبسوط : اذا لم يجد المضطر الا الخمر ، فالنصوص لاصحابنا أنه لا سبيل لاحد الى شربها ، سواء كان مضطرا الى الاكل والشرب والتداوي ، وبه قال جماعة ، وقال بعضهم : ويحل التداوي بها ، قال : ويجوز على ما روي في بعض أخبارنا عند الضرورة التداوي به للعين دون الشرب (١).

أقول : هذه الاختلافات من شيخنا في الفتاوي انما تنشأ من اختلافه فيما يعتبر في الراوي وفي العمل بالاخبار ، فتارة يشترط في قبول الرواية الايمان والعدالة ، كما قطع به في كتبه الاصولية ، وهذا يقتضي أن لا يعمل بالاخبار الموثقة والحسنة ، وأخرى يكتفي في العدالة بظاهر الاسلام ولا يشترط ظهورها ، ومقتضاه العمل بها مطلقا كالصحيح.

ووقع له في الحديث وكتب الفروع غرائب ، فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقا ، حتى أنه يخصص به أخبارا كثيرة صحيحة ، حيث يعارضه باطلاقها. وتارة يصرح به والحديث لضعفه ، وأخرى برد الصحيح معللا بأنه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ، كما عليه المرتضى.

هذا وقال ابن البراج : اذا كان في الدواء شي‌ء من الخمر ، لم يجز التداوي به ، الا أن لا يكون له عنه مندوحة ، والاحوط تركه.

واختار العلامة جواز شربه عند خوف التلف من العطش والمرض اذا اندفعا

__________________

(١) المبسوط ٦ / ٢٨٨.

١٦٠