الرسائل الفقهيّة - ج ٢

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٢
الجزء ١ الجزء ٢

ولدت بدعوة صاحب الامر عليه‌السلام وكان يفتخر بذلك وهو في محله.

ومن خلاف العادة أن يعمل ويفتي مثله بأمر ويأمر ولده العزيز به ، ولم يحصل له فيه العلم مع تمكنه منه وقدرته على استعلام ما هو الحق فيه.

ولعله وجه ما قال في الذكرى من أن الاصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرايع أبي الحسن بن بابويه عند اعواز النصوص لحسن ظنهم به ، وان فتواه كروايته ، ولهذه العلة تراهم يرجحون الاخبار المعمولة عند المتقدمين الموافقة لفتاوي أكثرهم على أخبار صحيحة الاسانيد.

أقول : اذا كانت فتواه في أمر كروايته فيه ، فكيف ظنك بما اذا اجتمعنا فيه؟ وقد تحقق هنا ما كان باعثا لهم على تمسكهم بما يجدونه في شرايعه ، وهو اعواز النصوص ، اذ لا نص فيه سوى ما ذكره في رسالته الى ولده ، ورواه هو في عرض المجالس ، فكيف يتمسكون بما يجدون من فتواه في غير هذا الموضع ، ولا يتمسكون به فيه وهو أولى به لما سبق.

بل نقول : عملهم بمضمونه وافتاؤهم به أول دليل وأعدل شاهد على صحة سنده وثبوته عندهم ، وهذا القدر من الظن يكفينا للعمل بمضمونه ، وخاصة اذا وافق مضمونه مقتضى الدليل ، كما مضى وسيأتي.

وليس هذا من مقولة التقليد ، كما يظهر بالنظر الحديد ، بل هو استدلال بالقرائن الواضحة الجلية على صحة السند وثبوته ، لان جماعة من العدول والموثقين اذا نقلوا حديثا وعملوا بمضمونه وأفتوا به ، يغلب على الظن أنه حجة ، لان عدالتهم مانعة من عملهم وافتائهم بغير حجة شرعية ، والمفروض أن لا حجة لهم فيهما الا هذا الحديث ، كما ظهر مما نقلناه من صاحب الرسالة رحمه‌الله.

اللهم الا أن يقال : انهم كانوا يعملون بالاخبار الضعيفة ، كما صرح الشيخ في الفهرست ، وكذا الصدوق في الفقيه ، بأن في الاخبار الضعيفة ما هو معتمد

١٨١

بين الطائفة. وهذا عذر واضح لهم في العمل بها.

ولكنه لا يجدينا نفعا ، لما تبين من كثرة وقوع الخطأ في الاجتهاد ، وان مبنى الامر على الظن لا اليقين ، فالموافقة لهم فيما قالوه وأفتوا به تقليد لا يسوغ وفيه أن هذا خبر محذوف السند لم يعرف ضعفه ، نعم هو مرسل باصطلاح المتأخرين ، ولكن ارسالهم له وحذفهم (١) سنده مع عملهم بمضمونه وافتائهم به ، يفيد أنه كان مسندا لديهم حجة عندهم ، والا لما عملوا بمضمونه ولا أفتوا به.

فاذا لم يكن من الفرقة المحقة خبر يخالفه وجب العمل به ، ولا سيما اذا أيد بغيره من الدليل ، لان ارسالهم هذا منجبر بعملهم به واعتمادهم عليه ، كيف لا وجم من متأخري أصحابنا عملوا بالمرسل من غير أن يسبقهم به أحد من السلف.

فكيف اذا وجد فيهم جماعة قد عملوا به وبنوا افتائهم عليه ، ولا معارض له من جهة الاخبار ، بل له معاضد من حيث الاعتبار ، لان الحدث الواقع في الاثناء ممتنع خلوه عن أثر ، فهو موجب اما اعادة الغسل أو الوضوء والثاني كما عرفته ، فتعين الاول.

الفصل الرابع

[ مذهب السيد المرتضى فى المسألة ]

سيدنا المرتضى لما لم يكن عاملا بخبر الواحد ترك العمل بمضامين الاخبار واستدل على عدم وجوب الاعادة بما سبق ، فتبعه في ذلك بعض المتأخرين ، وقدحوا

__________________

(١) الظاهر أن هذا الحذف كان من الصدوق فى عرض المجالس ، وأما أبوه فانما أفتى عين الحديث بعينه من غير اشعار بكونه حديثا ، وهذا يدل على غاية اعتماده على هذه ، كما يظهر بأدنى تأمل « منه ».

١٨٢

في الخبرين المذكورين بما سبق من عدم كون أحدهما مسندا والاخر عاما وفيه ما عرفته.

وبه يظهر أن مذهب السيد ليس سيد المذاهب ، كما ظنه الفاضل الاردبيلي في شرحه على الارشاد (١) عند شرح قول مصنفه « ولو أحدث في أثنائه بما يوجب الوضوء أعاد » وتبعه في ذلك تلميذه سيدنا في المدارك (٢). بل المذهب الخالي عن التشويش في هذه المسألة ما ورد عليه النص الدال على وجوب الاعادة.

وأما مذهب السيد ، فهو كما ينافيه هذا النص الصريح ، كذلك ينافيه اطلاق النصوص الدالة على عدم جواز الوضوء مع غسل الجنابة ، بل ومع غيره أيضا على أن مذهبه خلاف ما يقتضيه الاخبار الواردة في الحث على مراعاة الاحتياط وتحصيل البراءة اليقينية في الاحكام والعبادات كما سيأتي.

ومنه يعلم أن الحدث الموجب للوضوء لو تخلل في غير غسل الجنابة من الاغسال يوجب بطلان حكم الاستباحة واعادته من رأس ، اذ لا وضوء معه أيضا ، فلا يسوغ اتمامه والوضوء معه.

فقول الشهيد الثاني في شرح الشرائع : انما الخلاف في غسل الجنابة ، أما غيره فيكفي اتمامه والوضوء معه بغير اشكال. محل اشكال أيضا ، وهو مبني على عدم كفاية غير غسل الجنابة عن الوضوء ، كما هو المشهور.

ولكن ظاهر كثير من الاخبار الصحيحة والموثقة ، كموثقة عمار قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل اذا اغتسل من جنابته أو يوم الجمعة أو يوم عيد ، هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال : لا ليس عليه قبل ولا بعد قد أجزأه الغسل والمرأة مثل ذلك اذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك ، فليس عليها الوضوء لا

__________________

(١) مجمع الفائدة ١ / ١٤٠.

(٢) مدارك الاحكام ١ / ٣٠٧.

١٨٣

قبل ولا بعد قد أجزأها الغسل (١).

يفيد عدم الحاجة الى الوضوء في شي‌ء من الاغسال ، كما هو مذهب المرتضى

الفصل الخامس

[ تحقيق حول استدلال العلامة في المسألة ]

استدل العلامة في النهاية على وجوب الاعادة ، بأن الحدث الاصغر لو تعقب كمال الغسل أبطل حكم الاستباحة ، ففي أبعاضه أولى ، فلا بد من تجديد طهارة لها وهو الان جنب ، اذ لا يرتفع الا بكمال الغسل ، فيسقط اعتبار الوضوء (٢).

وأجاب عنه بعض (٣) المتأخرين بمنع الاولوية ، قال : بل القدر المسلم أن الحدث الاصغر اذا لم يجامع الاكبر فهو سبب لوجوب الوضوء ، واذا جامع الاكبر فلا تأثير له أصلا ، لا بد لذلك من دليل ، ألا يرى أنه بعد الغسل يقتضي الوضوء ، وفي الاثناء لا يقتضيه عندكم ، فلم لا يجوز أن لا يؤثر في الاثناء أصلا أو يؤثر تأثيرا يرتفع ببعض الغسل ، لا بد لنفيه من دليل.

أقول : الحدث الاصغر اذا وقع مع الاكبر أو بعده وقبل الشروع في الغسل فلا تأثير له أصلا. وأما اذا وقع في الاثناء ، ففي تأثيره وعدمه خلاف ، فمن قال بوجوب الاعادة أو الوضوء معه ، قال بتأثيره في ابطال حكم الاستباحة ، فالفريقان متفقان على تأثيره ، وأثره مختلفان في موجبه. وأما من قال باتمامه خاصة ، قال بأنه لا تأثير له أصلا ، فوجوده عدمه عنده.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٤١.

(٢) نهاية الاحكام ١ / ١١٤.

(٣) المراد بهذا البعض صاحب الذخيرة « منه ».

١٨٤

ولعل القول بالتأثير أمتن ، لان لكل جزء من أجزاء الغسل تأثيرا ناقصا في رفع الحدث وحصول الاستباحة وتحققها ، كما أن للغسل بتمام أجزائه تأثيرا تاما فيه ، فاذا تعقبه الحدث الاصغر أبطل تأثيره في حصول الاستباحة ، ويبطل ببطلانه تأثير كمال الغسل في حصولها ، ضرورة انتفاء تأثير الكل بانتفاء جزئه.

وبالجملة لا تأثير له بالنظر الى الغسل وكل جزء منه ، فانه لا يبطلهما ولكن له تأثير بالنظر الى كفايته عن الاعادة والوضوء ، وأما أنه اذا تعقب أبعاضه أبطل حكم الاستباحة بطريق أولى ، فلان رفع التأثير عن جزء الشي‌ء وابطال حكمه أسهل من رفع التأثير عن الكل وابطال حكمه ، فان كان الشي‌ء مؤثرا في الكل رافعا تأثيره وهو على كمال قوته وتأثيره التام ، فكونه مؤثرا في الجزء رافعا تأثيره وهو في غاية ضعفه أولى ، ولعله أمر ضروري.

وانما يقول المنازع فيه بخلافه زعما منه أن بين الصورتين فرق ، وهو أن بعد تمام الغسل قد ارتفع الحدث وأبيحت العبادة ، فأمكن طرء حكم الحدث ، وهو بطلان الاستباحة بخلاف ما قبله ، لان الحدث لا يرتفع الا بتمام الغسل.

وهو مجاب بأن هذا ليس فرقا يعتد به ، وذلك لان الحدث الواقع في الاثناء بعد تمام جزء من الغسل ، يبطل تأثيره في حصول الاستباحة ، وبعد بطلان التأثير لا يتحقق الاثر.

فحاصل الفرق أن في الصورة الاولى كانت الاستباحة متحققة ، ثم رفعت بالحدث المتعقب ، وفي الثانية لم تكن متحققة ، ولكن منع من تحققها مانع ، وهو الحدث المتعقب ، وهذا لا يضر بأصل المقصود.

فظهر أن الاولوية المذكورة غير قابلة للمنع ، ومنه علم أن الحدث الواقع في الاثناء له تأثير بين في رفع حكم الاستباحة ، فلا بد من تجديد طهارة لها ، وهو الان كما كان جنب ، وطهارة الجنب لتحصيل الاستباحة انما هي بالغسل دون

١٨٥

الوضوء ، فيسقط حينئذ اعتباره.

ويؤكده الخبر المذكور في عرض المجالس ، بل هذا الذي أفاده المستدل بيان في الحقيقة للحكمة في أمره عليه‌السلام باعادة الغسل اذا تخلله الحدث الاصغر.

ثم أنت خبير بأن القول بتأثيره في رفع الاستباحة اذا لم يجامع الاكبر وعدمه اذا جامعه ، قول بالفرق بين الصورتين ، والفارق مطالب بالدليل لا النافي فتأمل.

واعلم أن هنا مقدمتين متعارضتين ، بيانه موقوف على مقدمة هي أن مما يجري مجرى الاصل الاستصحاب ، وحقيقته ترجع الى أن الاصل بقاء الشي‌ء على ما كان كان نقول : هذا شي‌ء كان مؤثرا ، والاصل بقاؤه على تأثيره حتى يعلم خلافه ، فاذا علم خلافه وهو عدم التأثير ، فالاصل بقاؤه عليه الى أن يعلم تأثيره.

اذا تمهد هذا فنقول : للقائل بالتأثير أن يقول : ان الحدث الاصغر كان له تأثير في ابطال حكم الاستباحة في صورة الانفراد ، والاصل بحكم الاستصحاب بقاؤه في صورة الاجتماع الى أن يعلم بدليل زواله ، والاصل أيضا عدم الفرق في ذلك بين صورتي الانفراد والاجتماع.

وللقائل بعدمه أن يقول : انه لم يكن مؤثرا وقت اجتماعه مع الاكبر قبل الاخذ في الغسل ، والاصل بحكم الاستصحاب بقاؤه عليه في الاثناء ، والاصل أيضا عدم الفرق في ذلك بين صورتي مجامعته له قبل الغسل أو في الاثناء.

والخبر المذكور في عرض المجالس ، وبعد عدم تأثيره في الاثناء مع تأثيره بعد تمامه ، وذهاب الفريقين وهم معظم أعيان الفقهاء الى تأثيره ، مع ما تقرر عندهم أن الاحتمالات البعيدة لا تقدح في الظواهر ، يؤيد القول بالتأثير.

وأما ما اشتهر بين الطلبة اذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال ، فانما هو في العقليات الصرفة المطلوب فيها اليقين. وأما في النقليات التي يكتفى فيها بمجرد

١٨٦

الظن والظهور فلا.

وبه يندفع ما يمكن أن يقال : ان العقل غير مستقل في الاحكام الشرعية ، فلعل الحدث الاصغر اذا تعقب كمال الغسل أثر في ابطال حكم الاستباحة اذا تعقب أبعاضه لم يؤثر فيه ، فتأمل.

وأما التنوير الذي ذكره ، ففيه أن الحدث الواقع بعد الغسل انما يقتضي الوضوء ، لانه يبطل حكم الاستباحة الحاصلة من الغسل الكامل لا الغسل نفسه ، فلا بد حينئذ لمريد الدخول في العبادات من تجديد طهارة لها ، وهو الان ليس بجنب ، وطهارة غير الجنب للاستباحة انما هي بالوضوء.

وأما الحدث الواقع في الاثناء ، فانما لا يقتضيه بل تقتضي الاعادة ، لانه لما أبطل حكم الاستباحة فلا بد من تجديد طهارة لها ، وهو الان كما كان جنب ، وطهارته للاستباحة انما هي بالغسل ، فيسقط اعتبار الوضوء ، فعدم اعتبار الوضوء لعدم اقتضائه له هنا لمانع ، ولا مانع له من اقتضائه الغسل ، فاذا رفع المانع ووجد المقتضي أثر وتحقق المقتضي.

ومثل هذا قوله أو يؤثر تأثيرا يرتفع ببعض الغسل ، لان رافع الحدث في الشريعة المطهرة : اما طهارة كبرى ، أو طهارة صغرى ، ولا ثالث لهما ، فبعض كل منهما لا يكون رافعا ، لعدم تأثير السبب الناقص في المعلول بالايجاد ، فهذا هو الدليل.

ثم قال قدس‌سره : وقريب منه ، أي من كلام العلامة كلام الشهيد في الذكرى حيث رجح وجوب الاعادة لامتناع الوضوء في غسل الجنابة ، وامتناع خلو الحدث عن أثر هنا مع تأثيره بعد الكمال. وجوابه يظهر مما قررناه.

أقول : وجوابه أيضا يظهر مما قررناه.

ثم نقل قدس‌سره عن الشارح الفاضل دليلا آخر على وجوب الاعادة ، وهو

١٨٧

أن غسل الجنابة يرفع أثر الحدث الاكبر والاصغر على تقدير وجوده قبل الغسل فهو مؤثر تام لرفعهما معا ، فكل جزء منه مؤثر ناقص في رفعهما ، بمعنى أن له صلاحية التأثير.

ولهذا لو أخل بلمعة يسيرة من بدنه لم يرفع الحدث أصلا ، لان كمال التأثير موقوف على كل جزء من الغسل ، فاذا فرض عروض حدث أصغر في أثنائه ، فلا بد لرفعه من مؤثر تام ، وهو اما الغسل بجميع أجزائه كما قررناه ، أو الوضوء ، والثاني منتف في غسل الجنابة ، للاجماع على عدم مجامعة الوضوء الواجب له وما بقي من أجزاء الغسل ليس مؤثرا تاما لرفعه ، فلا بد من اعادته من رأس.

ثم أجاب عنه ، بأنا لا نسلم أن غسل الجنابة يرفع أثر الحدث الاصغر ، اذ لا نسلم أن الحدث الاصغر اذا جامع الجنابة يكون له أثر يحتاج الى رافع ولا دليل اذ لا يستقل العقل بالحكم عليه ولا اجماع فيه ، انما الاجماع على أن الاحداث اذا حصلت مع عدم مجامعتها للجنابة كانت سببا لوجوب الوضوء ، ولا دلالة للكتاب أيضا عليه.

فلا يتخيل هنا دليل الا الاخبار الدالة على أن الاحداث موجبة للوضوء ، وتلك الاخبار مخصصة بما عدا صور مقارنة الجنابة كما ذكرنا ، وعلى تقدير العموم غير نافع ، لانه خلاف المدعى ، سلمنا أن الاحداث مطلقا يحتاج الى رافع ، لكن لم لا يجوز أن يكون بعض الغسل كافيا لرفعه في صورة التخلل. وكفاية الشي‌ء لشي‌ء في بعض الصورة لا يقتضي العموم والانسحاب في غيره ، ثم دعواه الاجماع على عدم مجامعة الوضوء الواجب له في المسألة المتنازع فيها ، محل نظر.

أقول : الحدث الاصغر اذا وقع قبل الاكبر ، وكانت هناك استباحة حاصلة من طهارة يبطل حكمها ، فابطاله حكم الاستباحة أثر له يحتاج الى رافع ، فاذا

١٨٨

وقع بعده الاكبر يمنع من اللبث في المساجد مثلا ، فهذا أثر له يحتاج الى رافع أيضا ، وغسل الجنابة يرفع أثريهما ، فهو مؤثر تام لرفعهما معا.

فلو فرض وقوع الاصغر في الاثناء ، فلا بد له من رافع أيضا ، ولا يكون بعض الغسل ، لما سبق من امتناع كون بعض السبب سببا ولا الوضوء للاجماع ، وقد عرفت سابقا أنه ثابت في محل النزاع ، فيكون رافعه هو الغسل بجميع أجزائه ، فلا بد من اعادته من رأس ، ولا قائل بالفصل ، فيتم المدعى كليا.

وأنت بعد احاطتك بما أسلفناه يمكنك دفع أمثال هذه المنوع ، مع أن المقدمة الممنوعة مستدركة لا حاجة اليها في اتمام الدليل ، فلا يضر منعها.

لانا نقول : الحدث الواقع في الاثناء له أثر ، وهو رفعه حكم الاستباحة ، كالواقع بعد كماله ، فيحتاج الى رافع ، وهو اما الغسل بتمام أجزائه أو الوضوء ، والثاني منفي بالاجماع ، فتعين الاول.

والقول بأن الواقع في الاثناء لا يرفع حكم الاستباحة ، فلا يحتاج الى رافع بخلاف الواقع بعد كماله ، قول بالفرق فيطالب بالدليل.

فان قيل : دليله أن الثاني اجماعي ، بخلاف الاول للمخالف المنقول عن ابن ادريس وتابعيه.

فجوابه عين ما سبق ، فانا نطالبهم بالدليل على هذا الفرق. وأما الفرق بأن بعض الغسل هنا كاف لرفعه وليس هناك ذاك ، فليس كما عرفته بشي‌ء ، لاستحالة كون جزء العلة علة ، فتأمل.

الفصل السادس

[ حاصل الابحاث السابقة ]

وبما قررناه سابقا وآنفا يندفع به جميع ما ذكره رحمه‌الله في تقوية القول

١٨٩

باتمام الغسل خاصة ، وتضعيف القول بوجوب الوضوء معه ، وهو قوله « ويدل عليه » أي : على الاكتفاء بمجرد الاكمال قوله تعالى ( وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (١).

وجه الاستدلال أنه سبحانه منع عن مقاربة الصلاة الى غاية حصول الاغسال فبعد حصوله لم يكن جواز الصلاة متوقفا على شي‌ء آخر تحقيقا لمعنى الغاية ووجوب مخالفة ما بعدها لما قبلها.

ولما رواه الشيخ عن يعقوب بن يقطين في الصحيح عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن غسل الجنابة هل فيه وضوء أم لا فيما نزل به جبرئيل عليه‌السلام ، فقال : الجنب يغتسل يبدأ ـ الى أن قال : ثم قد قضى الغسل ولا وضوء عليه (٢).

وجه الاستدلال بهذا الحديث أن من أحدث في الاثناء ، ثم أتم الغسل كما وصف عليه‌السلام ، يصدق عليه أنه قد قضى ولا وضوء عليه.

وبالجملة كلامه عليه‌السلام في قوة قولنا من فعل كذلك فقد قضى الغسل ولا وضوء عليه ، والمحدث في الاثناء داخل في الموضوع ، فيكون داخلا في المحمول أيضا ، اذ التخصيص خلاف الاصل.

لا يقال : الاخبار الدالة على أن الحدث يوجب الوضوء عام ، خرج منه الاحداث الواقعة قبل الاغتسال بالادلة ، فتكون الاحداث الواقعة في أثنائه داخلة في عموم الاخبار المذكورة.

لانا نقول : محصل ما يستفاد من تلك الاخبار يرجع الى قضية هي قولنا : كل من أحدث حدثا أصغر وجب عليه الوضوء.

ومحصل هذا الخبر الذي احتججنا به الى قضية أخرى هي قولنا : كل من

__________________

(١) سورة النساء : ٤٣.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ١٤٢.

١٩٠

اغتسل من الجنابة وفرغ منه لم يجب عليه الوضوء حينئذ ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، فاما أن يخصص الاول الثاني ، أو الامر بالعكس.

لا وجه للاول ، لانه على هذا التقدير يرجع محصل القضية الثانية الى قولنا كل من اغتسل من الجنابة لم يجب عليه الوضوء ، الا أن يصدق عليه أنه أحدث حدثا أصغر ، وهو خلاف الاجماع ، وخلاف ما علم من الكتاب والاخبار.

وفيه مناقشة دقيقة تندفع بالتأمل الصادق ، نعم لو كان خبر خاص يخصصه باخراج محل النزاع لم يكن مخالفا للاجماع وكان صحيحا ، وليس فليس.

نعم يرد عليه أن النظر في الاخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام انما يكون مقصورا على الافراد الشايعة الغالبة ، لا الافراد النادرة التي لا تتبادر اليها الاذهان.

ويدل عليه أيضا قول الصادق عليه‌السلام في صحيحة زرارة : ليس قبله ولا بعده وضوء (١). وجه الاستدلال قريب من السابق. وبالجملة فصح تقسيمه الى قولنا سواء أحدث في الاثناء أم لا ، وذلك آية العموم.

ويرد عليه ما أشرنا اليه ، وقول الصادق عليه‌السلام في موثقة عمار الساباطي وقد سئل عن الرجل اذا اغتسل من جنابته أو يوم جمعة أو يوم عيد ، فهل عليه وضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال : لا ليس عليه قبل ولا بعد قد أجزأه الغسل الحديث (٢).

ويؤيده في الجملة قوله عليه‌السلام في بعض الاخبار الصحيحة : الغسل يجزئ عن الوضوء ، وأي وضوء أطهر من الغسل (٣). وبعض الاخبار الدالة على أن الوضوء بعد غسل الجنابة بدعة ، والنظر الذي أشرنا اليه يتطرق الى الكل ، الى هنا كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٤٨.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ١٤١.

(٣) تهذيب الاحكام ١ / ١٣٩.

١٩١

وحاصله كما أفاده أن كل من اغتسل من الجنابة وفرغ منه لم يجب عليه الوضوء ، وهو مسلم أن لو كان هذا المتنازع فيه غسل جنابة يحصل به حكم الاستباحة ، وقد سبق أنه لا يحصل به ، لامتناع كون جزء علة الاستباحة علة تامة لها.

الفصل السابع

[ تحقيق حول كلام الشيخ البهائى فى المسألة ]

وأما ما أفاده شيخنا بهاء الدين تبعا للاخرين في كتابه الموسوم بحبل المتين بعد صحيحة محمد بن مسلم ، قال دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسطاطه وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه.

فقال : ادنه هذه ام اسماعيل جاءت وأنا أزعم أن هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجها عام أول كنت أردت الاحرام ، فقلت : ضعوا لي الماء في الخباء ، فذهبت الجارية فوضعته ، فاستخففتها وأصبت منها.

فقلت : اغسلي رأسك وامسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك ، فاذا أردت الاحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك ، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئا ، فمست مولاتها رأسها ، فاذا لزوجة الماء ، فحلقت رأسها فضربتها ، فقلت لها : هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجك (١).

ورواية ابراهيم بن عمر اليماني المختلف فيه ، فان النجاشي (٢) وثقه ، وابن

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٣٤.

(٢) رجال النجاشي ص ٢٠.

١٩٢

الغضائري (١) ضعفه ، قال الشهيد الثاني : ان النجاشي حكى توثيقه عن أبي العباس وغيره ، وأبو العباس مشترك ، وغيره غير معلوم ، وأيضا الجرح مقدم ، فما ثبت توثيق الرجل.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان عليا عليه‌السلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة ، ويغسل سائر جسده عند الصلاة (٢).

بقوله : لا يذهب عليك أنه يمكن أن يستنبط من ظاهر الحديثين أن تخلل الحدث الاصغر في أثناء غسل الجنابة غير مبطل له.

فان اطلاق الصادق عليه‌السلام اتمامها الغسل اذا أرادت الاحرام يشمل ما اذا تخلل بين غسل رأسها وارادتها الاحرام حدث وعدمه ، وكذلك اطلاق أمير المؤمنين عليه‌السلام اتمام الغسل من الغدوة الى الظهر ، بل الى ما بعده ، مع أن توسط مثل هذه المدة مظنة لتخلل الحدث ، كما لا يخفى.

وأما المرسلة التي أوردها الصدوق في عرض المجالس المتضمنة للتسوية في وجوب الاعادة بين تخلل الحدث الاصغر والاكبر ، فلو لا الارسال لم يكن لنا عنها مندوحة. واستقصاء الكلام في هذه المسألة ، وتفصيل الاقوال فيها مبسوطة في مظانه من كتب الفقه.

وكان والدي قدس الله روحه يميل الى مذهب السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه من وجوب الاتمام والوضوء ، ولعله أجود الاقوال ، والله أعلم بحقيقة الحال (٣).

فمحل تأمل ، اذ لا دلالة فيهما على زائد من جواز تبعيض الغسل بتغسيل الرأس في زمان ، وتأخير غسل الجسد الى زمان آخر ، وهو المراد من الحديثين.

__________________

(١) رجال العلامة ص ٦.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ١٣٤.

(٣) الحبل المتين ص ٤١.

١٩٣

وأما دلالتهما على أن الحدث المتخلل غير مبطل فحاشا ، لان طول الزمان المتوسط بين الغسلين لو سلم له أن المراد به حقيقته لا المبالغة في جواز التبعيض وعدم وجوب الموالاة بين غسل أعضاء الغسل كما في الوضوء ، لا يدل عليه ولا يقتضيه بوجه.

ولو صح بمثل هذا الاطلاق استنباط صحة مثل هذا الغسل لصح أن يستنبط منه عدم حاجته الى انضمام الوضوء اليه ، فكان مؤيدا لمذهب ابن ادريس لا السيد ، فكونه حينئذ أجود المذاهب محل نظر.

وليس ببعيد كثيرا أن يراد بالصلاة المذكورة في الحديث صلاة الصبح لا صلاة الظهر ، فان الغدوة بالضم عبارة عما بين الفجر وطلوع الشمس ، كما في القاموس (١).

فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه‌السلام كان لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه عند طلوع أول الفجر ، ويؤخر غسل سائر جسده لمانع أو غيره الى زمان يريد فيه صلاة الصبح ، فعند ذلك يغسله ويصليها ، فتأمل.

على أن هاتين الروايتين مطلقتان ، ومرسلة الصدوق مفصلة ، والمفصل يحكم على المطلق ، وقد عرفت أن هذا الارسال غير ضائر ، فتدبر.

الفصل الثامن

[ ما يقتضيه الاحتياط فى المسألة ]

لا شك أن اعادة هذا الغسل أقرب الى طريق الاحتياط ، للاتفاق ظاهرا على صحته ، لان القائل بالاتمام مع الوضوء أو بدونه لا يقول بحرمة الاعادة ولا بطلانها بل يقول بعدم وجوبها ، أو عدم الحاجة اليها ، كما يظهر من النظر الى دليلهم.

__________________

(١) القاموس ٤ / ٣٦٩.

١٩٤

حيث قال المستدل : على الاول في مقام التفريع ، فيسقط وجوب الاعادة ، قال المستدل على الثاني في مثل هذا المقام ، فلا معنى للاعادة ، فغسل المعيد اذا اكتفى فيه بنية القربة صحيح بالاتفاق ، غاية الامر أنه لا يسوغ الدخول في العبادات ، وما يشترط فيه الطهارة بدون الوضوء أو التيمم ، على مذهب السيد من شايعه ، كما ستأتي الاشارة اليه ، وهذا كلام آخر.

وبالجملة هذا الغسل وهو المعتاد وان لم يكن رافعا للحدث الواقع في الاثناء على هذا المذهب ، الا أنه صحيح في نفسه ، ولا دليل على بطلانه ، ولا قول به ، بخلاف غسل المتم مع الوضوء أو بدونه ، فانه غير صحيح عند من قال بأن الحدث الواقع في أثناء غسل الجنابة يوجب اعادته ، ولو بقي جزء لا يتجزى من البدن.

وأيضا فان الذمة كانت مشغولة بالغسل يقينا ، فلا بد من تحصيل اليقين ببرائتها ولا يعلم ببرائتها يقينا باتمام مثل هذا الغسل مع الوضوء أو بدونه ، فانه مختلف فيه بين الفقهاء ، بخلاف ما اذا أعاده من رأس ، فانه تحصل بها البراءة اليقينية ، لاتفاق الكل ظاهرا على صحته.

ويمكن أن يقال : قد ثبت بقوله عليه‌السلام « لا صلاة الا بطهور » (١) اشتراط صحة الصلاة بالطهور ، وحصوله في محل البحث بدون الاعادة بل بمجرد الاتمام مع الوضوء أو بدونه مشكوك ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط ، فتجب الاعادة تحصيلا للبراءة اليقينية من التكليف الثابت في الذمة ، فتأمل.

قال بعض المحققين : ان من الطريق المنجية يقينا التي يتحتم ارتكابها لاهل التقليد بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام الاحتياط بحسب ما يمكن في العبادات والاحكام الشرعية ، وهو طريق الابرار الاخيار الذين يخافون الله.

__________________

(١) عوالى اللالى ٢ / ٢٠٩ و ٣ / ٨.

١٩٥

وقد ورد الامر به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام ، مثل قولهم « دع ما يريبك الى ما لا يريبك » (١) « وليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط » أمثال ذلك لا تحصى.

وقد أجمع العلماء كلهم على أنه طريق منج ، ووافق العقل على ذلك ، والاحتياج اليه في زماننا أكثر لفقد المجتهد ظاهرا ، وكثير منه يقع مستحبا ، كصيام آخر يوم من شعبان وترك النجس والمحرم غير المحصور ، واعادة الصلاة لو شك بعد الانتقال من فعل أو بعد الفراغ ، واعادة الزكاة لو شك في استحقاق القابض ، والشك في الحدث بعد يقين الطهارة وأمثال ذلك.

وكثير منه واجب ، كالقول بوجوب السورة ، ونجاسة الغسالة ، ونجاسة ما دون الكر وان لم يتغير ، وأمثال ذلك مما وقع الخلاف بين الفقهاء رحمهم‌الله انتهى كلامه رفع في عليين مقامه.

وأنت خبير بأن وجوب اعادة الغسل في الصورة المفروضة مما وقع الخلاف فيه بين الفقهاء رضوان الله عليهم ، فوجبت اعادته بناءا على هذا التحقيق ، وهو داخل تحت عموم قوله « وأمثال ذلك ».

ولا يبعد أن يقال : ان مراد متأخري أصحابنا بوجوب اعادة الغسل هنا هو الوجوب الاحتياطي ، واذا انضم اليه ما دل عليه الخبر المذكور في عرض المجالس والذي دل على عدم جواز الوضوء بعد الغسل ، وما دل على امتناع كون بعض السبب سببا وغير ذلك ، يصير قويا فيفيد ظنا واجبا اتباعه ، فتأمل.

واعلم أن الاحوط من ذلك أن تتوضؤ بعد اعادتك الغسل بنية القربة اذا أردت الدخول في الصلاة ، أو ما يشترط فيه الطهارة ، لتخرج بذلك عن الخلاف.

وذلك لان على مذهب من لم يحكم بوجوب الاعادة بوقوع الحدث في

__________________

(١) عوالى اللالى ١ / ٣٩٤ و ٣ / ٣٣٠.

١٩٦

أثنائه كالسيد وتابعيه ، لا يرفع الحدث بمجرد الاعادة لان اعادة غسل العضو المغسول قبل الحدث الاصغر لا دخل له على هذا المذهب في رفعه ، فيكون رافعه حينئذ غسل بقية الاعضاء ، فيلزم منه أن يكون بعض السبب سببا. والوضوء انما يكون منفيا مع غسل الجنابة اذا كان بنية الوجوب ، وأما اذا كان بنية القربة أو الندب فلا.

فتأمل في أطراف الكلمات المذكورة في هذا المقام ، ثم اتبع ما هو أحق بالاتباع وأحوط للدين ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على خاتم النبيين وأشرف المرسلين محمد وأهل بيته المعصومين وعترته الطاهرين والسلام عليهم أجمعين الى يوم الدين.

تم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في أول يوم من شعبان المكرم سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد الفقير السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

١٩٧
١٩٨

سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٦)

رسالة

فى المسائل الفقهية المتفرقة

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي

١٩٩
٢٠٠