الرسائل الفقهيّة - ج ٢

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٢
الجزء ١ الجزء ٢

الجماع ، ودلالة العام بما هو عام على الخاص بخصوصه من غير قرينة ضعيفة لو سلم تلك الدلالة ، فتأمل. هذا.

وبما رواه الشيخ عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حماد بن عثمان عن مرازم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام وسئل عن امرأة أمرت ابنها أن يقع على جارية لابيه فوقع ، فقال : أثمت وأثم ابنها ، وقد سألني بعض هؤلاء عن هذه المسألة ، فقلت له : أمسكها ، فان الحلال لا يفسد الحرام (١).

أقول : هذا حديث ضعيف ، اذ لا طريق للشيخ في كتابيه التهذيب والإستبصار الى أحمد بن محمد بن أبي نصر ، كما يظهر لمن نظر في مشيخته ، وانما أخذه من الكافي وفيه هكذا : عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمد ابن أبي نصر (٢) ، الى آخر ما نقلناه سندا ومتنا.

والفاضل السبزواري في الكفاية لما لم يراجع الى مشيخة الشيخ ، وزعم أن طريقه الى أحمد هذا صحيح ، ولم يلاحظ ما في الكافي ، قال : وصحيحة مرازم.

والعجب منه في ذلك كثيرا ، فانها ضعيفة في غاية الضعف ، لما هو المستبين من أمر ابن زياد.

ومع قطع النظر عن ذلك فهو معارض بما في الكافي عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، فالسند على المشهور صحيح ، أو حسن كالصحيح على ما هو المستبين من أمر عبد الله هذا.

قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن رجل اشترى جارية ولم يمسها ،

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٢٨٣ ، ح ٣٣.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٤١٩ ، ح ٨.

٤٦١

فأمرت امرأته ابنه وهو ابن عشر سنين أن يقع عليها فما ترى فيه؟ فقال : أثم الغلام وأثمت أمه ، ولا أرى للاب اذا قربها الابن أن يقع عليها (١).

ومع ذلك كله فهو مطلق يمكن حمله على أن ابنها انما وقع على الجارية بعد أن وطأها أبوه بالملك ، ولذلك لم تحرم عليه ، وبذلك يوفق بينه وبين صحيحة أبي بصير وحسنة علي بن جعفر وضعيفة عمار ونحوها.

وأعلم أن الشيخ الفاضل النجاشي رحمه‌الله قال في كتابه : كان عبد الله بن يحيى الكاهلي وجها عند أبي الحسن عليه‌السلام ، ووصى به علي بن يقطين ، فقال : اضمن لي الكاهلي وعياله أضمن لك الجنة (٢) كذا نقله الكشي بسند نقي (٣).

ومما ذكر في ترجمة علي بن يقطين يظهر اعتباره عند أبي الحسن عليه‌السلام وعند المؤمنين كلهم خصوصا علي بن يقطين.

وقال العلامة في الخلاصة : لم أجد ما ينافي مدحه رحمه‌الله (٤) ، وفي الفهرست (٥) والنجاشي له كتاب يرويه جماعة.

أقول : اذا كان الرجل عارفا اماميا فاضلا ممدوحا معتبرا عند الامام والمؤمنين كلهم ، ولم يقدح فيه أحد من علماء الرجال ، فالظاهر بل الأزيد منه أنه لا يكذب على الامام ولا يضع الحديث عليه ، فان من المعلوم أنه عليه‌السلام لا يوصي باعانة الفاسق ، وخاصة باعانة من يكذب عليه أو على أحد من آبائه عليهم‌السلام.

فبعد امعان النظر يظهر حسن حاله ، وكمال قدره وجلالته ، وهذا القدر

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٤١٨ ـ ٤١٩ ، ح ٤.

(٢) رجال النجاشى ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٠٤ برقم ٧٤٩.

(٤) رجال العلامة ص ١٠٩.

(٥) الفهرست ص ١٠٢.

٤٦٢

كاف في وجوب العمل بحديثه ، ولا يحتاج الى تصريحهم بتوثيقه.

بل هذا الذي ذكروه فيه يتضمن توثيقه ، فحديثه اذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهة بين صحيح وحسن كالصحيح كما ذكرناه.

واذا كان وقوع ابن عشر سنين حراما ناشرا لحرمة المصاهرة ، فبأن يكون وقوع غيره من البالغين ناشرا أولى ، فطريق التوفيق بين ضعيفة مرازم وصحيحة عبد الله ما ذكرناه من أنها مطلقة وهذه مقيدة ، والمقيد حاكم على المطلق. هذا.

واستدلوا عليه أيضا بما رواه أيضا عن أحمد بن محمد ، عن معاوية بن حكيم ، عن علي بن الحسن بن رباط ، عمن رواه ، عن زرارة ، قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام : رجل فجر بامرأة هل يجوز له أن يتزوج بابنتها؟ قال : ما حرم حرام حلالا قط (١).

وهذا كما ترى مرسل ، وقد عرفت أن المراسيل مطلقا وان كانت عن ابن أبي عمير لا عبرة بها ، ولا يجوز العمل بمقتضاها.

وبما رواه عن أحمد ، عن الحسين ، عن صفوان ، عن حنان بن سدير ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام اذ سأله سعيد عن رجل تزوج امرأة سفاحا هل تحل له ابنتها؟ قال : نعم ، ان الحرام لا يحرم الحلال (٢).

أقول : حنان بن سدير واقفي لم ينص أحد منهم بتوثيقه الا الشيخ في الفهرست (٣) ومع ذلك حل البنت لا ينافي كونها زوجة قبل الفعل ، أي : هو محمول على السفاح اللاحق لا ما يعمه والسابق ، كما قاله الشيخ في كتابي الاخبار.

وبالجملة ليس للقائلين بأن الزنا المتقدم على العقد لا ينشر حرمة المصاهرة

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٩ ، ح ١٣.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٨ ، ح ٩.

(٣) الفهرست ص ٦٤.

٤٦٣

خبر صحيح على ما علمناه الا صحيحة سعيد ومضمرة صفوان ، وهما لا تقاوما تلك الاخبار الصحيحة المستفيضة ، بل نقول : لا خبر لهم صحيح صريح.

قال صاحب المفاتيح : الزنا ان كان طاريا لم ينشر الحرمة ، وان كان سابقا نشر ، كالوطي الصحيح عند الاكثر ، للصحاح المستفيضة ، خلافا للمفيد والسيد ولهما أخبار ضعيفة أولها الاصحاب للتوفيق (١).

وظاهره يفيد أن الاخبار الدالة على عدم نشر الحرمة بالزنا السابق على العقد كلها ضعيفة ، على خلاف ما ظنه صاحب الكفاية ، حيث زعم أن جلها بل كلها صحيحة ، والحق أنهما على طرفي افراط وتفريط.

أما الثاني ، فظاهر لما قررناه.

وأما الاول ، فلان رواية سعيد صحيحة ، لان عثمان بن عيسى الواقع في الطريق وان كان واقفيا الا أن علي بن النعمان الواقع في مرتبته امامي ثقة صحيح والسند في الإستبصار هكذا : الحسين بن سعيد ، عن عثمان بن عيسى وعلي بن النعمان ، عن سعيد بن يسار (٢).

وطريق الشيخ الى الحسين هذا صحيح.

نعم الفجور المذكور في روايته أعم من الوطي والجماع ، لشموله القبلة واللمسة ونحوهما ، كما هو صريح صحيح منصور بن حازم.

فلا يصح الاستدلال بها ، لعدم دلالة العام على خصوص الخاص ، والاحتمال كاف في مقام المنع ، وخصوصا ان أراد التوفيق بين الاخبار فانه موجه ، والموجه يكفيه الاحتمال.

ولعل صاحب المفاتيح لمثل هذا لم يعدها ولا مضمرة صفوان من أخبارهما

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ص ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٢) الإستبصار ٣ / ١٦٦ ، ح ٦.

٤٦٤

وحكم لضعفها كليا ، لان الكلام في أخبار يمكن أن يستدل بها على عدم نشر الحرمة ، وهما ليسا كذلك.

فعند النظر الدقيق كما هو مقتضى التحقيق ، وتنحصر أخبارهما في الضعيفة اما سندا ، واما دلالة ، وان كان في جليل النظر لهما أخبار صحيحة ، كما ظنه صاحب الكفاية ، وقد وضح الصبح الذي العينين.

فان أكثر هذه الاخبار على تقدير صحتها ليس بصريح في عدم نشر الحرمة بالزنا السابق على العقد ، لو روده بلفظ الفجور ، وفي صريح الخبر الصحيح أنه أعم من الجماع ، فكيف يستدل به عليه؟

والباقي من الاخبار على تقدير دلالته عليه بين ضعيف ومرسل ومجهول ، واطباق عامة العلماء على أن الاخبار الضعيفة لا تثبت بها حكم وخاصة مثل هذا الحكم الوارد على خلافه صحاح صراح مستفيضة عمل بمضمونها أكثر العلم.

وانما عمدة دليلهم على ما يظهر من الكفاية ما ورد من أن الحرام لا يحرم الحلال وما في معناه.

وهو بعمومه وان شمل ما هو محل النزاع أيضا الا أنه مخصوص بأخبار التحريم فتحريم ابنتها بعد الافضاء اليها حراما ، وقد كانت قبله حلالا ، وعموم الخبر يقتضي بقائها على ما كانت عليه مما أخرجه الدليل.

قال الفاضل التفرشي قدس‌سره في حواشيه على الفقيه في الحاشية المعلقة على قوله عليه‌السلام « ان الحرام لا يفسد الحلال » : هذه قاعدة شرعية لا يصار الى خلافها الا لامر يمنع المقتضي عن مقتضاه ، كما في سائر القواعد الشرعية ، مثل حرمة الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك ، فانها قد تحل عند المخمصة.

فلا يرد عليه ما مر من أن الرجل والمرأة اذا زنا أو زنت بعد العقد قبل الدخول يفرق بينهما ، فحرم بالحرام ما كان مباحا لهما من توابع الزوجية.

٤٦٥

أقول : وما نحن بصدده من هذا القبيل ، فان أخبار التحريم قد منعت المقتضي عن مقتضاه ، فحرم بالحرام ما كان مباحا لهما من صحة العقد وما يتفرع عليه من توابع الزوجية ، فهو مما أخرجه الدليل عن هذه القاعدة الشرعية ، ولذا صرنا الى خلافها وقلنا بحرمة ابنتها عليه بعد أن زنا بها وقد كانت مباحة له.

وقد سبق في صحيحة أبي الصباح الكناني أن قوله « لا يفسد الحرام الحلال » معناه أن من فجر بامرأة بعد ما دخل بابنتها فليس يفسد فجوره بامها نكاح ابنتها اذا هو دخل بها ، وبذلك وفق الشيخ بين الاخبار كما سبق.

ومما ذكرناه يظهر حال ما استدل به الفاضل السبزواري في الكفاية من عموم قول الصادق عليه‌السلام في حسنة الحلبي أنه لا يحرم الحرام الحلال.

وفي رواية زرارة أن الحرام لا يفسد الحلال ولا يحرم.

وفي صحيحة عبد الله بن سنان : الحرام لا يفسد الحلال.

وقول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : ما حرم حرام حلالا قط. ولفظة الصحيحة لعلها من طغيان القلم ، فانها مرسلة.

وروى حنان بن سدير : الحرام لا يفسد الحلال.

وروى هشام بن المثنى نحوه (١) ، الى غير ذلك مما ذكره في الكتاب المستطاب ، مع أن جلها بين ضعيف ومرسل ، فلا يزيد ذكرها الا تكثير السواد كما لا يخفى على من أمعن النظر وأجاد ، والله الموفق والمعين ومنه السداد والرشاد.

__________________

(١) تقدم مصادر جميع هذه الروايات.

٤٦٦

الخاتمة

الاخبار الصحاح الصراح في نشر حرمة المصاهرة بالزنا المتقدم على العقد ما ذكرناه تسعة :

الاولى : صحيحة أبي بصير.

الثانية : صحيحة العيص.

الثالثة : صحيحة منصور بن حازم.

الرابعة : صحيحة محمد بن مسلم.

الخامسة : صحيحة أبي الصباح الكناني.

السادسة والسابعة : صحيحتي محمد بن مسلم أيضا.

الثامنة : صحيحة يزيد الكناسي.

التاسعة : صحيحة عبد الله الكاهلي (١).

فاذا انضمت اليها حسنة علي بن جعفر ، وضعيفة عمار الساباطي وغيرها مما ذكرناه في تضاعيف البحث ، وما سنذكره في هذه الخاتمة من الاخبار المؤيدة المرجحة ، مع عمل أكثر الاصحاب بها ، كادت أن تفيد علما أو ظنا متآخما له ، أولا أقل منه بنشر الحرمة.

فالمنكر : اما معاند ، أو غفل ، أو تغافل عما ذكرناه ، والا فمقتضى الانصاف والتجنب عن طريق الاعتساف هو الاقرار بما دلت عليه تلك الاخبار ، لكثرتها وصحتها وصراحتها وترجيحها على تقدير تسليم التعارض بأنها دالة على الحظر وأخبار عدم التحريم دالة على الاباحة.

والاول مقدم على الثاني عند التعارض مطلقا ، لانه دافع للضرر ، وهو أولى

__________________

(١) تقدم جميع هذه الروايات في تضاعيف الرسالة سندا ومتنا فراجع.

٤٦٧

من الجالب للنفع ، لان دفع الضرر واجب عقلا ونقلا ، بخلاف جلب النفع.

وأيضا فان ترك المباح لا يعاقب عليه ، وأما فعل الحرام ففيه عقاب.

وبتقرير آخر : احتمال كون تلك الابنة المزني بأمها سابقا على العقد عليها حراما على الزاني ، قائم في هذا الزمان ، فعقده عليها بعد أن زنا بامها مردد بين كونه مباحا ورد به الحديث في الجملة ، وبين كونه حراما وتشريعا وادخالا لما ليس من الدين فيه.

ولا ريب في أن ترك المباح ، وخاصة اذا كان مكروها ، كما اعترف به صاحب الكفاية ، أولى من الوقوع في الحرمة والبدعة ، فان تاركها متيقن للسلامة ، وفاعلها متعرض للندامة.

وأيضا فان القول بالتحريم والعمل بما دل عليه من الاخبار أقرب من النجاة وأبعد من الهلاكة ، قال سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (١).

أقول : من زنا بامرأة ثم عقد على ابنتها ، فلا شبهة في أن هذه الابنة ليست له بحلال بين ، بعد ورود تلك الاخبار وتصريح أولئك الاخبار بتحريمها عليه ، فهي عليه : اما حرام بين ، أو شبهة بين ذلك ، فاذا أخذ بها هلك من حيث لا يعلم.

وأيضا فان العمل بصحيحة محمد بن مسلم ومن شاكله أولى من العمل بصحيحة سعيد ومن شابهه ، فانه أضبط منهم وأوثق وأورع وأعلم ، والاعلم أبعد من احتمال الغلط ، وأنسب من نقل الحديث على وجهه ، فكان أولى ، ولذلك قدم الاصحاب ما رواه محمد هذا على من ليس له حاله وجلاله.

ومن هذا السبب أيضا رجح المحقق في الشرائع القول بالتحريم ، قائلا

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ٨٩ ، ح ٢٤.

٤٦٨

بأن الرواية الدالة عليه أوضح طريقا وأصرح متنا ، ووافقه على ذلك الفاضل الشارح المحقق شيخنا الشهيد الثاني زين الدين طاب ثراه.

واعلم أن القول بأن الزنا السابق على العقد لا ينشر حرمة المصاهرة ، مع ما عرفت من حاله على خلاف الاحتياط المطلوب في أمر الفروج شرعا.

وقد أجمع العلماء بأجمعهم على أنه طريق منج ، ووافق العقل على ذلك ، وقد ورد الامر به عن النبي وأهل بيته عليهم‌السلام ، مثل قولهم : دع ما يريبك الى ما لا يريبك (١).

والعقد المسبوق بالزنا لو سلم لهم أنه ليس باطلا وان المعقودة ليست حراما وجب التفريق بينهما ، فلا أقل من أن يكون محل ريب ، فوجب تركه والاجتناب عنه واختيار ما لا ريب فيه على ما دل عليه هذا الحديث الشريف.

والحاصل أن بعد ورود تلك الاخبار الكثيرة الصحيحة المستفيضة وعمل أكثر الاصحاب بها ، لقولهم بأن الزنا السابق على العقد ينشر حرمة المصاهرة مع ضعف دليل طرف المقابل لو لم يحصل الظن القوي المتآخم للعلم بالحرمة فلا أقل من أن يصير ذلك محل ريبة ، ونحن قد امرنا بترك ما يريب واختيار ما لا يريب ، كما شهد به صريح الخبر.

وهذا على تقدير التنزل والاستظهار ، والا فقد عرفت أن لا دليل لهم في الحقيقة يعتمد عليه ، أو تركن النفس شيئا قليلا اليه ، الا مضمرة صفوان ، وصحيحة سعيد ، وهما مع كونهما أعم من المدعى وقابلتين للتأويل الجامع بينهما وبين تلك الاخبار غير صالحتين للمقاومة.

هذا ومثله قولهم عليهم‌السلام : ليس بناكب على الصراط من سلك طريق الاحتياط والاحتياج اليه في زماننا هذا أكثر ، لفقد المجتهد ظاهرا ، فخذ الحائط لدينك

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ٣٩٤ و ٣ / ٣٣٠.

٤٦٩

لتكون فيه على يقينك.

والله الموفق والمعين ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على رسوله وآله المعصومين.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٧) شعبان المعظم سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

٤٧٠

سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٦٤)

رسالة

فى شرائط المفتى

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي

٤٧١
٤٧٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله العلي الاعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي أعطى كل شي‌ء خلقه ثم هدى ، والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمد المصطفى ، الذي أتانا بالملة الحنيفية السهلة السمحة البيضاء.

وعلى آله وأولاده الذين هم بدور الدجى ، ونجوم أهل الارض والسماوات العلى ، ولا سيما على أمير المؤمنين وسيد الوصيين وخليفته بلا فصل على كافة الخلق أجمعين علي المرتضى.

أما بعد : فلما ناظرتني أيها المولى المؤدب الاديب الاريب اللبيب الحسيب النسيب النجيب الحبيب الطبيب البارع البريع والفارق الفريق وأنت شيخي.

في أن المجتهد ليس له ما يستدل على وجوب اتباعه لظنه ، لا من جهة النقل لعدم ورود ما يدل عليها منها على ما أفدت ، ولا من حيث العقل ، والا يلزمه الدور على ما أوردت.

أقدمني ذلك بعد ما أحجمني على أن أكتب في هذا الباب وغيره مما أفدت أو أوردت في محفل مناظرتك من السنة والكتاب.

مع ما أنا فيه من تفرق البال وتشتت الحال على سبيل الاستعجال ، متوكلا

٤٧٣

على كل حال.

ما يوقفك على أن الامر على خلاف ما أفدت ، ويعلمك أن الحال ليست بذلك المنوال والله أعلم.

وان كان هذا على الظاهر موهم ضربا من سوء الادب ونوعا من احتمال النصب الا أنا في ذلك تبعنا قوله تعالى « وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (١) » فان الحق أحق أن يتبع « أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (٢).

على أنه قد صدر منك في ذلك ما قد صدر ، فان خالجتك في ذلك بعد ما بينت من البيان على وجه الاختصار خليجة ما قصورها مصورة حسناء أو شوهاء حتى نتكلم عليها ، وننبئك بسليمتها وصحيحتها من عليلتها وسقيمتها وحسنتها من قبيحتها ولا ينبؤك مثل خبير.

فنقول بعد حمد الله تعالى على النعم والصلاة والسلام على رسوله المكرم المعظم ، وعلى أوصيائه الذين هم خير أوصياء الامم :

المستدل على الاحكام الشرعية الفرعية بالادلة التفصيلية على النهج المقرر من العقلية والنقلية يسمى مجتهدا ، أو باعتبار الاعلام والاخبار للغير يسمى مفتيا ومن حيث الحكم والالزام له يسمى قاضيا. ولا يشترطون العدالة في الاجتهاد بل في الفتوى والقضاء.

ويعتبرون الذكورية والحرية في القاضي دونهما ، كذا قالوا في الفرق بين المجتهد والمفتي والقاضي ، فعليه كل قاض مجتهد ، ولا ينعكس.

اذا انتقش هذا على صحيفة الخاطر فنقول : قال الصادق عليه‌السلام : كل من نظر

__________________

(١) سورة الاحزاب : ٥٣.

(٢) سورة يونس : ٣٥.

٤٧٤

الى حلالنا وحرامنا وعرف أحكاما فاتخذوه قاضيا فاني جعلته عليكم قاضيا (١).

وقد سبق الكلام منا في أن كل قاض مجتهد ، فالقاضي عندنا مجتهد.

وصورة القياس هكذا : هذا ناظر في الحلال والحرام الشرعيين ، وكل ناظر كذلك فهو قاض. أما الاولى ، فعلى ما هو المفروض ، وأما الثانية ، فعلى ما نطق به الحديث السابق ذكره.

ولنجعل النتيجة صغرى القياس ، هي ما نحن فيه على هذا النمط هذا قاض ، وكل قاض مجتهد.

أما الاولى ، فعلى قياس أختها السابقة.

وأما الثانية ، فعلى ما سفر بيانها أيضا.

وقد دل الحديث المسفور على وجوب متابعة القاضي في أقواله المأمورة بها فيلزم منه على ما بيناه وشرحناه وجوب متابعة المجتهد في أقواله أيضا كذلك ، اذا كان بصيرا عدلا اماميا.

ولا يجب علينا متابعته في أقواله الا من حيث أنه يجب عليه ما يجب من اتباعه لظنه ، لان المعنى من ظنه ما يفهمه من الكتاب والسنة وغيرهما من الاخبار والآثار والبراءة الاصلية والاستصحاب وغيرها ، ويرجحه على غيره بطريق من طرق الترجيح المذكورة في فن الاصول ، اذا الظن يلزمه الترجيح على ما هو مشهور وفي كتب القوم مسطور.

فهذا الحديث كما ترى بحمد الله جل ذكره وأضرابه وهي لكثيرة ، وسيجي‌ء نبذ منها في هذا الباب ، صريحة الدلالات على أن المجتهد يجب عليه اتباع ظنه ، وهو المطلوب.

وبوجه آخر : النظر عبارة عن ترتيب أمور معلومة المبادي الى أمر مجهول

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٠٢.

٤٧٥

فعليه كل من نظر الى الحلال والحرام الشرعية ، واستنبط منه حكما من أحكامهم عليهم‌السلام ، بعد أن يكون متصفا بشرائطه التي هي مسطورة في مقرها من الاصول وجب عليه وحتم اتباع ما استنبط منه من الحكم.

فهذا الحديث بهذا الوجه أيضا صريح في أن المجتهد حتم عليه اتباع ظنه ، والا فما معنى وجوب متابعة غيره له في حكم من الاحكام وقول من الاقوال على ما سبقت اليه الاشارة الاجمالية.

هذا وأما ما أفدت وأوردت من أن بعض الاحكام مما لا نص فيه ، وان مدارك بعض منها عقلية كالبراءة وغيرها ، وجعلت هذا نقضا على ما نحن فيه.

فخارج عما نحن بصدده ، لان كلامنا الان في أن المجتهد بعد أن حصل له الظن ، سواء كان طريق حصوله من الكتاب أو السنة أو غيرهما.

فبأي طريق يجب عليه اتباع ظنه بالاجتهاد ، فيلزم منه الدور على ما أفدت وأوردت وسيجي‌ء بيانه أم بالنص ، والمفروض أنه منتف هاهنا على ما فوهت ولفظت أيضا ، فهذا الكلام في هذا المقام بحمد الله الملك العلام كما ترى لا ينوط ولا يرتبط بما قلته أصلا لا لفظا ولا معنى.

وأما ما أفدت من أنه اذا توقف ظن وجوب اتباعه لظنه على اجتهاده يلزم منه الدور.

فمدفوع أيضا ، لان حصول مرتبة الاجتهاد وملكة الاستنباط والوصول اليهما في نفس الامر ، لا يتوقف على ظن وجوب اتباعه لظنه فيه حتى يلزم منه ما ذكرت.

لانه يمكن أن يحصل له تلك المرتبة والدرجة في نفس الامر ، ولا يخطر بباله وجوب اتباعه لظنه أصلا بل الامر كذلك ، لانه بعد ما حصلت له درجة الاجتهاد وراجع وجدانه واجتهد فيه يظهر له أنه حرام عليه اتباع ظن غيره وتقليده على ما قالوا في شرائط التقليد.

٤٧٦

بل يجب عليه حينئذ اتباع ظنه واعتقاد ما يفهمه من متون الاحاديث وظهورها بل من بطونها وغيرها من الاحكام الشرعية الفرعية المستدل عليها ، بعد أن كان راجحا عنده ، قضاء لحق الظن على ما مرت الاشارة اليه.

أو التوقف على تقدير تساوي الامارات الدالة على المقصود من الطرفين.

أو الرد بعد أن كان مرجوحا في مقابلة الراجح ، الى غير ذلك مما هو مذكور في مقره من الاصول والزبر الاستدلالية والصحف الاحتجاجية.

فمن أين يجي‌ء الدور وأنى لك أن تتصور هاهنا توقف كل من الطرفين على الاخر من جهة واحدة؟ حتى يسرك توهم الدور ، فنعوذ بالله ونأمرك أيضا بالاستعاذة من سوء الفهم وقلة التدبر.

قال بعض المحققين في بعض فوائده بعد ذكر شرائط الافتاء وما يعتبر في المفتي فاذا اجتمعت هذه الاوصاف في شخص وجب عليه في كل مسألة فقهية فرعية يحتاج اليها أو يسأل عنها ، استفراغ الوسع في تحصيل حكمها بالدليل التفصيلي.

ولا يجوز له تقليد غيره في افتاء غيره ، ولا لنفسه مع سعة وقت الفعل التي تدخل فيها المسألة ، بحيث يمكنه فيه استنباطها بحيث لا ينافي الفعل ، ومع ضيقه يجوز تقليد مجتهد حي ، وفي الميت وجهان ، ومنهم من منع مطلقا انتهى.

فهذا القول صريح الدلالة على ما قلناه والحمد لله ، فكيف يمكنك انكار ذلك والحال هذه.

مع ما روى زرارة وأبو بصير في الصحيح عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنهما قالا : علينا أن نلقي اليكم الاصول وعليكم أن تفرعوا (١). وهذه ظاهر الدلالة ناصة بالباب.

__________________

(١) بحار الانوار ٢ / ٢٤٥ ، ح ٥٣ و ٥٤ عن مستطرفات السرائر ص ٥٧ ـ ٥٨ ، وعوالي اللئالي ٤ / ٦٣ ـ ٦٤.

٤٧٧

أما سمعت الخبر المستفيض الشائع الذائع بين الامة من أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام لما بعث معاذا قاضيا الى اليمن قال له بما تحكم؟ قال : بكتاب الله.

ثم قال : فان لم تجد فيه ، قال : فبسنة رسول الله ، قال : فان لم تجد فيها ، قال : باجتهادي. وهذا الخبر كسابقه نص بالباب.

ويدل عليه أيضا ما رواه سالم بن مكرم الجمال ، وهو قول أبي عبد الله عليه‌السلام اياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا ، فاني جعلته عليكم قاضيا فتحاكموا اليه (١) (٢).

ووجه الاستدلال منه على هذا المطلب على نمط ما سبق منا في الحديث الاول.

وكذلك يدل على ما نحن فيه قوله تعالى « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » (٣).

وجه الدلالة أن الناس على ما يقتضيه ظاهر هذه الآية صنفان : عالم وجاهل ، والجاهل كما ترى قد أمر أن يسأل أهل العلم ، فلو لا أنه يجب عليهم أن يجيبوه

__________________

(١) يستفاد من حديث الجمال أحكام خمسة : الاول التجزى في الاجتهاد لمكان قوله عليه‌السلام « شيئا » وهو نكرة. الثاني : اشتراط الذكورية في القاضى للفظه « الرجل » الثالث : كونه اماميا لقوله عليه‌السلام « منكم » الرابع : كونه مجتهدا لقوله عليه‌السلام « يعلم شيئا » اذا المقلد لا يسمى عالما بالاحكام الخامس : كونه نائبا للامام عليه‌السلام لقوله عليه‌السلام « جعلته عليكم قاضيا » « منه ».

(٢) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٠٣.

(٣) سورة النحل : ٤٣ ، والانبياء : ٧.

٤٧٨

بما يظنون أنه حق لديهم لخرجت هذه الآية.

أقول هذا وأستغفر الله عن أن يكون لها معنى محصلا.

وأيضا يدل على ذلك قوله عزوجل « فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ » (١) الاية.

وجه الدلالة من هذه الآية على قياس سابقتها ظاهر ، اذ المتفقهة اذا وجب عليهم الانذار ، وجب عليهم أن يتبعوا ظنونهم ، لانهم لا ينذرون قومهم الا بما ظنوا أنه حق عندهم ووجب عليهم أن يعلموهم به.

ومما يؤيده ما نحن فيه بل يدل عليه صريحا قوله تعالى « وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا » (٢) فان الذي جاهد في الله تعالى وهو تعالى هداه سبيله يجب عليه متابعتها ، والا فما فائدة المجاهدة وما ثمرة الامتنان.

ولا ريب في أن من تلك السبل سبيل معرفة المسائل الفقهية الدينية ، بل هي أول المبادي للسبل الواصلة الى الله تعالى ، كما لا يخفى. وان كانت الطرق الواصلة الى حضرة الخالق بقدر أنفاس الخلائق.

وهلا نظرت الى أن المجتهد لو لم يجب عليه اتباع ظنه للزم تعطل الاحكام واندراس شريعة سيد الانام عليه وآله الصلاة والسلام ، واللازم باطل بالاتفاق ، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : ان المقلد قصر وعزل عقله عن التصرف في الاحكام الحادثة المتجددة في الايام على ما اتفقت عليه عقول كافة الناس من أولي الاحلام.

فلو لم يجب على المجتهد استنباط الاحكام واتباع ما يستنبطه منها وايصاله الى الانام ، للزم منه ما قلناه من الكلام في ذلك المقام ، وهو ظاهر بشرط الانصاف

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٢.

(٢) سورة العنكبوت : ٦٩.

٤٧٩

والتروي والاهتمام.

ولذلك قال بعض المحققين : وجود المفتي من ضروريات الدين وتمام شرائط التكليف ، فلا يجوز خلو الزمان عنه ، ويؤيد ما قاله ما ورد في الخبر من أن الارض لا تخلو من عالم.

هكذا يخطر بالبال والله أعلم بحقيقة الحال.

وأما ما أفدت من أن مقبولة عمر بن حنظلة مختصة بالحكومات والمعاملات ولا تجري في العبادات والعقودات. وقلت الاول من سنخ الانشاء ووظيفة للحاكم والقاضي ، والثاني من مقولة الخبر ووظيفة للمجتهد والمفتي.

فهذا الحديث بهذا الوجه على ما أفدت في مجلس مناظرتك دليل للاخباري وليس بدليل للمجتهد والمفتي ، فليس الامر على ما أفدت ، لان لفظ الحكم المذكور في هذا الحديث ليس بمعنى القضاء والابرام فقط المعتبرين من جانب الحاكم والقاضي ، حتى يلزم منه اختصاصه بالحكومات فحسب.

بل بالمعنى الاعم منهما الشامل لهما وللاعلام والاخبار المأخوذين من طرف المجتهد والمفتي أيضا ، كما يدل عليه قوله عليه‌السلام فيما بعد في هذا الحديث « ينظر فيما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة أخذ به ».

فان ذلك صريح في أن الحكم المذكور في هذا الحديث ليس محمولا على المعنى الذي فهمت وأفدت ، اذ حكم الكتاب والسنة ليس بمنحصر فيه ، كما لا يخفى على من له أدنى فطانة وأخذ فطانته بيده اليمنى.

ويدل على ما قلناه مضافا الى ذلك قوله تعالى « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » (١) فان ما أنزل الله ليس منحصرا في الحكم بمعنى القضاء والالزام.

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

٤٨٠